سر التوبة والاعتراف في الكتاب المقدس وفي الكنيسة المقدسة
مقدمة:
“الأسرار هي أبواب النعمة والخلاص، ورحمة الله التي لا تحد وصلاحه غير المتناهي هما اللذان فتحاها لندخلها”(القديس نيقولا كاباسيلاس).[1] فهي وإن تكن، لغوياً، الأمور المخفية أو المستترة، لكنها تُدرك عند المؤمنين في شركة الإيمان. ففي النهاية هي تدبير الله الخلاصي وسر محبته الفائقة.[2]
وإن عدَّت الكتب الأسرار سبعةً، إلا أن الكنيسة الأرثوذكسية تقر، بأن كل عملٍ، في الروح القدس، ينمي ويبني الجماعة، هو سر مقدس.[3]
وانطلاقاً من حاجة الإنسان للاشتراك بسر المسيح، تأتي الأسرار “بمثابة أبواب السماء”،[4] التي إذا ما ولجناها، ننتقل إلى المسيح معشوقنا. فالمعمودية تلدنا، والإفخارستية تغذينا وتتحدنا بالرب، والميرون يعطينا التثبيت وعربون الروح، في حين يأتي سر التوبة والاعتراف ليصالح الإنسان مع الله من جديد من بعد المعمودية، إذا ما ابتعد عنه، وأما بقية الأسرار فتخدم الهدف نفسه ألا وهو الاتحاد بالرب.
في هذه الصفحات القليلة، سأحاول أن أتناول سراً من هذه الأسرار، ألا وهو سر التوبة والاعتراف، لشعوري بأهمية هذا السر في العودة المستمرة نحو الله، وبالتالي الاتحاد به. فهو في التعريف لغوياً، التغيير الكياني والتحول الأكمل للمؤمن نحو الله، بحيث يصبح الله هو المحور في حياته. وهذا حتى يتحقق، لابد أن يكون مبنياً على أسس قوية واستعداد صحيح لتقبل النعمة الإلهية. فعلَّ الرب يساعدني في إيصال ذلك وإيضاحه من خلال ما سأورده من براهين من الكتاب المقدس وحياة الكنيسة، ومن خلال تحديد بعض الأسس والمفاهيم المتعلقة بالتوبة.
التوبة في الكتاب المقدس:
1_ التوبة في العهد القديم
الرباط بين الجماعة والله كان دوماً معرضاً للانقطاع بسبب معاصٍ قد ترتكبها الجماعة أو شخص منها يؤثر قي الجماعة سلباً. لذا كانت النوائب والنكبات بمثابة المنبه لوعي وادراك الجماعة لخطيئتها، فتبادر إذ ذاك إلى استعادة الرباط مع الرب، فتعاقب المسؤولين عن المعصية (خروج32 : 25_28؛ عد25 : 7_9؛ يش7 : 24)، أو تسارع لالتماس العفو الإلهي بممارسات نسكية وترتيبات طقسية خاصة بالتوبة كالصوم (قض20 : 26؛ 1مل21 : 8_10)، وتمزيق الملابس ولبس المسوح (1مل20 :31_32؛ 2مل6 : 30 و19 : 1_2؛ أشع22 : 12)، وافتراش الرماد (أشع58 : 5). كما كانت الجماعة تلجأ، في بعض الأحيان، إلى الذبائح التكفيرية (عد16 : 6_15)، وفي أحيان أخرى، إلى طلب الشفاعة بواسطة رئيس ديني أو نبي (خر32 :30_33)، أو تلجأ إلى اعتراف جماعي أمام الرب (1مل8 :33_34).[5]
وكثيراً ما نجد في الكتاب المقدس، أحداثاً لأشخاص يعترفون بخطاياهم، ويقدمون توبة صادقة. فعلى سبيل المثال، يعترف لامك لامرأتيه بأنه قد قتل رجلاً (تك4 : 23)، وداود يعترف لناثان النبي بإثمه الذي اقترفه بحق أوريا (2صم12 : 13)، ويصرخ إلى الرب: “قد خطئت إلى الرب” (2صم11 : 2).[6]
الدعوة إلى التوبة، في العهد القديم، تركزت ابتداءً من القرن الثامن قبل الميلاد، نتيجةً لابتعاد إسرائيل عن الله وانتهاكه لعهد الرب. فانتقد الأنبياء التوبة الشكلية غير الصادقة، ولم يكتفوا بشجب الخطايا، بل طالبوا الشعب بتوبة حقيقية مقامها “البحث عن الله” (عا5 : 4_6)، وطلب الخير والابتعاد عن الخطيئة (عا5 : 4_15؛ أشع1 : 16_18)، والتوجه بالكلية إلى الله، والثقة به، والخضوع لمشيئته وإرضائه.[7]
هكذا تجذَّرت التوبة في العهد القديم، حتى باتت نقطةً جوهريةً في بشارة الأنبياء وحياة الجماعة التقية. فقد فهم الأنبياء التوبة على أنها الطريق الوحيد لعودة الوصال مع الله.
