خلق الإنسان على صورة الله ومثاله
القديس غريغوريوس النيصي
1- معنى الصورة والمثال :
لا توجد طريقة أخرى أمام الذين يرغبون في فهم جمال وجوههم المخلوقة من الله بشكل جيد, والتي بها يتطلعون الي صورتهم, سوي مرآة نقية جدا, يتلامسون فيها مع صورة وجوههم, ويرون فيها بوضوح شكلا يعكس ايقونتهم التي تشبههم تماما, ونحن اذ ننظر بالتدقيق كما في مرآة الي الأشعة الالهية التي للشمس العقلية, ندرك بكل وضوح الملامح العامة والشكل والصورة التي لطبيعتنا “بحسب الصورة والمثال” لأنه بالحقيقة, علي الأقل كما أتصور أنا, أن خلق الانسان هو شئ مرهوب ويصعب تفسيره ويحمل داخله الكثير من أسرار الله الخفية. وتماما كما أن الطبيعة العين تدرك بسهولة تلك الأشياء التي توجد خارجها, الا أنها لا يمكنها أن تدرك ذاتها, هكذا بالنسبة لعين الذهن الانسانية, فان مسألة خلقتنا هو أمر يصعب رؤيته ويصعب ادراكه.
الحقيقة ان الخالق بعدما أتم خلق العالم العاقل للقوات غير المرئية, ثم خلق العالم المادي المرئي قال عندئذ” ونعمل الانسان علي صورتنا كشبهنا” ( تك 1 : 26 ),لقد خلق الله حينئذ كائنا حيا, كما من عالم مختلط يتشكل من أمرين, فهو مكون من نفس غير جسدانية وغير ائتة وغير فاسدة, ومن جسد مادي ومرئي من أربعة عناصر, وبعد أن تم ذلك, يقول الكتاب أيضا ” فخلق الله الانسان علي صورته” ( تك 1 : 27 ) . وعندما يقول ان الله خلق فهو يقصد الآب والابن والروح القدس.
لقد عبر المفسرون فيما يتعلق بهذا الموضوع عن آراء كثيرة ومختلفة, قال البعض: ان عبارة “بحسب الصورة والمثال” تشير إلى قدرة الإنسان على أن يسود وأن يتسلط, وقد اعتبر البعض أن هذا يتعلق بالنفس العاقلة غير المرئية, والبعض الآخر يربطه بالانسان غير الفاسد وغير الخاطئ عندما خُلق آدم, والبعض اعتبر ان “بحسب الصورة والمثال” يمثل نبؤة عن المعمودية وآخر الكل كما للسقط, بدا لي انا أيضا أنه أمر حسن أن أعبر عن بعض الأفكار التي تخص هذا الموضوع, وقبل كل شئ رأيت أنه من الأهمية بمكان أن نفحص هذا الأمر بالتساؤل عن: لماذا لم ينسب الله عبارة “بحسب الصورة والمثال” للكائنات العاقلة غير المرئية وللسمائيين والملائكة الذين هم بالقرب منه؟ لأن هؤلاء هم بالحقيقة أكثر قدرة من الانسان ولديهم القوة أن يسودوا ويتسلطوا على الأرض كلها وعلى الانسان نفسه . وعلى نفس السياق فان غير الفاني, وغير المرئي, والطاهر أو النقي, وكل ما يمكن أن تمتدحه في آدم , يوجد وبدرجة فائقة بين الصفوف السمائية غير الجسدانية.
