دير سيّدة بكركي
في الثالث من كانون الأول 1790 إلتأم في دير سيّدة بكركي المَجمَع الماروني برئاسة البطريرك يوسف اسطفان (1766-1793)، وفي الجَلسَة التاسِعة من جَلساته التي انعقدت في الثاني عشر من هذا الشهر أَقرَّ آباء المجمع بالإجماع ما يلي:
“إننا بعد النظر في كل الظروف، واعتبارنا ضَرورة إيجاد مكان في كسروان يكون كُرسيّا ثابتاً لبطاركتنا، قد رأينا أن الطريقة الأكمل والأكثر فائدة لخير الطائفة هي أن يكون دير بكركي مَقراً ثابتاً لهذا الكُرسيّ، وأن تَكون كل خيراته الثابتة وغير الثابتة مُلكاً مؤبداً لكُرسيّنا البطريركي”.
ولكنَّ هذا الدير لم يُثبَّت فعلياّ كمَقرٍّ دائمٍ للبطاركة الموارنة إلاّ بعد مُحاولات عديدة ومِراجعات مُتكرِرَة أجراها البطاركة مع الكُرسيّ الرسولي. والصعوبة التي كانت تَقِف حاجزاً بوجه محاولاتهم هذه كانت مُخالفتها لقرار المَجمَع اللبناني المُنعقد سنة 1736 والذي قضى بأن يكون مَقرّ البطاركة الموارنة الدائم دير سيّدة قَنّوبين.
فلِئلاّ يَبقى قرار المَجمَع اللبناني هذا حِبراً على ورق، حاول البطاركة وراجعوا أكثر من مرةٍ الكُرسيّ الرسولي في شأن نقل مَقرهم المقرّر في دير سيّدة قَنّوبين إلى مكانٍ آخر أكثر أماناً وسلاماً، فكان جَواب مَجمَع نشر الإيمان إن البطريرك وأساقفة الطائفة في مَجمَع طائفيٍ عامّ يُمكِنهم أن يُقرّروا نقل مَقر إقامة البطريرك إلى مكان آخر أكثر مُلاءمةً، وجواب المَجمَع هذا جُدد أكثر من مرة قبل أن يُصبح قراراً نافذاً مُصدّقاً عليه من الكُرسيّ الرسولي في 13 آذار 1796.
وقد سَبق صُدور هذا القرار انعقاد ثلاثة مَجامِع عامة، قرَّرَ فيها الآباء الحاضِرون نَقل مَقر الكُرسيّ البطريركي من دير سيّدة قَنّوبين إلى دير سيّدة بكركي، فكان القرار واحداً في المَجامِع الثلاثة.
فالمَجمَع الأول الذي قَرَّر آباؤه جَعل دير سيّدة بكركي مَقراً للبطاركة الموارنة كان مَجمَع ميفوق الذي إنعقد في 21 تموز سنة 1780، والذي في جلسته الثالثة المنعقدة في 24 تموز من السنة المذكورة، تمَّ رأي آباء المَجمَع في شأن إقامة السيّد البطريرك على ما يلي: “قد اتفق رأي مَجمَعنا بأن دير بكركه يكون كُرسيّاً لبَطركنا حين إقامته في كسروان”.
وأمّا المَجمَع الثاني الذي قرّر جَعل دير بكركي مَقراً ثابتاً للبطاركة الموارنة، فكان مَجمَع عين شقَيْق الذي عُقد بأمر البابا بيوس السادس (1775-1799) يوم 6 ايلول سنة 1786، والذي، في جلسته السادسة التي عُقدت في 9 ايلول، أصدر القرار التالي:” لمّا كان المَجمَع المُقدَّس قد أمر بإحالة دير بكركي إلى ما به خير الطائفة فقد قَضَى المَجمَع (أي مَجمَع عين شقَيْق) بأن يكون الدير المذكور مع أملاكه وقفاً مؤبداً للكُرسيّ البطريركي ومَقراً للبطريرك والمطارنة”.
والمَجمَع الثالث والأخير كان مَجمَع بكركي الذي ذكرناه آنفاً. ولكن رغم القرار الموحّد الذي صدر عن هذه المجامع الثلاثة فإن هذا القرار لم يُنفّذ بالسرعة المرجوّة، بل ظَلّ البطاركة يواجهون صعوباتٍ كثيرةٍ أمام تنفيذه طوال ما فوق الربع قرن.
وفي أيام البطريرك يوسف التِيّان حاول الأساقفة برئاسته أن ينقِضوا هذا القرار، وينقلوا مَقرّ سكن البطريرك رسمياً إلى دير مار شليّطا مقبس.. بعد أن سكنه البطريرك التيان منذ انتخابه، إذ اجتمعوا في دير سيّدة قَنّوبين بتاريخ 4 ايار 1808، كما أشرنا إلى ذلك في حديثنا عن دير مار شلّيطا مقبس، وقرّروا في جمعيتهم العامة هذه نقل مَقر البطريرك من دير بكركي إلى دير مار شليطا مقبس قرب غوسطا، وبيّنوا في عريضة موقّعة منهم جميعاً ومَختومة بأختامِهم الأسباب الصوابية الداعية إلى نقل هذا المَقر. ولكنّ قرارهم هذا لم ينفّذ رسمياً بِسِبب استقالة البطريرك التيان، عِلماً بأن بعض البطاركة كان قد اتخذه بالفعل مَقراً له، وكنا قد أشرنا إلى ذلك في الفصل الذي خَصّصناه لدير مار شليطا مقبس.