2_ التوبة في العهد الجديد
في مستهل الإنجيل، أول دعوة توجَّه إلى الشعب، كانت “توبوا فقد اقترب ملكوت السموات” (مت4 : 17). هذه الصرخة أطلقها في البدء من كان يهدي كثيرين من بني إسرائيل إلى الله ربهم (لو1 :16_17)، أي يوحنا المعمدان، فاتحاً بذلك باب الرجاء في الملكوت، وداعياً للاعتراف بالخطايا، وصنع أثمار تليق بالتوبة (مت3 : 8)، وتقويم السيرة الحياتية (لو3 : 10_14).
المسيح ذاته يكرر عبارة يوحنا المعمدان، فيدعو الناس إلى التوبة لأن ملكوت الله بات وشيك التحقق، لكنه “لا يكتفي فقط بإعلان اقتراب ملكوت الله، بل يحققه بقدرته”.[8] فالمسيح إنما جاء ليدعو الخاطئين إلى التوبة (لو5 : 23)، ولكي يرد الخروف الضال إلى الحظيرة (لو15 : 4_7). فقد جاء ليعتقنا من براثن الموت والخطيئة والفساد. فما على المؤمن إذ ذاك، إلا أن يتوجه نحو المسيح بكل كيانه. متحولاً نحو الرب دون سواه.
من هنا كان تأكيد العهد الجديد، على أن الإنسان لا يمكن أن يخدم سيدين (مت6 : 24)، فإما أن يحيا مع الرب، أو أن يحيا مع الخطيئة، لأن “كل مولود من الله لا يعمل الخطيئة، لأن زرع الله ثابت فيه، ولا يقدر أن يعمل الخطيئة وهو من الله” (1يو3 : 9). لذلك على الخاطئ أن يعود تائباً عند السقوط (2كو2 : 12؛ مت13 : 24_43 و18 : 15_22)، وكله ثقة بأن الرب سيقبله بقرح نظير الابن الشاطر والخروف الضال.
إذاً، التوبة في العهد الجديد هي سر تجديد المعمودية والنعمة وطهارة النفس المفقودة بسبب الخطيئة، ومدعاة للعيش وفقاً لوصايا الرب خلال المسيرة نحو الملكوت.
مسيرة سر التوبة والاعتراف في الكنيسة:
لقد أدركت الكنيسة منذ عهدها الأول، أهمية سر التوبة والاعتراف. فقد استلمته من الرسل الذين بدورهم استلموه من الرب مباشرةً، حين نفخ فيهم قائلاً: “اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تُغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أُمسكت” (يو20 : 22_23). لذا سعت الكنيسة أن تحيا هذا السر في كل جوانب حياتها؛ وهذا ما تشهد له شهادات عدة تتوزع على فتراتٍ من الزمن.
فالآباء الرسوليون حثّوا على الاعتراف بالخطايا، وضرورة الاعتراف قبل المناولة، وطلب الغفران عن كل الخطايا والسقطات. كما أنها ناشدت الأساقفة والكهنة لقبول التائبين.
هذه الممارسة، طبعاً، كانت شخصية وخاصة؛ فلم يكن من قانون ينظم هذا السر وكيفية ممارسته.[9] فسعت الكنيسة، وعياً منها لأهمية هذا السر، على تنظيم وتفعيل ممارسته في حياة الجماعة. فظهر السر كنظام كنسي في أوائل القرن الثالث، حيث بدأت تظهر القوانين الصارمة في سر التوبة والاعتراف، كالحرمان من المناولة لسنوات عدة، والقطع من الشركة الكنسية، وفرض أعمال رحمة على التائبين….؛ وقد استغرق التنظيم في هذه الفترة ثلاثة قرون.[10] أكد فيها آباء هذه الحقبة على التوبة وضرورة الاعتراف بانسحاق قلب وتواضع.[11]
مع تنامي الرهبنات اعتباراً من القرن السابع، لعب الرهبان دوراً هاماً في الارشاد الروحي. وقد شهدت هذه الفترة تحول الاعتراف الجماعي إلى اعترافٍ فرديٍ أمام الكاهن، وذلك على عهد البطريرك نكتاريوس خليفة القديس يوحنا الذهبي الفم. وقد كان ذلك تفادياً للمشاكل. فصار الاعتراف أمام الكاهن، الذي يمثل الكنيسة،[12] وليس أمام الجماعة.
