إعلان بطلان ولا طلاق
مقدِّمة
أمام عَتَبات الأَلْفِيّة الثالثة، مؤسّسة الزَّواج، أساس العائلة و التي تشكل الخليّة الأولى للمجتمع الإنساني، تتعرض لعديد من الصعوبات في هذه الأوقات الصَعْبة، وخصوصاً أمّام معلومات إحصائيّة مُدَمِّرة، تُظهر نُمُوّاً مستمرّاً ومتزايداً من الاِنفصالات الكنسيّة والطلاقات المدنية. تجاه هذه الصعوبات، عبَّرت الكنيسة الكاثوليكيّة في السنوات الأخيرة عن اهتمامها العميق، وذلك من خلال خطابات البابا يوحنا بولس الثاني و إرشادات المجلس الحبري للأسرة ووثائق مختلفة. مشيرة في نفس الوقت إلى ظاهرة، نواجهها اليوم، قلّ أن تكون استثنائية تعطل تناميّ الأسرة وبعض قيَم الزَّواج والتي تدعو إلى خطر واسع الانتشار تستصرخ بشدّة ضمير المسيحيين الكاثوليك بشكل خاص، ألا وهي تزايد عدد طالبي إعلان بطلان زواجهم الكنسيّ لدى المحاكم الكنسيّة في أرجاء العالم، وخصوصاً في السنوات الأولى من الحياة الزّوجيّة. هذا التزايد يشكلّ علامة خاصة لضعف الإيمان والأخلاق المسيحية وانعدام الوعي لطبيعة ومفهوم الزَّواج، ويُولّد قلقاً لدى المؤمنين، ويخلِّق فيهم انطباعاً أن الكنيسة تسهّل الأمور تجاه هذه الظاهرة مع أنَّها تنادي بلانفساخية الزَّواج. إلاّ أنَّ البعض يفكر بوجود فرضيّة أنّ الشرع الكاثوليكي يقبل الحق ببطلان الزَّواج في حال كان الزَّواج فاشلاً وفقاً للوقائع، وأنّ التعايش يصبح أمر مستحيلآً ، لذا من الضرورة تطبيق الاِنفصال أو بطلان الزواج. هذا كلُّه يحملنا لا محالة على قلق رعويّ. لذلك نودّ أن نقدم ظاهرة حقيقة هذا الإعلان للبطلان من وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية و بشكل خاص، من منطلق الشرع الشرقي الكاثوليكي الجديد.
مفهوم “إعلان بطلان” زواج
الكثير من المؤمنين يجهلون طبيعة “إعلان بطلان” فيعتبرونه بمثابة طلاق كما هوفي الكنائس الشرقية غير الكاثوليكية (مع أنَّ جميع الكنائس الشرقية الأرثوذكسية تؤمن بالانفصام في الزَّواج) ولكن بغطاء آخر وبأسباب جديدة لمعالجة واقعية فشل الحياة الزَّوجية. مع أنَّ هناك فرقاً بين الطلاق وإعلان بطلان وذلك في الهدف والآثار وحتى في الأسباب. فالطلاق في المفهوم الكاثوليكي يتخذ الصفة اللا أخلاقية أيضاً من البلبلة التي يدخلها في الخليّة العائليّة وفي المجتمع. وهذه البلبلة تستتبع أضراراً جسيمة: للزوج الذي يهمل، وللأولاد الذين يؤذيهم افتراق والديهما وتأرجحُهم غالباً بينهما، وبسبب تأثيره الذي يجعل منه عدوى وآفةً اجتماعيّة حقيقيّة . فالطلاق يُعتبر تنَاقضاً عُضالاً مع طبيعة الزوْجيّة السِّريّة ومع مبدأ “ما جمعه الله لا يفرقه الإنسان” الذّي يهدف إلى حلّ رباط “الزَّواج قائم”. وفيما يخص “إعلان بطلان”، ينصّ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ما يلي: “تستطيع الكنيسة بعد أن تنظر في الوضع عبر المحكمة الكنسيّة المختصّة، أن تُعلن “بطلان الزَّواج”، أي أنّ الزَّواج لم يتمَّ منذ الأصل. في هذه الحال يحقّ للمتعاقدَيْن أن يعقدا زواجاً آخر، على أن يتقيدا بالواجبات الطبيعيّة الناجمة عن قران سابق” . في هذه الحال، إنَّ فرضيّة وجود عيب في الرضى الزواجي منذ البدء والّتي أفَسَدَتْ نتائجه الرابطة الزوْجيّة من الأصل بواسطة الظرف الذي يُؤَثِّرُ على صحّة الزَّواج نفسه: يجيز تدخّل المحكمة الكنسية المختصة لكي تنظر في الطلب القانوني المقدّم من المدعيّ وفقاً للأصول والأحكام الكنسيّة لتعلن بطلان الزَّواج أي أنَّ الزَّواج لم يكن قائماً أصلاً وفقاً للقانون العام والوقائع. ويُرجع القانون 1360 حق الطعن في الزَّواج إلى الزوجين، وهذا عندما يستند طلبهما إلى سبب يختص بهما فقط . وعلى القاضي الكنسي أن يحتاط لأمر التواطؤ بين الزوجين، تخلصا من عقد الزَّواج، بوضعهما موانع اتفقا على تقديمها للمحاكم، وبذلك يُعتقان من وثاق الزَّواج بعد عقده. لذا يقول قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في خطابه أمام أعضاء الروتا رومانا “إنَّه ينبغي أن نُذَّكر أنَّ الزوجَيْن، اللذّين يقع عليهما الحقّ في رفع دعوى بطلان زواجهما، ليس لديهما الحقّ للبطلان ولا لصحته. لكن لديهما القدرة القانونية على تقديم قضية بطلان زواج إلى السلطة الكنسية المختصة ملتمسين قراراً بهذا الخصوص” . أمّا أسباب إعلان بطلان فهي محددة في الشرع العام للكنيستين الغربية والشرقية والتي تتعلق بفعل الرضى وعناصره الجوهرية، وبالإجراءات الشكلية القانونية وبالموانع الكنسية؛ وتكون سابقة لفعل الرضى أومرافقة له أوقد طرأت بعد الزَّواج. فالإعلان عن بطلان الزَّواج للأسباب المذكورة في الأنظمة القانونية، لا يمكنها أن تتعارض مع مبدأ لا انحلال الزَّواج . فالكنيسة ليس لديها سلطة في بطلان زواج قائم، إنمّا تُعلِن أن الزَّواج لم يكن قائماً.
