مزار وبازيليك سيدة المنطرة (مغدوشة)
سيّدة المنطرة هي مزار روماني كاثوليكي تُقامُ فيه الصلوات والقداديس. يقع على مشارف بلدة مغدوشة جنوب لبنان. وقد كان المزار مجرد مغارة صغيرة تعلوها فتحة سمحت باكتشافها من قِبل أحدِ الرعاة مع مطلع القرن 18. وأُقيم بالقرب منها برجٌ عالٍ يبلغُ ارتفاعه ثمانية وعشرين متراً، يعلوه تمثالٌ برونزي يبلغُ ارتفاعه ثمانية أمتار ونصف؛ يمثل مريم العذراء وهي تحمل طفلَها يسوع.
يُذكر في إنجيل (مرقس / ومتى /- 29 ) أن السيد المسيح قصد مدينتي صيدا وصور مصطحباً معه تلامذته ومن آمن به، ويعرف عن هاتين المدينتين أنهما كانتا من المدن الوثنية التي يُحظر على النساء دخولها، من هنا فقد رجَّح المؤرخون أن تكون العذراء مريم قد إنتظرت إبنها في بلدة مغدوشة كونها الأقرب إلى مدينتي صيدا وصور.
تاريخ
تجلّت هذه الأهمية من كونه يحتضن مقام السيدة العذراء الذي هو عبارة عن مغارةٍ صغيرةٍ محفورة بالصخر. بحسب المعتقدات المحلية، كانت العذراء مريم تُرافق ابنها المسيح في زياراته الى صور وصيدا ومنطقتهما، وكانت تقيم في المكان حيث توجد مغارة صخرية تقع على تلة مشرفة على البحر في خراج بلدة مغدوشة، “منتظرة” عودة ابنها من جولاته التبشيرية. لذلك أطلق على الموقع تسمية “سيدة المنطرة” أي الانتظار.
ومن المرجّح انه كان يوجد على التلة نفسها مركز ديني قديم مكرّس للإلهة “عشتروت”، ولقد حوّله المسحيون الأوّلون إلى مقام لتكريم العذراء مريم. وتجدر الاشارة الى ان البلدة الواقعة عند أسفل التلة تحمل اسم “#درب السيم” وهي تعني بالسريانية “طريق القمر” نسبة الى عشتروت التي كان يرمز اليها بـ “القمر”.
مع توالي الاضطهادات التي تعرّض لها المسيحيون في المنطقة خلال العصور اللاحقة، أهمل مقام عذراء مغدوشة، وغطّت الأتربة والأعشاب مدخل المغارة.
وفي سنة 1720، اكتشف أحد الرعيان صدفة المغارة ووجد في داخلها مذبحا عليه أيقونة منسية للعذراء مريم. بعد أن سقطت نعجته داخل المغارة من الثقب الموجود في سقفها.
الموقع الجغرافي والإسم
يتواجدُ مقامُ السيّدة العذراء قي مغارةٍ طبيعية، تقومُ على تلّة تشرفُ على الساحل الجنوبي لمدينة صيدا.
ولكونِه يجاورُ الطريقَ المؤدية إلى بلدة مغدوشة ذات الأغلبية الرومية الكاثوليكية، فإنّ هذا المقامَ يمثِلُ المدخلَ الغربيَ للبلدة التي يقاربُ عددُ سكانِها الثمانية آلاف شخص. يقعُ هذا المقام غلى مسافةِ ستة كيلومترات ونصف من مدينة صيدا، ويتمُ الوصولُ إليه عبرَ الطريق الساحلية أوَلاً، ثمَ عبرَ طريقٍ فرعيَةٍ تبدأُ عند جسرِ سينيق.
ويقولُ عالمُ اللغاتِ الساميّة أنيس فريحه في معجم الألفاظ العامّية بأنَ المنطرة هي الأملاك التي تقع ضمن دائرة حراسة الناطور. وكلمة الناطور مشتقَة من فعل نَطَر، وهو فعل سرياني وكنعاني (فينيقي) يعني بالعربية حَرَس، والناطور يعني الحارس. وكما أنَ كلمة “مكتبة” المشتقّة من فعل “كتَب” تعني المكان الذي يحفظ الكُتب، فكلمة “منطرة” المشتقّة من فعل “نطر” تعني بالتحديد المكان الذي يأوي الحرّاس وتتمُ فيه ومنه الحراسة. أمّا موقع المنطرة، نظراً لإطلالته المميزة على الساحل الفينيقي الجنوبي وإشرافِهِ على حركة النقل والإنتقال في هذا الساحل، ومنها الحركة العسكريَة، فمؤهَلٌ للعبِ هذا الدور في التاريخ. ولقد كشفَتْ الحفرياتُ الأرخيولوجية (الأثرية) عن آثار برج حراسة أقامَهُ الصليبيون في المكان الذي يقومُ فيه اليوم البرجُ الحاملُ لتمثال والدة الإله والذي بُني سنة 1963.