نتيجةً لتأثير الفكر السكولاستيكي، طغى العنصر القانوني بدل الوجه العلاجي والتطهيري على السر. فاعتباراً من القرن السادس عشر، تحول السر إلى فرضٍ أو واجبٍ قانوني يؤهل للاشتراك في المناولة؛ وحُدد فيما بعد وجوب ممارسته بأربع مرات في السنة (أي خلال الأعياد الكبرى)، ثم مرة واحدة خلال الصوم الأربعيني المقدس. بعد ذلك فُرضت غرامةٌ ماليةٌ على التائبين والمعترفين. طبعاً، هذا يعكس مقدار التراجع الروحي والظروف القاسية المؤلمة التي كان يعيشها المسيحيون في الشرق.[13]
الآن تحاول الكنيسة إعادة المفهوم الصحيح لسر التوبة والاعتراف، من خلال إلغاء الكثير من المفاهيم القضائية والقانونية الخاطئة في السر، ومن خلال محاولتها الجادة على تشجيع ممارسة هذا السر والإقبال إليه.
هكذا عاشت الكنيسة سر التوبة خلال مراحل حياتها. وقد أدرك آباؤها أهميته، فما توانوا عن الحث على ممارسته وتنظيمه طوال كل هذه السنوات.
مفهوم الخطيئة:
الخطيئة بحسب المفهوم المسيحي، هي قوة تسيطر على الإنسان، تعمل بعكس مشيئة الله وعكس الإيمان. فهي من جهةٍ قوة الشر التي تسيطر على الإنسان، ومن جهة أخرى هي العمل ضد المشيئة الإلهية.[14]
الخطيئة، في البدء، لم تكن موجودةً، فكل شيء كان حسناً جداً (تك1 : 31). لكن بسقوط الإنسان الأول ظهرت الخطيئة في العالم. أي أنها حالة مرضية فاسدة ومميتة تشمل كل البشر. فالموت والفساد صارا كنتيجة للخطيئة، فالابتعاد عن ينبوع الخير والصلاح والحياة يسبب طبيعياً الموت والشر. وهكذا يستغل الشيطان الخطيئة حتى يسيطر على الإنسان، ويبعده عن مصدر وجوده، أي الله. لذا تراه يسعى بكل وسائله حتى يغويه، ويجعله يغرق أكثر فأكثر في لجة الخطيئة، حتى يصل الإنسان إلى درجةٍ يفقد فيها الرجاء بالرب، ويصير عبداً خادماً للشيطان.
لكن الرب الذي دبَّر خلاصنا بتجسده الإلهي، عاد فولدنا ولادة ثانية، وألبسنا الإنسان الجديد، ماحياً بذلك كل خطايانا، ومعطياً إيانا إمكانية العودة إليه شريطة أن نتقدم إليه بتوبةٍ. أي أن “الدرجة الأولى في العودة إلى الله”[15] هي التوبة، التي صارت ولادةً متجددة يعطينا الله إياها بعد المعمودية. بهذا نتحرر من كل خطايانا السابقة واللاحقة.
