الاهتمامات الدنيوية
بعد حديثه عن الصلاة والصوم في الموعظة على الجبل، ينتقل الرب يسوع الى الكلام عن الاهتمامات الدنيوية التي تبعد الإنسان عن طلب ما هو أهمّ، أي طلب الملكوت السماوي.
يبدأ الرب كلامه بالقول: ” لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يُفسِد سوس و صدأ وحيث ينقب سارقون ولا يسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا يُفسِد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون. لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك ايضا” (متى 6: 19 –21). الدعوة واضحة هنا الى العمل من اجل تكوين كنز سماوي دائم وغير قابل للضياع ولا للفساد. هذا الكنز يزيد او ينقص بمقدار ما يسلك صاحبه في طريق تعاليم يسوع وتطبيقها في حياته. وفي مقابلته بين الكنز الأرضي والكنز السماوي يبدو ان الرب يسوع يريد ان يذكّر أصحاب الكنوز الأرضية أنه إذا لم يعفّ قلبهم عن عشق أموالهم وأملاكهم الأرضية لن يكون لهم كنز في السماء. فبقدر ما ينقص تعلقهم بكنزهم الأرضي يزيد كنزهم السماوي، والعكس ايضاً صحيح فبقدر ما يزيد تعلقهم بكنزهم الأرضي ينقص كنزهم السماوي.
مكان الكنز يشير الى مكان قلب الانسان ومركز اهتمامه. فإذا كان اهتمام الانسان يتّجه الى الأمور الارضية الفانية فهو أرضي، وإذا كان اهتمامه سماوياً فهو ينحو الى الله وينمو به. الانسان، في ميزان الله يوم الدينونة، يساوي ما يساويه قلبه وحبّه.
ثم يقول الرب يسوع: ” سراج الجسد هو العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كلّه يكون نيّرا ً وإن كانت عينك شريرة فجسدك كلّه يكون مظلماً. فإن كان النور الذي فيك ظلاماً فالظلام كم يكون؟ ” (متى 6: 22-23). ملاحظة أساسية لا بد منها لكي يُفهم هذا النص، فعلى العكس ممّا نعرفه اليوم بفضل العلوم، كان الأقدمون يعتقدون أن الرؤية تأتي نتيجة لانبعاث النور من العين الى الخارج. فكما أن العين الصحيحة ترسل النور الى العالم هكذا الانسان الصالح المملوء بنور الله يطرد الظلام من حوله ولا يخشاه.
الصفة المعطاة في النص للعين “البسيطة” هي نقيض للثانية، فإمّا ان يكون الانسان بسيطاّ اي ان يكون اختياره السير في طريق الله نهائياً ومن دون تراجع، او أن يكون الانسان ثنائياً أي من دون قرار نهائي دائم، فهو تارة ً مع المسيح وطوراً ضده. لهذا يضع النص القارىء بين خيارين: فإمّا أن تكون عينه بسيطة اي مضاءة بنور المسيح وتعاليمه وهكذا ينير جسده العالم، وإمّا ان تكون عينه شريرة أي متردّدة في قبول المسيح ونوره وهكذا يكون جسده في الظلام.
يتابع يسوع كلامه قائلاً: ” لا يقدر أحدُ ان يخدم سيدين.لأنه إمّا أن يُبغض الواحد ويحبّ الآخر او يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال” (متى 6: 24). المال في هذا النص متماهٍ مع شخص يدعى “ماموناس” هذه الاستعارة نجدها في الأدب العبري الربّاني حيث يشخَّص المال والأملاك الدنيوية بماموناس. خدمة الله والتعلّق بالمال يتناقضان ويتنافيان، فكما أنه من المستحيل أن يكون العبد خادماً عند سيّدين يستحيل أن يخدم الانسان الله وأن يبحث في الوقت ذاته عن أمانه ومستقبله في جمع المال وتكديسه وعبادته. عبادة الله هي في اعتباره ربّاً وحيداً وسيّداً لحياتنا ورجاءً للآتيات.
المقطع الأخير من الإصحاح السادس (الآيات 25-34) يدعو فيه الرب يسوع الى عدم انشغال القلب بالأمور الحياتية والى وضع الثقة بالآب السماوي الذي ” يعلم أنكم تحتاجون الى هذه كلها” (الاية 32). سياق النص لا يسمح بالقول أن الدعوة الى عدم الانشغال بالأمور الحياتية هي دعوة الى الكسل وعدم العمل، بل هي دعوة الى تصحيح سلّم الأولويات عند البشر، والآية 33 توضح الغاية من هذا الكلام، فالرب يسوع يقول:” أطلبوا اولا ملكوت الله وبرّه وهذه كلّها تزاد لكم “( الآية 33). الدعوة اذاً هي الى عدم إدراج الأمور الحياتية في رأس الأولويات، ولكن وضعها في الدرجة الثانية بعد الجهاد في سبيل فتح الملكوت. يُلاحظ ايضاً أن هذا النص يتوجه فيه يسوع الى ” قليلي الإيمان ” (الآية 30)، اي الذين لا يثقون بالله كأب يهتمّ بأولاده ويعرف حاجاتهم، لهذا تراهم يقلقون لتأمين عيشهم وقوتهم وينسون الأهمّ وهو ملكوت الله.
“اولا” لا تلغي “ثانيا” بل تؤكدها. ” اطلبوا اولا ملكوت الله وبرّه وهذه كلّها تزاد لكم ” تعني ان الأمور الحياتية همّ شرعي اذا لم يصبح قلقاً، والقلق خطيئة، يسيطر على الانسان ويجعله يفقد المعنى الحقيقي لحياته وهو طلب ملكوت الله.
نقلاً عن نشرة رعيتي ، نشرة مطرانية جبل لبنان