عيد دخول السيد إلى أورشليم (أحد الشعانين)
ها مرة أخرى نحتفل بذكرى دخول السيد إلى أورشليم. ففي هذا الأحد الذي يلي الصوم الأربعيني المقدس نحتفل بالسيّد الداخل لأورشليم، ومعه ندخل إلى الأسبوع العظيم، ونسير إلى الجلجثة، فالموت، ثم القيامة.
تسميات شعبية كثيرة تُطلَق على هذا العيد. فنسمّيه في بلادنا “أحد الشعانين”، وهي من الكلمة العبرية “هوشعنا” والتي تعني “خلّصنا”، كما صرخ له الشعب حين دخل أورشليم (مت٩:٢١، مر٩:١١، يو١٣:١٢). (١)
في اليونان يسمّونه “أحد النخيل”، وفي مصر “أحد السعف”. أمّا في روسيا وباقي الشعوب السلافية فيسمّونه “أحد الصفصاف”. (٢)
سبق ورأى الأنبياء هذا اليوم، قبل حدوثه بمئات السنين.
فيعقوب البطريرك (أب الآباء) رأى هذا اليوم بعين النبوة فقال عن المولود من نسل يهوذا: “رَابِطًا بِالْكَرْمَةِ جَحْشَهُ، وَبِالْجَفْنَةِ ابْنَ أَتَانِهِ، غَسَلَ بِالْخَمْرِ لِبَاسَهُ، وَبِدَمِ الْعِنَبِ ثَوْبَهُ” (تك١١:٤٩). من هو هذا غير المسيح؟ الذي أمر بفكِّ جحشه وابن أتانه، الذي دخل إلى أورشليم، وبعد ذلك سيق إلى الذبح “غَسَلَ بِالْخَمْرِ لِبَاسَهُ، وَبِدَمِ الْعِنَبِ ثَوْبَهُ”.
في هذا اليوم تمّم السيد له المجد نبوة زكريا النبي القائل: “اِبْتَهِجِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ” (زك٩:٩).
فعندما دخل لأورشليم، لم يدخلها راكباً خيلاً كعادة الغزاة والملوك العظماء, بل بكل تواضع دخلها راكباً جحشاً ابن اتان تماماً كقول النبي. وكأنه بذلك يمتطي بهيميّة العالم بإتّضاعه. فكان تواضعه طريقًا إلى سيادته!
يقول القديس أبيفانيوس أسقف قبرص: “إن المسيح كان بلا صولجان ولا أبواق، لا بل ظهر في منتهى الفقر. لم يكن محمولًا على الأسلحة والتروس والحِراب على الطريقة التي كان يُكرَّم بها الحكام الأرضيّون في ذلك الزمان، بل قد ظهر في فقر شديد. لم يكن معه رجال مسلَّحون ولا تروس ولا رايات مُطعّمة بالذهب ولا خوذة ولا درع، بل كان معه الإعتدال المفرط والبراءة غير المحدودة والهدوء الذي يتخطّى القياس”. (٣)
اليهود خرجوا ليستقبلوا هذا الملك الذي تحدثت عنه التوراة وأسفار الانبياء, لأنهم قد سمعوا كثيراً عن المعجزات التي صنعها، وبالأخص إقامته لعازر من بين الأموات “لِهذَا أَيْضًا لاَقَاهُ الْجَمْعُ، لأَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ هذِهِ الآيَةَ” (يو١٧:١٢-١٨). (٤)
ولليهود عادةٌ مستمرّة حتى يومنا هذا تجعلنا نتأمّل في كيفيّة استقبالهم للمسيح قبل ألفي عام. فحين يستقبلون الضيوف القادمين الى بيوتهم يقولون: ברוך הבא “باروخ هبّا” أي مُبَارَك الآتي. لذلك حين دخل المسيح إلى أورشليم استقبله اليهود بهذه الكلمات كما بضيف عزيزٍ داخلاً إلى بيتهم, أخذوا يهتفون قائلين: “أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! مُبَارَكَةٌ مَمْلَكَةُ أَبِينَا دَاوُدَ الآتِيَةُ بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!” (مر٩:١١-١٠).
