النبيّ إيليّا “الغيور”… شخصيّة عابرة للعصور في جرأتها وأمانتها لله
في العشرين من شهر تمّوز، تُحيي الكنائس الشرقيّة عموماً (الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة) تذكار النبيّ العظيم إيليّا “التشبيّ” (الملقّب بالغيور). وهو أحد أبرز الوجوه النبويّة على الإطلاق في “العهد القديم”، ومن الأبرز أيضاً على صعيد الإكرام الشعبيّ للقديسين. وردت أخبار رسالته النبويّة بشكل رئيسيّ في سفر “الملوك الأول” وبداية سفر “الملوك الثاني”.
***********************************************
أولاً – سيرة حياته ورسالته النبويّة:
إن إسمه يعني “الله هو إلهي” أو “إلهي يهوه” (إلهي هو “الذي هو”)… وهو من مواليد “تشبة”، الواقعة على مرتفعات جلعاد شرقيّ الأردن، في القرن التاسع ق.م. أمضى أعواماً عديدة يعيش في البريّة، وكان يلبس رداءً من الوبر وزناراً من الجلد (وسوف نرى نمط العيش هذا يتكرّر مع النبيّ السابق يوحنا المعمدان). ظهرت دعوته النبويّة في مملكة إسرائيل الشماليّة، على عهد الملك آحاب، الذي تخلّى عن عبادة الله الحيّ بتحريض من زوجته الملكة إيزابيل الفينيقيّة (الوثنيّة). ودعا الزوجان الشعب إلى عبادة آلهة “البعل” و”عشتاروت”، فكان أن وقف إيليّا بوجههما بدافع “الغيرة للربّ إله الصبؤوت” (لذلك لُقِّبَ بالغيور). فقام بأمر ربّاني بالدعاء من أجل حبس الأمطار لمدّة ثلاث سنوات ونصف، وهكذا كان، حتى عمّ الجفاف البلاد بأسرها.
عندها، توجّه إيليا إلى ضفاف نهر كريت مقابل الأردن، حيث أمره الربّ، وكانت الغربان تأتيه بالطعام، إلى أن جفّ النهر (1مل 17: 1-7). فإنتقل إلى صرفت صيدا، حيث حلّ ضيفاً على إمرأة أرملة وإبنها الوحيد. وأجرى الربّ على يديه آيتين، الأولى هي عدم نفاذ الدقيق والزيت من منزل المرأة طوال فترة الجفاف، والثانية بأن أعاد إبنها إلى الحياة بعد صلاة إيليّا الحارّة (1مل 17: 8-24).
عند إقتراب نهاية فترة الجفاف (في السنة الثالثة)، واجه إيليّا الملك آحاب مؤنّباً إياه على عدم أمانته لإله “إسرائيل”، كما واجه الشعب طالباً إليه العودة إلى عبادة الإله الحيّ، إله آبائه، وليس الآلهة الوثنيّة. وفي هذا الإطار، تحدّى الملك وكهنة “البعل” (الاربع مئة والخمسين)، بأن يأتوا بثورَين على جبل الكرمل، واحد يُقدّمه كهنة “البعل” إلى المُحرقة دون إشعال النار، والآخر يقدّمه هو إلى المُحرقة دون إشعال النار أيضاً. فبدأ كهنة “البعل” يُصلّون من أجل إستنزال النار على ذبيحتهم، وأطالوا في الصلاة… دون جدوى. مما جعل إيليّا يسخر منهم ومن آلهتهم. ولما جاء دوره في الصلاة، صلّى بحرارة إلى الربّ الإله، فنزلت النار من السماء، ملتهمةً الذبيحة وحجارة المُحرقة. فذُهل الشعب الحاضر، وطفق يصرخ “الربّ هو الله، الربّ هو الله”. فأنزل إيليّا العقاب بكهنة “البعل”، بمؤازرة من الشعب (1مل 18: 17-40). وبعد ذلك، صلّى إيليّا على جبل الكرمل، فهطلت الأمطار بغزارة وأخرجت الأرض الثمار.