وبعد استعراضنا المراحل التي أفضت إلى اعتماد دير سيّدة بكركي مَقراً نهائياً للبطاركة الموارنة نأتي في ما يلي على لَمحَة تاريخية عن هذا المَقر.
كلمة “بكركي” هي في الأصل اسم لموقع طبيعيّ يقوم على تلة صغيرة تُشرف على مدينة جونيه من جِهتها الجنوبية الشرقية، وعندما أقيم عليه دير رهبانيّ اتخذ هذا الدير اسم الموقع فدُعي “دير سيّدة بكركي”، ولمّا أصبح في ما بعد كُرسيّاً بطريركياً للطائفة المارونية أصبحت كلمة “بكركي” تعني ذلك، أي مركز الرئاسة الروحية للطائفة.
وقد أُعطيت تَفسيرات عِدّة مُتناقضة لمَعنى هذه الكلمة. فمن الباحثين والمؤرخين مَن قال انها مُشتقة من اسم طائر “الكركي” الذي كان يُشاهَد قديماً في هذا الموقع، ومِنهم مَن ردّ أصلها إلى اللغة السريانية معتبراً إياها مركَّبة من لفظتين: “بيت” و“كركي” بفَتح الكاف الأولى، فَجرى إدغامِهما في كلمة واحدة هي “بيت-كركي” ومَعناها المكان المُسوّر والمُحصّن أو المكان المُستدير. والبعض لم يُخالف بكونها آتية من “بيت-كركي” وإنما، بتَحريكه الكاف الأولى والثانية فيها بالكسر، أعطى لها معنىً آخر هو المكان الذي تُحفظ فيه الأدراج والأسفار والطوامير، أي بتعبيرنا الحاضر “المكتبة”، وهذا في رأي هؤلاء مُطابِق للواقع لأن المَقرّ البطريركي يحَتوي في مكتبته على أدراج ووثائق وطوامير. ولكنَّ هذا التفسير يَسقُط أمام كون المَكان قد عُرف بهذا الاسم قبل َن يشيّد فيه دير يضمّ مَكتبة كالتي ذكرنا. ففي “تاريخ الأزمنة” للبطريرك اسطفان الدويهي حديث عن “رجل كسرواني من ضَيعة تُسمّا (تُسمّى) بكركه فوق جونيه”. والأب بولس صفير، حافِظ المكتبة البطريركية سابقاً، في كتابه “بكركي في مَحطاتها التاريخية”، يَستبعِد ان يكون اسم “بكركي” يعني المكان الذي تُحفظ فيه الأدراج والطوامير.. ويميل إلى الاعتقاد بأن معناه هو “المكان المُستدير” او “المكان المُحصّن” الذي ينطبق على الموقع الجغرافي للدير.
ويُستفاد من وثائق تاريخيّة قديمة كانت في حوزة البطريرك بولس مسعد (1854-1890) إن مَوقع دير بكركي لم يكن في البداية حيث يقوم الصرح البطريركيّ الحاليّ، بل كان مَبنياً قرب كنيسة سيّدة البشوشة الكائنة في الحِرج المجاور لموقع الصرح الحاليّ.
وتاريخ تَشييده يعود إلى العام 1703 وذلك من قِبَل الشيخ خطار الخازن، وقد تَسِلّمُه منه بعدئذِ الرهبان الأنطونيون سنة 1730. وكان عِبارة عن كنيسة صغيرة وبِقربها بيت للِكاهن. وتفاصيل تَشييد هذا الدير القديم، وطريقة تسليمه للرهبان الأنطونيين، نأخذها عن لِسان القاصِد الرسولي في جبل لبنان دازيداريو في تقرير رَفَعه إلى مَجمَع انتشار الإيمان في 23 ايلول سنة 1753، وعَرّبه القَس بولس عَبّود في كتابه “المجالي التاريخية”، وفَحواه أن الشيخ خطار الخازن كان يَملك قِسماً من تلة بكركي وبعض أراضٍ يجري غرسها، فبنى في هذه الأرض كنيسة دُعيت “سيّدة بكركي”. وأراد أن يَجعل لها كاهناً يقيم القداس لأهل الجوار، فاشترى بعض الأملاك والأراضي الحرجية من عائلة بيت الشمالي في درعون وبنى عليها بعض الغرف لِسكن كاهن الرعية.
