الانتحار: رؤية مسيحية – نفسية
مشروع الكنوز القبطية
نحو حفظ حقيقي للتراث القبطي الأرثوذكسي القديم والمعاصر
يتساءل البعض ويعترض آخر على رفض الكنيسة للصلاة على المنتحر..
والإجابة أن هذا إجراء كنسي من خلاله تعطي الكنيسة رسالة للبشر أن لا يسعى أحد لإنهاء حياته التي هي عطية من الله يجب صونها والحفاظ عليها.
على الجانب الآخر، هذا الإجراء يكرز برسالة الرجاء والتفاؤل بأنه مهما كانت الضغوط والمشاكل التي يمر بها الإنسان يجب أن نتمسك بالحياة أي بالرجاء لأننا نستطيع بالمعونة الإلهية أن نتخطى أي إحباط أو فشل في حياتنا.
بالتالي هذ الإجراء هو تربوي أكثر منه حكم إدانة للإنسان المنتحر: “مَنْ أنت يا مَنْ تدين عبد غيرك هو لمولاه….”.
والكنيسة لا تنفذ هذا الإجراء بطريقة انتقامية بدليل أنه لو كانت هناك فرصة للإنسان المنتحر بعد إجراء عملية انتحاره تفترض الكنيسة بدافع محبتها أنه ربما قد تاب حتى لو كانت هذه الفرصة قصيرة وذلك حتى تجيز الصلاة لأجله.
التوجه الكنسي ليس به أي ملمح إقصائي أو انتقامي، لذا للأسف مشكلتنا نحن هي أننا لا نرى أمومة الكنيسة لنا ونتعامل معها مرات كثيرة على أنها مجرد مؤسسة عقابية في يد الله.
والكنيسة في عدم صلاتها على المنتحر لا تُعطي حُكمًا أبديًا لهلاكه، بل هى تُرسِل رسائل رجاء للأحياء الذين مازالت الحياة تتعبهم، بأن الأنتحار ليس حل للمشاكل، فالمنتحر يفكِّر كيف يتخلص “الآن” مما هو فيه، دون أن يفكر ما ينتظره من مصير أبدي!
الكنيسة تنحاز للحياة وليس للموت، رسالتها رسالة حياة…. تكرز بالفرح “بالرغم من” ظروف الحياة، وتعلن أن “الإنسان” هو عضو في جسد واحد… فالإنسان المسيحي ليس وحيد أو مرفوض أو يُجدِّف وحده ضد عواصف الحياة، بل تُصلي من أجل الكل وفي كل ظروف الحياة. الكنيسة هى أم تحتضن ابنائها المنكسرين لتضمد جروحهم وانكسارهم، تقبلهم بضعفاتهم؛ قد لا يكون الواقع مثالي كما ينبغي أن يكون، لكن الله حاضر دائمًا ليرسل زيت النعمة لكل فتيل كاد أن ينطفئ.
وبسبب حديثنا كثيرًا عن الأستشهاد وتمجيدنا للشهداء، وبسبب النماذج الرهبانية التي رأينا فيها القداسة متجلية في “الموت” عن العالم، ظننا أن المسيحية تكره الحياة، والحقيقة أن المسيحية تحترم الحياة لأنها عربون الملكوت، فمن لم يبدء الملكوت من هنا والآن على الأرض لم يراه مستقبلاً!
أن المسيحية ليست وعود عن حياة آتية، بل هى تحويل الحياة إلى أفضل وتذوق السماء في الحاضر، والأتحاد بالله يسعاد على التعافي من الشعور بالوحدة والذنب والنقص والأكتئاب.
وقال “دوستويفسكي” عند احتضاره:
“يا أبنائي.. لا ينبغي أن نتوق إلى حياة أبدية مقبلة.. فإننا إذا لم نصل إلى الأبدية في دنيانا هذه، فلن نصل إليها قط، إن الأبدية معنا الآن.. هناك لحظات نصل فيها إلى أسمى وجود، فإذا الزمن يقف عن سيره، وإذا حياة الجنس البشري كله تذوب في حياتك.. هذه هي لحظات الأبدية”.
فحياة المسيحي السوية هى حياة المسيح فيه، لذلك لا يُفكر أبدًا في إنهاء هذه الحياة وينفصل عن الله، فهو دائمًا يمجد الله بحياته وفي حياته، ويواجه الحياة بالمسيح الذي فيه، لأنه وحده أضعف من مواجهة حتى ذاته!
“من أجل تعطفاتك الجزيلة كونتي إذ لم أكن…” (القداس الغريغوري).
المسيحية ليست ضد الصحة النفسية بل الروحانية السليمة تضبط الأضطرابات النفسية وتساهم في علاجها، وتشعر بقيمة الحياة وقدسية الوجود، المسيحية تؤمن بإله اسمه “الحياة”!
المنتحر – المدرك لما يفعله – قبل أن يفقد رجاؤه في الحياة، هو فقد الحب للآخر ولنفسه ونسى الغفران وأن كل مشكلة لها حل وكل خطية لها غفران وكل ألم وقتي له مجد أبدي.
وأحيانًا يتعرض لأيذاء من أخرين بقصد أو بدون فلم يستطع إرسال رسائل الأيذاء لمن آذاه فأذى نفسه!
والمنتحر لا يَقدم على هذه الخطوة فاجأة، بل مارس فعل الأنتحار سيكولوجيًا مرارًا في تفكيره، وقتله آخرين نفسيًا بسكين كلامهم أو تجاهلهم أو قسوتهم أو ظلمهم.. فقد أنتحرت نفسه قبل جسمه، وإن كان هذا ليس مُبررِاً لهم، لكن أحذر أن تكون أنت مبرر لأحدهم فيقبل على هذه الفكرة!
