عيد تجلي ربنا وإلهنا ومُخَلِّصنا يسوع المسيح
لقد حدث تجلّي المسيح على طور ثابور قبل الآلام بقليل، بالتحديد قبل أربعين يوماً من الآلام والصلب. إلى هذا، هدف التجلّي كان تثبيت التلاميذ في الإيمان بأن هذا هو ابن الله، حتى لا يضعفوا من الأمور التي كانوا مزمعين أن يروها في تلك الأيام. تظهر هذه الحقيقة من الطروباريات. فنحن نرتّل في إحداها: “قبل صلبك الكريم وآلامك أخذتَ الذين اخترتهم من تلاميذك الأطهار وصعدتَ بهم إلى طور ثابور..” ويقول قنداق العيد: “حتى عندما يعاينوك مصلوباً، يفطنوا أنّ آلامك طوعاً باختيارك ويكرزوا للعالم أنّك أنت بالحقيقة شعاع الآب”.
إذاً، قانونياً، ينبغي التعييد لتجلي المسيح في شهر آذار، استناداً إلى توقيت التعييد للفصح. لكن بما أنّ هذا الوقت يقع في فترة الصوم ولا يمكن الاحتفال فيه، فقد نُقِل العيد إلى السادس من آب. هذا التوقيت ليس محدداً عشوائياً بل هو قبل أربعين يوماً من عيد رفع الصليب (14 أيلول) المشابه ليوم الجمعة العظيم.
كل أحداث العيد محفوظة في الأناجيل الإزائية كون التجلّي حدثاً مركزياً في حياة المسيح ويتضمّن رسائل لاهوتية (متى 1:17-8، مرقس 2:9-8، ولوقا 28:9-36).
إن كلمة “تجلّي” تعني تغيّر الشكل في اليونانية كما أتت في النص الإنجيلي هي μετεμορφώθη أي ما هو أبعد من الشكل. بتعبير آخر، في لحظةٍ ما كشف المسيح ما كان يخفيه، أظهر مجد ألوهته الذي كانت طبيعته البشرية متحدة به من لحظة الحبل به في رحم والدة الإله. بمحبته العظيمة للبشر، أخفى المسيح ما كان له دوماً، لكي لا يحترق التلاميذ بسبب عدم أهليّتهم كونهم لم يتهيئوا بعد. في تلك اللحظة تجلّى المسيح، “غير متّخذ ما لم يكُنْه، ولا متغيراً إلى ما لم يكُنه، بل مظهراً ما كان عليه لتلاميذه” (القديس يوحنا الدمشقي). أساساً، عندما نتحدّث عن التجلّي، نعني أنّه أظهر مجد ألوهته، الذي حفظه غير منظور في الجسد المنظور، لأن البشر لم يكونوا قادرين على مواجهته.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن المسيح لم يظهر كلّ ألوهته، بل فقط قوة صغيرة منها. وهو فعل ذلك، من جهة، ليعطي معلومات عمّا يشبه مجد الملكوت الإلهي، لمحبته للبشر، حتى لا يخسروا حياتهم عند نظرهم مجد الله الكامل. إذاً، سرّ التجلّي هو في آن واحد كشفٌ للملكوت وتعبير عن محبة الرب لتلاميذه.
علاقة النور الإلهيّ بالصليب
يُشدّد اللاهوت على طبيعة النور غير المخلوق الذي شعّ من الرّب يسوع في هذا العيد، فهو لم يكن إلّا طبيعته الإلهيّة نفسها. ويشرح بالتالي أنّه كشف إلهيّ إذ إن الربّ يسوع يجمع في شخصه الطبيعة الإلهيّة الكاملة والطبيعة الإنسانيّة الكاملة، فهو إله كامل وإنسان كامل.
لهذا الكشف الإلهيّ تسمية Metamorphosis ، وهي كلمةُ يونانية تعني “تغيّر”، المقصود هنا تغيّر “إلى ما بعد الشكل – أبعد من الشكل”، فكلمة Meta تعني “بعد” Beyond، وكلمة (μορφή (morphe تعني الشكل. المسيحيّة تنظر وتصبو إلى ما أهو أبعد من المنظور، وأبعد من الأرضيّات أيّ إلى السماويّات.
نحن مدعوّون أن نقوم بهذا التغيّر، هو تغيّر في العمق وإعادة تصوّيب هدف حياتنا. هو تركٌ للخطيئة والسير نحو الرّب يسوع. وهذا معنى كلمة Metania التي تُترجم باللغة العربيّة إلى كلمة “مطانيّة”.