أهمية سر التوبة والاعتراف:
مما لا شك فيه، أن الإنسان بالمعمودية ينال الصفح عن كل ما اقترفه من خطايا. لكن بما أنه معرض للسقوط في أية لحظة، فلابد إذاً من سر يعيده إلى الأحضان الأبوية؛ لأنه من غير الممكن أن تعاد معموديته. لذلك أسس لنا الرب سر التوبة، وأعطانا إياه بمثابة معمودية ثانية، تصالح الإنسان مع الله إذا ما أخطأ بعد المعمودية.[16] فمن خلال هذا السر ينال المؤمن التائب، بقوة الروح القدس، الصفح عن جميع خطاياه التي يعترف بها، ويتحول بكل كيانه إلى الله. “فالتوبة الحقيقية ثورة تهز أعماق الكيان الداخلي الإنساني، وتبدله بشكل جذري، فيصبح الله محور حياة الإنسان”.[17]
بالإضافة إلى أن سر التوبة يصالح الإنسان مع ذاته ومع الآخرين، لطالما أن الخطيئة تسيء للمرء على ثلاث أصعدة: الله، الآخر، الذات. لذلك تكمن أهمية هذا السر في دوره الفعال في إعادة اللحمة بين الله والإنسان، وبين الإنسان نفسه والآخر، وذلك بالتطهر من الخطيئة التي تسيء الله والآخر والذات.[18]
مفهوم التوبة:
البداية الواعية للحياة بالمسيح أو الحياة الروحية، هي العودة إلى الله في الإرادة التي تنكر العالم والأنا الشخصي. هذه العودة هي النابعة من حرية الإنسان وقدرته على الاختيار. فكما أنه يرتكب الخطيئة بحريته، كذلك عليه أن يعدل عنها بحريته. وطالما أن الإنسان معرض للخطأ باستمرار، لذلك يجب أن يكون في حالة توبة مستمرة، يفرضها الشوق إلى الله والرغبة في الحياة معه. فالتوبة “هي ليست توبة إلى فضائل، ولكنها توبة إلى الله ذاته، هي اتحاد به واقتباس لحياته فينا”.[19]
بالإضافة إلى أن الوعي الشخصي لفقدان الله، هي نعمة إلهية وكشف وظهور أولان لوجهه الإلهي للبشر, فالتوبة الصادقة هي “عطاء الحب الإلهي لنا، مبادرة افتقاد الأب لابنه، إنها انتظار الأب لابنه. إنها تحريك الله لقلب الخاطئ”.[20] هكذا يجب أن تكون التوبة مستمرة بلا حدود وغير منتهية، كما أن طريق الاتحاد بالله غير منتهٍ؛ وهذه الاستمرارية لا تنتهي حتى الموت.[21]
مفاعيل سر التوبة:
مما لا شك فيه أن الروح القدس هو مصدر قوة كل سر. فهو من يعصف في كل الأسرار بشكل غير منظور عبر أدوات منظورة حسية. هذه القوة المقدسة الموجودة في كل سر، على الرغم من أنها تتمم في الكنيسة وفقاً لطقوس ورسوم معينة، إلا أنها غير محدودة ولا تستنفد مفاعيلها في الشكل الذي تظهر لنا فيه.[22]
وسر التوبة كسائر الأسرار، فيه الجانب المنظور، الذي يشمل اعتراف التائب أمام الكاهن، وقراءة إفشين الحل من قبل الكاهن، بالإضافة إلى الجانب غير المنظور، الذي تعمل فيه قوة الروح القدس، فتزيل الآثام، وتعطي التبرير، وتمنح المصالحة مع الله، وتعتق المعترف من عقاب الخطيئة الأبدي، وتهب الرجاء بالحياة الأبدية.[23]
الكنيسة تعتقد بإمكانية الغفران لكل الخطايا بواسطة سر التوبة والاعتراف. فرحمة الرب لا توصف وهي أوسع من خطايانا كلها. لكن ذلك مرهون بالتوبة، “فليست خطيئة بلا مغفرة إلا التي بلا توبة” (القديس اسحق السرياني).[24] ففقدان رجاء التوبة بشكل كامل، وإسكات صوت الضمير، وتأصل الشر في قلب الإنسان، هو تجديف على الروح القدس ولن يُغتفر؛ ففي هذه الحالة يصير الإنسان مشابهاً للشيطان، وتكون إذ ذاك خطيئته للموت (1يو5 : 16_17)، وذلك لمعاندة مثل هذا الإنسان ومحاربته للحق والتقوى.[25]
إذاً مفاعيل سر التوبة والاعتراف تتوقف على قبول الإنسان لها، فالغفران والحل هما ممكنان في كل الحالات بالتوبة الحقيقية الصادقة.
أسس التوبة:
حتى يجني المؤمن ثمار التوبة، لابد من شروط وأسس تقوم عليها توبته حتى تكون صادقة ومثمرة. هذه الأسس تتلخص بما يلي:
1_ فحص الذات:
العمل الأول للتوبة بحسب المنطق الطبيعي، هو أن يعود المرء إلى ذاته، فيدرك خطيئته، ويقر في داخله بأنه مذنب، وهذا ما فعله الابن الشاطر حين شعر بغربته، فقد “رجع إلى نفسه” (لو15 : 17)، وقال “يا أبي أخطأت…” (لو15 : 21).
