“ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ”: صعود الرّب يسوع إلى السّماء
نجد في قراءتنا لقصة صعود الرّب يسوع، أن ارتفاعه إلى السّماء قد جاء بعد أن تحدث مع تلاميذه عن حلول الروح القدس، ودعوته لهم للشهادة لشخصه القدوس، وكذلك أثناء رفع يديه ومباركتهم…
07 مايو 2016 – 23:07 بتوقيت القدس
من منا لم يحلم بأنه يطير ويرتفع إلى السّماء؟ فحلم الطيران والصعود إلى أجواء السّماء قد رافق البشرية منذ أن خلق الله الإنسان ووضعه في الأرض. لقد راقب الإنسان الطيور وهي تحلق في الفضاء، وتمنى لو يستطيع أن يطير مثلها.
ونعرف من قراءة صفحات التّاريخ أن أشخاصاً كثيرين حاولوا الطيران والإرتفاع عن الأرض، ولعل أشهرهم الأمازيغي عباس بن فرناس في اسبانيا، وليوناردو دافنشي في إيطاليا. وكلنا يعرف عن الأخوين رايت الأمريكيين اللذين اخترعا أول طائرة حلّقت في أجواء السّماء. وقبل أيام احتفل الروس بذكرى يوري غوفارين كأول رائد فضاء في التّاريخ. وتفتخر أمريكا بالعشرات من رجالها ونسائها من رواد الفضاء، والذين بينهم من سار على سطح القمر، مثل نيل أرمسترنج.
كل هؤلاء حاولوا الطيران، أو طاروا فعلاً لفترات زمنية مختلفة امتدت من عدة دقائق إلى عدة أشهر، وجاء ارتفاعهم وطيرانهم بعد محاولات وتجارب عديدة تراوحت بين الفشل والنجاح، وبعد سنوات كثيرة من البحث والدراسة والتجارب والاختراعات وصناعة أنواع مختلفة من المحركات والصواريخ ومعدات الطيران.
ولكن التّاريخ سجل أيضاً حوادث ارتفاع وطيران لم تكن بحاجة إلى أية محاولة سابقة أو أبحاث أو اختراعات. فبقوة من الله، صعد اخنوخ إلى السّماء (تكوين 24:5؛ الرّسالة إلى العبرانيين 5:11)، وبمركبة الله صعد إيليا أيضاً إلى السّماء (سفر ملوك الثاني 11:2). والأعظم من كل هذا هو صعود الرّب يسوع حياً إلى السّماء وبحضور شهود عيان.
نقرأ قصة صعود الرّب يسوع في سفر أعمال الرّسل 9:1-12 “وَلَمَّا قَالَ هذَا ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى السّماء وَهُوَ مُنْطَلِقٌ، إِذَا رَجُلاَنِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ، وَقَالاَ:”أَيُّهَا الرِّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السّماء؟ إِنَّ يَسُوعَ هذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السّماء سَيَأْتِي هكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقًا إِلَى السّماء”. حِينَئِذٍ رَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنَ الْجَبَلِ الَّذِي يُدْعَى جَبَلَ الزَّيْتُونِ، الَّذِي هُوَ بِالْقُرْبِ مِنْ أُورُشَلِيمَ عَلَى سَفَرِ سَبْتٍ”. وفي مرقس 19:16 “ثُمَّ إِنَّ الرّب بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السّماء، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللهِ”، وكذلك في لوقا 50:24-53 “وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجًا إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السّماء. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ، وَكَانُوا كُلَّ حِينٍ فِي الْهَيْكَلِ يُسَبِّحُونَ وَيُبَارِكُونَ اللهَ. آمِينَ”. وأعلن الرّب يسوع هذه الحقيقة في حواره مع نيقوديموس في يوحنا 13:3: “وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السّماء إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السّماء، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السّماء”.