المفهوم اللاهوتي للزَّواج
أكدّ الكتاب المقدس أنَّ الزَّواج مؤسّسة ذات حقّ طبيعيّ، خواصّها قائمة في الكائن ذاته الرَجُل والمرأة : ” فخَلَقَ الله الإنسان على صُورته على صُورةِ الله خلقَه ذكراً وأُنثى خَلَقَهما (تكوين 1: 27). لهذا السبب تُوجَدُ صورة الله في الثُنائيّة رَجُل – امرأة وفي اتحادهما كأشخاص، أي أنَّ البعد الميتافيزيقي منذ البدء مُتضمن في نظام الخلق وفي واقعيّة الزَّواج نفسه. يقول الله: “لا يَحسُنُ أن يكونَ الإنسانُ وحده، فلأصنَعَنَّ له عوناً يُناسِبه…وبنى الربُّ الإلهُ الضّلْعَ الَّتي أخذها الإنسان امرأةً، فأتى بها الإنسان. فقال الإنسان: “هذه المرَّةَ هي عظمٌ من عظامي ولحمٌ من لحمي” (تكوين 2: 18؛ 22-23). فالرباط الذّي ُخْلَق بين الرَجُل والمرأة في العلاقة الزَّوجيّة هوأسمى من كلّ الروابط الأخرى بين الأشخاص. “لذلك يتركُ الرجل أباه وأمَّه ويلزم امرأته فيصيران جسداً واحداً (تكوين 2: 24). فالرَجُل والمرأة، سواء في مساعدتهما المُتبادَلة أوفي خصبهما، يُشَارِكان في شيء ما مُقدّس وديني. إذاً الزَّواج “ليس نتيجة تطور اجتماعي وثقافي خاضع للتغيرات” ولا إلى القوانين البيولوجية وحدها، “أووليد مصادفة أونتيجة تنامي قوى طبيعية عمياء” ، إنما هوحقيقة من حقائق الخلق يندرج ضمن نظام الخلاص. فلا يعتمد على اللقاء الحُرّ بين الرجل والمرأة فقط، وإنَّما على الإرادة الإلهيّة التي لم تترك للإرادة البشرية حريّة حَلِّه أواستمراره حسب هواهما وإنَّما تركت لهما حريّة تشكيل وتحقيق الوثاق الزَّوجيّ، فليس في إمكان أي سلطان بشري أن يعوّضه ؛ وبقوة الشرع الإلهي، هذا اللقاء يجب أن يكون غير قابل للانحلال.
هذه هي الخطوط الأساسيّة للمؤسّسة الزَّوجية، للبنيّة العائليّة في منشئها واستمرارها، فهي حقيقة واقعيّة لها جذور عميقة في الطبيعة البشريّة نفسها، ومتأَثَّرة بالشروط الثقافيّة والتاريخيّة لكلّ الشُعُوب، لأنَّ “قصْدَ الله من الزَّواج والعائلة يتناول الرجل والمرأة في واقع وجودهما اليومي في هذه أوتلك من الحالات الاجتماعية والثقافيّة” ، وإن َّ وُجِدت أحياناً بعض الثقافات وكان لها التأثير السلبيّ على مؤسّسة الزَّواج، مما يناقض مخطط الله مثل تَعَدُّد الزَّواجات والطلاق؛ فبات لزاماً على الكنيسة أمام هذه الثقافات أن تقف في مواجهتها، إتماماً لمُهِمَّتها ولرسالتها، مقدّمة التعليم العقائدي الموحى إلى الجِنْس البَشَرِيّ.ففي العصور الأولى للكنيسة في تَعَرُّضها لثقافة يونانيّة رومانيّة، وَجَدَتْ أرضيّة ملائمة وهوالقانون الرومانيّ Ius Romanum Eccleasiae Romanae، الذي من جهة خسر الكثير من خشونته، بسبب الاختراقات الإِنْسانِيَّة الإنجيليّة تحت تأثير المسيحيين، ومن جهة قدَّم للدين الجديد وسائل علميّة مساعدة للتَشْرِيعات القانونية منّها ما يتعلّق بالتشريعات الزَّوجية . فالكنيسة الغربية بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، حملت راية الشرع الروماني، أمام الشرع البربري . وخصوصاً الكنيسة الشرقية، في مَفْهومها للزَّواج، تأثرت ببعض جوانب المفهوم الروماني؛ ففي بداية الجيل الثالث يقول المشترع موديستينوس “الزَّواج هواتحاد بين الرجل والمرأة لإقامة مشاركة في الحياة مصدره مزيج من الحق الإلهي والطبيعي على السواء”. بهذا التعريف الكلاسيكي الروماني أُظهر الطابع المقدَّس للزَّواج والطابع القانوني ، والذي فيما بعد انضمَّ إلى مجموعة قوانين جوستينيانوس (527-565). إلاّ أنَّ الكنيسة الكاثوليكية وقد استنارت بالإيمان والإنجيل اللذين يُفهمانها كل حقيقة متعلقة بما للزَّواج من قيمة ومعنى عميق اعتمدت في صياغة نصوصها القانونية عن الزَّواج على مفهوم القديس توما الأكويني الذّي استوحى من القانون الرومانيّ مبدأ ” “consensus facit nuptia الرضى كعنصر أساسي لصحّة الزَّواج ، وكالعلّة الفاعلة للعلاقة القانونية القائمة بين زوج- زوجة وبين الحقوق والواجبات القانونية المتعلقة بهذه العلاقة. ولكنها أكّدت، في السنوات اللاحقة من خلال الإرشادات والوثائق الكنسيّة، حقيقة أخرى للزَّواج، وترتكز في أساسه على مفهوم النصوص الإنجيليّة (مرقس 10:11؛ لوقا 16: 18؛ متى 19: 6) وتعاليم آباء الكنيسة بعبارة “العهد” بين الرجل والمرأة “صورةً ومثالاً” لعهد الله مع البشر والذي يتحقق بوجه نهائي في يسوع المسيح “mysterion” من خلال السرّ الفصحيّ سرّ اتحاد المسيح مع الكنيسة. فحقيقة الزَّواج الأصلية بكونها مؤسّسة تثبتها الشريعة الإلهية، كشف عنها السيد المسيح (متى 19، 5) في المحبة التي يجود بها كلمة الله على البشرية باتخاذه طبيعة البشر، وفي ذبيحته وتضحية ذاته على الصليب من أجل عروسته. وهكذا يصبح الزَّواج بين المعمّدين رمزاً واقعياً للعهد الجديد الأبدي المختوم بدمه” . فالحبُّ بين الرجل والمرأة الذّي أقرَّه التعهّدُ المتبادل، والذّي، فوق كُلّ شيءٍ، قدَّسه سرُّ المسيح يبقى في السَّراء والضَرَّاء على أمانته الثابتة جسداً وفكراً، ويأبى من ثمَّ كُلَّ زنىً وكُلَّ طَلاقٍ (الكنيسة في عالم اليوم، عدد 49). فالزَّواج الصحيح المقرّر والمكتمل لا تحلّه أية سلطة بشريّة ولا أي سبب كان ما خلا الموت . بينما ترى الكنائس غير الكاثوليكية أنّ الزَّواج المقرّر والمكتمل يمكن أن يُحلَّ بالفسخ أوبالطلاق لأسباب تعرفها التشريعات المختصة بها.