اذا يشار بعبارة “بحسب الصورة والمثال” الى شئ عميق, بمعنى أن الإنسان ليس لديه صورة واحدة ومثالا واحد لله, بل لديه صورة ثانية وثالثة, ومثالا ثانيا وثالثا, كما لو كانت هناك مرآة عاكسة لملامح شكلية, ومن المؤكد أنها ليست صورة طبيعية أو جوهرية لسر الأقانيم الالهية الثلاثة. وليس هذا فقط بل انها تعطي مثالا واضحا لتأنس الأقنوم الثاني في الثالوث القدوس, الله الكلمة. ولكن من الأفضل أن نرجع الي بداية الأمر ونبحث أولا, ترى لماذا لم يخلق الله أجدادنا الأوائل أقصد آدم وحواء والابن الذي أنجباه بنفس الطريقة التي بها خلق الكائنات العاقلة, أي الملائكة, ليكونوا مساويين الكائنات الروحية؟ فالله قد أحضر آدم الي الوجود بدون انسان, بدون أب وولادة, بينما الانسان الثاني بعده, اي ابنه, أحضره إلى الوجود بالولادة, أيضا حواء قد أتت إلى الوجود, لا بالولادة ولا بسبب الانسان بل أتت بانبثاق غير موصوف, من آدم بدون ولادة. ترى هل حدثت هذه البدايات الثلاث للمخلوقات الأولى ( آدم ــ حواء ــ الابن ) , الكيانات المتساوية في الجوهر, كما يتصور ميثوديوس لكي تعطي صورة شكلية وليست جوهرية للثالوث القدوس الواحد في الجوهر؟ فآدم الذي أتي بدون أن تكون هناك علة لوجوده ولا بولادة هو نموذج وصورة الله الآب ضابط الكل الذي لا توجد علة سابقة لوجوده, بل هو علة كل الموجودات . الابن أيضا الذي ولد من آدم وحواء, يرسم صورة للابن كلمة الله المولود . وحواء التي أتت من الانبثاق, ترمز إلى انبثاق أقنوم الروح القدس. ولهذا لم ينفخ الله فيها نسمة حياة , لانها هي نموذج لنسمة الحياة التي للروح القدس لانه بواسطة الروح القدس صار لها أن تستقبل الله في حياتها والذي هو النسمة الحقيقية وحياة الجميع .
هكذا نستطيع أن نرى ونندهش أن آدم غير المولود, ليس له شبيه بين البشر, فهو غير مولود, وهكذا الحال بالنسبة لحواء المنبثقة, حتى أنهما يشكلان مثالين حقيقيين للآب غير المولود والروح القدس المنبثق. أما الابن الذي أنجباه فهو شبيه بكل البشر, الذين هم أبناء وأتوا من ولادة فهم أخوة له ومساويين له . وهذا الابن يشكل صورة ومثالا ونموذجا للمسيح, الابن المولود, الذي صار بكرا بين إخوة كثيرين ( رو 8 : 29 ) بدون وساطة رجل. فلو أن الأمر ليس هكذا, وأن عبارة “بحسب الصورة” لم تُفهم وفقا لهذا الشرح, فلماذا لم يصبح أجدادنا الأوائل اثنين أو أكثر من ثلاث كيانات, ولماذا هم مختلفون في الصفات الخاصة بكياناتهم وأقصد غير المولود, المولود, والمنبثق, بل هم فقط ثلاث كيانات أو أقانيم؟ وبناء على ذلك فإن تعبير “بحسب الصورة والمثال” يتخذ شكل صورة الثالوث, ثلاثة أقانيم في وحدة, وبالتالي ينبغي أن تفهم الآن أيضا, معنى الوحدة في ثالوث .
2ــ افهم ذاتك لتفهم الله :
ولكن كيف يمكنك أن تميز بشكل صحيح. اسمع أحد الحكماء الذي ينصحك ويقول لك “ان أردت أن تفهم الله, ينبغي أولا أن تفهم ذاتك, من خلال تكوينك, من خلال خلقتك, من خلال عالمك الداخلي, انسحب وادخل الي داخل نفسك, انظر داخل نفسك كما في مرآة, ميز خلقتها, وسترى أنك مخلوق علي صورة الله ومثاله”. ان جوهر نفسك العاقل وغير المائت هو أمر مجهول الاسم وغير معروف, وهو مخلوق بحسب صورة ومثال الله غير المدرك وغير المائت. لأنه لا يوجد أي انسان من الذين ولدوا عبر العصور, قد أدرك الجوهر العاقل لله أو للنفس. النفس تعطي حياة, تؤلف وترعي طبيعة الجسد رباعية التركيب, صورة الله, ذاك الذي يتعهد خليقته المكونة هنا من أربعة عناصر والتي هي سمائية أيضا. ولهذا فأننا لا نستطيع أن نعرف حتي المكان الذي يسكن فيه الله, لكننا نؤمن فقط أنه موجود في كل مكان. ولا نعرف أيضا المكان الذي تسكن فيه النفس في الجسد, نعرف فقط أن النفس توجد وتعمل في كل الجسد.