نجد في قراءتنا لقصة صعود الرّب يسوع، أن ارتفاعه إلى السّماء قد جاء بعد أن تحدث مع تلاميذه عن حلول الروح القدس، ودعوته لهم للشهادة لشخصه القدوس، وكذلك أثناء رفع يديه ومباركتهم.
نقرأ في أعمال الرّسل 9:1 قوله “وَلَمَّا قَالَ هذَا”، أي بعد أن تحدّث مع تلاميذه عن “الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ” (أعمال الرّسل 7:1). وهذا تذكير للبشرية جمعاء بأن كل وقت وزمان يقع ضمن سلطان الله وقدرته العظيمة. فنحن كبشر لا نعرف الأزمنة، بل لا نعرف ما الذي سيحدث بعد لحظة من الآن. فكل ثانية نعيشها هي هبة من الله، وسلطان الزمن والوقت بيد الله.
وعندما ارتفع رب المجد يسوع إلى السّماء، كان الله سيد الموقف، فهو الذي حدد مكان وزمان وظرف لحظة الصعود. وشاهد التلاميذ بعيونهم البشرية المجردة حقيقة هذا الصعود. كذلك قبل لحظة صعوده، وعد الرّب يسوع رسله بالحصول على قوة سماوية من خلال حلول الروح القدس عليهم، تلك القوة الروحية التي ستكون مصدر تشجيع لهم ليكونوا شهوداً لشخصه المبارك في كل العالم، مبتدئين من مدينة أورشليم وإلى أقصى الأرض.
دعونا نتذكر أن الرّب يسوع قد سبق ووعد تلاميذه خلال خدمته الأرضية العلنية، بحلول الروح القدس. وأخبرهم أنه يجب أن ينطلق ويعود إلى السّماء التي جاء في الأصل منها، وذلك كشرط لحلول الروح القدس. نقرأ في يوحنا 7:16 قول الرّب يسوع: “لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ”.
لذلك فإننا ككنيسة الرّب يسوع في العالم، نعرف بأننا لسنا يتامى في هذا العالم، كما وعدنا له المجد عندما قال: “لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ” (يوحنا 18:14). فالرّب يسوع معنا، مع أنه صعد بجسّده الممجد إلى السّماء قبل ألفي عام، إلا أنه أعطانا الروح القدس المعزي والمحامي والشفيع ومصدر القوة الروحية لنا في هذا العالم.
شيء آخر عمله رب المجد يسوع قبل وأثناء صعوده إلى السّماء. نقرأ في لوقا 50:24-51 “وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السّماء”. لقد كان مشهداً يجسّد مجبّة الرّب يسوع في واحدة من أروع تجلياتها. رفع رب المجد يسوع يديه وبارك رسله الكرام. وبهذه الحركة، جسّد محبّة تعجز الكلمات عن وصفها وعن غور عمقها وروعتها. فعندما كانت يداه مرفوعتين، وشفتاه تنطقان بكلمات النعمة والمحبّة والبركة، في هذه اللحظة المجيدة، وخلال هذا المشهد الفريد والذي لم يتكرر في التّاريخ، فقدت الأرض تحت قدمي الرّب قوة جاذبيتها في حضور سلطانه المجيد، وأخذ الرّب بالصعود إلى السّماء. لقد صعد ويداه ممدودتان بالبركة على كنيسته، صعد وهو يبارك خدامه الرّسل. لقد كانت نهاية عظيمة لخدمة مجيدة اشتملت على بركات كثيرة أنعم بها رب المجد على عدد كبير من النّاس.
