كنيسة التجلي – جبل طابور
يعلو هذا الجبل طابور 588 مترا عن سطح البحر المتوسط ويدعى أيضا جبل الطور، شكله جميل تكسوه الأشجار الحرجية الخضراء والناظر إليه من بعيد يراه أشبه بمظلة مفتوحة.
لا شك أن التسمية ناتجة عن حادث ما يرتبط بهذا الجبل، ففي رأي البعض أن أصل الجبل ناتج عن بركان، وإن لم يأخذ البعض الآخر بهذه النظرية ولكنها تستحق الملاحظة ولها قيمتها، فلو أخذنا بها فإنها تتفق مع حالات كثيرة مما نحن بصدده الآن. فالبراكين في الأزمنة القديمة كانت ترمز إلى قوة الله الخالق، وعلى فوهاتها المتقدة كانت ترى النار المضيئة، وهكذا بعد ما ينطفئ البركان ويخمد لهيبه يأخذ الناس في التعبد في تلك الأمكنة وعلى قمم الجبال، كما نعرف ذلك جيدا من التاريخ.
فعلى قمة جبل طابور كانت تقام عبادات وثنية لإله النور. وليس مستبعدا أنه كانت تقرب هنا ذبائح بشرية أيضا للإله مولك؛ لأننا نرى اليوم تحت الكنيسة الحالية المذبح الوثني وقناة كانت تسيل فيها دماء الذبائح إلى حفرة في الصخر وقد وجدت أمكنة مشابهة لها في سوريا ولبنان تدعى باسم طابور إله النور، وقد أمكن مؤخرا معرفة معنى كلمة طابور باللغة اليوجاريتية التي كشفتها الحفريات في رأس شمرا بسوريا وهي تعني النور أو البهاء.
يمكن الوصول إلى قمة الجبل بواسطة طريق معبد منذ سنة 1954 طوله من أسفل الجبل ثلاثة كيلومترات ولا يسمح إلا لوسائط النقل الصغيرة بالسير عليها. وأما على زمن السيد المسيح فيعتقد أنه كان هنالك طريق بسيط يتعرج صعودا إلى القمة ربما تخللها بعض الدرجات. صعد يسوع الجبل آخذا معه بطرس ويعقوب ويوحنا، أما بقية التلاميذ فلم يصحبوه وليس غريبا أن يكونوا تعبين(وهكذا فعلوا في الجسمانية) فبقوا في أسفل الجبل حيث توجد اليوم بلدة فلسطينية تدعى دبورية. وتجلى المسيح على الجبل كما تذكر الأناجيل (متى 17 عدد1 -8 مرقس 9 عدد2- 8 لوقا 9 عدد 28-36).
الإنجيل لم يذكر اسم الجبل بل قال إن التجلي حدث على جبل عال بعد ستة أيام أو ثمانية بحسب إنجيل لوقا من وجود يسوع مع رسله في قيصرية فليبّس على أسفل جبل الشيخ، حيث ينبع نهر بانياس.
في سنة 1631 أصبح جبل طابور ملكا للآباء الفرنسيسيين مع موقع آخر مقدس ألا وهو مكان بشارة العذراء مريم من الملاك في الناصرة، وهبه لهم الأمير فخر الدين المعني أمير جبل لبنان. وبعد تملكهم للمكان أقاموا فيه موضعا للتعبد بانتظار الوقت المناسب لبناء كنيسة وطال هذا الانتظار قرابة ثلاثة قرون بحيث سنحت لهم الفرصة لإقامة الكنيسة الحالية التي تم بناؤها سنة 1924، وقام بتكريسها الكردينال جورجي المبعوث البابوي. إن الجمال والروعة قد تجليا في بناء الكنيسة فهما يعبران عن براعة المهندس أنطونيو برلوتسي من روما وأخيه جوليو اللذين صمما هذا البناء العظيم.
لقد استوحى المهندسان شكلها من أطلال كنيسة قديمة في سوريا وهي كنيسة القديس سمعان العمودي فجعلا من زخرفها تعبيرا عن سعادة سر التجلي، فإنك لترى في شموخها ما يرتفع بالنفس البشرية إلى الأعالي إلى السماء حيث سمع صوت الإلهي القائل “هذا هو ابني الحبيب الذي سررت به…” وإذ ندخل الكنيسة نرى انها قد قسمت عند الجزء الداخلي المتصدر فيها إلى قسمين أحدهما علوي ويرمز إلى ألوهية المسيح والآخر أرضي يرمز إلى طبيعة المسيح الإنسانية؛ وفي هذا الأخير أثار كنيسة المسيح التي تعود إلى العهد البيزنطي حفظت مع الهيكل القديم منذ القرن الرابع الميلادي، كذلك الحنية وقد ظهر خلفها شباك بديع التصميم من الزجاج الملون ينم عن العديد من الرموز، ففي وسطه مثلث يرمز إلى الثالوث الأقدس. يتوسط المثلث عين الله تطل على البشرية، وهي ذلك الشعاع من عظمة الأبدية وسعادتها نفذ من السماء ليراه الرسل ويدركوا للحظة خاطفة السعادة التي أعدها الله لمختاريه.