هذا التغيّر هو استنارة داخليّة وتركٌ لظلمة السقوط واستعادة نور ما خُلقنا عليه، وهذا تمامًا ما ترنّمه الكنيسة في سحر العيد: “أيّها المسيح لمّا لبست آدم بجملته، غيّرت الطبيعة التي أُظلمت قديمًا، وجعلتها لامعةً، وألّهتها بتغيّير صورتك”.
هذا التغيّر هو تغيّر كامل في الذهنية والاهتمامات والتصرّفات وعدم إدانة الآخرين والسعيّ الدائم إلى التوبة من خلال جهادٍ حقيقيّ مكلّل بالصلاة والصوم دون تعبٍ أو كلل.
هذا التغيّر دعوة قداسة وسعيٌ أبديّ لتأله الطبيعة الإنسانيّة بنور الله غير المخلوق من خلال الاتّحاد به. هذا كلّه لا يمكن أن يتم دون أن نموت عن ذواتنا ونولد مِن جديد. وهنا يأتي الصليب، فنلاحظ بأن الكنيسة ترتّل كاطافاسيّات الصليب ابتداءً مِن سحر عيد التجلّي، كما أن عيد رفع الصليب الكريم المحيي يأتي بعد أربعين يومًا مِن عيد التجلّي.
تاريخ العيد:
ارتبطت خدمة عيد التجلّي بشكل كبير، بحسب التاريخ الليتورجي – الذاكرة الليتورجيّة – ، بخدمة تكريس بازيليك جبل ثابور(القرن الرابع-الخامس).
يأتي الاحتفال بالعيد متأخِّرَا عن عيد رفع الصليب الكريم المُحيّي بأكثر من قرن، إذ دخل الاحتفال رسميًّا بعيد التجلّي في آواخر القرن الخامس وبدايات القرن السادس. وقد وُجدت فُسيفساء من تلك الحقبة في الحنية في بازيليك Parenzo وبازيليك القدّيس أبوليناريوس في رافين Basilique saint apollinare in classe – Ravenne، وفي دير القدّيسة كاترينا في سيناء – مصر.
كذلك المشاهد في أيقونة التجلّي تمثّل الحدث الإنجيليّ الأساسيّ، إلّا أنّه هناك تفاصيل أضيفت لاحقًا على مرّ العصور.
يتكلّم القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن التجلّي حصّل قبل أربعين يومًا من الصلب، من هنا حُدّد العيد في 6 آب أيّ قبل أربعين يومًا من عيد رفع الصليب الكريم المحيّي الذي يقع في 14 أيلول.
والعلاقة بين هذين العيدين تظهر بقوّةٍ من خلال ترتيل كاطافسيّات عيد رفع الصليب ابتداءً من عيد التجلّي.
تبدأ خدمة غروب عيد التجلّي بالإشارة إلى الصليب:“لمّا تجليّت قبل صلبك يا ربّ، شابه الجبلُ سماءً، وانبسطت السحابة كمظلّةٍ، وشُهد لك من لدن الآب…”.
التجلّي نور أبديّ لا يوصف: كان وكائن وسيكون.
يضعنا التجلّي أمام تضاد إيجابيّ كبير. النصّ الإنجيليّ يصف ما لا يوصَف، وكذلك أيقونته.
يقول القدّيس غريغوريوس النيصصي(335-395م) في معاينة موسى النبي لله:
التقى موسى النبيّ الله أوّلاً في النور، فكانت العليّقة الملتهبة وغير المحترقة(خروج3)، ثُمَّ كان له لقاءات أخرى معه، وتكلّم معه في الغمام، ولكنّه أدرك أن الله لا يراه أحد(خروج 20:33).
وهذا ما تعلّمه الكنيسة في عقيدتها: إنّ جوهر الله لا يُدرك، ولكنّ، الإنسان يتألّه بالنور والقوّة غير المخلوقة Energie non créée النازلة من الله على الإنسان وغير المنفصلة عن جوهر الله.
لقد اختبر كثيرون من القدّيسين هذا الأمر في علاقتهم بالله، وعبّرت الكنيسة عن ذلك خاصةً في المجمع المسكوني الرابع(451م) فكانت لغة اللاوصف واللاتحديد، اللاهوت التنزيهيّ L’apophatisme، فهو أبعد وفوق الرحمة، وأبعد فوق النور، وأبعد وفوق المحبّة،…
يُظهر النصّ الإنجيليّ حول التجلّي هذا العجز البشري عن التحديد والوصف بشكل واضحٍ جدًا: “وتغيّرت هيئته قدّامهم، وصارت ثيابه تلمع بيضاء جدًا كالثلج، لا يقدر قصّار على الأرض أن يبيّض مثل ذلك (مرقس2:9-3)”.