إن الأيادي التي امتدت بالبركة لحظة صعود الرّب يسوع إلى السّماء كانت ذات الأيدي التي لمست الأبرص وطهرته من مرضه (راجع متى 1:8-3). وكانت نفس الأيدي التي جبلت الطين ووضعته على عيني الأعمى وأعادت له البصر (راجع مرقس 22:8-26). وهي نفس الأيدي التي لمست أذني الأصم ولسانه فعاد يسمع ويتكلم (راجع مرقس 31:7-37). إنها نفس الأيدي التي امتدت إلى بطرس الرسول وسحبته من مياه بحر الجليل كي لا يغرق (راجع متى 28:14-31). وهي أيضاً نفس الأيدي التي لمست نعش ابن أرملة نايين وإقامته من الموت (راجع لوقا 11:7-17). وهي نفس الأيدي التي أمسكت يدي الصبية ابنة يايرس لتقوم من الموت إلى الحياة (راجع لوقا 40:8-56). وهي أخيراً نفس الأيدي التي انبسطت على الصّليب، ودقت فيها المسامير من أجل خلاص العالم الأجمع. إنها الأيدي التي قال عنها المرنم في مزمور 16:145: “تَفْتَحُ يَدَكَ فَتُشْبعُ كُلَّ حَيٍّ رِضًى”. إنها الأيدي الخالقة والمبدعة كما كتب رجل الله أيوب في سفره وبوحي من الله: “يَدَاكَ كَوَّنَتَانِي وَصَنَعَتَانِي كُلِّي جَمِيعًا” (أيوب 8:10). إنها الأيدي التي أسست الأرض ونشرت السماوات (إقرأ إشعياء 13:48). امتدت هذه الأيدي في آخر لحظة لخدمة رب المجد الأرضية بالبركة للكنيسة في كل العصور.
بعد ذلك نقرأ في أعمال الرّسل 9:1 قوله: “ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ”. أي أن رب المجد يسوع لم يختف عن الرّسل، ولم يتحول إلى كائن روحي غير مرئي. لقد ارتفع بذات الجسّد الذي قام به من بين الأموات. ارتفع بجسّده الروحاني الممجد وهم ينظرون. أي أن الرّسل كانوا شهود عيان على الصعود، ولذلك كان بمقدورهم أن يشهدوا بقوة وبسلطان لهذا الحدث الجليل. نقرأ في سفر أعمال الرّسل 32:2-33 شهادة بطرس الرسول عن قيامة الرّب يسوع وارتفاعه إلى السّماء حينما قال للحشود المجتمعة في أورشليم: “فَيَسُوعُ هذَا أَقَامَهُ اللهُ، وَنَحْنُ جَمِيعًا شُهُودٌ لِذلِكَ. وَإِذِ ارْتَفَعَ بِيَمِينِ اللهِ”.
نقرأ عن صعود الرّب يسوع أيضاً في مرقس 19:16 “ثُمَّ إِنَّ الرّب بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السّماء، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللهِ”. وفي لوقا 51:24ب “انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السّماء”. وكتب بولس الرسول في رسالته الأولى إلى تيموثاوس أن الرّب يسوع “رُفِعَ فِي الْمَجْدِ” (تيموثاوس الأولى 16:3). نجد أنه في جملة الآيات الأربعة التي تتحدث عن صعود الرّب يسوع، أنه “ارْتَفَعَ” في أعمال الرّسل 9:1 وفي مرقس 19:16، وكذلك أنه “َأُصْعِدَ” في لوقا 51:24 و “رُفِعَ” في رسالة تيموثاوس الأولى.
فالرّب يسوع ارتفع أولاً بسلطانه المجيد، وبعد ذلك نقرأ في أعمال الرّسل 9:1 “وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ”. ترمز السحابة عادة لحضور الله، وقد كانت سحابة من ملائكة السّماء، أي لم تكن سحابة عادية، بل كانت عبارة عن مركبة ملائكية سماوية صعد بها رب المجد إلى السّماء، مما أضاف روعة وبهاءً وتألقاً وجلالاً وهيبة لصعوده حياً إلى السّماء. ونعرف أنها كانت سحابة من الملائكة بناء على ما نقرأ في مزمور 17:68-18 “مَرْكَبَاتُ اللهِ رِبْوَاتٌ، أُلُوفٌ مُكَرَّرَةٌ. الرّب فِيهَا. سِينَا فِي الْقُدْسِ. صَعِدْتَ إِلَى الْعَلاَءِ. سَبَيْتَ سَبْيًا”.