فأوصدت الكنيسة الكاثوليكية الباب أمام إمكانية فسخ الزَّواج الصحيح أكان ذلك بالطلاق أولغير علة أخرى غير الموت. وأنّ الله يستطيع وحده وبسلطانه الإلهي أن يحلّ عقد الزَّواج وهوحق إلهي حصري لا تستطيع أية سلطة بشرية تجاوزه “ما جمعه الله لا يفرقه إنسان” (متى 19: 5). وهذا ما تؤمن به الكنيسة ، والذي ينتمي إلى وديعة إلهيّة للكنيسة جمعاء (دستور في الليتورجيا، 59) ، “فينقله التقليد الذّي يضمن استمراريّته وأصالته على مدى العصور، منذ القدَم ولربّما منذ شهادة الرسل…إنه وديعةٌ إلهية لا تُمسّ” . لذلك من مهمّات السلطة العليا للكنيسة، بهدي الروح القدس،الحفاظ على الوديعة الإلهيّة، وكشفها بعمق، وعرضها بأمانة والتعبير عنها تعبيراً سوياً ( نور الأمم، عدد 25). وهذه السلطة تتمثل في الحبر الروماني وفي المجمع المسكوني، التي هي وحدها لها الحق في تحديد شروط لصحّة الاحتفال بالأسرار وفقاً للشرع العام .
وقد وردت بعض الاستثناءات فيما يعود لإمكانية فسخ الزَّواج في الكنيسة الكاثوليكية عن طريق الإنعام البولسي، وفسخ الزَّواج المقرَّر وغير المكتمل بين المعمّدين وأيضاً عن طريق الإنعام البطرسيّ أي بالسلطان النيابيّ والرسولي المعطى للحبر الروماني. ويمكن لقداسة البابا منح فسخ الزَّواج بسلطانه النائبي الذي هومن حق طبيعي وإلهي، لأسباب محددة، وموجبة أولها هوصالح الإيمان، وثانيها خلاص النفوس . وأيضاً وفقاً لأصول يقتضي اتباعها واستناداً إلى طلب تفسيح يرفع من أصحاب العلاقة إلى الكرسي الرسولي بواسطة الدائرة الفاتيكانية المختصة.
فإنَّ الطابع السَّريّ للزَّواج لا يضاف ظاهرياً إلى طبيعة الزَّواج كعقد طبيعي، لكنه مرتبط به بشكل باطني، أي أن بين المعمّدين لا يوجد زواج صحيح إن لم يكن سرّاً. ويؤكد الوحي الإلهي، أنَّ هناك التحاماً للزَّواج في النظام الطبيعي وسرّيّ، فإنَّه مقدَّس بطبيعته وبتأسيسه وسر من أسرار العهد الجديد، وإنّ مبدأ اللا انفصال بين الزَّواج الصحيح والسرّ كنقطة مركزية للعقيدة الكاثوليكية “gratia perficit, non destruit naturam” أُعطيت من السلطة التعليمية الكنسية بشكل ثابت . فالوثاق غير القابل للانحلال الذّي ينتج عن العقد الزَّوجيّ، يكتسب بفضل السرّ، استقراراً خاصاً (ق. 776 البند3) بين المعمَّدين يعلن المجمع التريدنتيني- “النعمة التي تقود هذا الحبّ الطبيعي إلى كماله تُثبتُ هذه الوحدة التي لا تقبل الحلَّ، وتُقدّس الزّوجين” . وقد وضّح البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي إلى الأساقفة والكهنة ومؤمني الكنيسة الكاثوليكية جمعاء في وظائف العائلة المسيحيّة في عالم اليوم عن هذه العلاقة الأساسية والمتبادلةّ: “يتميّز سرّ الزَّواج عن سائر الأسرار بالخصائص التالية: إنَّه سرّ لشيء كان جزءاً من تدبير الخلق ونظامه، إنَّه العهد الزَّواجي الذّي أنشأه الخالق “منذ البدء”. وعزم الرجل والمرأة على عقد الزَّواج وفقاً لقصد تقييد حياتهما بالرضى الزَّوجي الذّي لا رجعة عنه، وبالحب غير المنفصم، وبالأمانة غير المشروطة، يتطلب، في الحقيقة، ولوبطريقة غير واعية، نية الطاعة التامة لإرادة الله، وهي نيّة لا يمكن أن تتوفر دون نعمته تعالى، فهذان قد بدأا، واقعاً وحقاً، مسيرة الخلاص التي تقدّر الاحتفال بالسرّ والإعداد القريب له أن يكمّلاها ويصلا بها إلى نهايتها، شرط أن تكون نيّتهما سليمة ” . فالاتحاد والوثاق الزَّوجيّ بين المعمَّدين يتخذان ليس المعنى الطبيعي للحبّ بين الزوجين فقط، إنَّما المعنى الفائق الطبيعي الخاص بالزَّواج كسرّ. فسرّية الزَّواج هي صيغة خاصة للزَّواج بين المعمّدين. فالزَّواج الصحيح بين المعمّدين هوسرّ بذات الفعل، به يجمع الله بين الزوجين على مثال الاتحاد السرمدي بين المسيح والكنيسة، ونعمة السرّ تمنحهما نوعاً من التكريس والحصانة” (ق. 776 البند 2). فإنَّ العبارة المذكورة أعلاه، eo ipso ” بذات الفعل” تُوضح تعليم المجمع التريدنتيني: الأسرار تعمل ex opere operato أي بذات الفعل يتم عمل الخلاص بعمل المسيح الخلاصي لمرة واحدة وإلى الأبد. وهذا ما تؤكده الكنيسة بقولها “إنّ الأسرار تعمل تلقائيًّا (أي بمجرد القيام بها)، أعني بقوة عمل المسيح الخلاصيّ الذّي حقَّقه دفعة واحدة. ويتبع ذلك أنّ السرّ لا يتحقّق ببّر من يمنحه أويناله، بل بقدرة الله. فكل مرة يُحتفل بالسرّ وفقاً لنيّة الكنيسة، فإنّ قدرة المسيح وروحه تعملان فيه بمعزل عن قداسة القائم به. بيد أنّ ثمار الأسرار رهنٌ باستعدادات من ينالها” . فالمعمّد الذّي يتحد بزواج في الكنيسة فهويتحد في الزَّواج كسرّ؛ فيُفترض أن يكون لديه الإيمان بالمسيح وبالكنيسة وبكرامة الزَّواج السرّي . فمن يعقدون زواجا (لأسباب اجتماعية تدفع الخطيبين إلى طلب الاحتفال بالزَّواج في الكنيسة) فقد ارتبطوا، بقوة عمادهم، ارتباطا حقيقياً بالعهد الزَّواجي مع الكنيسة، وقبلوا، بنيّة سليمة، قصد الله من الزَّواج، وهم يرضون بالتالي، ضمنا على الأقل، بما تقصد الكنيسة فعله عندما تحتفل بالزَّواج…هذا وإن الأسرار، على ما علّم المجمع الفاتيكاني الثاني، تغذّي الإيمان وتقويه بالكلام والعناصر الطقسيّة: نعني الإيمان الذّي بات العازمون على الزَّواج يسعون إليه بقوّة نيّتهم الطيبة التي ترعاها، ولا شك، نعمة المسيح وتثبتها…عندما يجاهر علنا وصراحة الراغبون في عقد الزَّواج، بأنهم يرفضون ما تقصده الكنيسة من الاحتفال بزواج المعمّدين، لا يجوز إذ ذاك لراعي النفوس أن يقبل بمباركة زواجهم. وعليه، برغم ما في ذلك من صعوبة ولوعلى كره منه، أن يأخذ علماً بهذا الأمر، ويقنع المعنيين به بأن الكنيسة، في هذه الحالة، ليست هي التي تمنع الاحتفال الذّي يطلبونه، بل هم عينهم . مما ينتج عن ذلك أنّ الكنيسة لا تعترف بصحّة سرّ للمعمّدين الذّين يرفضون بشكل صريح سرِّية الزَّواج .