النفس أيضا تملك شيئا آخر باعتبارها صورة الله, وأعني أن جوهرها مختلف عن طبيعة الكون كله. والأكثر غرابة من كل شئ, والتي تحمله خلقتنا على صورة الله, أنه لا جوهر النفس, كما أن ماهيتها والكيفية التي بها تأتي الي الوجود, تعد أمورا لا يمكن للذهن الإنساني أن يفهمها. ولهذا فكل من ادعوا خطئا أنهم قد فهموا, فهؤلاء قد تعثروا جدا. لقد قال البعض ان النفوس تأتي إلى الأجساد من السماء, وآخرون يرون أن النفوس تأتي الي الوجود اذ ان الله يخلقها مع الجسد. البعض قال أيضا بأن الإنسان الذي خُلق علي صورة الخالق, أصبح سببا لولادة الجسد والنفس في ذات الوقت. البعض يدعون أن النفس تولد من خلال التعاون المشترك للطرفين, الرجل والمرأة, كما يحدث عند احتكاك الحديد والحجر, فإن هذا الاحتكاك يولد الشعلة. البعض أيضا يعلم بأنه في اللحظة ذاتها التي يُحمل فيها بالجسد تأخذ النفس وجودا. البعض الآخر يرجح أن اليوم الأربعين من الحمل هو اليوم الذي يؤتي فيه بالنفس كما يتصورون, باعتبار أن ذلك يعتبر قانون لهذا التكوين. ويتخيل البعض الآخر أن النفس هي واحدة في الجوهر مع الملائكة, وآخرون قالوا انها أقل من الملائكة, بينما يرى غيرهم أنها تهيم في الهواء, والبعض قال انها تتحرك في الكون كحقيقة الهية. ومن أجل هذا, علي الرغم من أنها تتحد بالجسد, وهي مخلوقة على صورة الله, وتُحيي الجسد, إلا أنها تبقى خارج تأثير الشهوات الجسدية وأضرار الجسد المختلفة, ولا نستطيع أن نراها, ولا أن نفهم طبيعتها ونوعها وهيكلها وشكلها ونوعيتها وكمها وجودها ومما تتألف وجمالها.
ولذلك يقول ميثوديوس في وليمته ان النفس لها جمال فائق لا يوصف, ولهذا السبب يبدو أن الأرواح المشادة تحسدها, لأنها أخذت شكل أسمى من الكائنات العاقلة ذاتها. أما عدم الفهم وعدم الوضوح والغموض الخاص بالنفس لا يشار إليه الا لأنها تعتبر بالحقيقة, وعلي سبيل الحصر, صورة فقط لله غير المدرك. ولهذا ولأننا نجهل كل الأمور الخاصة بها, فاننا نتحقق ونتأكد من وجودها من خلال أعمالها فق داخل الجسد. مثلما نتأكد من وجود الله من خلال أعماله داخل الكون المرئي. لنأت إلى النقطة الأساسية لموضوع الخلق”بحسب الصورة والمثال”, لكي نُبين, كما وعدنا, فرادة الثالوث الالهي.
وما هي النقطة الأساسية؟ من الواضح أنها النفس أيضا, وكلمتها العاقلة, التي دعاها الرسول بولس, روحا, عندما يعطينا وصية أن نكون مقدسين في النفس والجسد والروح. النفس أيضا غير مولودة ولا علة لها, وهي مثال لله الآب غير المولود والذي لا يوجد علة لوجوده. الا أن كلمة النفس العاقلة ليست بدون ولادة, بل تولد من النفس بطريقة لا يعبر عنها وغير منظورة ولا تُفسر, وليست لها علاقة بالألم أو الشهوة. بينما الفكر له علة أو سبب وهو ليس بدون ولادة, ولكنه ينبثق, يدرك كل شئ ويفحص كل شئ ويتلامس معه بشكل غير مرئي, على مثال الروح كلي القداسة, والذي ينبثق أيضا والذي قيل عنه “الروح يفحص كل شئ حتي أعماق الله”( 1 كو 2 : 10 ) . النفس حين توجد داخل الجسد فهي لا تعتبر منبثقة, لأنها اذا كانت منبثقة, لكنا قد متنا كل ساعة. وكلمتنا لا توجد بدون ولادة, لأنه اذا حدث عكس ذلك سنكون مثل الحيوانات غير العاقلة. والأكثر دهشة من هذه الأمور أننا لدينا نفسا بسيطة, وعقلا واحد غير مركب, أما كلمتنا فهي مزدوجة في ذاتها ومحفوظة كواحدة غير منقسمة. فالكلمة تولد داخل القلب ولادة غير مدركة, غير متجسدة, وتبقي مجهولة داخلنا. وبعد ذلك تولد ولادة جسدية من خلال الشفاه, وحينئذ تصير معروفة للجميع. ولكنها لا تنفصل عن النفس التي ولدتها, حتي أننا ندرك بكل وضوح الميلادين اللذين لكلمة الله من خلال الميلادين الذي لكلمتنا “بحسب الصورة والمثال”.