كان حضور الملائكة بارزاً في كل المحطات المهمة في سيرة الرّب يسوع: في بشارة يوحنا الذي أعد له الطّريق. وفي بشارة أمه القديسة مريم العذراء، وفي يوم ولادته ظهرت الملائكة في سماء حقل الرعاة، وفي نهاية تجربته من قبل إبليس، ويوم صلى في حديقة جثسيماني قبل الصلب، وفي يوم قيامته، ويوم صعوده، وسيكونون معه أيضاً في يوم رجوعه ثانية إلى العالم.
نقرأ في سفر أعمال الرّسل 10:1: “وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى السّماء وَهُوَ مُنْطَلِقٌ”، فالبشير لوقا يكرر هنا حقيقة رؤية التلاميذ لحدث صعود الرّب يسوع إلى السّماء. لقد شخصوا، أي نظروا بإمعان وثبات إليه. لقد تسمروا في أماكنهم أمام هذا المشهد الجليل والفريد. ونقرأ في لوقا 52:24 أنهم في تلك اللحظة “َسَجَدُوا لَهُ”. وهكذا فإنهم شخصوا وهم في حالة سجود إلى السّماء لرؤية الرّب المنطلق. وفعل السجود هنا في الأصل اليوناني هو προσκυνήσαντες (بروسكونيسانتيس) بصيغة فعل ماضي لجمع المذكر السالم، وهو اشتقاق من فعل προσκυνέω أي السجود على الركبتين للعبادة. وقد تكرّر الفعل 60 مرة في العهد الجديد، وفي جميعها يدل على سجود العبادة، وخصوصاً في سفر الرؤيا حيث تكرر الفعل 24 مرة.
في تلك اللحظة من الخشوع والذهول والعبادة، نقرأ في القسم الثاني من آية 10 في أعمال الرّسل أن: “رَجُلاَنِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ”. أي أن ملاكين متجسّدين بصورة رجلين ظهرا فجأة أمام التلاميذ. ولباسهم الأبيض يدل على البر والقداسة، كما ويدل على الفرح. وهكذا فإن صعود الرّب يسوع إلى السّماء كان لحظة خشوع وعبادة، وكان في نفس الوقت لحظة فرح في السّماء وعلى الأرض.
خاطب الملاكان الرّسل في أعمال الرّسل 11:1 بعبارة تزخر بعبارات مهمة ومشجعة للكنيسة الأولى، وكذلك لنا نحن أبناء الكنيسة في القرن الحادي والعشرين. قال الملاكان للرسل:
1. “أَيُّهَا الرِّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ”: وصف الملاكان الرّسل بأنهم رجال من الجليل، أي أنهما ذكّرا الرّسل ببداية مشوارهم المتواضع من جليل الأمم، وكيف أن دعوة الرّب يسوع لهم، ومرافقتهم له في خدمته الأرضية، وتعلمهم وتلمذتهم على يديه، كان أعظم تكريم لهم في مسيرة حياتهم. فمن رجال جليليين بسطاء ومن عامة الشعب وصيادي السمك، أصبحوا شهوداً لأعظم أحداث التّاريخ. لقد شهدوا قيامة الرّب وصعوده حياً إلى السّماء. وبعدها شهدوا بسيرتهم وبالكلمة لشخصه القدوس بين شعوب وأمم كثيرة، وأجروا باسمه آيات ومعجزات كثيرة. لقد غير الرّب يسوع من مكانتهم ورسالتهم، فمن جليليين لا اعتبار لهم في نظر المتدينين في أيامهم، إلى رسل رب المجد الذين تحتفل بهم الكنيسة وتقتدي بسيرتهم.