نور الله لا يمكن وصفه، وما يقوله الإنجيليون الثلاثة (متى17-مرقس9-لوقا9) ما هو إلّا تشابيه بشريّة ناقصة.
يشّع النور من الرّب يسوع: ثياب المسيح هي ثياب القيامة، انفجار الألوهة، إنبعاث الحياة، هذه الحياة التي هي حياة الناس، يسوع هو الحياة: “فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه (يوحنّا 4:1)”.
يأتي الوصف اللغويّ ضعيفًا أمام عظمة السيّد. هو أنصَع من البياض نفسه، وأكثر إشراقًا من الشعاع، وأبهى جلالاً من المجد. إنّه مصدر كلّ هذه الأشياء وغيرها.
هو الذي أوجدها وصنعها من العدم، هو الله الذي تجسّد وأصبح إنسانًا مثلنا، من دون أن يفقد شيئًا من ألوهيّته.
يكتب القدّيس يوحنّا الذهبي الفم (349-407) حوارًا مع الإنجيليّ مرقس، ويتوسّع ليشمل بحديثه باقي الإنجيلييّن الذين تناولوا حدث التجلّي:
القدّيس يوحنا: كيف تجلّى؟ أخبرني.
مرقس الإنجيليّ: بقوّة كبيرة.
القدّيس يوحنا: لماذا قلتم مثل الشمس؟ لقد قلتم مثل الشمس أليس كذلك؟
مرقس الإنجيليّ: نعم
القدّيس يوحنا: لماذا؟
مرقس الإنجيليّ: لأنّي لا أعرف كوكبًا أكثر منه إشعاعًا. وكان أيضًا “أبيض مثل الثلج”.
القدّيس يوحنا: لماذا مثل الثلج؟
مرقس الإنجيليّ: لأني لا أعرف مادة أشدَّ بياضًا من الثلج.
وهنا يشرح القدّيس يوحنّا فيقول:
صحيح، فلو كان نوره مثل الشمس، وبياضه مثل الثلج لما وقع التلاميذ أرضًا، فوقوععهم أرضًا هو شهادة بحدّ ذاتها على عدم تحمّل الطبيعة البشريّة قوّة الطبيعة الإلهيّة ومجدها.
اللاهوت التنزيهيّ يظهر في أيقونة التجلّي من خلال دوائر ثلاثة موجودة خلف الرّب يسوع وتنتقل بالتدرّج من اللون الفاتح إلى الداكن، فالداكن يرمز إلى ما لا يمكن إدراكه، وكانّه بذلك تقول: كلّما غصنا أكثر في معرفة الله theognosia، كلّما اكتشفنا أن عمق جوهره لا يُدرك.
“الذي وحده له عدم الموت ساكنًا في نور لا يدنى منه، الذي لم يره أحد من الناس، ولا يقدر أن يراه الذي له الكرامة والقدرة الأبديّة. آمين (1 تيموتاوس 16:6)”.
لقد حذّر الآباءٌ القدّيسون الدارسين والباحثين في اللاهوت والكتاب المقدّس من الوقوع في فخّ الانتفاخ العقليّ، ومصيدة الكبرياء القاتلة المميتة، ومرض الإدّعاء والخروج بتفاسير وتحديدات عن الله صادرة عن تحاليل عقليّة بشريّة صرف، مهما يعلو شأن الباحث والدارس.
القاعدة ثابتة، لم ولن تتغيّر: “بنورك نعاين النور”، وهذا النور لا يُكتسب إلاّ بإخلاء الذات من كلّ انتفاخ أرضيّ للامتلاء من الروح القدس. “إنّها معرفة الله وليس معرفة عن الله“.
بالعودة إلى التجلّي، نقول، النور يقود إلى النور، لأنّ المسيح هو نور من نور، والنور هو الحياة، لأنّ المسيح هو الحياة، وهذه الحياة موجودة في أعماق كلّ إنسان منّا، وما علينا إلّا الغوص لاكتشافها. إنّها الحياة الأبديّة، الملكوت الذي يدعونا الله إليه: “ملكوت الله داخلكم”(لوقا 20:17).
إنّها دعوة إلى أبعد ما هو منظورBeyond، إنّها دعوة للمجد الإلهيّ، إن أحسنّا الاختيار:“اهتمّوا بما فوق لا بما على الأرض“(كولوسي3)”.
