بقاعكفرا… قرية نموذجية
كتبت كريستين الصليبي في “المسيرة” – العدد 1619
على أعلى كتف في لبنان تتربّع قرية عجائبية تفوح من زواياها رائحة القداسة لتملأ لبنان والعالم أجمع. جمالها الطبيعي ساحر لم تمسّه يد التشويه، ويد الخالق ما زالت مطبوعة على بيوتها وواجهاتها وطرقاتها. إنها بقاعكفرا، بلدة في شمال لبنان، موطن القديس شربل الذي عطّر بقداسته تاريخها وجعل منها مقصداً دينياً. عندما تمشي في شوارعها ذات الطابع القروي لن تسمع سوى أصوات التراتيل والصلوات تتردّد في صدى جرودها، فهناك يعيش شعب متمسّك باصالته المسيحية ممارساً شعائره الدينية يومياً. وعشية الاحتفالات التي تقام سنويا في البلدة لمناسبة عيد القديس شربل، تتحضّر بقاعكفرا لتصبح قرية نموذجية من خلال مشروع تنموي. فماذا عن المشروع؟ من أطلقه؟ من يقوم بالدراسة؟ وماذا يشمل من تغيّرات؟
بتاريخ 8 أيار 1828 شهدت بقاعكفرا على ولادة شربل مخلوف الذي أصبح قديساً شغل العالم كلّه وما يزال بقصّة حياته وعلاقته بالله وقداسته فتخطّى بأعاجيبه كل الأديان والطوائف وعَبَر البحور والحدود بين الدول.
تنقسم حياة القديس شربل إلى ثلاثة مراحل أساسية: الطفولة والشباب في بقاعكفرا، الترهّب في الدير، والتنسّك في محبسة عنايا. بعد وفاته بقليل بدأ هذا القديس يمطر المؤمنين والمصلّين بالأعاجيب والنعم والشفاءات وذاع صيته في العالم كلّه حتى بدأ الحجّاج يقصدون عنايا وبقاعكفرا طلباً لشفاعته. ومنذ إعلانه قديساً لم تعرف بقاعكفرا النوم يوماً إذ إنها تستقبل الحجّاج والزوّار ليلاً نهاراً قاصدين بيت القديس الذي تحوّل لاحقاً إلى دير وطالبين منه شفاعته.
أما عن تحوّل البيت الوالدي لمار شربل إلى دير فحصل ذلك على يد أول مسؤول عن بيت القديس الأب جبرايل سكر عام 1950، إذ قررت حينها الرهبانية اللبنانية المارونية شراء البيت الوالدي للقديس على أثر ظهور النور على قبره وكثرة عجائبه. منذ ذلك الحين يعيش في الدير عدد من الرهبان ينقطعون عن الناس ولا يقومون إلا بالصلاة والتدبير الروحي والاهتمام بالدير وزراعة أراضيه والحفاظ على مقتنياته.
يُنعم مار شربل على بقاعكفرا بعدد سيّاح هائل في عطلة الصيف وعطل نهاية الأسبوع وهذا العدد لا تشهده البلدات المجاورة. والمؤسف في الموضوع أنّ السيّاح يأتون فقط لزيارة الدير لمدّة نصف ساعة ثم يرحلون. لكن أحداً لا يفكّر في تمضية عطلته في هذه القرية المتواضعة لأنها غير مؤهّلة لذلك، من هنا كان مشروع تحويلها إلى قرية نموذجية وتفعيل قطاع السياحة فيها.
تعود فكرة تحويل بقاعكفرا إلى نموذجية للبلدية، وعن الموضوع تشرح الممثلة الرسمية لبلدية بقاعكفرا في المشروع المهندسة ألين نكد داوود: «بعد إنتخاب رئيس اتحاد بلديات بشري ورئيس بلدية بقاعكفرا إيلي مخلوف كانت الضيعة حينها مُهملة، صبّ إهتامه على تحسين البنى التحتية؛ ثمّ إنتُخب دورة ثانية وثالثة وكان في كلّ مرّة يعمل على جزء معيّن. بعد إنتخابه في العام الماضي وخلال أحد إجتماعات المجلس البلدي طرح مشروع إيلاء البلدية الاهتمام بالأبنية والأرصفة وترميم واجهات البيوت والحجر فقط. مع الوقت تبلورت الأمور وأصبح الهدف تحسين الضيعة وتحويلها إلى نموذجية لتصير مهيأة لإستقبال السيّاح وتحقيق تنمية مستدامة».
بعد الشراكة التي وقّعتها بلدية بقاعكفرا وإتحاد بلديات بشري مع الجمعية الفرنسية المعنية بالمشاريع التنموية «Corail» للإهتمام بمشاريع الريّ والمجارير في المنطقة، إضافة إلى إهتمامها بكل ما يتعلّق بالتنمية، أراد القيميون على المنظمة دراسة مشروع تحويل بقاعكفرا إلى قرية نموذجية.
