لماذا تدعوني صالحًا؟
القديس كيرلس السكندري
”وسأله رئيس قائلاً أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحًا؟ ليس أحد صالحًا إلاّ واحد وهو الله. أنت تعرف الوصايا. لا تزن. لا تقتل. لا تسرق. لا تشهد بالزور. أكرم أباك وأمك. فقال هذه كلها حفظتها منذ حداثتي، فلما سمع يسوع ذلك قال له يعوزك أيضًا شئ. بع كل مالك ووزع على الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني. فلما سمع ذلك حزن لأنه كان غنيًا جدًا. فلما رآه يسوع قد حزن قال ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله. لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله فقال الذين سمعوا فمن يستطيع أن يخلص؟ فقال غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله “. (لوقا18:18ـ27)
الذين يؤمنون أن الكلمة الذي أشرق من جوهر الله الآب نفسه هو الله بالطبيعة وبالحق؛ فإنهم يقتربون إليه كما إلى إله كلي المعرفة، وهو كما يقول المرنم: ” فاحص القلوب والكلى“ (مز9:7) ويرى كل ما يجرى في داخلنا لأن “كل شيء عريان ومكشوف“ أمام عينيه (عب13:4) بحسب تعبير بولس الطوباوي. ولكننا لا نجد جموع اليهود يميلون إلى هذا لأنهم مع رؤسائهم ومعلميهم كانوا في ضلال، ولم يروا بعيون أذهانهم مجد المسيح بل نظروا إليه بالحرى كواحد مثلنا أقصد كمجرد إنسان وليس بالحرى الله الذي قد صار إنسانًا، لذلك فإنهم تقدموا إليه ليجربوه وينصبوا له فخاخ مكرهم وهذا يمكنكم أن تتعلموه مما قد قُرئ الآن. لأنه يقول: وسأله رئيس قائلاً أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحًا؟ ليس أحد صالحًا إلاّ واحد وهو الله. والآن فذلك الذي يُدعى هنا رئيس والذي تخيل في نفسه إنه عالم بالناموس، والذي افترض أنه قد تعلمه بدقة، تخيل أنه يستطيع أن يتهم المسيح باحتقار الوصية التي نطق بها موسى الحكيم جدًا، وبأنه يُدخل شرائع أخرى من عنده لأنه كان هدف اليهود أن يثبتوا أن المسيح عارض وقاوم الوصايا السابقة بقصد أن يؤسس كما قلت وصايا جديدة بسلطانه الخاص تتعارض مع تلك الوصايا الموجودة سابقًا، حتى يكون لمعاملتهم الشريرة نحوه حجة خادعة. لذلك تقدم (الرئيس) وتظاهر بالتكلم بلطف لأنه دعاه معلمًا ونعته بالصالح، فأفصح عن رغبته في أن يكون تلميذًا، إذ يقول: “ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية“. لاحظوا كيف أنه خلط التملق مع الغش والخداع كمن يخلط المر مع العسل، لأنه ظن أنه بهذه الطريقة يمكنه أن يخدعه. وعن مثل هؤلاء الناس قال واحد من الأنبياء القديسين: ” لسانهم رمح نافذ، كلمات أفواههم غاشة، يكلم صاحبه بسلام، لكن توجد عداوة في نفسه“ (إر8:9س). وعلى هذا النحو أيضًا يتكلم عنهم المرنم الحكيم ويقول: ” فمهم مملوء لعنة ومرارة“(مز7:10س)، وأيضًا : ” كلماتهم ألين من الزيت وهى سيوف مسلولة“ (مز21:55) .