هنا على المرء أن ينتبه ألا يبرر ذاته برمي علل خطاياه على الآخرين، بل عليه ان يفحص ذاته بكل دقة فيعرف خطاياه وآثامه كلها.[26]
2_ الشعور بالانسحاق والحزن:
الخطيئة تولد في النفس حالة من الشعور بالذنب، تدفع المرء إلى الانسحاق والتخشع، فتنشئً في النفس الحزن والأسى كنتيجة للابتعاد عن الله. هذا الحزن، الناتج بسبب الخطيئة، له مفعول كبير على حث الإنسان على الاعتراف بالخفايا بكل صدق. لذا يقول القديس باسيليوس الكبير أنه: “يجب على التائبين أن يبكوا بمرارة، وأن يظهروا من قلوبهم سائر علامات التوبة”.[27] فهذه الدموع هي أفضل علاج للخاطئين والمتدنسي الأنفس؛ فدموع بطرس المرة هي مَن محت خطيئة نكرانه للرب، ودموع الزانية هي مَن دفعت المسيح إلى تبريرها.
لكن لابد من الانتباه ألا يكون هذا الانسحاق والحزن ناتجين فقط عن خوف أو عقاب ما، لأن مثل هذا باطل وغير مفيد، فقد يبعد الخاطئ عن شره، ولكنه لا يقود إلى ندامة حقيقية؛ ولنا في الكتاب المقدس أمثلة كثيرة تبرهن ذلك، فهيرودس حزن عند طلب هيروديا، ويهوذا ندم على فعلته، وإخوة يوسف حزنوا على أخيهم حين باعوه، ولكن هؤلاء جميعاً لم يبرروا، لأن حزنهم لم يكن نابعاً عن حب عميق لله يرذل كل خطيئة ويبغضها. أما الحزن الذي بحسب مشيئة الله فكفيل أن ينشئ توبةً للخلاص لا ندم عليها (2كو7 : 10).[28]
3_ الإيمان الوطيد بالرب والرجاء بتحننه:
لقد أعطى الرب جميع المؤمنين باسمه غفران الخطايا (أع10 : 43). لذا على كل تائب أن يؤمن ويثق، بأن الرب قد صار كفارة لخطايانا، فيتقدم واثقاً بأن الرب يقبل التائبين؛ فهو “لا يشاء أن يهلك أحد بل أن يقبل الجميع إلى التوبة” (2بط3 : 9). بالإضافة إلى أن مجيئه إلى العالم لم يكن إلا ليدعو خطأةً إلى التوبة (مت9 : 13). هذا الإيمان يجعل المؤمن واثقاً بخلاصه من براثن الشيطان والخطيئة.
الاعتراف أمام كاهن:
التوبة العميقة إذا ما وجدت في النفس، سرعان ما تولد فيها شعوراً بضرورة الاعتراف والاقرار بالخطايا. الأمر الذي يتم عادةً أمام كاهن يمنح الصفح والارشاد اللازمين لاستمرار الحياة الروحية للمؤمن. وطالما أن ارتكاب الشر هو ألم لكل الأعضاء، “فإن كان عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه” (1كو12 : 26). إذاً الخطيئة تسيء إلى الكنيسة جمعاء. لذلك لا بد من الاعتراف للعودة إلى أحضان الكنيسة، وتسوية ما اقترف، “فلا مصالحة مع الآخرين من غير أن يكون الوجه للوجه والقلب للقلب، ولا مصالحة مع السيد خارج هذه المعية الإنسانية التي لنا في مكان تجليه أي في الكنيسة”.[29] من هنا تأتي ضرورة الاعتراف أمام الكاهن، الذي يمثل بشخصه الكنيسة عامةً.
البعض ينكر ضرورة الاعتراف أمام كاهن، فيبررون ذواتهم باعتراف ذاتي، أو يكتفون بتلاوة إفشين الحل فوق رؤوسهم دون أي اعتراف. لكن هذا في الحقيقة غير نافع ومنافٍ لتسليم الكنيسة. فبهذا ننكر السلطان المعطى من المسيح لرسله وللأساقفة والكهنة على حل الخطايا أو إمساكها، فكيف تُمسك الخطايا أو تُحل دون أن تعرف أو أن تُقال. كما أنه كيف للطبيب أن يعالج مريضه ويطببه دون أن يعرف مرضه. فالكاهن مثله مثل الطبيب، والخطيئة المخبأة على حد تعبير القديس باسيليوس الكبير “هي مرض غير قابل لشفاء الروح”.[30]
بالإضافة إلى أن على التائب أن يدرك أن اعترافه ليس أمام الكاهن فحسب، إنما أمام الله مباشرةً وفي حضرة الكاهن. فالروح القدس هو من يغفر الخطايا عبر الكاهن، وهو الذي ينمي الحياة الروحية. وما الكاهن سوى “وكيل لأسرار الله”، لذا “من اللازم الاعتراف بالخطايا لمن سلم إليهم توزيع أسرار الله” (القديس باسيليوس الكبير).[31]
لهذا ينبغي على التائب أن يضع نصب عينيه، أن عدم اعترافه هو خجل مرذول، وأن إقراره بخطاياه أمام شخص لأجل نيل الشفاء، هو أفضل بكثير من الوقوف أمام ذلك المشهد العظيم، حين تُفتح الكتب، وتُعلن المستورات والخفايا. لذلك “يابني …… لاتستحي أن تعترف بخطاياك” (ابن سيراخ4 : 31).