فمن ينفي بفعل إرادة وَضْعي السرّ أوديمومته أي عدم قابليته للانحلال، بحيث يحتفظ لنفسه عند إجراء العقد الحق بطلب فسخ الشراكة الزّوجيّة بوسيلة قانونية قد تكون أمام القضاء المختص أوسواه من المراجع الأخرى والتي قد يلجأ إليها سعياً للتخلص من الرباط الذّي يجمعه بالفريق الآخر فهويرفض عنصراً رئيسياً من عناصر العقد فيكون زواجه باطلاً: حسب القانون 824 البند 2: ” إذا نفى أحد الزوجين أوكلاهما بفعل إرادة وضعي الزَّواج نفسه، أوأي عنصر جوهري من عناصر الزَّواج، أوميزة جوهرية من ميزاته، يكون الزَّواج باطلاً”. إن وجود هذه الإرادة قد تكون نتيجة لتربية خاطئة دينياً ومدنياً، مع العلم بحقيقة الزَّواج المسيحي يمكن أن تُقدَّر بقرينة لصالح التلجئة . فالمؤمنون الكاثوليك عندما يُقدِمون على الزَّواج مع طرف غير كاثوليكي، لديه إمكانية القيام بفعل إرادة وضعي إلى اللجوء للطلاق في ظروف معيّنة، يصعب تحديد ما إذا كان الطرف غير الكاثوليكي ينويّ رفض ديمومة الزَّواج أوالسرّ وخصوصاّ إذا كان منتمياً إلى جماعات مسيحية كالبروتستانت، شهود يهوه إلخ.على كل حال تظل القاعدة القائمة في القانون 779 في حالة الشك، تكون المسألة لصالح صحّة الزَّواج .
قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في خطابه أمام أعضاء روتا رومانا سنة 2003 يوضّح: أنَّ أهمية الطابع السرّيّ للزَّواج، وضرورة الإيمان للمعرفة ولإحياء هذا البعد بشكل تام، قد يمنح المجال لبعض الغموض، سواء أثناء قبول الأعراس أوأثناء الحكم على صحتها. فالكنيسة لا ترفض الاحتفال بالأعراس لمن هومستعد بشكل مقبول، أوكان مُستعداً بشكل غير كامل من المنظور الفائق الطبيعة، بشرط أن تكون لديه النيّة في الزَّواج حسب الحقيقة الطبيعيّة الزَّوجيّة. هذه الحقيقة ينبغي ألاّ تنتسى أثناء تحديد نفي سّرية الزَّواج (ق. 1101 البند2) وغلط في ما يخصّ كرامة الزَّواج كسرّ (ق. 1099) التي تُعتبر أسباباً للبطلان. لذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار قطعياً أنَّ سلوك أحد المتعاقدين بدون البُعد الفائق الطبيعة في الزَّواج، يمكن جعله [الزَّواج] باطلاً فقط إذا أثُلِم الصحّة على الصعيد الطبيعي الذي وضع فيه علامة سريّة. فقد اعترفت الكنيسة الكاثوليكية دائماً بزيجات بين غير المعمّدين، التي تصبح سراً مسيحياً بواسطة معمودية الزوجين، وليس لديها أي شك حول صحة الزَّواج بين كاثوليكي مع شخص غير معمّد إذا احتُفل مع التفسيح القانوني.
المفهوم القانوني للزَّواج
إنَّ مَفْهوم الزَّواج اللاهوتي، كعهد له مفاهيم ومعالم قانونيّة تشكل كيانه، والمحتفلون يجب أن يلتزموا بها بشكل مطلق، فلا يمكنهم تحديد أونفي الزَّواج بوضعه القانوني. فالقانون 1490 الشرقي يُلزم المعمّدين في الكنيسة الكاثوليكيّة بالقوانين الكنسيّة البحتة ويُحكم زواج الكاثوليك من الشرع الإلهي والشرع الكنسي أيضاً (ق. 780 البند1).وللسلطة التعليميّة الكنسيّة الحيّة وحدها مهمّة التفسير الصحيح للوجهات القانونية للزواج
( دستور عقائدي “الوحي الإلهيُّ”، رقم 10)، لكي تتحاشى أي خطأ حول بعض النقاط التي تخصّ القانون الطبيعي ومعطيات الوحي وخطورة التفسير الذاتية في تطبيق القانون وحفظ الوحدة الزَّواجيّة . وفيما يتعلق بالمعمّدين غير الكاثوليك فهم مُلزمون بالشرع الإلهي الطبيعي، المذكور في القوانين الشرقية الكاثوليكية: 776؛ 801؛ 802 البند1؛ 808؛ 818؛ 820؛ 819؛ 822؛ 824 البند2؛ 853 .والشرع الإلهي والكنسيّ قد حدّدا الأهليّة الزوجيّة للأشخاص، كالموانع، والصيغة القانونيّة للاحتفال ومفاعيل الزّواج.
أقر َّ الشرع القانوني للكنيسة اللاتينية سنة 1917أنَّ الزَّواج يُعتبر صحيحاً (ex iure naturae) بين المعمّدين بوجود الأهلية القانونية لدى الزوجين والتبادل الحر لرضاهما الزوجيّ بدون ذكر الأهمية القانونيّة لحضور الكاهن، وأنَّ الرضى ساعة العقد لم يشبْه أيّة شائبة يحدّدها القانون. أمّا فيما يخص مسار الحياة الزَّوجية ونتائجها فالقوانين لم تأخذها بعين الاعتبار، فنتج عن ذلك عقيدة تضع حداً فاصلاً بين صحّة العقد وبين مسار الحياة الزّوجيّة، بنوع أنّ أي خلل يصيب الحياة الزّوجيّة بعد إبرام العقد لا يمكنه أن يشكل سبباً لبطلان العقد وبالتالي لبطلان الزَّواج . إلى درجة أنّ القانون الغربيّ سنة 1917 المستند على مبدأ القديس توما، كان يعتبر الرضى الزَّواجيّ صحيحاً حتى لدى المصابين بمرض عقلي.