وصف المقام وجواره
المقامُ هو عبارةٌ عن مغارةٍ صغيرةٍ يبلغُ أقصى طولها حوالي خمس عشرة متراً، وهي تجويفٌ صخري كلسي كانَت له فتحة علوية سمحَت بإكتشافه في مطلع القرن الثامن عشر من قبل أحدِ الرعاة في المنطقة. حُوِّلت المغارة إلى مزارٍ تقامُ فيه الصلوات والقداديس، خاصة وإنَّ حفرة في جداره الشرقي قد جُهزَت لتصيرَ شبه مذبح يحملُ الأسرارَ المقدسة.
وإلى جانبِ هذه المغارة الرئيسية، يقعُ تجويفٌ أصغرُ حجماً وعمقاً يُستعمل لمراسم العماد المقدس.
أما مدخلُ المغارة فقد أعِدَّ لإستقبال الزائرين ببناءِ رواق صغير بقناطرَ ثلاثة، تبرعَ بها أحدُ أثرياء صيدا من آل أبيلا ( جــاك ابيلا قنصل انكلترا في صيدا) سنة 1868 وفاءً لنذر قطعه للعذراء على شفائه من فالج. تحيطُ بالمقام ساحةٌ واسعة تسمحُ بتجمعاتٍ بشرية كبيرة وتُستعملُ في المناسبات الدينية السنوية، وخاصة في إحتفالاتِ المقام بعيد ميلاد السيدة العذراء في الثامن من أيلول.
وضع على مدخل المغارة الجنوبي تمثال صخري رائع الجمال للعذراء مريم وهي جالسة تنتظر ابنها المسيح وتلاميذه. ولقد كتب على لوحة وُضعت فوق رأسها عبارة “أنتظر أولادي” باللغات العربية والفرنسية والانكليزية.
بالقرب من المغارة شيّد برج عالٍ يصل ارتفاعه الى 28 متراً، يعلوه تمثال برونزي للعذراء مريم وهي تحمل طفلها على ذراعيها. صُنع التمثال في إيطاليا من البرونز الكامل ويبلغ ارتفاعه ثمانية أمتار ونصف متر، فيمكن رؤيته بوضوح من الطريق الساحلية التي تربط العاصمة بيروت بالجنوب. في موقع البرج، ينتصب برج صليبي قديم كان قد بناه الملك الفرنسي لويس التاسع. وفي أسفل البرج شيّدت كابيلا جميلة زُينت بلوحة زيتية كبيرة تمثّل العذراء مريم جالسة عند مدخل المغارة، والسيد المسيح في وسط الغمامة يضع يده على رأس ابنة المرأة الكنعانية التي شفاها، اضافة الى مشهد راعي القطيع يحمل على كتفيه النعجة التي سقطت في ثقب سقف المغارة وساهمت بالكشف عنها.
سُهمدَت الأرضُ فوق المقام لتصيرَ ساحة واسعة تصلحُ للتجمعات البشرية الكبيرة ولوقوف السيارات. وإلى شرق هذه الساحة كنيسةٌ جديدة، مساحتها ألفٌ ومئتا متر، زُينَت واجهتُها الغربية بفسيفساءِ حديثة تُمثلُ بشارةَ العذراء.
وهي بازيليك ضخمة تتسع لـ1200 شخص و تعدّ تحفة جميلة بموقعها وهندستها وأيقوناتها المصنوعة من الموزاييك في إيطاليا.وفي أسفل البازيليك ثلاثة طوابق تضم موتيل ومكاتب وقاعات ستكون مجهزة لخدمة الزوار ، مسيحيين وغير مسيحيين ممن يقصدون مزار “سيدة المنطرة” من لبنان ومن مختلف البلدان المجاورة ومن كل أنحاء العالم، ملتمسين شفاعة ” سيدة الانتظار” وبركاتها .