مراحل الاعتراف:
توبة الإنسان تكتمل في اعترافه الشفهي؛ فالاعتراف هو التعبير الأكمل للتوبة، وهو بداية ثمارها. لذلك التوبة لوحدها دون اعتراف لاقيمة لها، وكذلك الاعتراف بدون توبة. وهذا ما كان مدركاً في فكر الكنيسة حين لزمت الإثنين في سر واحد هو سر التوبة والاعتراف. وطبعاً هذا السر، على الرغم من وحدته، إلا أنه يقسم إلى مراحل ثلاثة لتسهيل دراسته فقط. هذه المراحل هي:
1_ ما قبل الاعتراف:
الاعتراف، كما ذكرت سابقاً، هو النتيجة الطبيعية للتوبة، فهذه الأخيرة تقود الإنسان إلى الاعتراف أمام الله وأمام الكاهن الذي يمثله. لذا يجب على المعترف أولاً أن يصلي إلى الله، ليساعده في فحص نفسه وخطاياه فحصاً دقيقاً وصادقاً، وليرسل الله له نعمة التوبة الحقيقية والقوة، لكي يتقدم في حياة جديدة، فيعترف بخطاياه بدون حجة أو تبرير، فالصلاة “بطبيعتها مدرسة للتوبة”.[32]
من بعد ذلك، يأتي التركيز على الذات، فعلى المعترف أن يفحص حياته وعلاقته مع الله وعلاقته مع الآخر.
ومن الأمور التي تساعدنا في التوبة والاعتراف، مطالعة الكتاب المقدس. فهو يسلط أنوار الله علينا، فينيرنا في فحص ذواتنا، ويشجعنا على الاعتراف بثقة بالرب.[33] بالإضافة إلى الصوم وأعمال البر، التي تنمي الشعور بالآخر، وتقلل من الإساءة إليه.
2_ خلال الاعتراف:
الاشتراك بهذا السر يجب أن يكون بتواضع عميق واعتراف صريح دون تبرير أوحجج لما اقترفناه. فعلى المعترف أن يُقر بخطاياه ببساطة ووضوح، فلا يكثر من الكلام والقصص غير المنتهية، فيكتفي فقط بالضروريات؛ بالإضافة إلى أن عليه أن يعرف أنه خاطئ وبائس، فيتكلم بكل تواضع وانسحاق، ويعترف بدون كذب أو تبرير أو إلقاء الخطايا على الآخرين.
لذا على المرء المعترف أن يدين نفسه، ويتحدث بكل لباقة وحياء وورع. لأنه بخطيئته التي كان قد اقترفها، قد أحزن الله، وأضر نفسه والقريب.[34]
3_ مرحلة ما بعد الاعتراف:
أهم ما على المعترف أن يدركه ويثق به، هو أن الله سيغفر خطاياه كلها إذا ما اعترف بها. فسر التوبة والاعتراف يضع نهاية للابتعاد عن الله، ويعيد العلاقة السلامية بين الخالق وخليقته. وحينها يعيش الإنسان ويبتهج ويتهلل بإله المحبة والرحمة، لنواله الغفران عن خطاياه كلها. هذا الإيمان يمكِّن المعترف من أن يجني ثمار التوبة والاعتراف.
من هنا لابد للتائب أن يقدم ثماراً تليق بالتوبة، فبعد أن يصمم الإنسان على ترك الخطيئة ونبذها، وينال الحل منها، فما عليه عندئذٍ إلا أن ينوي على إصلاح سيرته بشوق صادق وعزم ثابت، وهذا ما يؤكده القديس باسيليوس الكبير بقوله: “أنه لا يكفي للتائبين غفران الخطايا وحده للحصول على الخلاص، بل من الضروري أن تكون لها أثماراً تليق بالتوبة”.[35]
وبالتأكيد، أن أكثر ما يساعد المعترف على جني هذه الثمار، هي التمارين والارشادات الروحية، التي يعطيها الأب الروحي، بالإضافة إلى القصاصات والقوانين.