حقا لقد ولد من الآب قبل كل الدهور, بصورة غير مرئية, لا تُشرح وغير مدركة. وكان غير معروف, كما لو كان داخل الآب إلى أن ولد جسديا من العذراء القديسة بدون فساد, بدون رجل, وظهر الي العالم, دون أن ينفصل عن جوهر الآب الذي ولده. وبناء علي ذلك تري أن فرادة جوهر نفوسنا غير المائتة والعاقلة تحمل صورة لها ثلاث خواص اقنومية, عدم ولادة النفس, ولادة الكلمة, وانبثاق الروح, أي الفكر. واتشجع واتجرأ بأن أقول أنه بحسب هذه النظرية الثالوثية غير المرئية للنفس, قال الرسول بولس إن الإنسان خلق بحسب صورة الله غير المرئي. فإن لم يكن هذا حقيقيا, فلماذا لم تُخلق النفس اذا من الله ولها قسمان أو أربعة أقسام, بل لها ثلاثة أقسام فقط, والتي لا تختلط فيما بينها وفقا لصورة الثالوث القدوس المحيي الواحد في الجوهر, حتى أنه لو كان مسموحا أن أقول ان داخل الانسان وبالأحري الانسان البار يسكن, بصورة شكلية وليس جوهريا, كل ملء الألوهة التي تحدد بصورة غير مُعلنة الله الثالوث؟ ولهذا فإن حكماء العالم قد حددوا, من منظور آخر, أن النفس تتكون من ثلاثة أقسام, مُعلمين كيف أنها تحمل الرغبة, الفكر, الاحساس, حتى أنه عندما تتحد الرغبة في محبة الله بالفكر يمكن أن تستقبل في داخلها المعرفة والحكمة التي تأتي من الله, وباحساسها تقاوم الأرواح الشريرة الخبيثة, مُبينين أيضا من خلال هذه الأمور الثلاث, معنى “بحسب صورة الله”. لأن الثالوث يحكم ويضبط ثلاثة أقسام بثلاثة طرق أي السماويات, والأرضيات, وما تحت الأرض, من خلال قدرته الخالقة, وعنايته, وسلطانه العادل. وكل ما يعمله الله, فانه يعمله وفقا لإحدى هذه الطرق الثلاث, اما أنه يخلق, أو يعتني, أو يُهذب. وصورة الله الخالق هي في الرغبة. لأن الرغبة تقود الي العمل, أما عنايته فرمزها في القوة الفكرية للنفس. الاحساس أيضا هو مطابق للتهذيب. وربما الخاصية المميزة للنفس هي في الرغبة. لأن الأطفال حتى قبل أن يتكلموا, باعتبارهم نفوس, نجدهم يشتهون على الفور أن يرضعوا وأن يناموا. أيضا القدرة الفكرية من الواضح أنها خاصية العقل, بينما الاحساس يرافق العقل, وكل من يغضب بالمخالفة للطبيعة يثير فيه اضطرابا.