حنقت عليه الملكة إيزابيل بسبب قتله كهنة “البعل”، وصمّمت على قتله. فتوجّه جنوباً إلى بئر السبع، يائساً وبائساً، فأرسل الله له ملاكاً يشدّده ويُقيته. وبدأ مسيرة أربعين يوماً (وهو صائم) أوصلته إلى جبل حوريب (جبل سيناء)، وهي إحدى الإشارات المُسبقة إلى الصوم الأربعينيّ. هناك هبّت ريح عاتية، ولم يكن الربّ الإله فيها. ثم حدثت زلزلة عظيمة، ولم يكن الربّ الإله فيها. بعدها، شبّت نار قويّة، ولم يكن الربّ الإله فيها أيضاً. أخيراً، مرّت نسمة عليلة، من خلالها كلّم الربّ الإله إيليّا، موكلاً إليه أن يمسح ياهو ملكاً على إسرائيل وليمحو شرّ بيت آحاب وعبّاد “البعل”، ويمسح حزائيل ملكاً على آرام، ويمسح أليشع نبياً لخلافته (1مل 19: 1-18).
ولكي لا نغوص في تفاصيل سيرته اللاحقة، نقول إنه تنبأ بموت آحاب وإيزابيل بسبب الشرور التي فعلاها بميتة شنيعة. وبعد آحاب، كانت له مع أحزيا (إبن آحاب) صولات وجولات، من خلال الفصائل العسكريّة التي كان يُرسلها الأخير إليه لجلبه، إلى أن واجه الملك وأنبأه بموته الوشيك عقاباً له، وهكذا كان.
في غروب حياته، ذهب برفقة تلميذه أليشع إلى نهر الأردن، فضرب النهر بردائه شاقاً إياه، وعبراه على أرض يابسة (ما يُذكّرنا بموسى وعبور البحر الأحمر). وفيما هما يسيران ويتكلّمان، إذا بمركبة من نار وخيل من نار فصلت بينهما، فصعد إيليّا في العاصفة إلى السماء. وكان أليشع يرى ويصرخ “يا أبي، يا أبي، مركبة إسرائيل وفرسانها”. ولم يعد يراه بعد ذلك (2مل 2: 1-15). وبقي بين يديه رداء إيليّا الذي سقط عنه، فإستخدمه لشقّ النهر، وهو ما أشاع القول بأن “روح إيليّا قد إستقرّت على أليشع” (وهذا القول سيعود على لسان الملاك حين البشارة بولادة يوحنا المعمدان).
وهنا، لا بدّ من كلمة بالنسبة لموضوع شائك يتكرّر طرحه كثيراً عند المؤمنين، ألا وهو “صعود إيليّا حيّاً إلى السماء”، واللقب الملازم له “مار الياس الحيّ”. الجواب واضح وبسيط، فالكتاب المقدّس ليس كتاب تاريخ، وبالتالي هدف الكاتب المُلهَم هو نقل فكرة لاهوتيّة معيّنة أو تعليماً لاهوتيّاً معيّناً، من خلال الأحداث التاريخيّة. وهذا ينطبق على كتب العهدَين، القديم والجديد. في ما خصّ النبيّ إيليّا، إن رواية “صعوده حيّاً إلى السماء” ليست سوى صورة لإستمرار “روح الغيرة والجرأة” اللتين ميّزتا شخصيّته ودعوته النبويّة، هذه الروح المشتعلة التي “ورثها” تلميذه أليشع، وسوف تظهر فيما بعد في شخص يوحنا المعمدان. أي أن غيرته وجرأته هما مُستمرّتان عبر الزمن. إن إيليّا كان رجلاً بارّاً، لذلك فإن “البارّ بإيمانه يحيا” (حب 2: 4)، وأيضاً في (رو 1: 17) و(غل 3: 11) و(عب 10: 38). والحقيقة أن الموت الجسديّ هو واقع، على كل إنسان أن يواجهه يوماً. خاصة أنه “لم يصعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء…” (من حديث الربّ يسوع لنيقوديموس في يو 3: 13).