وجاءه يوماً شَخص يُدعى نَصر العيادي (يقول الأب بولس صفير في كتابه “بكركي في محطاتها التاريخية” ان الاسم الصحيح لنَصر هذا هو نَصّار بن مفرّج الحادي من زوق مصبح) عارضاً عليه أن يوقف على هذه الكنيسة كل ماله، مُقابل أن يَسكُن هناك ليحيا حياة عِزلة، فقبل منه الشيخ ذلك وسَمَح له بأن يقيم في دير سيّدة بكركي. فأخذ هذا في إكمال البناء على نفقته، وكان مؤلفاً من أربع او خمس غرف صغيرة وليس له شكل دير، كما اشترى بعض قُطع الأرض ليجعل منها مع الكنيسة أنطشاً للرهبان الكرمليين. فاشترط عليه الشيخ ان يقيم معه كاهن واحد على الأقل، ثم صَرَف الرهبان الكَرمَليين وجَعل مَكانهم راهباً أنطونياً من ريفون، فلم يَستطع أن يُقيم مع نصر لكون هذا الأخير فظاً غليظاً، فَصَرفه الشيخ خَطّار وجَعِل مكانه راهباً من رهبان مار إشعيا (الأنطونيين)، لأن الشيخ كان يُراعي خاطر نصر لأنه كان ما يزال يَشتري أملاكاً جديدة للكنيسة. وظلً الأمر كذلك إلى حين وفاة نصر، إذ، حينذاك، سَّلّم البطريرك يعقوب عواد الكنيسة والدير والأملاك إلى رهبان مار إشعيا برِضى المشايخ الخوازنة ولا سيَّما الشيخ خطار.
وهؤلاء، بعد أن تَسلَّموا الدير، اهتمّوا أيضاً بترميمه، فأضافوا إليه قبو الكلار (الكرار) وغُرفتين جديدتين، كما بنوا بيوتاً للشركاء، واشتروا أملاكاً جديدة ضَمّوها إلى الأرزاق والعقارات القديمة كما أفاد القَس عمنوئيل البعبداتي في تاريخه.
إلاّ أنه، بعد وفاة الشيخ خطار، وَقَع الخلاف بين ولَدَيه، بِصِفتهما وريثَين له، وبين الراهبَين الأنطونيَّين اللذين كانا يُقيمان في الدير، فطرداهما منه، إلاّ أن هناك مَن قال أن الراهبين انصرفا من تلقاء نفسهما، وهكذا انتهى وجود الرهبان الأنطونييّن في الدير بعد أن ملكوه نحو عشرين سنة.
ولكنَّ الراهبَين لم يُسلّما بهذا الوضع، فلجآ إلى المطران جرمانوس صقر، الذي اقترح عليهما التخلّي له عن الدير مقابل ثمنٍ يدفعه لهما أو قيمة كافية لبناء ديرٍ سواه. فوافق الرئيس العام لرهبانيتهما على ذلك، وتمّ تسليم الدير للمطران صقر لقاء ثلاثة آلاف وخمسماية غرش، وذلك في العام 1750، فأنجز الرهبان الأنطونيون بهذا المبلغ تشييد “دير مار يوحنا المعمدان” في عجلتون الذي كانوا قد باشروه من قبل.
ولكنَّ المطران صقر كان قد أراد من شراء هذا الدير أن يَجعله مَقراً لأخوية قلب يسوع التي كانت ترأسها الراهبة هندية عجيمي، فاستقرَّت هذه الجمعية النسائية فيه، وعَمَدَت الأم هندية، بمؤازرة المطران جرمانوس صقر، إلى تجديد بناء الدير، فَنَقلت مَقره من الحِرج وشَيّدت بناءً جديداً حيث يقوم الدير الآن، ثُمَّ بَنت ديراً جديداً آخر للرهبان المُنضوين إلى أخويتها قرب دير الراهبات، وكان بناء هذين الديرين من الحجر الأبيض المقصوب.. على أجمل طرازٍ وأسلم بناء. وكانت هذه المرّة الثالثة التي يتجدّد فيها بناء دير بكركي في مدى نصف قرن.. بعد أن بناه الشيخ خطار الخازن وجَدَّدَه نصّار بن مفرّج الحادي ثم الرهبان الأنطونيون كما سبق أن ذكرنا أعلاه.
استقرّت هندية في دير بكركي تِسعاً وعشرين سنة (1750 – 1779)، إلاّ أن وجودها ووجود رهبانيتها فيه أثار، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، لغطاً كثيراً حول أحداثٍ جَسيمة جَرت فيه على يد هذه الراهبة، مِمّا حَمَل الكُرسيّ الرسولي على إصدار براءة ألغى بموجبها رهبانية قلب يسوع، وقضى بأن يتحول هذا الدير لخير الطائفة المارونية.. كما ذكرنا مُفصّلاً عن تلك الراهبة في حديثنا عن حقبة البطريرك يوسف إسطفان (1766-1793).