يقول القدّيس نيقولاوس كاباسيلاس (1319/1323):” من يكتفِ بالعلاقة من الخارج يبقَ خارجًا، وكلّ شيْ خارج نور المسيح ظلام”، ويكمّل:”بقدر ما يغوص المرء في نور الله تزول العوائق، والحواجز تضمحلّ بنور المسيح لأنّ نور الرّب ساطع ولا شيء يحجبه”.
كذلك يقف هذا القدّيس مرنّمًا ومدهوشًا إزاء النور الإلهيّ فيقول:” آه، كم هو جميل النور الذي هو داخل الإنسان، إنّه حضور الله بذاته، وشعاعاته تشعّ في كلّ الاتّجاهات مزيلةً كُلَّ الظلام والسواد”.
أظهر بعض كاتبي أيقونة التجلّي تركيزًا أقوى من غيرهم للتعبير عن قوّة النور وخصائصه، ، فنجد مثلًا عند كاتب الأيقونات ثيوفانس اليونانيّ (1350-1410) أسهمًا تنبعث من السيّد لتشكّل مع السيّد نفسه نجمًا بستة رؤوس ويشّع في كلّ الاتجاهات.
لهذا الشكل من النجم – معنىً – مثلّثان متساويان متداخلان – وهو اتحّاد الروح بالمادة، واتّحاد العوامل القويّة بالضعيفة (الإيجابيّة والسلبيّة)، وأيضًا يُشير إلى حركة قوّة لا تتوقّف Le rythme du dynamism”” ، وهو يُدعى أيضًا خاتم سليمان في اللغة القديمة، وهو شكلٌ يرمز إلى القوّة والجبروت والسلطة على كلّ المخلوقات الحيّة.
وهنا الشيء نفسه، فيسوع هو سيّد السماء والأرض والجحيم.
هذه القوّة أعطاها الله للإنسان، “الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فالأعمال اللتي أن أعملها يعملها هو أيضًا،ويعمل أعظم منها (يوحنا 12:14)”.
هذا بالظبط ما تسميّه الكنيسة “مؤازرة”Synergy [3] أي العمل معًا، الله يعمل فينا بإرادتنا ونحن نعمل معه. المؤازرة هذه تصل بالتجلّي إلى كمالها، فهي لا تكشف فقط عن طبيعة الرّب يسوع الإلهيّة بل، تكشف عما يمكن للإنسان أن يُصبح عليه إذا ما اتّحد بهذا النور.
هذه هي ثمار التجسّد، الذي ليس ما يحويه: يتّحد بالطبيعة الإنسانيّة إتّحادًا كاملًا ليرفعها إلى الإلهيّات (القدّيسين ذيذيموس الضرير وأثناسيوس الكبير، القرن الرابع ميلادي). حبّ إلهيّ مطلق نازل من فوق، وقبول وجهاد صاعد إلى فوق.
ومن الشعاع ينبثق شعاعات ثلاثة تتّجه نحو التلاميذ الثلاثة، كلّ واحد بدوره، وهذا تاكيد لمشاهدتهم نور الرّب.
ينشد القدّيس كليمنضس الاسكندري (150-215) في هذا الأمر مفارقة إيجابيًّة تفوق العقل والإدراك فيقول:“في التجلّي، يكشف المسيح عن طبيعته الإلهيّة، بحيث أن الذين أصعدهم معه ليروا هذا المجد لا يستطيعوا أن يروا”.
التجلّي إعلان إلهيّ: نورٌ يضيء ظلمة العالم.
سأل الرّب يسوع التلاميذ:“من يقول الناس إنّي أنا ابن الانسان؟” فقالوا:“قوم يوحنا المعمدان وآخرون إيليا وآخرون إرميا أو واحد من الأنبياء“. قال لهم:”وأنتم من تقولون إنّي أنا؟” فأجاب سمعان بطرس:”أنت هو المسيح ابن الله الحيّ (متى16)”.
سؤال يطرحه على كلّ إنسان وفي كلّ الأزمان. من الذي يتجلّى؟ لنرى هنا ماذا يحصل؟
نشاهد في بعض أيقونات التجلّي، على الجهّتين اليمنى واليسرى، تضاريس صخور تبدو كأنّها مغارة وفي وسطها الرّب يسوع المسيح وثلاثة تلاميذ:”بطرس ويعقوب ويوحنّا” (وحده الرّب على رأسه هالة). إنّهم التلامذة أنفسهم الذين اخذهم الرّب يسوع على حدةٍ في الجسمانيّة.
في التجلّي، يُصعدهم يسوع معه ليكشف لهم عن ذاته.
الجبل كمكانٍ مرتفع هو رمز لحالةٍ مرجوّة: “أرفع عينيّ إلى الجبال، من حيث يأتي عوني معونتي من عند الرّب (مزمور 121 : 1-2)”.