————————————————
ثانياً – النبيّ إيليّا في زمن “الحدث المسيحانيّ”:
على غرار بعض أنبياء “العهد القديم”، ورد ذكر النبيّ إيليّا في كُتُب “زمن المجيء وتحقيق النبوءات” (أي “العهد الجديد”)، في محطّاتٍ عديدةٍ، نستعرض أهمّها… نبدأ بالإشارة إلى أن الإعتقاد السائد آنذاك، كان أن إيليّا لا يزال حيّاً، وأنه سيعود شخصيّاً ليُمهّد الطريق لمجيء “المسيح المنتظَر”. وذلك الإعتقاد كان مبنيّاً على الآيات الختاميّة لسفر ملاخي، آخر سفر من أسفار “العهد القديم”، حيث ورد “هاءنذا أُرسل إليكم إيليّا النبيّ قبل أن يجيء يوم الربّ العظيم الرهيب…” (ملا 4: 5-6). لذلك، حين ظهر يوحنا المعمدان في كرازته، سُئل من ضمن ما سُئل “أأنت إيليّا؟” (يو 1: 21)، فنفى ذلك (أي أنه لم يكن إيليّا شخصيّاً، بل يُجسّد دوره المُهيّىء كما ورد في نبوءة ملاخي). وعاد الربّ يسوع وأكّد فيما بعد أمام تلاميذه، “إن إيليّا قد جاء ولم يعرفوه، بل عملوا به كل ما أرادوا” (متى 17: 12) و(مر 9: 13)، ففهم تلاميذه أنه كان يقصد يوحنا. ونرى أيضاً صدى الإعتقاد الخاطىء الآنف الذكر، في حيرة هيرودس بخصوص يسوع (لو 9: 8)…
وكما “إستقرّت روح إيليّا” على أليشع قديماً، كذلك الحال بالنسبة ليوحنا المعمدان (رؤيا إيليّا وقوّته)، ولنا في كلام الملاك لزكريّا خير شاهد على ذلك (لو 1: 17). والشاهد الأهمّ كان غيرة يوحنا الكبيرة للربّ الإله في كرازته، وجرأته في تأنيب الشعب على خطاياه و”الهروب من الغضب الآتي” (لو 3: 7)، وحثه على التوبة، وجرأته في وقوفه بوجه هيرودس أنتيباس… ولا يخفى علينا بالطبع نمط عيش المعمدان، المُشابه جداً لنمط عيش إيليّا. لذا، يُمكننا بالفعل تسمية يوحنا ب”إيليّا العهد الجديد”.
وتبقى الإشارة الأهمّ إلى النبيّ إيليّا في زمن “الحدث المسيحانيّ”، وهي ظهوره وموسى إلى جانبَي السيّد له المجد، أثناء تجلّيه على جبل ثابور (متى 17: 1-8) و(مر 9: 2-8) و(لو 9: 28-36). إن موسى يُمثّل الشريعة، وإيليّا يُمثّل الأنبياء، أي أن الشخصيّتين تُمثّلان “العهد القديم” بجزئَيه. وظهورهما في هذه الصورة يؤكّد أن الربّ الإله الذي أرسلهما قديماً، أظهرهما أيضاً في حدث التجلّي، للتأكيد على أنه ربّ الأنبياء، وأن الربّ المتجلّي على الجبل إنما هو “كمال الشريعة والنبوءات”، كما للتأكيد على صدق رسالتهما وصدق كل النبوءات السابقة. والملفت أنهما أخذا يتكلّمان عن آلامه وموته، لكأنّ كل حركة تاريخ الخلاص كانت للوصول إلى هذه النقطة، أي إلى الفداء عبر الآلام والموت.