وفي العام 1786 اعتبره المَجمَع الماروني المُنعقد في ذلك العام تابعاً لكُرسيّ سيّدة قَنّوبين، إلى أن أصبَح، سنة 1823، كُرسيّاً بطريركياً لفَصل الشتاء، وذلك مُنذ بداية عهد البطريرك يوسف حبيش (1823-1845) الذي كان أول بطريرك يعتمد هذا الدير مَقراً بطريركياً بعد ترميمه إياه.
ولمّا استوى البطريرك يوحنا الحاج على كُرسيّ البطريركية في العام 1890 بادَر إلى ترميم الدير مُجدَّداً مُضيفاً على بنائه القديم كنيسة رائعة الجمال، كما أضاف إلى طابقه السفليّ قِسماً جديداً، وبنى الطابق العلويّ بِكامله تبعاً للتصميم الذي وضعه الأخ ليونار اللعازاري، فجاء آية من آيات الفن المعماري الشرقي.
وهذا الترميم هو الذي أعطى الدير شَكله الحاليّ، والذي نُقشت أثناءه، في أعلى مَدخل الدير، العبارة – الرمز: “مَجدُ لبنان أُعطيَ له” باللغات الثلاث : السريانية، العربية واللاتينية.. التي غَدت مُلازمةً لاسم “بكركي”، وهي تَعود إلى مزمور إشعيا 2:35 حيث نقرأ: “تقولون أقفرت أرضنا وصرنا كصحراء قاحلة. شعبنا إفتقر ولا رؤية. أمّا الرب فيقول: سيبتهج القفر ويزهر… مَجدُ لبنان أُعطيَ له”.
وللدكتور شارل مالك تعليق على هذه العبارة في مقال له عنوانه ” الكثير المطلوب من الموارنة” وفيه يقول: “مجد لبنان… له”. “… بكركي من الأهمية بِحيثُ إذا خَرَبَ لبنان وبقيت هي سليمة مُعافاة قوية، ماسكة بيد من حديد بزمام دعوتها التي أنيطت بها أزلياً، فباستطاعتها وحدها ان تُعيد تعمير لبنان؛ أما، لا سمح الله، إذا خَرَبَتْ بكركي، أو وَهَنت أو حلَّ بها سَقَمٌ ما، فلبنان وَحدَه لا يستطيع إغاثتها كي تستعيد عافيتها وتبني ذاتها من جديد. وإذا كان لبنان خَرِباً فقد لا يستطيع ان يُعَمِّر نفسه بنفسه إذا كانت بكركي أيضاً خَرِبة، فأيُّ مؤسسة أخرى في لبنان يصح فيها هذا القول ؟!…”.
ويُذكَر ان كنيسة الصرح تُزيّنها لوحة جدرانية جصّية (400x 500 سنتم) للرسّام داود القرم من تصميم الأخ ليونار اللعازاريّ يتضح منها أن هذا الفنّان هو أستاذ في الفنّ المَسرحيّ، لأن هذا البُعد المُغالي في التعقيد يُعطي مَساحةً يبدو الأشخاص من خلالها مدفوعين إلى الوراء.. كما تروي نادين محاسب في كتابها عن داود القرم.
وفي عَهد البطريرك بولس المعوشي، وتحديداً في العام 1970، أُعيدَ، بإيعازٍ منه، تَرميم وتَجديد كُرسيّ بكركي، وظلَّ بِحلّته الجديدة هذه إلى العام 1982، حين بنى البطريرك أنطونيوس خريش سوره الخارجي، وأضاف إليه مدافن حديثة للبطاركة مع جِناح منها للأساقفة.
أمّا البطريرك نصرالله صفير فقد أضاف إليه جِناحاً للمَحفوظات يكون في الوقت نفسه مَتحفاً خاصاً بالكرسيّ البطريركي، كما أنشأ مدافن للبطاركة ، كما زان الكنيسة بنوافذ مُزخرفة، وأنشأ في العام 2000 كنيسة واسعة خارج الصَرح ومقابله، تتّسع لآلاف المُصلّين.. خُصِّصَت للإحتفالات الكبرى، وهي من تَصميم المُهندس اللبناني ألكسي مكرزل.
أمّا البطريرك بشارة الراعي فقد عَمَد إلى تَجديد الكنيسة بإضفاء حُلَّة جديدة عليها، بالإضافة إلى بنائه جناحاً خارجياً جديداً إلى الجهة الجنوبية التي تطُلُّ على بلدة الزوق، مع تركيز تِمثال كبير لمار مارون على مدخل الصرح، تقدمة مغترب لبناني، وعَمَل الفنّان نايف عِلوان، الذي شرح أثناء رفع الستار عنه، رموز هذا النُصب وأبعادها الوطنية والدينية.. موضحاً:
“ان الصخر هو من بلدة ترتج الجبيلية،
والأرزة اللبنانية في المَنحوتة تَرمُز إلى شموخ الموارنة،
والجذوع تَرمُز إلى تجذُّر الموارنة في أرضهم،
والصَومَعة والبيت القديم، يرمزان إلى الكنائس والأديرة التي عمل عليها المؤمنون الموارنة، والمَخطوط نُقش عليه باللغة السريانية ما ترجمته: ” طبيعتان، إله واحد حيث لا إنقسام ولا تغيير”.