في العهد القديم كان الجبل المكان الذي تكلّم الله فيه مع النبيّين موسى وإيليّا.
الجبل هو عكس الوادي الذي يرمز إلى الجحيم ومسكن الخطيئة والشر. (حتّى في الحضارات الوثنيّة كانت قمم الجبال مسكن الآلهة).
ها قد بدأ الرّب يسوع بالاقتراب أكثر فأكثر، مُضيئًا ما هو مظلم، هو يبدأ بالكشف عن ما لا يُدرك، عن ما ليس له نهاية. فأيقونة التجلّي عنوانها النور، وتخبرنا عن النور، نور لا ينتهي إلى آبد الآبدين
ولا بدّ لنا هنا أن نتذكّر ما يقوله القدّيس يوحنا الدمشقي (القرن السابع ميلادي) :“لنصوّم عيوننا بالطهارة والنقاوة قبل النظر إلى الأيقونة”، أيّ لنزيل منها كلّ ظلمة وشهوة رديئة.
حركة الصعود واضحة مع التلاميذ، الرّب يسوع يتقدّمهم وهم يتبعونه، تمامًا كالخراف التي تتبع الراعيّ. “مَا أَجْمَلَ عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَيِ الْمُبَشِّرِ، الْمُخْبِرِ بِالسَّلاَمِ، الْمُبَشِّرِ بِالْخَيْرِ، الْمُخْبِرِ بِالْخَلاَصِ، الْقَائِلِ لِصِهْيَوْنَ:قَدْ مَلَكَ إِلهُكِ (أشعيا 7:52).”
الطبيعة الصخرية تُعطي انطباعًا لمغارة مظلمة، وكانّه هناك ولادةً ميلاديّة جديدة.
في التجلّي يظهر سرّ التجسّد بملئه، أيّ الاتّحاد بين الطبيعتين الإلهيّة والإنسانيّة.
لقد ساد في الماضي اعتقاد فلسفي أفلاطوني، كذلك عند الأفلاطونيّة الجديدة، أن العالم هو مغارة كبيرة[6]، فأتت المسيحيّة لتنير تلك المغارة[7]، إن كان في الميلاد أو في كلّ حدث تظهر فيه – في الميلاد، في الصلب، في النزول إلى الجحيم (القيامة) – فالمسيحيّة بلاهوتها تتخطّى الفلسفة وتعطي معنى أعمق للحياة الحقيقيّة والآبديّة.
كذلك تظهر جليًّا رغبة الرّب يسوع برفع التلاميذ إلى العلى، وأن يُدركوا ويعاينوا، ولو لبرهة قصيرة، حقيقة ألوهيّته التي أعلنها بطرس الرسول في قيصريّة فيلبس(متى16).
إنّه في الحقيقية انفصال عن الماديّات Detachment، وهذا تمامًا ما نحن مدعوّون إليه ونحن في هذه الخيمة الأرضيّة (الجسد): أن نعيّ أنّنا مواطنو السماء”Beyond”.
يقابل الصعود حركة نزول. إنّها عودة إلى العالم، إلى الألم والتجارب والجهاد. إنّه خروج من المغارة والعودة إليها، ولكن هذه المرّة بعد معاينة النور الإلهيّ، ليعي المرء أن لحياته معنى وهدف ألا وهو الاتّحاد بالله لينقل بدوره النور الإلهيّ إلى العالم.
وأجمل ما في هذه الحركة أن الرّب يسوع ينزل أمام التلاميذ، يسبقهم إلى تحت ليعود يرفعهم إلى فوق. يرفعهم ويرفعنا، يجذبهم ويجذبنا.“وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيع، قَالَ هذَا مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُوتَ (يوحنا 32:12-33)“.
المصادر:
[1] G.HABRA, La Transfiguration selon les Peres Grecs. R.DE FEERAUDY, L’icône de la Transfiguration.
[2] Paul Evdokimov was a Russian and French theologian, writer, and professor of theology at St. Sergius Institute in Paris.
[3] From Ancient Greek συνεργία joint work, assistance, help. Working together, σύν means “together” + ἔργον(ergon) means work.
[4] CLÉMENT D’ALEXANDRIE Stromates
[5] القدّيس غريغوريوس النيصصي(335-394)
[6] Platon – La Repuplique 7
[7] القدّيس غريغوريوس النيصصي(335-394)
[8] Saint Grégoire de Nysse– L’être humain et le temps.
[9] (أوريجنس القرنان الثاني والثالث)
[10] أوريجنّس – عظة في اللاويّين