3- طبيعة النفس العاقلة :
اذا فان أراد أحد أن يعرف كيف خُلق الإنسان بحسب “صورة الله ومثاله”, فليأت إلى هذه الأمور غير المطروقة, والمعاني المشابهة لها, وليبحث في تكوين طبيعة نفسه العاقلة. وليكن هدفه أن يعرف أقسامها بالتدقيق, وأقسام أقسامها, كلماتها, طرقها, وحداتها, تميزاتها, تفردها, وحدتها, ثالوثيتها, كيف أنها واحدة وتعتبر ثلاثة أقسام, وحدة في ثلاثة, بحسب صورة الله ومثاله, ويُعترف بها كثلاثة أقسام في وحدة. وأنها من المؤكد واحدة في الجوهر, لكن ليست واحدة من جهة أقسامها الثلاثة, وذاك الذي قال “أصلي بالروح وأصلي بالذهن أيضا. أرتل بالروح وأرتل بالذهن أيضا”( ا كو 14 : 15) قد جعل هذا الأمر واضحا جليا. أيضا بعض الناس يكلموننا بشكل واضح جدا عن هذا الثالوث الذي يُستعلن فينا ويُعطي مثالا لصورة الله, وهؤلاء تكون لهم نفس. ولكنهم يكونون بسبب ما بلا عقل ولا كلمة. أيضا البعض ممن يحملون نفسا وكلمة, قد تجدهم فقراء في العقل تماما. أيضا البعض لديهم عقلا ونفسا, ولكنهم محرومين من الكلمة. ولهذا فان الرضيع, الذى يولد من داخل جو مظلم, ويأتي إلى النور, يُظهر علي الفور أنه يحمل نفسا هي مثال لله الآب والتي لها قوة عاقلة, تحمل أيضا داخلها الكلمة والعقل. الآن يتقدم هذا الرضيع, حي ينمو الجسد ويكتمل, فيظهر الكلام بعد ذلك, والكلام لا يظهر بشكل كامل ومفاجئ, بل أنه يتلعثم أولا, مُعلنا عن حضور ذهني, عندما ينمو الرضيع ويظهر كرجل كامل, وهذا يشير إلى الكلمة حين تجسد لكن فيما تساهم هذه الأمور بالنسبة للبحث الذي نباشره عن خلق الانسان؟ بالطبع يمكن أن تساهم جدا, آه أيها الانسان, اننا بهذه الأمور نعرف طريقة استعلان الله وظهوره في العالم, عندما أخذ جسدا هكذا أدركت طبيعتنا سر الثالوث حينما استعلن في الحين المناسب. حقا لقد حُمل بالإنسان من بذرة الشرير, كما لو كان في بطن الخداع, جالسا في الظلمات وفي ظلال الموت. ثم تقدم بعد ذلك في نور المعرفة الالهية, في البداية كطفل, تعهده الناموس, إذ أنه يحمل نفسا, مدركا أن الله الآب يحتوي الكلمة كأقنوم, والروح القدس أيضا, كما هو الوضع بالنسبة للنفس. ولأن الإنسان بسبب ضعفه الشديد وطفولته المعرفية, لم يكن قادرا على اظهار الكلمة والفكر, ولكي لا ينزلق إلى عبادة الآلهة المتعددة, فان طبيعتنا المادية أو العالمية قد اكتسبت بمرور الزمن حكمة, مثلما يحدث مع الطفل الذي يكبر, كما لو كان قد تعلم من نفس ما أن تكون له معرفة عن الله الآب ولكنها معرفة غير مُعلنة, مثلما يحدث في البداية من تلعثم غير واضح في الكلام, ثم يكتسب خبرة من خلال التعاليم النبوية, ثم ادراك ومعرفة كلمة الآب كأقنوم.