أمّا يَد القِديس وتطلُّعات نظراته وحركة يديه، فترمز إلى قَساوَة الطبيعة التي عاشها الموارنة.
بطاركة دير سيّدة بكركي
أول بطريرك أقام في دير سيّدة بكركي فترةً طويلةً من الزمن هو البطريرك يوسف حبيش (1823-1845)، إذ إنه هو الذي جَعَل منه مَقراً شتوياً ثابتاً ودائماً للبطاركة الموارنة، وقد عمل على ترميمه وجعله صالحاً لسَكنِهم.
ولكنه لمّا كان قد أقام أيضاً في دير مار جرجس علما، الذي هو وقف عائلته آل حبيش، في فترة ترميم دير بكركي في اوائل عهده، فإننا سنتكلم عنه مُفصَّلاً لدى حديثنا عن هذا الدير الكائن في ساحل علما.
علماً بأن هذا البطريرك لم يُدفن في بكركي، بل في مغارة القديسة مارينا في قَنّوبين إسوةً بالعديد من أسلافه.
بعده جاء البطريرك يوسف راجي الخازن (1845-1854) من عجلتون، وهو، خلافاً لسلفَيه البطريركين الخازنيّين يوسف ضرغام (1733-1742) وطوبيا الخازن (1756-1766)، ليس حفيداً مباشراً للشيخ أبو نوفل الخازن وإنما والده هو الحفيد المُباشر.
وُلد البطريرك يوسف راجي الخازن في العام 1791، واسمه بالولادة شاس. واستناداً إلى محفوظات مكتبة البطريركية المارونية في بكركي، نستطيع ان نَمُرَّ بلمحة عامَّة على حياته وعمله في ما قبل عهده البطريركيّ وبعده، مُستفيدين في ذلك مِمّا استقاه الدكتور ألكسندر أبي يونس من هذه المحفوظات وأوردها في أطروحته عن دور هذا البطريرك في تاريخ القائمقاميَّتَين.
لقد دَخَل شاس الخازن سِلك الكهنوت مُتخذاً فيه اسم يوسف، واستمرَّت السحابة من عمره التي قضاها كاهناً من العام 1814 حتى العام 1830، مُترئساً خلالها على دير سيّدة الحقلة ثم على مدرسة عين وَرقَة.
وبعد وفاة مطران دمشق اسطفان الخازن سنة 1830 أصدر البطريرك يوسف حبيش أمراً إلى أبناء هذه الأبرشية لانتقاء ثلاثة أسماء يكون أحد أصحابها مطراناً خلفاً للمطران المُتوفّى، وكانت العادة أن يكون مطران هذه الأبرشية من مشايخ آل الخازن.
فانقسم أبناء الأبرشية في ما بينهم حول المطران العتيد، فوجَّه إليهم البطريرك الأب إغناطيوس بليبل ليعمل على إزالة هذا الخلاف، فَتَمكَّن موفد البطريرك من إقناعهم بأن يعهدوا إليه بأمر اختيار المُرشّح، ووضع عريضةً بترشيح الخوري يوسف راجي الخازن، فوقَّعوها جميعهم وسيم هذا الأخير مطراناً على دمشق.
في أثناء أسقفيته سَكن دير سيّدة البشارة، العائد لعائلته، في زوق مكايل، وظلَّ مقيماً فيه حتى انتخابه بطريركاً في العام 1845.
من أعماله عندما كان مطراناً أنه لعب دوراً أساسياً على صعيد الطائفة، مُطلعاً البطريرك على ما يصل إلى علمه من الأمور السياسية الدولية التي تُشكّل خطراً على الموارنة مع معاونته إيّاه في أعماله، إذ كان البطريرك يوليه ثقته ويعيّنه شاهداً على ما يتخذه من قراراتٍ كبرى.
وعندما حَصَلت الإشتباكات بين الدروز والموارنة في 9 نيسان 1845 سَعى إلى تهدئة الأجواء، مُرسلاً نيابةً عن البطريرك مُذكرات احتجاج إلى الدول المؤثّرة في الصراع وبخاصةٍ فرنسا، طالباً إلى هذه الدول الضَغط على الُسلطنة العُثمانيية لكي توقف مُساندتها لفريقٍ على آخر وتعمل على المُساهمة في إيجاد حلّ ٍ سريعٍ للمُعضلة.
وفي أثناء هذا الصراع، توفي البطريرك يوسف حبيش، وكان ذلك في 23 ايار 1845، فتأخَّر انتخاب خلفٍ له مدة شهرين و26 يوماً خلافاً للقانون الذي يقضي بإجراء الانتخاب في اليوم التاسع بعد وفاة البطريرك. لكنَّ عوامل كثيرة أدَّت إلى هذا التأخر، منها ما هو داخليّ يعود إلى إختلاف المطارنة حول شخص البطريرك، ومنها ما هو خارجيّ مُرتبط بالصراعات الدولية والنزاعات بين الدول.. وتدخُّلها في المواجهات الحاصلة بين الدروز والموارنة.
