محابس حردين المقدسة في جبال البترون
حردين… لوحة من القداسة والتاريخ
صخرة الإيمان وبلدة القديسين
حصن روماني في أعاليها وآثار الإنـــــسان الأول في مغـاورهــــا
ذاع صيت أبنائها في جميع الأنحاء فنشرت عطر قداستها في العالم… على تلالها اختار الرومان بناء معبدهم، وفي بلاطتها الشهيرة تحجرت الأسماك والحيوانات البحرية؛ هي حردين البترون، بلدة الثلاثين كنيسة وديراً، وبلدة المقدم بنيامين الحرديني، وحاضنة الكهوف والتجويفات الصخرية والنواويس الفينيقية… هي اليوم مركز الحدث وبلدة القديس نعمة الله الحرديني الذي وصل بتقواه الى حدود القداسة… حردين بلدة معروفة في التاريخ وآثارها العديدة والمتنوعة تدل على أقدميتها في جبل لبنان منذ الفينيقيين.
تقع حردين في قضاء البترون، وتبعد 80 كم عن العاصمة بيروت، وهي تتميز بعراقة تاريخها وأهمية معالمها الأثرية.
يعود تاريخ البلدة الى عصور ما قبل التاريخ حيث استوطن الإنسان القديم مغاورها وكهوفها الطبيعية وخصوصاً تلك الواقعة في وادي كفرشير المطلّ على نهر وسهل الجوز فوق كفرحلدا وبيت شلالا.
كما وينتشر في البلدة عدد من المدافن التي تعود الى الفترة الفينيقية، وأطلال المعابد القديمة خصوصاً في محلة “المحليصة والرام”. و عُثر في الوادي على ثلاثة تجويفات صخرية ضخمة ومجموعة من الثقوب المربعة المحفورة في الصخر، وخزّان كبير للمياه وقناة جر وأدراج ومقاعد، حُفرت في الصخر وبطريقة متقنة. ونظراً لأهمية موقعها وتلالها المرتفعة المشرفة على المنطقة، اختار الرومان أعلى تلالها لبناء أحد أضخم معابدهم.
وتعتبر حردين أول قرية عرفت المسيحية في جبل لبنان، بشهادة المؤرخ الأب اليسوعي لويس شيخو. فشُيد فيها عدد كبير من الكنائس والأديرة التي يصل عددها إلى الثلاثين. وهي تحتضن أحد مراكز البطريركية المارونية، وقد عاش فيها أربعة بطاركة على مدى 140 سنة، واستقرت فيها، أيضاً، أول حبيسة في لبنان. وتشتهر حردين بكونها بلدة القديس نعمة الله الحرديني الذي وصل بتقواه الى حدود القداسة.
“حردين” اسم مشتق من اللغة السريانية ، وهو يعني “الناس خائفون” ،’ في اشارة الى الاشخاص الذين يحترمون و يخشون الله ويعني الورعون، الواجلون والخائفون على الإيمان، كما تعني النظر في الدين، ويفسّرها آخرون بأنها تعني حارة الدين أو حار في الدين. ويقول مؤرخون بأن اسمها ورد “حردونا” في لوحات الحثيين من القرن الثالث عشر قبل الميلاد، و”حردو” باللغة العربية على هامش أحد الكتب المقدسة في العام 1245 م. لذلك ورد ذكرها قولاً وكتابة: “حردين صخرة الإيمان والدين، بلدة القديسين والكنائس الثلاثين”.
تعدّ بلدة حردين من المناطق اللبنانية التي تحلو زيارتها لما تحتويه من معالم تاريخية وأثرية شاهدة على أهميتها التاريخية والدينية. كما وأنها تتمتع بجمال طبيعي مميز فتستقبل حردين محبي المشي في الطبيعة في ربوعها وغابتها الخضراء حيث أشجار السنديان والصنوبر تغطي المكان، وهي توفر بسبب موقعها مشاهد طبيعية وبانورامية مذهلة تسمح بتأمل جمال طبيعة لبنان بجبالها ووديانها وبحرها الأزرق.
في حردين حفر الأب صالح المحابس تحفاً هندسية
اشتهرت حردين بمحابسها الصخرية القديمة التي تعود إلى بدايات عهد التنسّك.