وبعد هذه الأمور المتلعثمة, وأقصد التعبيرات الموسوية والنبوية التي تحمل ألغازا, وبعدما خرج كلمة الله بصوت مسموع وناطق من الأحشاء البتولية, كما تخرج الكلمة من الشفاه, ستعرف طبيعتنا الانسانية ككل كمالها الثالوثي بعد أن تكون قد اجتازت هذا التلعثم, من خلال الكلمة, طالما أنها قد قبلت الروح القدس واستنارت ذهنيا, والذي لم يجعل انتقاله وسكناه في هؤلاء من الخارج, لكنه استعلن فيها, من خلال تلك الأمور التي هي في داخلها, أي النفس والكلمة, مقابل الآب والابن, فتلد النفس كلمتها الأقنومية, ليس كمخلوقة, ولا كشئ مُغاير, ولا كجنس مختلف, بل بشكل أساسي هو وجود شخصي فطري يحمل طبيعة مشتركة. مظهرا الطبائع المشتركة في ارتباطها بروح الذهن, كما لو كانت تشكل جسدا واحدا. وبالاضافة إلى هذه العناصر فإن النفس غير الجسدانية تُغرس فيها أعضائها غير الجسدانية, كما لو كانت هذه الأعضاء نماذج توصف وتُصاغ وتتجمع معا, تلك التي هي فوق كل شكل وهيئة, وهي تحمل روح الذهن كنسمة لجسدها, وكحياة لها, وتملك الكلمة كرفيق لها. فاذا حُرمت النفس من كل هذه الأمور, فلن يكون من الممكن أن توجد ولا أن يُعترف بها كنفس ناطقة وعاقلة, تلك التي خُلقت بحسب صورة الله ومثاله. ومن خلال هذه العناصر الموجودة داخل النفس ستعلم وتعترف أن الآب, والابن, لم يكونا كائنين قبل الروح القدس. فكما في حالة النفس العاقلة, توجد الكلمة داخلها في نفس الوقت, ويوجد داخلها الروح الذي يُحييها ويُجمعها ويُكملها, هكذا فان الله الكلمة هو كائن مع الآب, وفي نفس الوقت الروح القدس كائن مع الابن ومع الآب. أما ان فصلت وعزلت الكلمة عن النفس, فإن نفسك ستبقى بدون كلمة. هكذا ستعرف من خلال حقيقة الخلق على صورة الله, أنك لو رفضت الله الكلمة, قائلا أنه غير كائن مع الله الآب, فانك تكرز حينئذ بأن الله هو غير عاقل وشبيه بالحيوانات غير العاقلة. ولو أنك فصلت الروح عن الله, فانك تتحدث عن من هو ميت وليس عن اله حي. لذلك لو أنك أردت أن تجد فلسفة لعبارة “بحسب الصورة والمثال” فينبغي أن تفلسفها هكذا, وليس من قبل الأمور التي هي خارجك, بل من تلك التي هي داخلك. أن تعرف الله غير المعروف, من خلال الثالوث الذي في داخلك, اقتن معرفة للثالوث من خلال الأشياء الموجودة حقا. هذه الشهادة هي شهادة مؤكدة وجديرة بثقة أكثر من أي شهادة أخري للناموس وللكتاب.
4ـ خلق الانسان وادراك سر الثالوث :
حقيقة أنه لهذا السبب فقط خلق الله مثل هذا الكائن الحي ( أي الانسان ). لأنه كان يرغب أن يعلن للعالم سر الثالوث القدوس غير المدرك, لكي تحمل داخلك أنت يا من خُلقت بحسب صورة الله ومثاله, الصورة والمثال والنماذج والأمثلة التي توضح سر الثالوث, حين تتطلع في صورة نفسك المخلوقة. لا تُعبر بالتساؤل الساخر, ان كان الله ثالوث, فكيف يكون واحدا؟ وان كان الكلمة هو ابن, فكيف يمكن أن يكون المولود موجودا منذ البدء مع والده؟ وان كان الروح يأتي من الآب, فلماذا لم يولد, لكنه ينبثق؟ أو من هو الذي أحضره الآب الي النور أولا؟ الابن أم الروح القدس؟ فان كان الاثنان معا في نفس الوقت, فهل يوجد يا تري داخل الثالوث الهان أخوة, وولادة تؤأم؟ وكيف ستُميز الفرق بين الولادة والانبثاق في الكائنات غير الجسدانية, والغير متحركة والثابتة وكيف يكون ممكنا أن يكون للوالد والمولود نفس المجد؟ وهل الآب يا تُري ولد بارادته أم لا؟ ومن يشهد علي أن الآب والابن والروح القدس هم جوهر واحد؟ وان كان الله الآب هو أقنوم كامل. وان كان الله الكلمة هو أقنوم كامل, والروح القدس اله كامل, فمن لا يقول ان عقل الله هو اقنوم الهي آخر لله, واله آخر هو ذراع الله, وأقنوم آخر هو اصبع الله, وكذلك يمين الله, وكل الأمور الأخري التي يُقال عنها انها أعضاء الله في الكتاب المقدس؟
اذا فلكي لا تتكلم ولا تفكر في هذه الأمور, التي تعثر فيها الهراطقة, وسقطوا بتفكيرهم, فان الله خلقك بحسب صورة ومثال وجوده الثالوثي, لتكون نموذجا يحمل الشكل الثالوثي, والذي يُعرف أنه واحد في الجوهر. وان كانت لك رؤية مستقيمة, فستجد في هذا الثالوث, وبحق, كل ما يختص بالتعاليم التقوية عن الله, كما في مرآة, وكنموذج أو شكل ( للثالوث القدوس ). وأقصد أن الأقانيم ثلاثة, والجوهر واحد غير منقسم, وغير مُدرك, وهو الذي لا هيئة له, الذي لا يُشار اليه, غير المولود, المولود, المنبثق, الخالق, الراعي, الديان, غير المحسوس, غير الجسدي, الأبدي, غير المتجزئ, غر المائت, الذي لا يُعبر عنه, الفائق الجمال, وبعبارة واحدة ستجد كل ما يقال بتقوي عن النماذج والصور الالهية كظلال مرسومة داخل نفسك, ولهذا قال الله ” لنخلق الانسان علي صورتنا كشبهنا”.
