دير القدّيسين بطرس وبولس – قطّين
(تأسس سنة ١٧٦٠، عيده في ٢٩ حزيران)
مطلع آذار ١٧٦٠، بعد ستّة عقود من نشوء الرهبنة الأنطونية، وَهَبَ المطران جبرائيل عوّاد الرهبنةَ الأنطونية آنذاك ديرَ الرسولَيْنِ مار بطرس وبولس – قطّين في عاصمة الجنوب المسيحيّة جزين، وعلى مرّ السنين، خدم الأنطونيون في هذا الدير ووسّعوه وحمَوه من غدرات الزمن ليمرَّ قرنٌ بحاله على تسلّمهم أمانةَ دير الرسولَيْن وترخيَ مجازر عام ١٨٦٠ دماءَها وعبثيّتَها في جزين فتصيب الدير دمارًا وخرابًا وحرقًا وتُحوّلُ مزروعاته هشيمًا ويباسًا.
وكما بعد كلِّ انكسار قسريٍّ تقفُ الأنطونية على مذابحها بإرادة روحيّة وعزيمة رهبانيّة، هكذا عاد الآباءُ المهجَّرون ومَن بقي منهم على قيد العمر ليرمّموا ما صار “قاعا صفصافا” أشبه بدير، بل بمشروع بناءٍ عليهم إعلاؤه صوبَ الرب وتحت عينه. وما لبثتِ الحجارةُ الجديدة أن تآخت وتربةَ الدير الرسوليّ، وامتدّت عاليةً لتعيدَ للمكان مكانتَه، وتبدأ نهضة نوعيّة تربوية للأنطونيّة تجلّت عام ألفٍ وتسع مئةٍ وتسعة (١٩٠٩) بمدرسة مختلطةٍ للأحداث تابعة للدير تدرّجت نشأتُها التصاعديّة حتى ذروتها عام تسعة وثلاثين (١٩٣٩) بتسجيل عدد كبير من تلاميذ القرى الجزينيّة والمحيطة، إلا أنّ الطبيعةَ غيرَ الرحومة هدّت أركانَ الدير من جديد عام (ستة وخمسين) ١٩٥٦ بزلزالٍ ضرب لبنان وخرّب مزرعةَ القطين، وبما فيها ديرُ مار بطرس وبولس، وكأنّه كُتبَ كلَّ مئة عام على هذا الدير أن يُصابَ بنكبة في بنائه تحملُ آباءه كلّ مرّة على إعادة لملمة ما تشظّى وما تشلّأ فيه ليرسموا له هندسةً جديدة ويرمّموه بغرف إضافيّة مستصلحين الأراضي في الجوار بهدف إبقاء الأقدام المسيحيّة في تربتها بدلًا من الأقدام التهجيريّة، ولتعملَ أيدي الأسَرِ المسيحيّة في الأرض زرعًا واخضرارًا وتقتاتَ من عجينةِ رغيف التراب رغيفًا سماويًّا.
ولترسيخ هذا الهدف لجأ الأنطونيون الى فرز أراضي الدير وبيعِها من المسيحيين لإبقاء أبناء الكنيسة في محيط كنيستهم وأرضهم الأمّ وهُويّتهم الدينيّة، ودرءًا للهجرة بل التهجير الإضافي الممعنِ في تشريد شعب الكنيسة بالتكافل مع حرب تشطب عن الـهٌويَّةِ الأسماء طائفيًّا.
ما سعى اليه الأنطونيون في أراضيهم لم يَجرِ بما تشتهيه مواسمُ الحرب إذِ ازداد الرحيل عمقًا ولم يتشجّع المسيحيّون الخائبون من أوضاعهم المزرية ليشتروا أرضا ويستثمروها أو يبنوا بيوتا قرب الدير مع ما وفّره الديرَ من جرٍّ للماء الى المنطقة والقرى المجاورة في صيدون وحيداب، كما عَمَدَ الرهبان من خلال الحرب اللبنانيّة والاحتلال الاسرائيليّ على الاهتمام لفترة طويلة بعائلات المنطقة.