وتوضح داوود: «إلتقى هدف البلدية مع مشروع منظّمة كوراي فكان الإتفاق على تسليمها مشروع الدراسة؛ موّلت البلدية جزءاً من تكاليف الدراسة التي وصلت إلى 300 ألف دولار فيما أمّنت الباقي منظّمة كوراي. وقد أوكلت المنظمة الدراسة إلى مجموعة من طلّاب الهندسة من جامعة Grenoble الفرنسية لأن مشروعهم للديبلوم كان دراسة منطقة قنوبين وجزء من مشروعهم كان زيارتهم لبقاعكفرا وتقديم تقرير عن شوارع القرية وإقتراحات لترميم الواجهات؛ وبعد تقديمهم الدراسة سنقيّمها ونقرّر ما هو مناسب للقرية وما هو غير مناسب».
تكاليف تحقيق المشروع لم تتحدد حتى الآن إذ إن الدراسة لم تنته بعد، لكن بحسب المهندسة داوود فإنّ تكاليف تنفيذ المشروع ستؤمنها كوراي من الجهات الأوروبية المانحة.
على رغم أنّ هذا المشروع سيحوّل الضيعة إلى معلم سياحي يقصده الناس من مختلف المناطق والدول إلّا أن البلدية تصرّ على الحفاظ على الطابع القروي الذي تحمله بقاعكفرا في كل زوايها وشوارعا وأرصفتها وتاريخها.
عندما نتحدّث عن السياحة في بقاعكفرا فهذا يعني حتمًا أن الكلام يتمحور حول السياحة الدينية وزيارة منزل القديس شربل والأماكن التي كان يتردد عليها. فهل تحوي بقاعكفرا على سياحة من نوع آخر؟ تؤكّد داوود: «طبعاً هناك سياحة من نوع آخر في بقاعكفرا، إضافة إلى السياحة الدينية هناك سياحة ثقافية – هندسية وسياحة بيئية. في ما يخصّ السياحة الدينية لن يكون محورها فقط زيارة منزل مار شربل، إذ يمكن للسائح أن يجول من المنزل إلى الكنيسة التي كان يصلّي فيها وجرن المعمودية العجائبي الذي تعمّد به القديس والمدرسة التي تعلّم فيها وتعود لدير مار حوشب وهو قديم جدّاً، والمغارة حيث كان يرعى المواشي وحيث يوجد نبع المياه المقدّسة، إضافة إلى متحف مار شربل والمشغل المُقام هناك. أما السياحة البيئية فتشمل طبيعة المنطقة والمناظر التي تطلّ عليها ومن المعروف أن بقاعكفرا هي أعلى بلدة مسكونة في الشرق الأوسط ويصل إرتفاعها حتى 1700 متر وجردها يصل حتى 3000 متر؛ إضافة إلى منتوجات بقاعكفرا الزراعية كالإجاص والتفاح والبطاطا… والمونة كالمربيّات والزعتر والكبيس… وسنعمل على تطوير صناعة العرق والنبيذ إذ يمكن توسيع زراعة وتنمية كروم العنب نظراً لطبيعة أرضها وطقسها وإشتهارها بالعنب الذي يصلح لإستخدامه في العرق والنبيذ».
اللافت في الموضوع هي السياحة الثقافية – الهندسية وتقصد بها داوود: «التعرّف إلى الطابع القروي لمنازل الضيعة التي تخطّى عمرها مئات السنوات، إضافة إلى الثقافة القروية التي ربما ستكون غريبة عن السيّاح الأجانب. تتميّز بقاعكفرا بخصائص طبيعية وتراثية أبرزها البيوت التي دفعت بمؤسسة «ذاكرة البيوت الأوروبية» لإتخاذها كبلدة نموذجية عام 1994».
في الحديث عن السياحة، فإننا بالتأكيد نتحدّث عن تفعيل ثلاثة قطاعات في القرية، وهي كما تحددها داوود: تفعيل المجتمع في الدرجة الأولى من حيث تأهيل أهالي بقاعكفرا لإستقبال السيّاح وتعلّم حسن الضيافة؛ البيئة ثانياً أي تطوير المنتوجات ومراقبة نوعيتها، وذلك سيكون بالتعاون مع الوزارات المختصّة والمحافظة على نظافة الشوارع وساحات الضيعة؛ وأخيراً الإقتصاد من حيث إنشاء مطاعم ومقاهٍ لإستقبال الضيوف والسيّاح وتأمين أماكن للمنامة لهم».
ولكن هل المقصود بالمنامة إنشاء فنادق علماً أن المناطق المجاورة لبقاعكفرا تحتوي على أهم الفنادق؟ تجيب داوود :»نحن لا نفكّر بالفنادق الكبيرة، ممكن إنشاء فندق صغير لكن بالطبع لن يكون خمسة نجوم لأنه لن يتماشى مع الطابع القروي الذي نصرّ على المحافظة عليه في المشروع الجديد. نركّز على تحويل منازل في الضيعة إلى بيوت ضيافة، بهذه الطريقة نفعّل الإقتصاد داخل القرية».
