حذار السّكر
الإنسان السّكران لا يعلم سياسة أقواله بتمييز، ولا يعلم تنظيم ثروة عقله بلياقة، ولا يعلم الإحتفاظ ببعض الأمور وصرف سواها بل يبدِّدها بأكملها وينشرها بأجمعها. السّكر جنون طوعيّ يخون الأفكار؛ السكر شقاء سخيف، ومرض يُسخر منه، وشيطان آثر أن يكون كذلك وهو أشدُّ تكديراً من اختلال العقل. أوتريد أن تعرف بماذا يكون الإنسان السكران أشدّ بؤساً أيضاً ممن مسَّه شيطان؟ إنّا نُشفقُ كلّنا على من مسَّه شيطان، أمّا ذاك فنستكرهه. نرأف بالأوَّل، فيما هذا الأخير يغضبنا ويغيظنا. لم إذاً؟ لأنَّ هوى الأوَّل سببه دسيسة، وأمَّا هوى الأخير فسببُه تهاونه، بالنسبة إلى الأوَّل، إنَّما المقصود مكيدة دبَّرها أعداؤه، وأمّا بالنسبة للآخر فالمقصود مكيدةٌ دبَّرتها أفكاره. القديس يوحنّا الذَّهبيّ الفمّ
“وَلاَ تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَلاَعَةُ، بَلِ امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ”
لوط الذي عذب نفسه بأفعال سدوم وعمورة الأثيمة، حين سكر أنجب من ابنتيه موآب وعمون، فكانا ونسلهما من بعدهما مقاومين لعمل الله ولشعبه عبر الأجيال. وهكذا كل من ينحرف نحو السكر يثمر مقاومة ومضادة لأعمال الله. لذا يحذرنا القديس چيروم، قائلاً: [لقد وجد الموآبيين والعمونيين أصلهم في السُكر (تك ١٩: ٣٠ – ٣٨)
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:
[يليق بالإنسان العادي أن يتحفظ من السًكر من كل جانب، فكم بالأكثر يلزم بالجندي (الروحي) الذي يعيش بين السيوف، ويتعرض لسفك دمه والقتل…
اسمع ما يقوله الكتاب: “أعطوا مسكرًا لهالك، وخمرًا لمرّي النفس” (أم ٣: ٦)…
لقد أُعطيت الخمر لنا لا لهدف سوى صحة الجسد (أي لنواح طبية)، لكن هذا الهدف فسد بسبب سوء الاستخدام. اسمع ما يقوله رسولنا الطوباوي لتيموثاوس: “استعمل خمرًا قليلاً من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة” (١تي ٥: ٢٣)…
يقول: أتريد أن تكون فرحًا؟ أتريد أن تشغل اليوم؟ أعطيك المشروب الروحي. لأن السكر يفقدنا حتى صلاح لساننا الواضح، فيجعلنا متلجلجين ومتلعثمين، ويشّوه العينين وكل الملامح. تعلّم التسبيح بالمزامير فتلمس عذوبة العمل. فإن الذين يسبحون بها هم مملوؤن بالروح القدس كما أن الذين يتغنون بالأغاني الشيطانية هم مملوؤن بالروح النجس.
إذن عوض البهجة بالسُكر هذا العالم لنمتليء بعمل روح الله القدوس الساكن فينا فتسكر نفوسنا بحب الله بلا انقطاع، وتهيم دائمًا في السماوات تطلب البقاء في أحضانه أبديًا.
هنا يليق أن نشير إلى أن الامتلاء بالروح لا يعني حلولاً خارجيًا نتقبله وإنما هو قبول عمل الروح فينا والتمتع بقوته العاملة داخل النفس. لقد عبّر القديس باسيليوس في كتابه عن الروح القدس عن هذا الامتلاء بقوله إن الروح يُعطي للإنسان قدر استعداد الإنسان، وكأن الروح لا يكف عن أن يعطي ما دام الإنسان يفتح قلبه لعمله فيه ويتجاوب معه.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارة: “وأما شاول الذي هو بولس أيضًا فامتلأ بالروح القدس وشخص إليه، وقال: أيها الممتليء كل غش وكل خبث يا ابن إبليس يا عدو كل برّ إلاَّ تزال تفسد سبل الله المستقيمة؟!” (أع ١٣: ٩، ١٠): [لا يفتكر أحد أن بولس لم يكن مملوءً من الروح عندما تحدث مع الساحر، لكن الروح القدس الساكن فيه ملأه قوة ليقف أمام الساحر؛ فكما أن الساحر يحمل قوة الشر قدم له الروح قوة…