يبقى أن نُشير إلى أن بولس الرسول يذكر تضرّع إيليّا إلى الربّ، وجواب الربّ له بإستمرار وجود مؤمنين حقيقيّين، في رسالته إلى الرومانيّين (رو 11: 2-4)، كما أن يعقوب الرسول يذكره في رسالته (يع 5: 17-18)، في موضوع حبس الأمطار ثم هطولها مُجدّداً، للدلالة على فاعليّة صلاة الرجل البارّ (مع ضعفاته ككل البشر).
————————————————
ثالثاً – ماذا نتعلّم من سيرة النبيّ إيليّا ؟
إن إيليّا قد عاش في زمن صعب، تميّز بتخلّي الملك عن الإيمان بإله “إسرائيل”، إله الآباء والأجداد، والعودة إلى عبادة الأوثان. وتبعته في ذلك الأغلبيّة الساحقة من الشعب، فطبّقوا القول الشهير بأن “الشعوب على دين حكّامهم”. أما إيليّا، فقد بقي أميناً للربّ الإله، رغم كل البيئة الجاحدة من حوله، وإشتعلت فيه نار الغيرة لربّ الجنود. أكثر من ذلك، واجه بكل جرأة الملك آحاب وزوجته إيزابيل الوثنيّة، ولم يأبه لسلطة أو رئاسة أرضيّة، بل وضع الإيمان والطاعة لربّه فوق كل شيء. ودفعه إيمانه إلى تحدّي كهنة “البعل” (ال450) على جبل الكرمل، و”ربح الحرب”، فكان أن عاد الشعب إلى الإيمان بإله “إسرائيل”، الإله الحيّ وحده.
أما نحن أبناء الملكوت، فنسأل أنفسنا عن مدى أمانتنا لله. ألا نتصرّف أحياناً كثيرة كالشعب أيام إيليّا؟ فكم من المرّات نتخلّى عمليّاً عن إيماننا، ونتّجه إلى الأوثان على أنواعها وكثرتها. إن “البعل” الذي واجهه إيليّا يإيمانه بالله، لا يزال موجوداً تحت مُسمّيات مختلفة، وعلى القارىء الجيّد لعلامات الأزمنة أن يُميّزها بحكمة. زيادة على ذلك، هل نتمتّع بالجرأة اللازمة لإعلان إيماننا والتمسّك به، رغم ما يمكن أن نتعرّض له من مضايقات أو هزء أو ما شابه… إن إيليّا كان وحيداً (إلا من ربّه) في مواجهة الأوثان، ومع ذلك إنتصر بإيمانه بربّه. فالحقّ هو حقّ، ولا يرتبط أبداً بقضيّة عدديّة كي ينتصر، إذ يبقى الحقّ حقاً مهما تغيّر البشر.
إن كلاً منّا مدعوّ لأن يكون “إيليّا” بجرأته وغيرته، إذ قد نلنا ختم موهبة الروح القدس في معموديتنا وإقتبالنا الميرون. الروح القدس هو عطيّة الله الكبرى، وهو يكون معنا، يُعزّينا ويقوّينا ويُذكّرنا بأقوال الربّ يسوع لنا، فنكون مثل إيليّا وأكثر، لأنه كما المعمدان كذلك إيليّا، “إن الأصغر في ملكوت السماوات هو أعظم منه” (متى 11: 11).
وأختم بالقول إن النبي إيليّا (“الملاك بالجسد”، كما نقول في الطروباريّة)، هو من أكثر القديسين إكراماً على الصعيد الشعبيّ، بعد مريم والدة الإله بالطبع… وله كنائس ومزارات لا تُحصى على إمتداد المسكونة، وخصوصاً في بلادنا المشرقيّة (التي هو منها). لكن الأهمّ من المزارات، هو العبرة التي نأخذها من حياته ودعوته النبويّة، فنظلّ متمسّكين بإيماننا مهما إشتدّت عواصف هذا العالم…