لذلك تملق الرئيس يسوعَ وحاول أن يخدعه فتظاهر أنه يتخذ موقفًا متعاطفًا معه، ولكن بماذا أجاب العالم بكل شئ وهو كما هو مكتوب ” الآخذ الحكماء بمكرهم“(أى13:5)، ” لماذا تدعوني صالحًا، ليس أحد صالحًا إلاّ واحد وهو الله “. هاأنت ترى كيف برهن المسيح أن ذلك الرجل ليس حكيمًا ولا متعلمًا رغم أنه رئيس مجمع اليهود إذ يقول له: إن كنت لا تؤمن أنني أنا الله ورداء الجسد قد جعلك تضل، فلماذا تدعوني بأوصاف تليق فقط بالطبيعة الفائقة (الإلهية) وحدها، بينما أنت لا تزال تفترض أنني مجرد إنسان مثلك وليس فائقًا علىَّ حدود الطبيعة البشرية؟ فإن صفة الصلاح بالطبيعة توجد في الطبيعة التي تفوق الكل، أي في الله فقط وهو (الصلاح) الذي لا يتغير؛ أما الملائكة ونحن الأرضيون فنكون صالحين بمشابهتنا له أو بالحرى باشتراكنا فيه . فهو الكائن الذي يكون، وهذا هو اسمه (أنظر خر14:3،15) وذكره الدائم إلى كل الدهور؛ أما نحن فإننا نوجد ونأتي إلى الوجود بأن نصير مشتركين في من هو كائن حقًا، لذلك هو صالح حقًا أو هو الصلاح المُطلق، أما الملائكة والبشر كما قلت هم صالحون فقط بصيرورتهم مشتركين في الإله الصالح لذلك فلنضع الصلاح على أنه الصفة الخاصة بالله وحده الذي فوق الكل. وهو متصل جوهريًا بطبيعته وهو صفته الخاصة. وهو يقول:
” فإن كنت لا أبدو لك أنني الله حقًا، فأنت قد نسبت إلىَّ عن جهل وحماقة الخصائص والفضائل التي للطبيعة الإلهية، في نفس الوقت الذي تتخيل إنني مجرد إنسان أي من لم يلبس الصلاح أبدًا، ولا صفة الطبيعة غير المتغيرة، بل يحصل على الصلاح فقط بموافقة الإرادة الإلهية.” إذن فهذا هو مغزى ما قاله المسيح .
لكن ربما لا يوافق على صحة هذا الشرح أولئك الذين فسدت أذهانهم بمشاركتهم لشر آريوس، لأنهم يجعلون الابن أقل من الله الآب في السمو والمجد، أو بالأحرى هم يجادلون بأنه ليس هو الابن، لأنهم لفظوه عن أن يكون إلهًا بالحق وبالطبيعة، بل واستبعدوه عن أن يكون قد وُلد حقًا، لئلا يؤمن الناس أنه مساوي حقًا في الجوهر لمن ولده، لأنهم يؤكدون كما لو أنهم حصلوا على مبرر لتجديفهم من الفقرة الموجودة أمامنا الآن فيقولون: ها هو قد أنكر بوضوح وبصريح العبارة أنه صالح، وأفرز الصلاح جانبًا على أنه خاص بالله الآب فقط، ولكن مادام (الابن) هو بالحق مساوٍ للآب في الجوهر وقد خرج منه بالطبيعة، فكيف لا يكون هو أيضًا صالحًا إذ هو الله؟ إذًا فلتكن هذه هي إجابتنا على الذين يقاوموننا، حيث إن كل تفكير صحيح ودقيق يعترف أن الابن له نفس جوهر أبيه، فكيف لا يكون صالحًا وهو إله؟ إذ لا يمكن إلا أن يكون إلهًا مادام له نفس الجوهر مع من هو بالطبيعة الله. لأنهم بالتأكيد، مهما كانت الجسارة التي سقطوا فيها شديدة فلن يقدروا أن يثبتوا إنه من أب صالح خرج ابن غير صالح وعندنا على هذا شهادة المخلص نفسه الذي قال : ” لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارًا ردية“ (مت18:7). فكيف يخرج نبت رديء من جذر صالح، أو كيف يمكن أن يتدفق نهر مر من نبع عذب؟ هل كان هناك أبدًا وقت ما لم يكن فيه الآب موجودًا بينما نحن نعرف إنه هو الآب الأزلي؟ وهو آب لأنه قد وَلَدَ، ولهذا السبب فهو يحمل هذا الاسم (آب)، وهو لم يحمل هذا الاسم مثل من يستعير هذا اللقب بتشبهه بشخص آخر، لأن منه تسمَّى كل أبوة في السماء وعلى الأرض (أنظر أف15:3) . لذلك فنحن نخلص إلى إن ثمرة الإله الصالح هي الابن الصالح .
”هو صورة الله غير المنظور“ (كو15:1)، وهو الصورة لأنه يُظهر في طبيعته الخاصة جمال ذاك الذي ولده، فكيف يمكننا إذن أن نرى فى الابن ـ إن كان غير صالح ـ الآب الذي هو صالح بالطبيعة وبالحق؟ إن الابن هو بهاء مجد الآب ومثال شخصه (أنظر عب3:1)، ولكن لو لم يكن صالحًا، كما يؤكد الهراطقة العديمي الفهم، بينما الآب هو صالح بالطبيعة فسيكون البهاء مختلفًا في طبيعته، ولن يملك جلال ذلك الذي جعله يضئ. كذلك الشبه أيضًا سوف يكون مزيفًا أو بالأحرى لا يوجد شبه على الإطلاق، لأنه لن يمثل من هو على شبهه ويترتب على هذا أن ما ليس هو صالحًا يكون مضادًا لما هو صالح.