مفهوم القوانين والقصاصات:
بعد الاستماع إلى الاعتراف ونيل الصفح، لا بد من قصاصات وقوانين روحية تقوِّم ما التوى، وتصلح ما تهشَّم. فالعقاب المُعطى لنا هو “بمثابة الدواء الذي يشفي أهواءنا ويعطينا الصحة” (القديس باسيليوس)،[36] بالإضافة إلى أنه تقويم للتائبين وتأديب أبوي ناجم عن المحبة الإلهية (عبر12 : 6_8). فالعقاب، في المفهوم الأرثوذكسي، هو ليس لإيفاء عدل الله، إنما وسيلة لتأديب الخاطئ، تنبع من محبة الله للإنسان، وليس من سخطه أو غضبه. فالله لما فرض العقاب على أوّلي الجبلة حين سقوطهما، على حد تعبير القديس يوحنا الذهبي الفم، “يبدو عقاباً وجزاءً. لكن في الحقيقة هذا نصيحة ودواء وعناية بالجروح التي نشأت بسبب الخطيئة”.[37] فالطرد كان عملاً من أعمال المحبة الإلهية؛ فالله لم يشأ إبقاءهما في الفردوس لئلا يأكلا من شجرة الحياة، فتصبح بذلك الخطيئة معهما أزلية. لذا جاء العقاب بالطرد إشارة إلى عناية الله بآدم، وليس سخطاً منه. من هنا فهمت الكنيسة أن القصاص هو لصالحنا وهونصيحة لنا، لكيلا نستمر في الخطأ.
طبعاً حق إعطاء القصاص مُنح للكهنة من الرب نفسه (يو20 : 23). لذلك عليهم أن يمارسوا هذا الحق بكل تمييز ودقة، ويعطوا القصاص الملائم للحالة المرضية، أي “أن يستعملوا الدواء النافع لكل مرض”.[38] فالقصاصات “لا يجب أن تكون بسيطة ومتعلقة بحجم الخطيئة، لكن يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار طوعية الخاطئ ……. لذا فالراعي بحاجة إلى حكمة منقطعة النظير، وعشرة آلاف عين، حتى يستطيع أن يرى مزاج النفس من كل النواحي. لأنه كما يوجد أناس يُقادون إلى الجهل، ويفقدون كل رجاء في خلاصهم، لأنهم لم يستطيعوا أن يحتملوا الأدوية الممقتة، هكذا يوجد آخرون يؤولون إلى الأسوأ، ويصبحون بلا رجاء، لأنهم لم تُفرض عليهم قصاصات موافقة لخطاياهم” (القديس يوحنا الذهبي الفم).[39]
لهذا على المؤمن أن يدرك، أن كل القصاصات والقوانين، ناتجة عن المحبة، فيقبلها بكل ثقة، ويسعى لتطبيقها بفرح، وبذلك يدرب نفسه لئلا يقع في الخطيئة ثانيةً. كما وعلى الأب الروحي أن يكون بدوره مميزاً في إعطاء الدواء المناسب، حتى يوصل المعترف إلى طريق الخلاص.
خاتمة
حاجة الإنسان إلى القرب من الله وعدم الابتعاد عنه، هي حاجة إلى الحياة والوجود. من هنا كان لابد للإنسان المعرض لأن يهجر الله، أن يملك عناصر ومؤهلات تعيده إلى الأحضان التي غادرها. فكان سر التوبة والاعتراف على مر العصور بمثابة باب من أبواب السموات التي تعيد الإنسان ثانية إلى الحظيرة، إذا ما هجرها، شريطة أن يصرخ من أعماقه بصدق: “قد أخطأت يارب”.
هكذا فهمت الكنيسة أن سر التوبة والاعتراف حاجة لا بديل لها؛ فسعت في تنظيمها له سعياً حثيثاً، وشجعت المؤمنين على ممارسته وفقاً لأسس وعناصر وطقوس، تساعد على تنمية وخلق توبة صادقة، تطرق صرخاتها أبواب السماء.
هذا السر، كما ذكرت، يُتمم بواسطة الكاهن، الذي يستمد سلطته من الرب نفسه، فيمثل الكنيسة في الاستماع للمعترف وإعطاء الحل، ويعطي الإرشاد، ويفرض القوانين والعقابات المناسبة كتعبير عن محبة للإنسان الخاطئ، فيقوده بهذا إلى خلاصه، ويعيده إلى حظيرة الخراف.
هكذا فلندع التوبة بسرها تخلق فينا فكر المسيح، فنرى ما يرى، ونحب ما يحب، ونكره الأعمال التي يكرها، فتأخذ قلوبنا لتضعها في قلبه بحيث لا يفصل بيننا وبين المخلص حبيبنا شيء.[40] ولنسارع لأن نهتف قائلين: “افتح لي أبواب التوبة يا واهب الحياة”.[41]
[1] _ كاباسيلاس، نيقولا، الحياة في المسيح، ترجمة البطريرك الياس الرابع، منشورات النور، 1971، ص 27 .