2. “مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السّماء”: كان الرّسل في حالة ذهول وتعجب. كانوا مأخوذين بعظمة الصعود، ولم يستطيعوا أن يصرفوا عيونهم عن معلمهم وسيدهم وربهم، مع أن سحابة من الملائكة قد أخذته عن عيونهم. كان لسان حالهم يتمنى أن يروه ثانية، وكأن عقولهم ومشاعرهم وعواطفهم قد صعدت معه إلى السّماء. كان التلاميذ بحاجة إلى ملائكة السّماء ليوقظوهم من حالة الذهول، ليعودوا إلى الواقع ويتابعوا مسيرة الحياة، ويؤدوا الرسالة التي دعاهم رب المجد يسوع إلى إتمامها.
3. “إِنَّ يَسُوعَ هذَا”: نطق الملائكة هنا باسم يسوع، هذا الإسم الذي أطلق عليه عندما تجسّد وولد كإنسان في عالمنا، لقد نطقوا باسمه الذي يعني الله المخلص. وقد عرف التلاميذ حقيقة وقوة هذا الإسم. فهو الذي أنجز الخلاص بسفك دمه على الصّليب، وبالتالي تمم الفداء. وبعد أن أنجز هذا العمل العظيم الذي جاء من أجله، ها هو يرتفع عنهم.
4. “الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السّماء”: أعلن الملاكان بهذه الكلمات أن السّماء هي مكان حقيقي. فهي مكان عرش الله، وهي المكان الذي ذهب إليه رب المجد يسوع عندما ارتفع عن التلاميذ. وصعود الرّب يسوع من الأرض إلى السّماء كان وسيبقى بمثابة باب الرجاء لكل مؤمن بأنه أيضاً سيسكن مع الرّب في السّماء، فهو الذي وعدنا قائلاً في يوحنا 3:14: “حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا”.
نقرأ في مرقس 19:16 أنه بعد أن ارتفع يسوع إلى السّماء “جَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللهِ”، ونقرأ هذه الحقيقة أيضاً في رسالة أفسس 20:1 “إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ”. الرّب يسوع الآن حيٌّ في السّماء، وهو عن يمين الآب، أي في مركز القوة والبركة والمجد مع الآب السماوي.
5. “سَيَأْتِي هكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقًا إِلَى السّماء”: لدينا هنا إعلان حقيقة سماوية مجيدة بأن ربّنا يسوع المسيح سيأتي ثانية إلى الأرض. نعم، سيعود ربّنا يسوع إلى عالمنا ليكتب نهاية التّاريخ كما نعرفه الآن. لذلك على الكنيسة أن تصلي قائلة: θά Μαράνα ماران آثا، هذه الصرخة في اللغة الآرامية، والتي تعني : تعال أيها الرّب يسوع. (كورنثوس الأولى 22:16). علينا أن نتمسك بوعد الرّب الذي قال في رؤيا 20:22: “أَنَا آتِي سَرِيعًا”. ونحن نجيبه قائلين في نفس الآية: “تَعَالَ أَيُّهَا الرّب يَسُوعُ”.
عودة الرّب يسوع القادمة ستكون بنفس الطّريقة التي رآه فيها الرّسل منطلقاً إلى السّماء. أي أن الرّب سيعود إلى عالمنا بشكل مرئي بشخصه وبجسّده الممجد. سيأتي في سحابة من الملائكة بنفس الجلال والمجد والأبهة والعظمة التي صعد بها إلى السّماء. وقد سبق للرب يسوع أن وصف طريقة رجوعه ثانية إلى الأرض في متى 27:16 “فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ”. وفي متى 30:24 “وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السّماء”. وفي متى 64:26 “قَالَ لَهُ يَسُوعُ:”أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السّماء”، ومرقس 26:13 “وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي سَحَابٍ بِقُوَّةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ”، وفي رؤيا 7:1 “هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ”. جميع هذه الأقوال التي نطق بها رب المجد يسوع عن رجوعه ثانية إلى الأرض هي مصدر تعزية وتقوية وتشجيع لكنيسة الرّب يسوع، أي للمؤمنين بشخصه القدّوس، في كل مكان وجيل وزمان.