ومع انتهاء الحرب الأهليّة وعشيةَ تحرير الجنوب لاحت أزمةٌ أخرى في الدير عام تسعةٍ وتسعين (١٩٩٩) بتسرّب المياه الى أساساته وتعرّضه للتداعي، فعَمَدتِ الرهبنة الى تصليح ما خُرِّبَ تفاديا لخراب أكبر، فخلعت على الدير أبهى حلّةٍ من المدخل والقناطر المستحدثة، والصالونات المكحَّل حجرُها، الى الباحة الداخلية والغرف، كما رُمِّمتِ الكنيسة، كنيسة الرعية كلها، وثبّت في الخارج مذبح تتسعُ باحتُه للمناسبات الكبرى على وقع جرس نفاعيّ صُنِعَ في بيت شباب ورُفع على القُبّةِ الجديدة للكنيسةِ وصليب المجد في الأوّل من حزيران عام ألفين واثني عشر (٢٠١٢) وسط غابة من الاشجار المسبِّحةِ الله صبحا ومساء.
وجلبت للكنيسة لوحة إيطاليَة لمار بطرس وبولس مع الذخيرة الرسوليّة. سنة ٢٠١٧ بنيت بقرب الدّير محبسة مكرّسة لمار يوسف حارس الفادي.
هناك في تلك الأفياء الرّبّانية استظلّت محبسة جديدة على اسم القديس يوسف وضمّت الى سكونها الحبيسَ الأنطوني الجديد الاب روجيه وهبه في الثاني عشرَ من تشرين الثاني ألفين وستّة عشَر (٢٠١٦) لتبدأ من جوار محبسة دير مار بطرس وبولس القديمة العهد رحلة المحبسة الجديدة الشقيقة وتتعالى صلوات وتأمّلاتٌ ترقى الى مسامع الله من راهبٍ نذرَ ترهّبَه للتنسّك بعد مسيرة مديدة من العطاء الرّهبانيّ.
وليس التنسّك بغريبٍ عن عالم هذا الدير، فهو منذ قرنين ونصف القرن يُحيِي بأسرتِه الرّهبانيّة الأنطونية المنطقةَ وأهلَها إرشادًا ووعظًا ولقاءاتٍ روحية، ويلتمُّ تحت سقف كنيسته الناسُ باعتبارِها رعيَّتَهم وملاذَهم ولقاءَهم بالله وبابنِه ربِّنا يسوع المسيح في الآحاد والمناسبات والاعياد… كما شكّلَ بوجوده دلالةً دامغة على البقاء المسيحيّ ووجودِ المسيحيّين اللابدَّ منه في جزين وفاءً لذاكرة من سقطوا وأُهدِرَت دماؤهم في أرض جنوبيّة، وفاءً لأصوات من استغاثوا بالنجاة من الحرب فسدّدوا باستشهادِهم الديون عن الأحياء وأردَوا عنهم الخطر. ولا يزال دير مار بطرس وبولس يلاقي أصواتهم ووجوهَهم الباقية في ملامح أبنائهم وأحفادهم بالصلاة ورفعِ النوايا وقرعِ الأجراس إيذانا بأنّ الروحَ المسيحيّة باقية وراسخة ودائمة ببركة رهبان أصرُّوا على البقاء، ولإعلاء شأن الدير والرعية في نهج يلاقي الأنطونية ومبادءَها منذ تأسيسها الى أيَّامنا، ويثبت انها حيثما حلّت دَيْرنَت معها الترابَ والجوارَ والناس وارتفعت شهادةً مسيحيةً ودلالة لبقائها.
رئيس الدير وخادم رعية الدير: الأب فيلمون سلوان
قيّم الدير: الأب بطرس عاقوري