وبدأ شهر قلب يسوع الأقدس…
في هذا الصّباح، نفتح أعيننا وقلب يسوع يغمرنا في مستهلّ شهر حزيران/ يونيو، وينفح فينا وداعته وتواضعه، طارحًا أمامنا قلب مريم الحلو ليقودنا إلى الخلاص.
هو انطلاقة لعبادة قلب يسوع الأقدس يتلو خلالها المؤمنون مسبحته الخاصّة تأمّلاً بجراحات المسيح الخمسة، فيرتقون من خلالها إلى الكمال ملتمسين الحبّ الإلهيّ الّذي يضخّ فيهم حياة وخيرًا، مضرمًا القلوب بلهيب محبّة مشبّعة من روح الله.
هي رياضة روحيّة تنقّي القلوب من الزّؤان وتفترشها ببذور الطّهر والنّقاء وترشد إلى قلب المسيح الوديع والمتواضع “قلب الكنيسة”، كما يصفه البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، “هو الّذي يدعونا إلى الاهتداء والمصالحة. هو الّذي يرشد القلوب النّقيّة والمتعطّشة إلى العدالة على درب التّطويبات. هو الّذي يُتمّم الشّركة الودّيّة لأعضاء الجسد الواحد. هو الّذي يسمح لنا بالتّقيّد بالبشرى السّارّة وقبول الوعد بالحياة الأبديّة. هو الّذي يرسلنا لنقوم بمهمّتنا. العلاقة القلبيّة مع يسوع توسّع القلب البشريّ على مستوى شامل”.
في شهر قلب يسوع المبارك، دعوة- إلى كلّ قلب انتزعته الظّروف من قلب الكنيسة وشرّدته عن جوهر الإيمان وجعلته يتيمًا في هذا العالم- إلى العودة إلى قلب المخلّص ليختبر رحمته ويبحث فيه عن السّلام والعزاء ويلتمس منه النّعم والبركات؛ هي دعوة لاستعادة القلوب الفاترة حرارتها، وفرصة ليحفر يسوع أسماءنا في قلبه فلا تُمحى منه أبدًا.
لنجرؤ منذ اليوم على تكريس أنفسنا لقلب يسوع الأقدس ونعترف بسلطته علنًا وبحرّيّة، وليكن قلبه نورًا وقوّة وسندًا وحياة لكلّ قلب وديع ومتواضع على مثال قلب يسوع المسيح.
شهرُ حزيران، شهر قلب يسوع الأقدس
يخطئ من يظنّ أنّ عبادة قلب يسوع الأقدس هي عبادة تقويّة نشأت في القرن السابع عشر. فأن كان ظهور المسيح للقديسة مرغريت مريم ألاكوك في باريه لو مونيال قد كرّس هذا الشهر للعبادة، فأن هذه العبادة تجد جدورها الرّوحيّة واللاّهوتيّة في العهد الجديد، وفي حدث المسيح الخلاصي.
حين نقول “قلب” في زمننا المعاصر، نفكّر في المحبّة، في العاطفة، في الأحاسيس العابرة وفي المشاعر اللّطيفة. نحصر مفهوم القلب في مجموعة صفات يمكن للإنسان التمتّع بها: “قلب محبّ”، “قلب حسّاس”، “طيّب القلب”، “قويّ القلب”. نحصر معنى القلب بمجموعة صفات عاطفيّة، أدبيّة أو خلقيّة يمكن للإنسان التمتّع بها.
أمّا الكتاب المقدّس فيقدّم مفهوماً للقلب مغايراً تماماً عن منطقنا المعاصر، فالقلب، في الكتاب المقدّس هو رمز للإنسان بكلّيته: هو صميم الشخص، وهو مركز وحدته وكينونته، وبالتاليّ فهو مركز إنسانيّته، الفكريّة والرّوحيّة والحسيّة والعاطفيّة. بينما فصلت الفلسفة اليونانيّة بين عقل وقلب، أي بين قدرة فكريّة وقدرة عاطفيّة، أصرّ الكتاب المقدّس على المحافظة على وحدة الإنسان العاقل والرّوحيّ والعاطفيّ، فلم يفصل بين هذه الأبعاد المختلفة، بل نظر اليها كميزات تجتمع في الشخص البشريّ وتكوّن وحدته كإنسان، فكان القلب رمز هذه الوحدة، وصار يعني هويّة الإنسان ويرمز الى قيمته المطلقة.