ظاهرة المحابس التي شيدت حديثاً في نخاريب جبل حردين ومغاوره القائمة في الاطراف الشرقية الجنوبية المطلة من علو شاهق على قرى وبلدات جبة بشري وجرود بلاد البترون شرحها الدكتور رفيق باسيل فقال: انه يصح اطلاق تسمية جبل المحابس او قرية المحابس على تلك الناحية، مشيراً الى ان الفضل في تأسيسها »
يعود الى احد الكهنة الحرادنة الاب يوسف صالح الذي يقوم بتأهيل المحابس بمعاونة بعض العمال والشبان المتطوعين من ابناء حردين وقرى الكورة والبترون وبشري ودير الاحمر والمتن وجبيل. وهذا الكاهن الشاب يوسف لا ينفك مواظباً من دون كلل او ملل على السهر والاختلاء في تلك المحابس المعلقة بين الارض والسماء. وتحدث »الكاهن القديس« (الاب يوسف صالح) عن حلمه الكبير ببناء »قرية المحابس« من خلال بناء محابس جديدة والتفتيش عن مغاور وكهوف نافرة او مختبئة تحت الصخر، مشيراً الى ان المحابس التي شيدها هي على اسم سيدة الشير وجميع القديسين ومار مارون ومار فرنسيس الاسيزي ومار ضوميط والعنصرة او الروح القدس.
تجدر الاشارة الى ان محبسة مار سركيس القرن القائمة بأرض حردين لجهة الشمال الشرقي في احد التجويفات المطلة على بلدة قنات، قد عرفت اولى الحبيسات اللبنانيات وهي سارة الحردينية التي مر ذكرها بخط البطريرك ارميا العمشيتي عندما كتب على هامش الانجيل الثاني المذكور في المكتبة الميديشية بأنها توفيت برائحة القداسة في العاشر من شهر آب 1199م في هذه المحبسة. اما اول حبيس لبناني مر ذكره لدى البطريرك اسطفان الدويهي فكان يوحنا من بلدة »قنات« جارة حردين سنة 1228م. والملاحظ ان عشرات المحابس المنتشرة بأرض حردين ما زال معظمها صامداً في تجويفات الجبل وأوديته، ومنها محبسة مار سركيس القرن التي يمكن الدخول اليها اما بواسطة الحبال او عبر مسلك خطير، وتتكون من كنيسة صغيرة ذات شرقية نصف دائرية متقنة البناء.
اما اقدم تلك المحابس فهي على اسم سيدة القلعة القائمة في نفس شير الجبل الى الشمال من قرية المحابس وهي تقع في وسط شير معبد حردين، وتتضمن مزاراً على اسم سيدة البزيزات وحولها تدور أسطورة هدداية سكان المنطقة على يد ابنة ملك حردين الوثني صاحب القصر.
وقد اصبح الصعود اليها سهلا من جهة بلدة نيحا عبر ادراج صاعدة وتتألف من كنيسة قائمة داخل التجويف وبجانبها تجويف آخر فيه عين ماء نابعة في جرن صخري، وحول سيدة هذه المحبسة تدور رواية اهتداء اهل الجبل الى الدين القويم على يد ابنة ملك حردين الروماني في القرن الخامس الميلادي. ومن المحابس المعروفة هناك ايضاً محبسة دير مار فوقا الاثري، ومحابس التجويفات الكبرى في وادي كفرشيرا الى الجنوب الغربي من مرج الرام، وهي على اسم مار يوسف ومار يعقوب اخو الرب ومار افرام السرياني والقديسة حنة وسيدة الفخار، وهذه الاخيرة كانت مخصصة لسكن الراهبات المحصنات في القرون الوسطى الميلادية. وفوق هذه المحابس في الشير نفسه ما زالت محبسة دير مار اسطفان الاثري شاهدة على تجذر الايمان من علو شاهق فوق سهل كفرحلدا ونهر الجوز. ولا تزال محبسة مار تقلا المسماة مغارة الحرديني قائمة في الشير المنتصب بين كنيسة مار تقلا في حارة بيت كساب، ودير مار يوحنا الشقف الاثري، والآثار الباقية عند هذه المحبسة تدل على عبادة الاله »ايل« الفينيقي، عدا المحابس المحيطة بأرض حردين وهي محبسة مار انطونيوس في الشير القائم على مجرى نبع مار شليطا قنات فوق مزرعتي بني صعب وعساف ومحبسة مار يعقوب ومحبسة مار شليطا قنات الشهيرة بنبعها الغزير الذي يغذي نهر العصفور، ومحبسة مارجرجس في شير جبل حردين بأرض كفور العربي. يذكر أيضا من المحابس التي يؤمها المؤمنون بكثرة: محبسة الوردية , عمود مار سمعان, محبسة القديسة ريتا, محبسة الحبل بلا دنس (الشير) ومحبسة جميع القديسين التي تقع إلى جانب كابيلا قلب يسوع الأقدس والتي تحوي تمثال قلب يسوع الشهير.
