كيف نساعد شبابنا، حتّى يصحّحوا مسيرتهم إذا أخطأوا في خياراتهم؟ في عمر الشباب يكون الإنسان على مفترق طرق يقرّر مصير حياته: ماذا سيعمل، بمن سيتزوّج، أين سيعيش، أيّ أسلوب حياة سيعتنق؟ تحدّي إرشاد شبابنا ومرافقتهم واجهه الأب في مثل الابن الشاطر. نراه يتعامل مع ابنه بمنتهى الهدوء والحكمة.
من الطبيعيّ أن يتوق الشابّ أو الشابّة إلى الاستقلاليّة، إلى الحياة الحرّة، وإلى اختبار الحياة والمسؤوليّة. لكن كيف نوجّههم إلى ما هو خيرهم ونرافقهم في تحدّياتهم الاجتماعيّة والدراسيّة والاقتصاديّة والنفسيّة حتّى نقيهم خطورة التعرّض للانفعالات التي تهدّد استقرارهم ومصيرهم؟ الشباب بالإجمال لا يريد أن يسمع وعظًا ونصائح من أهله. فكيف نخبرهم بأنّ الحياة هي مثل قطار، وهم مهندسو هذا القطار، فإذا أهملوا قيادة القطار وصيانته جيّدًا، يتدهور، وتتحطّم حياتهم؟
يعاني الأهل تحدّيات علائقيّة مع أولادهم خصوصًا عند ذهاب أولادهم للدراسة الجامعيّة بعيدًا عن بيت العائلة. نسمع أحيانًا شكاوى الأهل التي تعبّر عن صدمتهم لمعرفة تصرّفات أولادهم: لماذا فعلت ابنتنا هذا؟ قدّمنا لها كلّ ما اشتهته: العلم في أرقى الجامعات، سيّارة خاصّة بها، أفضل لباس، كلّ ما طلبته وأكثر! ولكنّها وقعت في علاقات سيّئة… وابتعدت كثيرًا عنّا. تبعت نصائح صديقاتها الجاهلات… فبماذا أخطأنا؟
في مثل الابن الشاطر شابّ مؤمّن له كلّ شيء: الطعام، اللباس، المسكن، العمل، والترفيه. ولكنّ قلبه طمح إلى حرّيّة أكبر. فأخذ مال أبيه وترك بيته. ما نستغربه هنا هو موقف الأب: لا نسمع اعتراضه، أو تذمّره، رغم ألمه لذهاب ابنه. لماذا؟
سافر الشابّ إلى مكان بعيد جدًّا عن رقابة أبيه، ورقابة أقربائه وأبناء بلدته… عاش هناك كامل حرّيّته، بدّد ماله كما يحلو له، على احتساء الكحول والإدمان، وعلى ارتياد النوادي الليليّة. وصل في حياته إلى الحضيض، إلى معاشرة الخنازير الدنسة والنجسة… ثمّ عاد إلى نفسه، وعاد إلى أبيه، وإلى بيته الذي ربّاه.
الكثير من الشباب يتركون، ولا يرجعون. فما الذي دفع هذا الابن ليعود؟ عاد لأنّه كان على يقين بأنّ أباه سيرحمه ويقبله، ويحبّه. تصرّف الأب يُظهر حكمة إلهيّة، إنّه تصرّف تربويّ، وعمق إدراك لنفسيّة الشباب. لو عارضه في البدء، وضغط عليه، وهدّده بنكرانه من العائلة، لما كان رجع ابنه بعد طيشه. لقد ترك الأب الباب مشرّعًا لرجوع ابنه…
نستلهم من أقوال القدّيس بورفيريوس الرائي لتوضيح الرؤية والعمل: «لا للكلام الكثير للأَولاد. الكلام يقرع الأذنَين، أمّا الصـلاة فتذهب إلى القلب. الحاجة هي إلى صلاةٍ مع إيمانٍ وإلى مثالٍ صالحٍ ولكن من دون قلق». نتعلّم أوّلًا أن نبقي الباب مفتوحًا لأولادنا عبر صبرنا ومحبّتنا لهم، وألّا نبالغ في شغل البال والقلق…. ويضيف القدّيس: « كلّ شيءٍ يأتي من الصلاة، من الصمت ومن المحبّة.»
كيف نساعد شبابنا، حتّى يصحّحون مسيرتهم إذا أخطأوا في خياراتهم؟ الحلّ بيدنا، وينصح القدّيس بورفيريوس بأمرين أساسيّين ينفعان لكلّ زمن، حتّى في عصرنا، عصر ما بعد الحداثة.
أوّلًا، ينصح بتربيتهم، منذ الصغر، على محبّة الله وقراءة الإنجيل وتدريبهم على الصلاة والتعرّف إلى القدّيسين. هذا يساعدهم على طلب الحكمة (أي المسيح) باكرًا والحكمة تكون معه، وبقربه، متى طلبها
(حكمة سليمان ٦: ١٤)، أي أن يطلبوا مساعدة الله في كلّ المواضيع وأينما حلّوا في الوطن أو في الغربة.
وثانيًا، وهذا هو الأهمّ، ينصح بعيشنا نحن الأهل هذا الإنجيل، أمامهم كلّ يوم، إذ يقول القدّيس: «قداسة الأهل تخلِّص الأولاد». ومحاولة عيش القداسة هذه تساعدنا على أن نصبر عليهم ونتفهّم مشاكلهم، ونحبّهم، ونبقي على بابنا مفتوحًا لهم، متى خرجوا عنّا.
ليعطنا الله الحكمة لنعرف كيف نتعامل مع شبابنا، ولنصلِّ اليوم من أجلهم، ليحفظهم الله متى ذهبوا في غربتهم، وليرشدهم إلى الحقّ ويعيدهم الينا، فنفرح بعودتهم سالمين. آمين.