إثرها، دعا المطران الخازن إلى إجراء مُفاوضات بين الفريقين، فتَّم الإتفاق بين الدروز والموارنة على دخول الجيش العُثمانيي إلى ثمانية أماكن في الجبل وتسليم جميع الأسلحة إليه.. على أن تعاد إلى أصحابها عندما يعود السلام. لكنَّ هذا الإتفاق لم يُنفَّذ، فعاد الدروز والموارنة إلى تعيين مندوبين عنهم اجتمعوا في بيروت ووقَّعوا اتفاقاً في 2 حزيران 1845 تَعَهَّد فيه الدروز بأن لا يقوموا باإرتكاب أدنى إعتداء، او إلحاق أقلّ مَهانة، بالفريق الآخر، الذي إذا هاجم الدروز، فللدولة ان تُرسل عليه في الحال جنوداً لتفريق شمل المُهاجمين، وإذا أحدث أفراد من الفريقين قلاقل، وأضرموا نار الحرب الأهلية فالسلطة المَحلية تتولّى التحقيق في أعمالهم، وتُنزل بهم، بِكُل عدالة، أشدَّ العقوبات مهما كان مقامهم.
وفي أثناء ذلك انتهت مُهلة التسعة أيام، وبدأت المُنافسة حول انتخاب البطريرك الجديد، كما سَقط إتفاق الثاني من حزيران وتجدَّدت الإشتباكات في الجبل. فأمست الطائفة المارونية في وَضعٍ سياسيّ ٍ وإجتماعيّ خطيرٍ جداً، خاصةً وإن السِدَّة البطريركية فارغة، والشعب الماروني مُنقسم مناطقياً وطبقياً حول المرشح لهذا المنصب.
وقد اختلف المطارنة على تفسير قانون الانتخاب، ولكنَّ التفسير الذي كانوا يتذرَّعون به كان يخفي أسباباً أخرى جوهرية لا يمكنهم الإفصاح عنها، ومِنها الخِلاف بين كسروان وبشرّي حول هوية البطريرك الجديد، الذي كان يخفي بدوره صِراعاً سياسياً بين المشايخ والفلاّحين. فالأسرة الخازنية كانت تريد انتخاب بطريركٍ منها كونها الأقوى في كسروان، ولأن المصلحة الوطنية تقتضي، بنظرهم، وجود بطريرك من طبقة المشايخ يتمتع بالقوة والنفوذ، وقد التفَّت حول الخوازنة في هذا الموضوع بقية الأُسَر الإقطاعية في المنطقة.
وبالمُقابل عارَض أهالي مناطق بشرّي والبترون وجبيل، وبخاصةٍ الفلاّحين منهم، طروحات الخوازنة، رافضين فِكرة إنعقاد مَجمَع المطارنة في بكركي التي تقع في قلب كسروان، حيثُ سَيتعرَّض المجتمعون، بِنظرِهم، إلى ضغوط المشايخ كي تأتي النتيجة لصالحهم، فاقترحوا عقد المَجمَع في قَنّوبين حيث المَقر الأساسي للكُرسيّ البطريركيّ. كما أعلن أهالي بشرّي رَفضِهم انتخاب المطران يوسف الخازن بطريركاً بِسَبَب عدم رغبته بالإقامة في قَنّوبين، حَسب رأيهم، لأنه سيتخذ من بكركي مَقراً له وسط اقربائه المشايخ.
بدورهم انقسم الأساقفة إلى فريقين: مطارنة قَنّوبين ومطارنة كسروان، وتشبَّث كل فريق بموقفه من مكان الانتخاب، ولكنَّ جَوهر الخلاف في الواقع كان على هوية البطريرك الجديد.
فأصَرَّ الفريقان على مَوقفيهما، وعندها إقترح قُنصل فرنسا حلاًّ وسطاً وهو إجراء الانتخاب في دير مَيفوق الواقع في الوسط ما بين بشرّي وكسروان، مُعلناً إستعداده لمُرافقة المطارنة إلى دير ميفوق. فوافق المطران الخازن على هذا الإقتراح، مُبدياً إستعداده للتوجه إلى ميفوق بعد وصول مطارنة قَنّوبين إليها.
فإنطلق القُنصل إلى مَيفوق، يرافقه الأب اليسوعي بلانشه والمطارنة الذين بعثوا برسالة إلى زملائهم في قَنّوبين يُعلمونهم فيها بالإتفاق، ويطلبون منهم التوجه إلى مَيفوق لأن هذا هو الشرط لكي يقصدوها هم أيضاً وعلى رأسهم المطران الخازن.