وعلى جانبي المثلث طاوسان يرمزان بريشهما الذي لا يتغير لونه إلى الأبدية وإلى التجلي عندما يستعرض الطاوس ريشه. وفي وسط المثلث كأس ترمز إلى النعمة، فمن ينهل منها قد يضمن الأبدية. أما الفسيفساء على جوانب هذا القبو أي القسم السفلي الذي نتكلم عنه فإنها ترمز الى أربعة أسرار في تجلي المسيح، الأول سر التجسد الإلهي وترى على أقدام الملائكة الثلاثة (أو الأقانيم الثلاثة) طفلا ألا وهو المسيح المتجسد والثاني سر القربان الأقدس، ويحمل الملاك الذي يتوسط الملاكين الآخران برشانة ألا وهي المسيح في سر الأفخارستيا، وفي المشهد الثالث ترى حملا ويرمز إلى ذبيحة الصليب على الجلجلة أي سر الغذاء، والرابع وترى قبرا يرمز إلى قيامة المسيح من بين الأموات، وكل هذه الرموز تذكرنا بتجلي المسيح الذي تغير شكله وصار وجهه يضيء كالشمس مظهرا ألوهيته…
أما الهيكل العلوي فانك تشاهد وراءه في حنية الكنيسة الفسيفساء الذهبية التي تظهر المسيح متجليا وعلى جانبيه موسى وإيليا من أجمل وأبدع ما صنعه أصحاب الفن والهندسة. أظهرت الحفريات التي جرت في المكان بقايا كنائس ثلاث تعود إلى القرن الرابع بناها البيزنطيون تذكارا لكلام القديس بطرس: “حسن أن نصنع هنا ثلاثة مظال واحدة للمسيح وواحدة لموسى وثالثة لإيليا”. وقد اهتم مهندسا الكنيسة الحالية أن يدخلا في بنائها الكنائس الثلاث بطريقة فنية وكان الفرس قد دمروها سنه 614م، أما وقد أشرنا إلى كنيسة المسيح سابقا فالآن لدى دخولنا الكنيسة نجد كنيسة إيليا على يميننا وكنيسة موسى على شمالنا، كلتاهما ما زالت على حالهم كما كانت منذ القرن الرابع، وهما جميلتان جدا وأرضهما مرصوفة بالفسيفساء منذ العهد البيزنطي.
كما دلت الحفريات على أن المكان بقي خرابا إلى العهد الصليبي إذ في سنة 1101م عهد به إلى الرهبان البندكتيين الذين قاموا بترميم الكنائس الثلاثة المتهدمة بنفس قياساتها القديمة، وقد أعطوا توسعا أكثر للكنيسة المشيدة على اسم المسيح. وما إن حلت سنة 1142 م حتى قتل الرهبان ودمر المكان وبقي على هذه الحالة لغاية سنة 1228م عندما أعطي المكان إلى الرهبان الهنغاريين الذين بدورهم عمروا الكنائس ولكنهم ضموها جميعا في كنيسة واحدة كبيرة، ما زال مدخلها ظاهرا في الدرجات الكائنة داخل باب الكنيسة الحالية. ولم يمض على هذه الكنيسة أكثر من ثلث قرن حتى هدمها السلطان بيبرس سنة 1263م مع جميع الأبنية القائمة هناك وهجر المكان ما يزيد على ثلاثة قرون، وأقام العرب من أنقاض البنايات تحصينات ودفاعات عددها ثلاثة عشر حصنا، وما زالت أجزاء منها قائمة وكانوا قد هدموها بأنفسهم عندما علموا أن البابا قد دعا للحملة الصليبية الخامسة. خوفا من احتلال الصليبين وبقائهم فيها.
ومن الجدير ذكره أنه بالإضافة إلى الرهبان الفرنسيسكان الذين يقطنون الدير فهناك أيضا راهبات يعتنين بالمطعم الذي يستقبل السياح لوجبات الغذاء فقط، كما أنهم يستضيفون في منزل محاذي للدير عددا من الراغبين في الإقامة هناك بقصد الاعتكاف الروحي بضعة أيام، كما أن الكنيسة الأرثوذكسية لها على جبل تابور كنيسة جميلة تدعى باسم النبي إيليا.
وعند مغادرتنا للمكان وقبل خروجنا من البوابة الصليبية المدعوة باب الهواء نرى على يسارنا كنيسة بيزنطية أقيمت في تلك الحقبة تذكارا لكلام المسيح الذي أوعز إلى رسله أن لا يخبروا أحدا عما رأوا في التجلي على الجبل إلا بعد قيامته من بين الأموات. وعلى أسفل الجبل تقع البلدة العربية التي تسمى دبورية.
يذكر الإنجيل أن الرسل الذين لم يصعدوا جبل تابور مع المسيح مكثوا أسفل الجبل ريثما يعود، وأثناء غيابه على الجبل أحضر إليهم فتى مريض فيه صرع طلب إلى الرسل شفاءه فلم يتمكنوا، وعند عودة المسيح شفى ذلك الفتى فتعجب الرسل واستفسروا من المسيح لماذا لم يستطيعوا شفاء الفتى، فأجاب يسوع قائلا: “إنه بالصوم والصلاة يقدرون على عمل ذلك”.