بعد أن استمع الرّسل لهذه الكلمات المشجعة والمفرحة، نقرأ في سفر أعمال الرّسل 12:1 أنهم “حِينَئِذٍ رَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ”. وتتكرّر هذه الكلمات في إنجيل لوقا 52:24 مع إضافة رائعة حيث نقرأ:”وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ”. رجعوا فرحين بمعاينة صعود ربهم إلى السّماء، وبسماع كلمات الملائكة بأنه سيعود من جديد. وهذا الفرح العظيم الذي رافقهم يذكرنا بكلمات الملاك للرعاة عندما ولد رب المجد يسوع في لوقا 10:2: “فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ”. ساد فرح عظيم يوم ميلاده، أي يوم مجيئه إلى عالمنا، وفرح عظيم يوم صعوده، أي يوم مغادرته عالمنا. ونحن نعلم أن “فَرَحَ الرّب هُوَ قُوَّتُنا” (نحميا 10:8).
أهمية صعود الرّب يسوع إلى السّماء:
1. صعود الرّب يسوع إلى السّماء كان تتممةً لوعده لتلاميذه بأنه سيصعد حياً إلى السّماء، وبأنه سيرون صعوده بأعينهم، كما قال له المجد في يوحنا 62:6: “فَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِدًا إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً!”.
2. يشكل صعود الرّب يسوع إلى السّماء خاتمة طبيعية وتتويجاً لتجسّد الرّب يسوع ونزوله إلى الأرض. فما ابتدأ بالنزول يجب أن ينتهي بالصعود. من نزل من السّماء إلى الأرض، يجب أن يصعد من الأرض إلى السّماء، تماماً كما نقرأ في يوحنا 13:3 “وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السّماء إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السّماء، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السّماء”. الرّب يسوع أصلاً من السّماء، ومن الطبيعي أن يعود إلى وطنه الأصلي.
3. صعود الرّب يسوع إلى السّماء، ورؤية الرّسل لهذا الحدث الجليل، يعتبر دليلاً قاطعاً على أن ربّنا يسوع المسيح حي، وأنه الآن في السّماء، وبأن ملكوته ملكوت سماوي. أي أن الصعود هو برهان على أن يسوع حي، وبأنه باقٍ مع كنيسته بالروح، فهو بانيها ومخلصها وربها. لقد جاء أصلاً من السّماء، ثم عاد إلى هناك. عاد إلى مجده السابق كما صلّى في يوحنا 4:17-5 “أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ. وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ”. لقد أكمل العمل الذي جاء من أجله، فهو كما نقرأ في فيلبي 6:2 “كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ”، ومع ذلك نقرأ في الآيات 7-8 “لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النّاس. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصّليب”. ونتيجة لذلك “لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ” (الآية 9).
4. يمثّل صعود الرّب يسوع إلى السّماء البداية الفعلية لتاريخ الكنيسة المسيحية. لذلك نجد أن سفر أعمال الرّسل، أي سفر تاريخ الكنيسة الأولى، يبتدىء بقصة صعود الرّب يسوع، ولكن نهاية السفر لم تكتب حتى الآن، لأن تاريخ الكنيسة ما يزال مستمراً حتى الآن.
5. صعود الرّب يسوع إلى السّماء هو إعلان مجيد على أن رب المجد يسوع قد أتم الرسالة التي جاء لإنجازها وتأديتها في الأرض. لقد جال يصنع خيراً، وعلم مبادئ ملكوت السماوات، وقطع عهداً جديداً مع العالم بدمه الذي سفكه على الصّليب، ثم قام منتصراً. وبأعماله هذه تمم إرادة الآب وصعد حياً إلى السّماء. أي أن صعود الرّب يسوع يعتبر دليلاً قاطعاً على أن عمله وذبيحة نفسه مقبولة لدى الآب، وحققت مطالب عدالة السّماء.