هذا المفهوم البيبلي نجده في العهد الجديد، في ما يختصّ بشخص يسوع: لقد تكلّم الإنجيليّ يوحنّا عن قلب يسوع المفتوح على الصليب، خرج منه دم وماء، كان سبب إيمان الجنديّ الرّومانيّ، باكورة المؤمنين بعد موت يسوع على الصليب. هنا تجد عبادة قلب يسوع جذورها: عند الجلجلة، حيث عاينت البشريّة الإله المصلوب المتألّم حبّاً بها، أعطاها الخلاص من قلب المفتوح، أي من كلّية حقيقته الإلهيّة والإنسانيّة، من وحدة ألوهته وأنسانيّته. بهذا المعنى يضحي قلب يسوع علامة وحدة الأقانيم، ويصبح ضمانة حضور المسيح الإله والإنسان في كنيسته. فكما أن القلب هو رمز وحدة الشخص البشريّ بالنسبة للعهد القديم، هو أيضاً علامة وحدة المسيح الكلمة ابن الله ويسوع الناصرة ابن البشر وابن مريم. عبادة الكنيسة لقلب يسوع، هي عبادة المسيح بطبيعتيه الإلهيّة والإنسانيّة، في وحدة الأقنوم.
يخبر القدّيس يوحنا في إنجيله: «لكِنَّ واحِداً مِنَ الجُنودِ طَعَنه بِحَربَةٍ في جَنبِه، فخرَجَ لِوَقتِه دَمٌ وماء ». (يو ١٩، ٣٣-٣٧). وفي سفر الرؤيا يتكلّم يوحنّا على الحمل المذبوح قائلاً “المطعون”، نسبة الى حدث طعن قلب يسوع على الصليب. (راجع رؤ ٥، ٦). ويصبح جرح القلب سبب الأيمان في انجيل يوحناً، فالجندى الّذي طعن قلب يسوع أعلن: “لقد كان هذا حقّاً ابن الله”، و يسوع دعا توما قائلاً “هَاتِ إِصبَعَكَ إِلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي، ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِناً » (يو ٢٨، ٢٠). فكما أن معاينة قلب يسوع المطعون هو مصدر الإيمان، هكذا أيضاً تصبح عبادة قلب يسوع مصدر إيمان للشعب المسيحيّ.
وإن كانت عبادة قلب يسوع تجد جذورها في العهد الجديد، إلاّ أن آباء الكنيسة ومعلّميها قد أدخلوها في اللاهوت الكنيسة وفي الحياة الرّوحيّة والتقويّة. فقال القديس يوحنّا فم الذّهب: “إنّ دم الحمل الذي جعل على عتبة بني إسرائيل في مصر كان رمزًا عن دم المسيح ومنه اتخذ كل قوته فدفع عنهم ملاك الرب لما ضرب أبكار مصر. فإنّ قويّ الرمز على ردّ ذراع الرب فما قولنا عن الحقيقة؛ ولكن انظر مورد هذا الدم الكريم المحي ألا وهو جنب المسيح… فلما طعنه الجندي خرج منه الماء أولاً وهو ماء المعمودية الذي يغسل أقذار خطايانا ثم خرج الدم وهو الدم السري الذي يروينا. قد فتح الجندي جنب إلهي وهدم الحاجز الذي كان يحجب عني قدس الأقداس وها إني وجدت كنزًا ثمينًا وأصبت غنى طائلاً… هذا هو جنب آدم الجديد الذي نزعت منه وقت نومه على الصليب حواء الجديدة أيّ الكنيسة عروسة المسيح ولذلك يحق القول في الكنيسة وفي أبنائها أننا لحم من لحمه وعظم من عظامه». وكتب في محل آخر “إن قلب يسوع إلهنا مفتوح. فلندنوا منه، ولنقبل النعم الزاخرة التي تتدفق منه بغزارة”.
وأوريجانيوس الإسكندري قال: “إنّ يوحنّا الرسول لمّا أتكأ رأسه إلى قلب يسوع وجد فيه كنوزًا دفينة من الحكمة والعلم فعرف حق المعرفة خفايا الرب وأعلن بها إلى العالم”.
وقال القديس أمبروسيوس أسقف ميلان:“قد طعن الجندي جسد الرب بعد موته ففاضت الحياة من الميت وسال للبشر ماء غسل ذنوبهم ودم بذل فداهم. فلنشرب ثمن خلاصنا كي نفدى بشربه” .