5 ـ الانتقال من الأصل إلى الصورة :
ومع هذا فان هذه الأمور لم يفهمها الهراطقة غير المؤمنين في عصرنا ولا فكروا فيها, لأنهم لو فهموا بشكل صحيح عبارة “بحسب الصورة والمثال” كملمح للانسان, ما كانوا ليتذبذبوا في سر الثالوث, ما كانوا ليُخضعوا الفائق للطبيعة لأفكارهم. ما كانوا لينشروا ادعائهم المظلم, بأنه لا يمكن أن يكون الله ثلاثة أقانيم. فلو أن آريوس قد فهم الخلق “بحسب الصورة”, ما كان له أن يُعلم بأن الابن هو من جوهر مختلف عن الآب. لو أن مقدونيوس تعرض بتقوي لموضوع الخلق “بحسب الصورة” ما كان له أن يصف الروح القدس بأنه مخلوق. لكنهم أصيبوا بالعمي وعانوا ما عاناه أولئك الذين بينما كانوا يمتلكون الجوهرة في أعماقهم, لم يعرفوها, وبحثوا عنها في الهاوية وهذا بسبب أنهم مخدوعون. لاحظ اذا أن النفس هي “بحسب صورة الله” من حيث الشكل وليست بمساواة طبيعية. كيف صار هذا؟ سأشرح علي الفور ما أقوله بوضوح. نحن نؤمن أن الله الآب غير محدود, وينطبق نفس الشئ علي الابن وعلي الروح القدس, ولهذا فهم كأقانيم غير محدودين, يحملون أسماء, يُعلن فيها الواحد عن الآخر, كما يوجد بينهم ترابط مشترك بمعني أنه عندما يُذكر اسم الآب فمن الواضح أنه يُعلن عن وجود ابن له. كيف يكون ممكنا أن يدعي ابا, ان لم يكن له ابن؟ نفس الشئ عندما يقول روح, فهو يعلن عن الله, لأن الله روح كما يقول الكتاب.
فلنأت بعد ذلك من هذا الثالوث القدوس الى صورته, اي الي الثالوث الذي يوجد داخلنا, وستري الاسماء الثلاثة, حيث يحوي الواحد الآخر وهم متحدين. بمعنى أنك عندما تُشير الي النفس الناطقة العاقلة, فمن الواضح أنك تُعلن عن الكلمة والعقل. نفس الشئ اذا ذكرت كلمة عقل, فانك تعلن بكل الطرق عن النفس والكلمة. لأنه بأي شئ يتعلق الذهن, ان لم يكن بالنفس والكلمة؟ وهكذا فان اسم أحد الأقانيم يستدعي حتما الاشارة الي الأقنوم الآخر, فهناك ترابط قوي يجمع أسماء الأقانيم معا. يتضح من ذلك أن الأقانيم تحمل نفس الطاقة والجوهر المشترك غير المنقسم, بمعني أن طاقة الله الآب والابن والروح القدس هي واحدة ومتساوية, والقوة واحدة, والارادة واحدة, والرأي واحد. فان الابن غير منفصل عن الآب في كل ما يعمل وهو عامل معه, وأيضا في كل ما يفعل الابن أو الروح القدس فان الآب يعمل معهما في كل الأحوال بشكل غير منفصل. فلا الابن يفعل شيئا بالانفصال عن الآب, ولا الآب بالانفصال عن الابن والروح القدس, بل ولا الروح القدس أيضا يفعل شيئا بدون الابن والآب.