6. كان يجب على الرّب يسوع أن يصعد إلى السّماء حتى يتمم وعده لكنيسته بإرسال الروح القدس. نقرأ في يوحنا 7:16 “لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ”، وفعلاً حل الروح القدس على التلاميذ بعد عشرة أيام فقط من صعود الرّب يسوع إلى السّماء. وحلول الروح القدس هو برهان قاطع على أن الرّب يسوع حاضرٌ في حياتنا بقوة من خلال الروح القدس الساكن فينا.
7. صعود الرّب يسوع إلى السّماء بجسّده الممجد، وجلوسه عن يمين الآب، أي في مركز القوة والسلطة والمجد، يعني أنه الآن رئيس كهنة عظيم لنا في السّماء، ويشفع لكنيسته عند الآب. نقرأ في عبرانيين 24:9 أن الرّب يسوع المسيح دخل “إِلَى السّماء عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ الآنَ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ لأَجْلِنَا”. فهو رئيس كهنتنا العظيم، كما نقرأ في عبرانيين 14:4 “فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ابْنُ اللهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بِالإِقْرَارِ” (أنظر أيضاً عبرانيين 6:5؛ 17:7، 21؛ 11:9 …الخ). لذلك فإنه “مِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضًا إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ” ( عبرانيين 25:7). كذلك نقرأ عن شفاعة الرّب يسوع المسيح لنا في السّماء الآن في رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس 5:2: “لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنّاس: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ”. نلاحظ في هذه القراءة أن الفعل “يوجد” هو فعل مضارع مستمر. فالمسيح موجود الآن في السّماء بصورة إنسان مثلنا، مع أنه الله في نفس الوقت، أي أنه في السّماء بطبيعته النّاسوتية واللاهوتية. يشفع لنا بناسوته عند الآب، ويقدر في نفس الوقت أن يسمع صلواتنا ويرحمنا ويغفر لنا ويخلصنا ويهبنا الروح القدس والحياة الأبديّة لأنه الله.
8. صعود الرّب يسوع إلى السّماء جاء أيضاً ليحقق ما وعدنا به في يوحنا 2:14-3: “فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا”. صعد الرّب يسوع إلى السّماء ليعد لنا مكاناً، وسيعود عن قريب ليأخذنا إلى هذا المكان.
9. صعود الرّب يسوع إلى السّماء يعني أيضاً أنه ملك الملوك الذي يضبط الكل ويحكم شئون العالم من عرشه السماوي. فالرّب يسوع المسيح هو نبع كل بركات السّماء المعطاة لنا في هذه الحياة.
10. وأخيراً فإن صعود الرّب يسوع إلى السّماء يمثل باكورة وبداية مجيدة لوجود المؤمنين معه في السّماء. صعوده له المجد يعني أن السّماء الآن مفتوحة لإستقبالنا نحن المؤمنين بشخص الرّب يسوع. فمن يؤمن بالرّب يسوع الحي، سيكون مع ربه في السّماء إلى أبد الآبدين.
هل تتوق إلى قضاء أبديّتك في السّماء مع الربّ يسوع؟
هل تعيش ألماً وحسرة وضيقاً في هذا العالم؟
تب عن خطاياك، وأطلب من الله أن يطهرك بدم الرّب يسوع الذي سفك على الصّليب.
وثق أنك بالإيمان سترى الرّب يسوع المسيح بالعيان.
نقرأ في رسالة تسالونيكي الأولى 15:4-18 “فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هذَا بِكَلِمَةِ الرّب: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرّب، لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ. لأَنَّ الرّب نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السّماء وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرّب فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرّب. لِذلِكَ عَزُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِهذَا الْكَلاَمِ”. لنتشجع ونفرح معاً، فعن قريب سيأتي الرّب يسوع، وسنكون معه كل حين. آمين.
د. بسام بنورة