كما دعا القُنصل الفرنسي أساقفة قَنّوبين للذهاب إلى مَيفوق والمُشاركة في انتخاب بطريرك، “لأن ذهابهم والتئام شمل المَجمَع الأسقفي يعيد إلى الجبل السلام والأمان”. فوافقوا على ذلك، وبعد وصولهم إلى مَيفوق وصل إليها أساقفة كسروان والتأم المَجمَع. ولكن خلال الاجتماع قرَّر الأساقفة، بمُبادرة من المطران يوسف الخازن، الانتقال إلى دير الديمان لإجراء الانتخاب فيه، فاعترض حارسا باب قاعة الإجتماع الخازنيان، ولكنَّ المطران يوسف الخازن أقنعهما بايجابية الذهاب إلى الديمان.
وفي 16 آب إفتُتح المَجمَع في الديمان، ويوم 18 مِنه انتخب المطران يوسف راجي الخازن بطريركاُ. فَلَم يرضَ بعض مشايخ وأهالي جِبَّة بشرّي بذلك كونهم كانوا يميلون إلى انتخاب المطران بولس مسعد، فَعَمَدوا إلى تحريض الفلاّحين على البطريرك الجديد والأساقفة، فوصل إلى الديمان مُسلَّحون دخلوا الكُرسيّ البطريركيّ وعاثوا فيه تخريباً وفساداً، مُبدين إساءة إحترام لمقام البطريرك الجديد. فَتَدخَّل قُنصل فرنسا وعدد من الفعاليات لاحتواء المشكلة، فاعتذر القائمون بالشغب وأظهروا النَدم على ما فعلوا مُعلنين القبول بنتيجة الانتخاب والطاعة. بعد ذلك تَوجَّه البطريرك إلى كسروان وحلَّ في دير سيّدة البشارة في زوق مكايل، الذي كان يسكنه عندما كان مطراناً، مُستقبلاً فيه المهنئين.
في خلال مُدة بطريركيته عالج البطريرك يوسف راجي الخازن مسألة الهِجرة المارونية، إذ أن الإمتيازات التي مَنَحَتها فرنسا للموارنة كان لها أثر كبير في تنامي ظاهرة الهِجرة من جانب أبناء الطائفة نحو أوروبا والعالم الجديد، مُتأثرين بالوضع الإقتصادي السيء والضرائب العُثمانيية الباهظة، فضلاً عن الفِتن الطائفية التي شَهِدها جبل لبنان خلال عهد القائمقاميتَين. وكثير من هؤلاء المُهاجرين فقدوا الرابط مع الوطن الأم والكنيسة، ولكنَّ قسماً آخر منهم كان أوفر حظاً فاستطاع الحِفاظ على هذه اللحمة. إلا أن ظاهرة الهجرة وإن كان لها تأثيرات سَلبية عديدة على الوطن والكنيسة الأم، فقد كان لها أيضًا دور هامّ في تحويل الكنيسة المارونية من كنيسة ذات انتشار محدود إلى كنيسة ذات انتشار عالميّ. وكان لهذا البطريرك أيضاً دور تنظيميّ في الإدارة الكنسية، إذ إنه منع الإعترافات خارج الكنائس إلاّ في حال المرض.. وخصوصاً إعترافات النساء.
إقامته بمُعظمِها كانت بين الديرين اللذين أصبحا مَقرَّين ثابتَين نهائيَّين للبطاركة الموارنة : دير سيّدة بكركي ودير الديمان، وأحياناً في دير سيّدة البشارة-الذوق. ولمّا توفي في تشرين الثاني 1854خلال تواجده في المَقر البطريركي الصيفي في الديمان دُفن في مغارة القديسة مارينا في قَنّوبين تيمُّناً بها على غرار العديد من أسلافه البطاركة.
ثالث بطاركة بكركي كان البطريرك بولس مسعد (1854-1890) من عشقوت، تلميذ مدرسة المَجمَع المُقدَّس في روما ومطران طرسوس.. والنائب البطريركي. انتخب بطريركاً بإجماع اصوات المطارنة في 12 تشرين الثاني 1854، وثبَّته البابا بيوس التاسع (1846-1878) ومَنحَه الدِرع المُقدَّس.
وقد استمر في منصبه ستاً وثلاثين سنة قام خلالها بإنشاء مكتبة لدير بكركي تُحفظ فيها الكتب والمخطوطات والوثائق التاريخيّة والبراءات الرسولية المتعلّقة بالبطاركة الموارنة، وذلك في أدراج وخزائن، كما أجرى إصلاحات في هذَين المقرَّين البطريركيَّين…
سنة 1867 ذَهبَ إلى روما لحضور الإحتفال بعيد القدّيسَين بطرس وبولس، وإعلان تطويب بعض الشهداء، ثم انتقل إلى باريس حيث قابل الإمبراطور نابوليون الثالث، فإلى الأستانة ومقابلته السلطان العُثمانيي عبد العزيز الذي منحه الوسام المجيدي من الطبقة الأولى.