وعندما ننتقل من الأصل إلى الصورة, الي صورة نفوسنا التي هي مخلوقة “بحسب صورة الله ومثاله” سترى فينا أن الفعل هو واحد ومتساوي. لأن النفس لا تفعل شيئا بدون الكلمة, ولا الكلمة بدون النفس, ولا أيضا العقل يفعل شيئا وحده بدون النفس وبدون الكلمة, بسبب قوتهم وطاقتهم المشتركة المتساوية الأبعاد والفطرية المترابطة فيما بينهما, بحسب خلقتها على صورة الله ومثاله. ولكن اذا قلت لي ان النفس لا تفعل اي شئ وحدها بدون الجسد, وهذا بالضبط ما سبق وأعلناه, اذ انها قد خُلقت في هذا الجسد بحسب صورة الله ومثاله. فانها من خلال المادة المرئية تعلن عن قوتها غير المرئية. الا انها عندما تنفصل عن الجسد أيضا فان الجوهر والنفس النقية بحسب طبيعتها, اذ توجد في استنارة وبساطة وهدوء وبهاء, يمكن أن تُدعي وتكون بحق مخلوقة بحسب “صورة الله ومثاله”.
ولكن اذا تهكم المقاوم, كما هو متوقع, علي كل ما قلته, لأننا لم نُدلل علي أنه توجد ثلاثة أقانيم في النفس بالمساواة مع أقانيم الثالوث القدوس, فليعلم الأحمق أن النفس خلقت علي شكل الصورة وليست بمساواة حقيقية للثالوث القدوس. بل وفي الألوهة أيضا, ان لم يكن هذا أمرا مخيفا أن يقوله المرء, فان هناك تمايز للآب عن الابن, وتمايز للروح القدس عن الابن. وفي تشابهك مع صورة الله, أنت لا تتجاوز هذا أيضا, أي أنه بولادة الكلمة جسديا من الشفاة تصير الفضيلة والحكمة والاستنارة والقوة والعمق والمعرفة التي لنفسك وذهنك معروفة ومُعلنة للجميع. وهذا المثال يُعلن لك أنك خلقت وتوجد بحسب “صورة الله ومثاله”. لأنه بولادة كلمة الله جسديا استعلنت للعالم القوة, المعرفة, الحكمة وجميع أنواع الصلاح الأخرى التي للآب والروح القدس.
لاحظ اذا كم وتنوع أعمال الكلمة في العالم, من جهة التشبه بكلمة الله. وكيف أنه بواسطة الكلمة, يُخلق كل شئ ويصير له وجود. لقد أخذت الملائكة كيانها بواسطة الكلمة, وبالكلمة يُمجدون الخالق, وبالكلمة خلق كل ما نراه, بالكلمة أُنير سر الكون, بالكلمة صارت الكيانات معروفة. بواسطة الكلمة فقط ظهرت هذه الكيانات, بالكلمة تحققت الانجازات, بواسطة الكلمة تجلي الكون. لقد بُشر بمعرفة الله بواسطة الكلمة, وبواسطة الكلمة أخذنا هذه المعرفة. بواسطة الكلمة توحدت وانجمعت كل الاشياء معا. وكما أن الطفل الذي لا يتكلم يعتبر قليل العقل بحسب تقديرات الناس, الي أن تولد الكلمة من شفتيه, هكذا كلمة الله المولود بحسب الجسد, عبر كل مراحل عدم الكلام الخاصة بطبيعتنا, حين استعلن بكل وضوح في عملية الخلق مع الآب والروح القدس. ولأن نفوسنا هي مخلوقة من الله, فهي غير مُرسلة لخدمة ما, بعد انفصالها عن الجسد, كما يحدث بالعكس مع الملائكة, لأن الملائكة هي أرواح مُرسلة للخدمة, بينما أنفس القديسين هي بشكل أساسي مخلوقة بهيبة بحسب صورة الله ومثاله, لأنه ان كان الانسان بعد عصيانه, قد طاله نقص بسيط عن الملائكة, الا أنه باتحاده بالله الكلمة صار أعظم من الملائكة, لأن ذاك الذي خُلق بحسب “صورة الله ومثاله”, اتحد الآن بالله وذاك الذي أخذ أولا صورة الله, يعكس الآن صورة الله, هذا الذي يليق به المجد الي أبد الآبدين . آمين.