وستهتمّ الجمعية الفرنسية المتخصصة في الإنماء السياحي للقرى Tetractis بتنظيم دورات تدريبية لأهالي المنطقة لتعلّم كيفية إستقبال السيّاح بطريقة مهنية تشبه النموذج الأوروبي.
لن تكون السياحة في بقاعكفرا موسمية بل على مدار السنة لأنّ طبيعة الشمال وتحديداً الأرز ممتازة لموسم التزلّج أيضاً وبقاعكفرا قريبة من حيث المسافة من مدرجات التزلّج ما سيحمّس السائح على تمضية عطلته فيها.
احتفالات عيد مار شربل في بقاعكفرا:
من وادي النصارى في سوريا الى صحراء سيناء في مصر
تحضيراً لإحتفالات عيد مار شربل تقوم بقاعكفرا، رعية وأهالي وبلدية، بتنظيم برنامج متنوّع وغني فيه مواعيد صلوات وقداديس ولقاءات روحية ورسيتال. وقد أكد الأب ميلاد مخلوف أن «الرعية تشهد عددًا كبيراً من الزوّار الذين يأتون لزيارة منزل مار شربل الوالدي، واللافت في الموضوع هو حضور مؤمنين من خارج لبنان ومن مختلف الطوائف إذ لا يقتصر الأمر على المسيحيين واللبنانيين».
وأضاف: «كل زاوية من بقاعكفرا فيها شيء من مار شربل، من منزله إلى الكنيسة فمدرسته والمغارة التي كان يُصلّي فيها فهي تُعتبر كمحبسته الاولى. لكثرة ما تشبه بقاعكفرا حياة الإيمان والصلوات ولكثرة حضور روح هذا القديس فيها يشعر المؤمنون أحياناً بخطوات مار شربل وكأنّه يسير خلفهم».
ويعتبر الأب مخلوف أنّ «عنايا تتميّز بالقبر الذي دُفن فيه مار شربل فيتدفق المؤمنون إليها للتبرّك منه، وبقاعكفرا تتميّز بمنزله وحياته في مرحلة الصبى ما يدفع المؤمنين إلى زيارة المنطقة للتعرّف إليها. من هذا المنطلق تحاول البلدية تأمين راحة الزائر وتقديم الأفضل له. لا يتوقّف عملها عند الفنادق والمقاهي إنما هناك ورشات تأهيلية لأبناء المنطقة وهذا ضروري لمعرفة كيفية إستضافة الزوّار.
أما عن البرنامج الإحتفالي، فيشرح الأب مخلوف: «يبدأ من بداية أسبوع عيد مار شربل حتى نهايته، البرنامج يكون نفسه من سنة إلى أخرى.
إذاً تستضيف بقاعكفرا إحتفالات جميلة خلال أسبوع عيد مار شربل تجمع خلالها المؤمنين من مختلف الطوائف والجنسيات للتأكيد على أهمية رسالة المسيح وهي محبّة الآخر.
دير القديس شربل
إفتُتِحت عام 2015 أربع قاعات في دير القديس شربل في بقاعكفرا أولها كنيسة ذخائر القديسين وتضم أربع ذخائر لأربعة من قديسي الرهبنة وهم شربل، رفقة، نعمة الله والأخ إسطفان. وإضافة الى ذلك تحوي الكنيسة شرشفاً للمذبح وكتونة مضمخمة بدماء وماء القديس شربل إضافة إلى صورة السراج التي ترمز الى بيت القديس شربل والتي رسمها الفنان جوزف العلم، كما ثوب القداس الذي كان يرتديه القديس.
القاعة الثانية هي «قاعة القديس شربل» حيث يستطيع الزائر مشاهدة السراج في داخلها وهي الأعجوبة الأولى التي جرت على يد القديس شربل وهو لا يزال حيًا في دير عنايا عندما تم وضع الماء فيه بدل الزيت وقد أضاءه القديس شربل، وأكد رئيس الدير آنذاك هذه الأعجوبة. بالاضافة الى ذلك نجد على جدار صخري في القاعة عرضا لعجائب القديس شربل وتوجد أيضا مجموعة من كتبه وصوره، وهناك أيضا غرفة زجاجية تضم عائلة القديس شربل بتماثيل من الحجر.
أما القاعة الثالثة، فهي كناية عن متحف ويضم أواني وعتادا من زمن القديس شربل كانت تستعمل في حياته ومنها الصواني والفخاريات وأدوات الحراثة والحقل والجرن والجاروشة وغيرها. والقاعة الرابعة هي قاعة العشاء السري وتحوي تماثيل صخرية من أعمال النحات الفنان نايف علوان وهي تجسد السيد المسيح وتلاميذه وعندما تدخل القاعة تسمع بشكل آلي الكلام الجوهري باللغة السريانية ثم يليه مقتطفات من جمل وعبارات كان السيد المسيح ينشرها بتعاليمه لتلاميذه.