أمام هذا المنظار، أحدث المجمع الفاتيكاني الثاني ثورة حقيقيّة في تحديده لطبيعة الزَّواج المسيحيّ، من خلال الدستور العقائدي “فرح ورجاء”، كجواب للمتغيرات العصرية في ذلك الوقت، وخصوصاً لمفهوم الشخص البشريّ، الذّي كان ضمن دائرة الأبحاث العلمية النفسيّة والأنتروبولوجيّة، التي ساهمت بتوضيح القوى النفسية والانفعالات كجزء مهّم ومؤثر في توازن حياة الإنسان. فأظهرت أن الضابط القانوني للمؤسٍَّسة الزَّواجية يقوم على العلاقة الحتميّة السببيّة بين الرضى الزَّوجي القائم على أساس كلمة “عهد” بين شخصين تم تصميمه (in fieri) لحظة تبادل الرضى بين الزّوجين اللذّين أظهرا النيّة في تأسيس مجتمع حياة زوجية؛ وموضوع الزَّواج، الذّي يجعل الرضى الزَّواجيّ في التصميم زواجيًّا (in facto esse) ويجب أن يتم تنفيذه في مسار الحياة الزَّوجيّة: في العدد 48 نقرأ: إنَّ الشركةَ الحميمية في الحياة والحبّ الزوجيّ… قائم على رِضى شخصيّ غير قابل للنقضَ والتراجع. وهكذا فالعمل الإنسانيَُ الذّي يتبادلُ به الأزواجُ العطاء والتقبُّل هو توافقٌ ترابطيٌَ ثبَّتَتْه الإرادة الإلهية…والرجلُ والمرأةُ اللذان برباط الزَّواج “ليسا هما اثنين من بعدُ، بل جسدٌ واحد” (متى 19: 6)، يتعاونان ويُساند أحدهما الآخر بما بيْنهما من اتّحادٍ حميم في الشَّخص والعمل…وهذا الاتّحاد الحميم، في كونه عطاءٌ متبادلٌ بين شخصين، وكذلك خيرُ البنبن، كُلُّ ذلك يقتضي أمانةً تامةً عند الزوجين، وارتباط الواحد بالآخر ارتباطاً لا ينفصم…وكما أنّ الله قطعَ مع شَعبه قديماً عهدَ محبةٍ وأمانة، هكذا أراد الآن مُخلّصُ البشر، عروس الكنيسة، أن يقابل الأزواج المسيحيّين بسرّ الزَّواج. إنّه لن يبرح مُقيماً معهم حتى يستطيعوا، وقد تبادلوا العطاء الذاتي، أن يحبّ بعضهم بعضاُ بأمانة متواصلة، كما أحبّ هو الكنيسة وبذل ذاته لأجلها”. وفي العدد 49 نقرأ ما يلي: “إنّ الحب الحقيقي القائم بين الزوج والزوجة والذّي يظهر بوجوهٍ تختلف باختلاف ما للشعوب والأجيال من عادات وتقاليد سليمة، وبكونه انعطافاً إراديا من شخص إلى شخص آخر، يشتمل على خير الشخص البشري بكامله…وحبٌّ كهذا يجمع في ذاته الإنساني والإلهيّ، يقود الأزواج إلى تبادل في العطاء الذاتي الحُرّ يظهر في العاطفة والتعامل، ويتخلّل في الحياة كُلّها…”.
ففعل الرضى مؤسّس على وحدة الشخص البشري غير القابلة للتجزئة، الذّي هوواحد وفريد، رغم تعددية مقوماته من : روح وجسد وقلب وضمير وعقل وإرادة (الكنيسة في عالم اليوم، عدد 3). لذلك لمعالجة قضية زوجية ما، لا بُدّ من الانطلاق من واقع الإنسان التاريخي، إنسان بواقعه المتألم والمُفتدى حسب الوحي الذّي يضيء عقولنا وخبراتنا؛ وأيضاً من منطلق قوة وضعف وجوده الإنساني . البابا بولس السادس في الرسالة البابويّة “الحياة الإنسانية” في 25/ 7/ 1968شدّد فيها على العلاقة الشخصانية في الحياة الزّوجيّة وعلى الحب الزوجي الذّي هو عطاء متبادل وأمانة حصريّة لا مثيل لها: “هو أيضاً حبّ أمين لا إشراك فيه، حتى الموت. وهكذا يراه الرجل والمرأة عندما يلتزمان بحريّة ووعي كامل وثاق الزَّواج. وقد تكون هذه الأمانة أحياناً صعبة، ولكنها دائماً ممكنة ودائماً نبيلة تستحق التقدير” .
فالعلاقة بين فعل الرضى، الذّي يُبنى على أساسه الزَّواج، والوضع الزَّواجي الذّي ينبثق من الفعل، أدى بالضرورة إلى الانتقال من التفكير المؤسّساتي للزّواج إلى التفكير الشخصاني بدون الفصل بينهما. لأنّه لا يمكن الفصل بين الإرادة في الزَّواج وموضوع الزَّواج كما يقول غروكولفسكي، عميد محكمة التوقيع الرسولي اليوم: “إن من يعقد زواجاً يفترض أنه أراد الزَّواج، وموضوع الزَّواج هوأن يريد بفعل إرادة صريح كل ما بدونه لا يمكن أن يقوم زواج” . على هذا الضوء ينبغي معالجة صحّة الزَّواج ليس فقط بالعودة إلى العناصر الأساسية المكوَّنة للعهد الزَّوجيَ، بل أيضاً الأخذ بعين الاعتبار مسار الحياة الزَّوجية، لأنَّها ليست حقيقة معزولة عن حياة الإنسان الشاملة وكأنّ لها مقاييسها وغاياتها المطلقة، بل هي حقيقة بشريّة إنسانية تتبع الإنسان.