وأصبح درب المزار مسيرة حج، بعدما جهّز بعشر محطات موزعة على مسافة 300 متر، يتضمن كل منها مشهداً منحوتاً على لوحة حجرية تمثل الأحداث التي ذُكرت في الكتاب المقدّس والتي جرت في لبنان. في ما بعد، أضيفت محطتان، الأولى تتضمن رسوم قديسين لبنانيين معاصرين؛ والثانية، تتضمن خريطة لبنان وصورة البابا يوحنا بولس الثاني مع كلمته الشهيرة: “لبنان هو أكثر من بلد، لبنان رسالة”.
الخدمات الدينية التي يقدمها المزار الى المؤمنين
– في فترة الصيف، يُقام كل يوم قداس مسائي في المزار عند الساعة السادسة مساء . أما في الآحاد والأعياد، فتُقام قداديس في الصباح والمساء، ويؤمّن كاهن المزار للزوار القداسات خلال النهار للراغبين . كما ويؤمّن لهم الاعترافات للتوبة عن خطاياهم. علماً ان في المزار نعمةًًِ خاصة لمن يطلب التوبة حيث يختبر التائب ليس فقط سلامه الداخلي ، بل أيضاً فرح مريم الأم ، لأن البشارة التي حملها يسوع وانتظرته مريم خلال ايصالها للناس تكون قد أثمرت فعلاً، وتفرح معها السماء والأرض . كما أنّ المزار يؤمّن للمؤمنين سائر الخدم الروحية من صلوات وإرشادات ولقاءات ، والرتب المقدسة لا سيما منها العماد والزواج .
– أما عيد ميلاد السيدة العذراء في ٨ أيلول، فله طابع خاص في سيدة المنطرة،كما في بلدة مغدوشة التي يقام فيها التراث التقليدي في كل سنة والمعروف ب”كروم الشمس” . ويدوم أياماً عديدة يقصده الناس من كل الأنحاء . في المزار تتواصل الاحتفالات الروحية المتنوعة على مدى 8 أيام متتالية ، يشارك فيها جمهور المؤمنين من كل المناطق اللبنانية، وهي تتّسم بالخشوع والصلاة، للتذكير بأن المنطرة تقودنا إلى يسوع . أما مساء العيد ٧ ايلول ، فتصل الإحتفالات الى ذروتها ، حيث تقام صلاة الغروب في كنيسة رعية السيدة في مغدوشة لينطلق منها موكب المؤمنين بالمشاعل في زياح حاشد أشبه بالمهرجان الكبير الى مزار السيدة ، و يترأّس راعي الأبرشية القداس الاحتفا . تستمر الصلوت طوال الليل بحضور عدد كبير من الكهنة يؤمّنون الاعترافات والقداديس.
وفي يوم العيد تستمر القداديس طوال النهار. درجت العادة أن تلي القداس المسائي رتبة مسحة الزيت على نية المرضى، مع زياح ايقونة السيدة العذراء.
اخيرا لا بد من الاشارة الى تعاظم رسالة مزار “سيدة المنطرة” ، في موازاة تنامي الوعي لدى جميع العائلات الروحية اللبنانية بالقيم الوطنية المشتركة في ما بينهم ، خصوصا بعد ان اعلنت الدولة اللبنانية يوم الخامس والعشرين من اذار عيدا وطنيا جامعا ، تحت عنوان ” بشارة السيدة مريم العذراء “، (المرسوم الحكومي اللبناني رقم ١٥٢١٥ الصادر بتاريخ ١٥/٩/٢٠٠٥) ، ما يعزز ضمنا ذكرى زيارة السيد المسيح الى منطقة صور وصيدا برفقة عدد من الرسل والتلاميذ وأمه السيدة مريم العذراء ، كما أكدت ذلك تعاليم المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني [وثيقة “في عصرنا” : Aetate Nostra ] ، وحيث من المتوقع ان يكون عيد البشارة مناسبة مميزة للقاءات حوارية متنوعة بين جميع اهل البيت اللبناني الواحد حول كل ما يجمع بينهم ومما هو اعمق من الشؤون الدنيوية وحسب ، عنينا القيم الروحية والانسانية المشتركة التي تمثلها شخصية ” مريم المنتظرة ” ، المؤمنة والخادمة والمباركة “والممتلئة نعمة”.