تأمل في أيقونة الصّعود
نرى أمامنا الرسل مجتمعين على جبل الزيتون, كما أمرهم الرب, ليتلقّوا الرسالة الأخيرة. المسيح يباركهم “وبينما هو يباركهم افترق عنهم واختطف إلى السماء بسحابة”. الأيقونة تجعل من هذه العبارة محور تأليفها. شعور بالسلام والصلاة والتمجيد ينبعث من هذه الأيقونة. العالم يغتبط بلقائه ملك المجد… وكأن الرسم بكامله تعبير عن شعر غنائيّ؛ في كلّ جزء من تفاصيله هتاف خافت.
اللوحة كلّها في حركة مستمرة وأشخاصها في انتفاضة حيويّة, ماعدا مريم فهي منتصبة في وسطها, فيها ثبات لا يتزعزع ولانتصابها معنى عميق, إنّها رمز للكنيسة التي تولد الآن أمام أعيننا: المسيح رأسها, والدة الإله صورتها والرسل أسسها, تنمو بالبركة المستمرّة الآتية من السماء. مريم هي المقرّ الرئيس حيث يجتمع العالمان الأرضيّ والسماويّ. لم يذكر الكتاب المقدس وجود مريم مع الرسل في حادثة الصعود, ولكنّ التقليد يثبت ذلك في سحر العيد إذ نسمع النشيد التالي “أقبلت مع تلاميذك إلى جبل الزيتون فكانت معك والدتك يا بارئ الكلّ. فإن التي توجّعت حين آلامك أكثر من الجميع وجب أن تتمتّع أكثر من الكل بالفرح بتشريف ناسوتك أيها السيّد”. وبما أن الأيقونة صورة حيّة للطقوس أتت على هذا الشكل وبرزت مريم في الوسط بهدف تعليميّ.
رقّة مريم, مع رشاقتها الشفّافة ووجهها الصافي, تتعارض مع وجوه الرسل, ذات الملامح الحادة, التي تحيطها. انتصابها متّجه نحو السماء وجسدها ممشوق إلى العلاء، يداها تتوسّلان من أجل الإنسانيّة وهي تنظر دائما إلى البشريّة, تدعوها إلى الاشتراك في حياة الثالوث .
نظرة خاطفة إلى الأيقونة توحي إلينا بانسجام كليّ في وقفة الرسل. ها هم ينالون النعمة لكي يأخذوا على عاتقهم وظيفتهم الرعائيّة. في موقفهم حيويّة تبرز سكون مريم. تلك الانتفاضة تعني تعدد اللغات في التبشير وتعدّد التعبير عن الحقيقة الواحدة: الكنيسة وحدة مستقرّة ضمن التعدّد في أداء الرسالة على مثال الثالوث الواحد في ثلاثة أقانيم. ينقسم الرسل في اللوحة إلى قسمين متوازيين: الرسل الستّة الواقفون إلى اليسار يعبّرون عن توق النفس إلى العلاء لأنّهم يحدّقون إلى فوق. أمّا الرسل الواقفون إلى اليمين فهم يحدّقون إلى مريم وينذهلون أمام السر الكامن فيها.
الفنّ العجيب, في هذه الأيقونة, يجمع بين الحركة والاستقرار ليجعلنا نشعر بصعود المسيح وكأنّه يتحقّق أمامنا. نرى المسيح محاطاً بدوائر كرويّة كونيّة عديدة, ومتّجهاً إلى يمين الآب حيث يلمع ببهاء مجده. يسنده ملاكان في تحليقه هذا بخفّة أثيريّة, يرتديان ثياباً تعكس ألوان ثياب الرسل: إنّهما ملاكا التجسّد على عكس الملاكين الذين يحيطان بمريم. هما يرتديان ثياباً ناصعة البياض تبهر الأنظار. المسيح أيضاً, وإن كان محاطاً بهالة المجد والألوهة, إلا أنّه يرتدي ثياباً بلون ثياب الرسل وهذا شيء مقصود: المسيح يترك الثرى بجسده الأرضيّ وبه يدخل في مجد الثالوث, إذاً هو لا ينفصل عن الأرض وعن أوفيائه المرتبطين معه بدمه: الأرض متّجهة نحو السماء والسماء هابطة إلى الأرض. المسيح يبارك الرسل ومريم والكون كلّه بيده اليمنى كالمعتاد, ويحمل بيده اليسرى ملف الكتب. ويعطينا فيض نعمة بالبركة وتعليمه بالكلمة. وهذا الفيض يبقى ساري المفعول بعد الصعود” لن أترككم يتامى….”.
الملاكان السّماويّان اللابسان البياض يقولان للرسل الشاخصين نحو السماء: “أيّها الرجال الجليليّون ما بالكم واقفين تنظرون نحو السماء, إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء, سيأتي هكذا كما عاينتموه منطلقاً إلى السماء” (راجع أعمال 1: 1-13). وفي الواقع, إذا عكسنا حركة يسوع الصّعودية في الأيقونة مع الإطار عينه أضحت الأيقونة ذاتها صورة للمجيء الثاني الرؤيويّ: هنا الألف والياء يجتمعان!
عن كتاب “الأيقونة شرح & تأمّل” تأليف إيمّا غريِّب خوري.
No Result
View All Result