هذه النظرة الشخصانيّة عالجها البابا يوحنا بولس الثاني في خطابه أمام قضاة الروتا الرومانية في 2/ 4/ 1980 حيث قال: “طبعاً إن الرضى الزَّواجيّ يصنع العقد، ولكن الرضى لا يُعتبر صحيحاً، وبمعنى آخر، لا يكون زواجيّاً، إلاّ إذا وجد العنصر الأساسي الذّي يضمن له صحّته، وهو الحب”. وفي خطابه الموجّه إلى القضاة في 28/ 1/ 1982 يقول: “إن مهمتكم هي في خدمة الحب. والزَّواج هو عطاء متبادل بواسطة تبادل الرضى. هذا الرضى، وإن أعطي في زمن محدّد فإن له امتداداً مدى الحياة. هذا الرضى هو تبادل شراكة في الحياة والحب كما أن الحب الذّي تحكمه الإرادة يتوجّه ليصبح موضوع عهد الزَّواج”. لكن هذا الانتصار لم يؤدِ إلى إدراج كلمة الحب في قانون الزَّواج، خوفاً من تبرير المطالبة بفسخ الزَّواج في حال غاب الحب خلال الحياة الزّوجيّة. فالشركة في الحياة الزَّوجية تستند إلى الاختيار المتبادل الذّي هو، أو الذّي من شأنه أن يكون واعياً وحراً ملء الوعي والحرية… وأن يتقاسم سوياً الرجل والمرأة، الشخصان البشريّان، القدرة على الحياة “في الحقيقة وفي المحبة” . فإن “خير الزوجين” يمكن اعتباره تعبيراً ذا معنى واسع يتناول عن حق كل ما من شأنه تعزيز شركة الحياة الزوجية، فهو يرتبط بمثل وقيم إنسانية أولاها الحب البشري، انعطافاً إراديا من شخص إلى شخص آخر يشتملُ على خير الشخص البشريّ بكامِله…، يقود الأزواج إلى تبادل في العطاء الذاتي الحُرّ يظهر في العاطفة والتعامل، ويتخلّلُ في الحياة كُلّها. فهناك علاقة بين الفعل (إقامة عهد) الذّي يُبنى على أساسه الزَّواج، والوضع الزَّواجي الذّي ينبثق من الفعل (مسيرة الحياة الزَّوجيّة).هذا التفكير الجديد أُدخِل في الشرع الجديد للكنيسة اللاتينية 1983 ، والشرع الشرقي الجديد، سنة 1991 اللذّين استخدما في تعريف الزَّواج العبارات ذاتها كعبارة “مشاركة في الحياة” Consortium vitae مشيراً لشموليّة الحقوق وواجبات الزوجين ، وألغى عبارة “عقد الزَّواج” بعبارة “عهد الزَّواج” الذّي ينبغي أن تُوضح طبيعة الفعل الذّي يعطي بدءاً للزَّواج. فالجوهر الأساسي للمؤسّسة الزّوجيّة قائم على العهد الذّي يقطعه الزوجان لإقامة شركة في الحياة بينهما تعود لخير الزَّوجين بالدرجة الأولى والتي تكتمل كلياً بإنجاب الأولاد . “إن عهد الزَّواج الذّي وضعه الخالقُ وحصّنه بشرائعه، وبه يُقيم الرجلُ والمرأة، برضًاهما الشخصيّ الذّي لا رجعة فيه، شركةً بينهما تشمل الحياة بأسرها، مرتّب بطبيعة أمره لخير الزوجين وإنجاب البنبن وتربيتهم” (ق. 776).
القانون الشرقي لا يلغي أهمية الرضى الزَّواجيّ الذّي يصنع الزَّواج وهوحق طبيعي، لكنه تبنّى توجيهات الدستور العقائدي “فرح ورجاء” معتبراً أن المشاركة في الحياة هي أيضاُ من حق طبيعي . في هذا الإطار نجد أن شريعة الزَّواج الجديدة أصبحت تشمل، موضوع الرضى الذّي هو الزوجان نفساهما إضافة إلى فعل الرضى الزَّواجيّ كمرحلة التصميم، وأصبح مسار الحياة الزّوجيّة كمرحلة التنفيذ جزءاً لا يتجزأ من الرضى الزَّواجيّ المتبادل. المجلس الحبري للعائلة وجّه انتباهاً إلى أنَّ “الحبّ هو أساس الزَّواج، وأن الزَّواج هو شركة حياة وحبّ، ولكن لا يُشدَّدُ دائماً، بما فيه الكفاية، على واقع أن الزَّواج يشكّل المؤسّسة الزّوجيّة، مهملين هكذا بُعد العدالة الخاصِّ بالرضى. الزَّواج مؤسّسة. ونكران هذه الحقيقة غالباً ما يسبّب خلطاً خطيراً بين الزَّواج المسيحيّ وقرانات الأمر الواقع” .
بناء على هذا الضوء يجب المحافظة بقوة على القيم القانونية للزواج بأنَّ الزَّواج يصبح له وجود من خلال الوثاق الزَّواجي، ولدى معالجة قضية زواجية، يجب الانطلاق من تحديد جوهر وطبيعة الرضى الزَّواجيّ، بحيث أن الذّين يتزوجون لا يتبادلون رضاهم حول حقوق وواجبات نظرية وغريبة، تنظّمها الشرائع وتحدّدها القوانين، بل حصراً وتحديداً حول شخصهما، بحيث تتكون بينهما علاقة شخصانية. هذا الواقع الجديد سيؤدي بالضرورة من الوجهة القضائية إلى توسيع الأسباب لصحّة الزَّواج، أكان يتعلق بمؤسسة الزَّواج أو بشخصية الطرفين. في الحقيقة ظهرت أسباب لبطلان الزَّواج بشكل أوسع ومنها نذكر: بطلان الزَّواج لعدم القدرة على تحمل مسؤوليات الزَّواج لأسباب ذات طبيعة نفسية نسبيّة؛ بطلان الزَّواج لفقدان الحب المؤدي لخير الزوجين؛ بطلان الزَّواج لعدم تضمين الرضى الزَّواجيّ التأكيد الإيجابي على المشاركة في الحياة كلّها. لذا لم يعد بطلان الزَّواج محصوراً بأسباب تطال صحّة عناصر السرّ ساعة الاحتفال به، بل بأسباب عدم إمكانية تنفيذ هذا السرّ.