ويفسر فرويد ظاهرة الأنتحار حسب تقسيمه لغرائز الحياة، والغرائز الموت، وأن أى سلوك نابع من غرائز الحياة (إيروس)، وهي تهدف إلى الربط والتجميع، وبالتالي تهدف إلى بقاء الكائن الحي.
أو غرائز الموت (ثاناتوس)، التي هي تهدف إلى حل التجمعات والرجوع بالكائن الحي إلى الحالة اللاعضوية حيث الموت هو نهاية كل حي.
ولكي نتجنب تدمير أنفسنا إذعانًا لغريزة الموت، نوظف غريزة الحياة لتواجهها بنفس القوة، وحين نفشل في ذلك، تدفعنا غريزة الموت نحو الانتحار.
وهى فكرة لها جذور في الأساطير اليونانية القديمة، التي تصور هاتين القوتين وهما تصطرعان داخل نفس الإنسان، وفي الشِّعر أتى هذا المعنى في ملحمة الإلياذة والأوديسا.
فكرة الأنتحار يمكن أن نصنفها كأنها فكرة ألحادية تنكر وجود إله يضبط الكل يستطيع السيطرة على الأمور ويحولها للخير، بل أحيانًا يؤله المنتحر نفسه ولما يجد أن الحياة أكبر من أمكانياته، يلجأ إلى الموت، وبعض علماء النفس يصنفونه على أنه “أنتحار أناني” نتيجة مبالغته في التفكير حول ذاته ثم اكتشافه لهشاشته أمام صعوبة الحياة، وكثير من رسائل المنتحرين تحمل نفس المعنى، «لا أستطيع أن أقاوم أكثر من ذلك»، هذا ما كتبته «فيرجينيا وولف» قبل أنتحارها عام 1941م، وهى التي عاش أديبة ناجحة مع زوج يحبها، وتوفرت لها كل أمكانات السعادة ولكن… أين “الحياة”!
وهى فقدان لرؤية الخلود، فأننا نعيش لنعيش… نحيا على الأرض في تقوى لله مهما بلغ الآلم، من أجل أن نحيا مع الله أبديًا في نعيم. وهذا هو هدف الحياة، وكل هدف غير ذلك لا يستطيع أن يملئ بئر الرغبات الأنسانية العميقة أو يروي ظمأه الأوسع من العالم بكل ما فيه!
لذلك أن تستعمل قدراتك كلها، وتستنفد كل طاقتك الإبداعية، وتقدم كل ما في وسعك، ثم تموت بسلام وسكينة، هذا يطلق عليه الفلاسفة “الموت السعيد”، لكننا لم نُخلَق لموت سعيد، بل لأبدية مجيدة وما الموت سوى قنطرة للعبور إليها، فالموت السعيد مسيحيًا ليس نهاية الحياة المكللة بالأنجازات أنما البداية لحياة أبدية مكللة بالمجد، لذلك لا نخشاه ولا نسعَ إليه لأننا لا نستمد وجودنا منه، بل من الحياة الآتية بعده!
فالسعادة ليست محطة نصل إليها، أن لم نصل نركب قطار الموت. أنما السعادة هى الطريق ذاته، أن نستمتع بكل حدث وكل فعل، ونثق في قوة الله التي نرتكن عليها.
السعادة أن نحصل على الغفران عن أخطائنا من جهازنا العصبي، فأن الحياة أقيم من الخطأ والخطيئة، فلا نفكر في الموت لأن الله أماته، لهذا لا يحق لنا أن تكون الخطية سببًا ودافعًا للموت والأنتحار لأن هناك بديل آخر هو… الغفران. لنبدأ بعده حياة جديدة.
كما أن المنتحر هو فاقد لرؤيا الخلود، هو يحمل صورة مشوهة عن الحياة، فيحاول التخلص منها بسرعة، فيلجأ للموت لا عن رغبة فيه، أنما للتخفيف من معاناة الواقع، ويستند عنده قرار الانتحار إلى أسبابٍ منطقية وليست دائمًا نفسية، غالبًا ما تكون بسبب وجود مرضٍ مزمن ومؤلم يتعذر معه وجود أي أمل في تأجيل مثل هذا القرار. بينما أحيانًا كثيرة يكون الحل في “أنتظار حل”، وليس خلق مشكلة جديدة!
أيضًا المنتحر مشوش من جهة مفهوم الموت، فالموت ليس نهاية… أو هروب… أو حل.. أو انتقام…، الموت سفر لمكان آخر، أنتقال لحالة أخرى، بداية لمصير أبدي، وأسأل الشعوب القديمة التي كانت تدفن جثث موتاهم مع أمتعتهم وتحنيط أجسادهم، وأحيانًا مع جواريهم وزوجاتهم ليرافقوهم في الحياة الأخرى.
والأنتحار خيانة للحب والحياة إذ هى طريق يهوذا الخائن الذي جنا على نفسه وظن أنه نجا من الحياة، بينما كانت الحياة ذاتها في كامل استعدادها لتقبله وتصحح الماضي بل وتمحيه!
أخيرًا، الأنتحار قتل… فالروح أعطاها الله ووحده من يملك الحق باستردادها.
الكنيسة تتعاطف مع كل المماراسات الخارجة عن الإرادة، وتفترض حُسن النية لمن لم يتوفى فور أنتحاره لعله تاب في لحظاته الأخيرة. ولا تملك أحكام نهائية مصيرية للمنتحر. وتفتح أحضانها لكل خاطئ، قد لا تضمن إيجاد حلول لكل مشكلة.. لكها تضمن حضور الله في كل مشكلة، وهذا أهم!
“طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ «إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ” (يع 1: 12).