[2] _ كيرياكوس، الأرشمندريت أفرام، أحاديث روحية، دير سيدة البلمند البطريركي، 1996، ص 17.
[3] _ التوبة والاعتراف، الأسرار 3، مطرانية جبيل والبترون وما يليهما للروم الأرثوذكس، ص 5.
[4] _ كاباسيلاس، المرجع السابق، ص 23.
[5] _ معجم اللاهوت الكتابي، الطبعة الرابعة، دار المشرق، بيروت، 1999، ص 212_213.
[6] _ يازجي، الأسقف يوحنا، سر التوبة في الطقس البيزنطي الأرثوذكسي، سر التوبة، منشورات معهد الليتورجيا في جامعة الروح القدس، الكسليك،2002، ص 148_149.
[7] _ المرجع ذاته، ص 148_149، راجع أيضاً معجم اللاهوت الكتابي، المرجع السابق، ص 213_214.
[8] _ معجم اللاهوت الكتابي، المرجع السابق، ص216.
[9] _ يازجي، المرجع السابق، ص153_154.
[10] _ المرجع ذاته، ص 154_ 159.
[11] _ مسرة، الشماس جراسيموس، الأنوار في الأسرار، المطبعة اللبنانية، بيروت، 1887، ص 217_218.
[12] _ جماعة من المسيحيين الأرثوذكس في فرنسا، الله حي، ترجمة د. دعد قناب عائدة، منشورات دير مار الياس شويا البطريركي، ضهور الشوير، لبنان، 2000، ص 432.
[13] _ يازجي، المرجع السابق، ص 161_162.
[14]_G. Stauropoulou, Arcimandritou Cpistoforou, Poimantikh ThV MetanoiaV, Apostolikh DiـakoniaV, Ekd B, 1988, Sel 37.
[15] _ Ibid, p. 87
[16] _ الدليل الرعائي للأسرار، بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، 1996، ص86.
[17] _ يازجي، المرجع السابق، ص 150.
[18] _ Op.cit. p.98.
[19] _ التوبة والاعتراف، المرجع السابق، ص 10.
[20] _ خضر، المطران جورج، أهل بيت الله، الروح والعروس 1، مطرانية جبيل والبترون وما يليهما للروم الأرثوذكس، 2000، ص 83.
[21] _ G. Stauropoulou, op.cit. p. 88.
[22] _ الراهب الروسي سلوانس، الاعتراف قبل المناولة، ترجمة رزق الله عرمان، مجلة النور، العدد 6 و7 ، السنة 1946، ص 204.
[23] _ مسرة، المرجع السابق، ص 236_237.
[24] _ نينو، الياس شفيق، طريق الخلاص، سر التوبة والاعتراف، الطبعة الأولى، جمعية الثقافة والتعليم الأرثوذكسية، عمان، 1997، ص 18.
[25] _ مسرة المرجع السابق، ص 236_ 237.
[26] _ G. Stauropoulou, op.cit. p. 89.
[27] _ مسرة، المرجع السابق، ص 225.
[28] _ ملطي، القص تادروس يعقوب، تلمذتي لأب اعترافي، الحب الرعوي 2، الطبعة الثالثة، كنيسة مار جرجس باسبورتنج، الإسكندرية، 1979، ص 8_9.
[29] _ التوبة والاعتراف، المرجع السابق، ص21.
[30] _ نينو، المرجع السابق، ص 45.
[31] _ ملطي، المرجع السابق، ص 19.
[32] _ التوبة والاعتراف، المرحع السابق، ص 12.
[33] _ الدليل الرعائي للأسرار، المرجع السابق، ص 101.
[34] _ G. Stauropoulou, op.cit. p. 101_ 102
[35] _ مسرة، المرجع السابق، ص 228.
[36]_Ieroumonacou Grhgoriou, Iera ExomologhsiV, Scolia Twn Paterwn, Agion Oros, 1997, Sel . 123
[37]_ Ibid, p. 123
[38] _ الدليل الرعائي لأرسرار، المرجع السابق، ص 96_97.
[39]_ Ieroumonacou Grhgoriou, op.cit. p. 128.
[40] _ خضر، المرجع السابق، ص 74.
[41] _ تريوديون، طبعة ثانية، المنشورات الأرثوذكسية، طرابلس، 1994، ص 2.