شروط لصحّة الزَّواج وفقاً للشرع العام
حسب القانون 824 الشرقي الجديد البند الثاني، إنَّ قيام فعل زواج يعتمد على عناصر محددة، جوهرية مطلوبة من طبيعة الزَّواج وفقاً للشرع العام. ففي حالة النفي والرفض لهذه العناصر، يعتبر الفعل غير قائم فيكون الزَّواج باطلاً. والتقليد القانوني والاجتهادات الروتاليّة طالبا دائماً بوجود فعل إرادي وُضْعي لإثبات نفي أحد الطرفين أوكلاهما خاصة جوهرية أو رفض غاية جوهرية للزَّواج. فالعنصران الأساسيان لكلّ الأفعال القانونية هما العقل والإرادة. فالإنسان لا يمكنه أن يرغب في شيء ما لم يدركه العقل. لذلك فكل ما يعترض أو يعرقل عمل العقل (كالقاصر سناً أو عقلاً) أو الإرادة، من شأنه أن يعيب الفعل القانوني، ويجعله ناقصاً وغير كاف لصحّته. فالفعل القانوني ينتج عن إرادة حرّة وفاعلة، تقتضي أن يعمل الشخص باختياره الواعي بدافع داخلي ذاتي لا غَريزيّ أو خارجيّ قَسريّ، لاسيما إذا تعلّق الأمر بالأعمال المهمّة التي تخصّ الاختيار الأساسي الحرّ لنوع الحياة الذّي يُريد ، في أنّ يتحملَّ الشخص في الزَّواج مسؤوليّة الالتزام بوعي، لإقامة علاقة شخصانيّة، وفقاً للأنظمة المقرّرة في الشرع وبالشروط الضرورية لكي يكون للفعل قوة قانونية، وإلاّ اعتبر الزَّواج باطلاً. فالشرعية القانونيّة ضرورية لكي يعترف الشرع بالمفاعيل الناتجة عنه . فإذا كان لدى أحد الزوجين أوكلاهما نيّة باطنية وليدة إرادة وضعي غير معلنة intentio non contrahendi في رفض الزَّواج، مثل هذه الحالة يعتبر الزَّواج باطلاً بسبب التلجئة الكاملة. ولتثبيت فعل التلجئة يقتضي التفتيش عن الأسباب الدافعة لتأييده وتمييزه عن سبب الزَّواج. العناصر الجوهريّة للزَّواج التي يمكن أن ينفيها أحد الزَّوجين بفعل إرادة وضعي محدّدة بالقانونين 817 و776، هي:
1- الرضى الزَّوجي : إنَّ الإرادة الزَّوجية لقيام الزَّواج ليست كافية، فمن الضروري وجود سبب، حيث من شأنه أن تقرر الإرادة في عقد زواج، وإلاّ لا وجود للحدث: والعقد غير موجود إذا نقُص الموضوع الذّي يقع عليه الرضى ، وهو هبة الذات المتبادلة بين الزوجين التي تتضمَّن الأفعال الزَّوجية (القانون 817، بند 1). بواسطة رضى الرجل والمرأة اللذين يهبان كلاهما ذاته للآخر ويقبلانه بعهد لا رجعة فيه، فيُقيمان حالة شخصيّة، موجَّه لإقامة الزَّواج (ق. 817 البند 1) ، به الحب يصبح شيئاً واجباً. لذلك لا يمكن القول أنَّهما يؤسسان زواجهما، إنَّما هما يدخلان في عهد مُقرَّر سابقاً من الله . والكنيسة تقبل رضى الزّوجين الناطق في الألفاظ ً، لأنَّّه “مكتوب في قلوبهم” (روم 2: 15)، والذي يُعبّر عن قوام خير الزّوجين العامّ: المحبة، الأمانة، الاحترام، ثبات اتحادهما حتى الموت. فخير كليهما الذّي هو في الوقت نفسه خير كلّ واحد منهما، يجب أن يصبح في ما بعد خير الأبناء”.
فموضوع الزَّواج يَتطلب النوعية أو الطريقة التي يفرضها على نفسه طالب الزَّواج للقيام بالواجبات والحقوق الزَّواجيّة. فمن لا يتمتع بحكم في موضوع الواجبات والحقوق الزَّواجيّة يعقد زواجاً باطلاً. كوجود عاهة نفسية خطيرة متكونة ومتأصلة في الإنسان قبل الزَّواج ينتج عنها استحالة القيام بالواجبات الزّوجيّة التي تتطلبها مؤسسة الزَّواج. أو أن الشخص الذّي ينجز الفعل غير مؤهل وعاجز، فهنالك عدم الأهلية العقلية وهي أكثر أهمية وأساسيّة لأنها تنظر بجميع الأفعال. فقد أكد قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في الخطاب الذّي ألقاه أمام عميد وأعضاء هيئة محكمة الروتا الرومانية (15/2/1978): “أن ليس كُلّ عائق أوكل فشل يصيب حياة الزوجين يكون برهاناً على عدم قدرة هذين الزوجين على تحمل مسؤولياتهما الزّوجيّة… فلا يجوز اعتبار هذا الخلل انتقاصاً في الإرادة التعاقدية ودليلاً على عدم القدرة النفسية لتحمل مسؤوليات الزَّواج… لذلك على رجال القانون أن يأخذوا بعين الاعتبار أنّ ما يُبطِل الزَّواج هو انعدام القدرة النفسية الذّي يعطلّ الإرادة التعاقدية وليس صعوبة هذه الإرادة على تحمّل الحياة الزّوجيّة المشتركة، إذ أنَّ فشل هذه الحياة ليس الدليل القاطع على عدم القدرة النفسية عند أحد الزوجين على تحمل مسؤوليات الزَّواج حيث يكون قد أهمل الوسائل الطبيعية أو الفائقة الطبيعة المتوفرة لديه، ولم يلجأ إليها لتحمل الصعوبات التي ترافق حياته الزوجية، فيصاب بنوبات عصبية عابرة كانهيار الأعصاب مثلاً Dépression أوالوهن، لا صلة لها بتعطيل جوهر الإرادة التعاقدية ساعة إبرام العقد .
إذاً يجب التمييز بين صعوبة القيام بمسؤوليات الحياة الزوجية المشتركة وبين عدم القدرة النفسية على تحمل المسؤوليات. وقانون الشرع الشرقي 818 يطلب أهلية قانونية محددة من طبيعة الفعل ذاته: القانون 818- غير مؤهل للاحتفال بالزَّواج: (1) من ينقصه الإدراك الكافي؛ (2) من يعاني من نقص جسيم في التمييز والحكم على الحقوق والواجبات الزّوجيّة الجوهريّة الواجب على كليهما تقديمها وقبولها؛ (3) من لا يستطيع تولّي واجبات الزَّواج الجوهرية لأسباب ذات طابع نفسي.