تكاد تكون حردين في أعالي جرود البترون قرية الحكايات، فيها أكثر من ثلاثين هيكلاً ضخماً ومغارة وكهفاً وديراً وكنيسة. قيل عنها إنها أول قرية عرفت المسيحية في جبل لبنان.
في ظل سنديانة دير مار فوقا أقدم أثر مسيحي في جبل حردين، وعلى مقربة منه بنى الأب «يوسف صالح» صومعة تعتمد في هندستها الطراز اللبناني القديم، يعيش فيها الحياة على طبيعتها بعيداً من المدنية.
وعلى بعد كيلومتر واحد صعوداً، وعلى طريق متعرج ضيق، بنى الأب صالح في أعلى جبال حردين وحفر بين صخورها المعمّرة الشاهقة أكثر من ثمانية محابس حملت أسماء قديسين.
عمل الأب صالح في تلك الأرض لأكثر من 15 سنة في ظروف صعبة وخطرة، ويقول «منذ صغري وأنا هنا في هذه الأرض المقدسة ونَمت معي محبة الطبيعة وشعرت بدعوة للتكرس لله وقد سعيت إلى أن أكون راهباً عدة مرات لكن الظروف العائلية حالت دون ذلك الى أن تعرّفت بالإخوة في دير الأحمر ثم تسنّى لي ان أرتسم كاهناً على يد المطران جبرايل طبيا وبقيت ثلاث سنوات في طرابلس الى ان نقلت الى أبرشية البترون المارونية وسمح لي راعي الأبرشية المطران بولس اميل سعادة ان أبقى في دير مار فوقا الأثري لأعيد ترميمه وأعمل على بناء المنزل المهدم والمحابس».
ويلفت الأب صالح إلى أنه «من الصعب جداً بناء المحابس، كانت هناك أيدٍ خفية تساعدني باستمرار وسأتابع عملي في بناء المحابس» . يتابع الأب يوسف اهتمامه وشغفه في بناء دير الثالوث الأقدس الخاص بالحياة الرهبانية والخدمة الاجتماعية.
«أحداث روحية» عديدة يشهدها هذا المكان المقدس ويتوافد إليه الزوار بالمئات من كل المناطق اللبنانية والطوائف للصلاة والنذورات وسط أجواء من الخشوع والايمان والفرح التي ترافق حدوث «الأعاجيب والشفاعات». ويبحث الزوار دائماً عن إجابة للسؤال: كيف «تمكن هذا الرجل من حفر ونحت وزخرفة هذه المحابس».
في المحابس المدهشة التي حفرها بيده يحلو للأب صالح الحديث عن خياراته في الحياة فيقول إنه اختار التنسّك لأنه «في الأساس طريق للاختلاء بخالقي، والناسك هو رسول بحد ذاته ويستقبل الزوار لأن القداسة «مغناطيس» يجذب النفوس الى الله»، ويضيف «للعيش بسلام علينا العودة الى ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا من البساطة في الحياة والحفاظ على التراث والعودة الى الجذور الأساسية أياً كان ديننا أو طائفتنا أو مذهبنا».
وحول كيفية تمويل نشاطاته يقول «أتّكل على العناية الإلهية ومساعدات الخيّرين والزوار الذين يدعمونني مادياً لأستطيع ان أتابع مسيرتي، وقد رأيت أحلاماً عند بدء دعوتي فعلمت انها علامات من الله لم أستطع تحديدها وقتها الى ان بدأت بمشروع بناء المحابس».
في حردين حفر الأب صالح المحابس ليختلي فيها أحياناً أو يستقبل زواراً أحياناً أخرى، لكنه أرادها مكاناً يعيش فيه ناسكاً، لكنه في الوقت نفسه ينشئ بصبر وتفانٍ مقصداً للسياح وعشاق الفن والتراث، فمحابسه هي أيـــضاً تحف هندسية ستُحفظ في ذاكرة لبنان.
المصادر:
جريدة النهار
جريدة الأخبار
التاريخ: 2002-03-19 رقم العدد:9153
حردين قرية الحبساء
st_rafqa