وهذه الكلمات قد أخذوها عن (مزمور٢٥:١١٨) القائل: “هذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صَنَعُهُ الرَّبُّ، نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ فِيهِ. آهِ يَا رَبُّ خَلِّصْ! آهِ يَا رَبُّ أَنْقِذْ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ” (مز٢٤:١١٨-٢٦).
وهذا المزمور كان يدخل في ليتورجية (الصلوات الطقسية) عيد المظال وعيد الفصح لدى اليهود, وكان الحجّاج اليهود يُصلّونه في هذه الأعياد ويستخدمون سعف النخيل في عيد المظال “سوخوت”، يحملونه أو يفرشونه على الطريق.
وعندما أتى المسيح المنتظر هتفوا له صارخين مبارك الآتي بإسم الرب, وفرشوا سعف النخل له, بل وفرشوا ثيابهم أيضًا. وبعد ذلك بأيامٍ صلبوه!
وحتى يومنا هذا يحملون سعف النخيل والبعض يفرشه على الطرقات ويردّدون كلمات هذا المزمور “مبارك الآتي باسم الرب”، غير عالمين أنه قد أتى منذ ما يزيد عن ألفي سنة وهم لم يعرفوه. “اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيَهُ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ، أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِي لاَ يَفْهَمُ” (اش٣:١).
فإسرائيل من أجل أن يبقى في جسدانيته وظلمته قتلوا البار، هذا الذي جاء إلى العالم نورًا لئلا يبقى أحد في الظلام!
لم يعرفوه لأنهم كانوا مُفتقرين إلى الفضائل، فرذلوه ورَذلوا رُسُله.
الرسل قد فرشوا ثيابهم له، وكذلك اليهود “فَأَتَيَا بِالْجَحْشِ إِلَى يَسُوعَ، وَأَلْقَيَا عَلَيْهِ ثِيَابَهُمَا فَجَلَسَ عَلَيْهِ. وَكَثِيرُونَ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَانًا مِنَ الشَّجَرِ وَفَرَشُوهَا فِي الطَّرِيقِ” (مر٧:١١-٨). يقول في هذا القديس ثيوفلاكتوس: إن ثياب الرسل التي فُرِشت على الأتان هي فضائل الرسل التي جلس عليها المسيح. بمعنى أنه إذا لم تتجمّل نفس الإنسان بالفضائل الرسولية، لا تستطيع أن تحمل الله! فالحياة الرسولية هي شرط مُسبق لمجيء المسيح إلى قلب الإنسان وسكناه فيه.
لذلك لنستقبل يسوع اليوم كالأطفال، حاملين فضيلة الوداعة، بعيدًا عن شرور وأفكار الحُكماء والفلاسفة.
كما يقول القديس كيرلّس الإسكندري: “إنَّ الأطفال تعرّفوا إلى رب الخليقة بالطبيعة، بينما أثبت آباؤهم عقوقهم. الأطفال أنشدوا المدائح للرب فيما آباؤهم صلبوه. أنشد الأطفال “أوصنّا” فيما صرخ آباؤهم “فليُصلب”. لقد ظهر الفتية الجهّال حكماء فيما أُعمي الحكماء. رمى الأطفال ثيابهم أمام المسيح ليعبر، فيما تقاسم الآباء ثياب المسيح. استقبل الأطفال المسيح بسعف النخل، فيما أتى آباؤهم بالسيوف. الأطفال باركوا فيما جدّف آباؤهم. الأطفال كالخراف استقبلوا الراعي فيما الآباء كالذئاب افترسوا الحمل. الفرق هو تعبير عن الاختلاف في حالة نفوسهم لأنَّ الروح القدس يعمل في القلوب النقيّة الخالية من الغرور، فيما لا يستطيع أن يعمل في القلوب القاسية”. (٥)
ليكن أحد شعانين مبارك لجميعكم، وأن يدخل المسيح قلوبكم كدخوله بفرح عظيم لأورشليم.