فعل الرضى الزَّوجي إن كان صحيحاً، لاحتوائه على جميع العناصر المطلوبة لصحته، يمكن أن تشوبه عيوب تعطل الفعل بحد ذاته وتؤثر على حرية القرار التي هي من جوهر الزَّواج. هناك بعض العيوب يمكنها أن تكون قوة ضاغطة صادرة عن عوامل خارجية لا يمكن مقاومتها مثل الإكراه والخوف (ق. 825) ؛ اضطرابات نفسيّة بسبب خطر وشيك أوفي المستقبل؛ عنف أخلاقي ينبثق من الخارج ويؤثر على نفسية الشخص والتي تجمّد فعل الإرادة الحرة أو تنزعها بقصد انتزاع الرضى. ولكن الفعل المنجز من الشخص بخوف هو صحيح لأنه يحتوي على جميع العناصر الضرورية . ويجب أن تكون هذه العوامل المذكورة سبباً لعقد الزَّواج وبدونه لا يتمّ العقد . أمّا العيوب الصادرة عن العوامل الباطنية، التي تؤثر بعضها على العقل فهي: الجنون، الجهل، الغلط، الغش؛ وبعضها تؤثر على الإرادة (العنف الجسدي) وبأمور جوهرية تتعلق بطبيعة الزَّواج (ق. 819). بسبب هذه العيوب، الفعل القانوني يمكن اعتباره غير قائم (ينقصه عنصر أساسي وجوهري؛ مثلاً الرسامة الكهنوتية للمرأة) أو باطل (ينقصه شرط جوهري مقرّر من الشرع، مثلاً الصيغة القانونية للزّواج) أو عديم المفعول (ينقصه الشرط الذّي يطلبه الشرع لكي ينتج الفعل مفاعيل قانونية، مثلاً تثبيت السلطة المختصة لاستقالة إنسان مكرس ذي النذور المؤقتة، وفقاً للقانون 499؛ أو غير صحيح، أو قابل للبطلان . كما هناك أسباب أخرى تعطل الرضى القائم بحد ذاته، في حال أصبح السبب لدى المتعاقد شرطاً أساسياً بدونه لا يتم الاحتفال بالزَّواج. فالقانون الشرقي الجديد يُقرر ما يلي: “لا يمكن عقد زواج بشرط” (826). فتبنّى وجهة نظر معتبراً أن أي شرط إذا ثبت وضعه من قبل العاقد أو العاقدين قبل الزَّواج أو أثناء انعقاده يبطل الزَّواج. فهو الظرف الذي تتعلق على تحقيقه أو عدم تحقيقه قيمة الزَّواج القانونية أي أن يصبح العقد قائماً وينتج كافة مفاعيله. ففي حالة التعليق، يتوقف مفعول العمل القانوني للرضى حتى يتحقق العارض. فإذا لم يتحقق الشرط الموضوع يلغي العمل القانوني ويعتبر العقد كأنه لم يكن. هنالك ظروف تحد من قيام الرضى من جهة وجوده لا من جهة موضوعه. مثلاً: أتزوجك على أن يعطيني والدك أسهماً من المصنع. فهذا الظرف لا يمس بحد ذاته قيمة الزَّواج القانونية إذ يريد الزوج الزَّواج عقداً صحيحاً، ولكن يصبح هذا الظرف شرطاً مبطلاً للزواج من حيث مفاعيله القانونية. وفي هذه الحالة يريد الزوج تحقيق الزَّواج بكافة مفاعيله فور تنفيذ الموجب.
نصّ المشترع في القانون الغربي 1102 الجديد على أن كل زواج ملحق بشرط يتعلق بأمر مستقبلي لا يمكن أن يُعقد صحيحاُ. فأسقط الشرط الضروري والمستحيل والمباح وغير المباح والمتعارض مع جوهر الزَّواج. وقيّد وضع الشرط الماضي والحاضر بصورة شرعية بإذن خطي من الرئيس المكاني. إنّ الاختلاف بين التشريع اللاتيني والشرقي بخصوص الشرط، يضع تساؤلاً في حال الطعن بزواج اُحتفل به تحت شرط بين طرف شرقي كاثوليكي وطرف لاتيني، للحصول على إعلان بطلانه؛ فأيّ من التشريع يجب تطبيقه في المحكمة؟ وفقاً لرأي البروفسور القانوني جوزيف برادير “أنّ في هذه الحالة، فاعلية الرضى تعتمد على قانون الطرف الذّي عقد الزَّواج تحت شرط. بالنسبة للطرف الشرقي فهوملتزم بالقانون 826 بخصوص صحة رضاه. بينما الطرف اللاتيني فهو ملتزم بالقانون 1102 بخصوص صحة رضاه. إذا عقد الطرف اللاتيني زواجه مع الطرف الشرقي تحت شرط أن تكون عذراء، في القرار القضائي يجب تطبيق القانون 1102 البند 2 وليس القانون 826” .
2- شركة حياة كاملة بين الزوجين: إنَّ الغاية من الزَّواج والحب الزوجي بحد ذاتهما، هي الإنجاب والتربية. فالأولاد هم أغلى هبات الزَّواج، يساهمون كثيراً في خير الأهل أنفسهم. وهذا ما يتماشى مع الشرع الإلهي الذي حدّد غاية الزَّواج الرئيسية وهي نقل الحياة البشرية. إنَّ رفض مبدأ الإنجاب يمس بالشرع الإلهي الطبيعي وليس فقط بالشرع الكنسي. قد ينفي الزَّوجان أو أحدهما بفعل إرادة وضعي إما الأفعال المترتبة بذاتها لإنجاب البنبن أي الفعل الزَّواجيّ الكامل وإما مبدأ الإنجاب بحد ذاته بحيث تقطع بطريقة أو بأخرى الأفعال المرتبة لولادة البنين عن بلوغ مسارها الطبيعي المؤدي إلى الإنجاب.
ويكون الزَّواج باطلاً : 1-عندما يقرر الزوجان أو احدهما تجنّب الإنجاب باستعمال وسائل مشروعة وغير مشروعة للحيلولة دون حبل الزوجة. 2-عندما يريد أحد الزوجين الاتحاد الزوجيّ فقط لمدة معينة، مثلاً حتى ولادة ولدين أو لمدة ثلاث سنوات، ومن بعدها يرفض هذا الاتحاد وضعياً ونهائياً. الزَّواج في هذه الحالة يكون باطلاً لأنَّ رفض الاتحاد الزوجيّ الطبيعي بعد هذه المدة يعني رفض الحق الزوجي الدائم على أفعال مرتبة للإنجاب . يقول القديس أغوسطينوس مستشهداً بكلام القديس بولس: إن الرسول أضاف صفة على الأمانة، أي على العلاقة القانونية بين الزوج والزوجة، إلى أن يسميها السلطان قائلاً: إنّ الزوجة ليس لها سلطان على جسدها، لكن الزوج؛ وفي نفس الطريقة أيضاً الزوج ليس له السلطان على جسده، لكن الزوجة” . الوحدة والانحلال هما خصائص جوهرية مطلوبة في عمق شركة حياة (ق 776، بند 3). فأنَّ الشخص الذي يرفض أو ينفيَّ باطنياً بفعل إرادة وُضْعي ميزة جوهرية من ميزات الزَّواج (خاصة الأمانة أو الوحدة في الزَّواج) كمنح الحق على جسده لشخص واحد فقط ومحتفظاً بحقه في إقامة أكثر من علاقة جنسية مع شخص آخر، سبق وأقام معه علاقات في الماضي ، فهو في مثل هذه الحالة يرفض مبدأ الأمانة نفسه. حسب نظرية سرّانو: الذّي يعتبر المشاركة الزّوجيّة من الحق الطبيعي، يؤدي إلى جعل الأمانة الزّوجيّة في الحقيقة حقًّا للزوج وللزوجة. وأيضاً المشاركة في الحياة والحب حقًّا للطرفين. ويقول: “حيث أن حقوق الزوج هي في الوقت نفسه واجبات الزوجة والعكس بالعكس، بنوع أنه لا يمكن أن نتصور الحقوق والواجبات في أحد الزوجين دون الآخر” . نفهم من هذا أن الخيانة الزّوجيّة تبطل الزَّواج تماماً كما يبطله نفي الأمانة بفعل إرادة صريح ساعة تبادل الرضى.
Discussion about this post