ولمّا نشبت ثورة الفلاّحين في كسروان سنة 1858 أخذ البطريرك مسعد يعالج هذه المسألة بحكمة وحنكة تحقيقاً للسلام وتوحيد الأواصر بين أفراد الشعب الماروني على ما يقول الأب انطوان ضو الأنطوني في مقالٍ له في مجلة “الفصول”.
ولدى حصول “مذابح الستّين” سنة 1860 راح البطريرك مسعد يَحِضُ المؤمنين على نجدة إخوانهم، كما كان له دور إنسانيّ ببذله الجهد لتلطيف الاوضاع والحدّ من البؤس والشقاء، مبدياً نشاطاً نادراً في العمل على إعادة السلام إلى الربوع اللبنانية، وتمهيد الُسبل لترسيخ روح العدل والحق. كما راح يجمع المال لمساعدة المنكوبين، مع تعزيته الحزانى بكلامه وصلاته.
وبرئاسة هذا البطريرك عُقد مَجمَع بكركي البلدي ما بين 11 و 13 نيسان 1856 بِحضور القاصِد الرسولي المطران بولس برونوني، فأتت قوانين هذا المَجمَع مُطابقة تماماً لقوانين المَجمَع اللبناني «إلا في بعض الأمور التي اقتُضي تبديلها او تلطيفها» بهدف الإسراع في تطبيقها من قِبَل الشعب، ولكنَّ حوادث السنة الستّين وما تبعها أسدلت ستار النسيان على هذا المَجمَع ومُقرّراته.
وهذه المَجامِع العشرة التي عُقدت بعد المَجمَع اللبناني يُمكن أن تُعتبر بمثابة مسيرة تطبيق لمقرّراته.
ويقول الأب أنطوان ضو أن البطريرك بولس مسعد، رفض في البدء نظام المُتصرفية الذي أقرَّته الدول لجبل لبنان على أثر حوادث 1860، مُطالباً بحُكمٍ لبناني أصيل، ومُعترضاً على سَلخ البقاع وغيره من المناطق عن جبل لبنان، لكنَّ مندوبي الدول لم يؤيّدوه في ذلك. وقد طالب بهيئةٍ تشريعية وطنية في نظام المُتصرفية وبحاكمٍ وطنّيٍ للبلاد، وهو ما لم يَحصَل أيضاً عليه.
أقام في بكركي والديمان، وأحياناً في مدرسة مار بطرس وبولس في عشقوت مسقط رأسه، ودُفن لدى وفاته في داخل كنيسة هذه المدرسة، في مدفنٍ رخاميّ عليه صورَته من رسم الفنّان داوود القرم، وتحتها رثاء شعريّ من نظم المطران يوسف دريان العشقوتي:
هذا ضَريحُ البطريركِ القُطْبِ بولسَ مَسْعَدا ربَّ القناعةِ والوَداعَةِ والشَّهامَةِ والنَّدى
حَبْرِ الزَّمانِ ونًطْسِهِ بل بَحْرَ عِلْمٍ مُزْبِدا قَرَنَ السِّياسةَ بالقَداسَةِ والرِّئاسةَ بالهُدى
وبَنى لَهُ بِفَعالِهِ ذِكْراً يَدومُ مُخَلَّدا وقَضى فأحْيَتْهُ المفَاخِرُ والمَآثِرُ سَرْمَدا
ومَضى إلى دارِ السَّعادةِ حَيْثُ أصْبَحَ مُسْعَدا وضَريحُهُ أرِّخْ هُنا لِلْخَلْقِ أضحى مَقْصَدا
سنة 1890
خَلَفُهُ كان البطريرك يوحنا الحاج (1890-1898) من دلبتا، الذي كان مطراناً على أبرشية بعلبك والمولود سنة 1818. وقد جرى انتخابه في 28 نيسان سنة 1890 بإجماع أصوات المطارنة المُجتمعين، وثبَّته البابا لاوون الثالث عشر (1878-1903) ومنحه دِرِع التثبيت في 23 حزيران من العام نفسه. ولكن لمّا كان هذا البطريرك قد أقام لفترةٍ من الزمن في دير سيّدة نسبيه في غوسطا، أثناء العمل في الورشة الكبيرة التي أوعز بها لدير بكركي، فإننا سنتكلم عنه مُفصَّلاً عندما نتحدَّث عن دير نسبيه.
أمّا خليفته فكان البطريرك الياس الحويّك (1899-1931)، الذي كان، في عهد أسقفيته، الساعد الأيمن للبطريرك الحاج، والجدير بالذكر أنه بسَعيه نال هذا البطريرك تجديد المدرسة المارونية في روما. هو إبن الخوري بطرس الحويّك من قرية حِلتا في بلاد البترون، وُلد في شهر كانون الأول سنة 1843، ودرس في معهد المَجمَع المُقدَّس لنشر الإيمان في روما بعد تخرُّجه من كلية اللاهوت في مدرسة دير مار يوحنا مارون في كفرحَي القريبة من قريته حِلتا ثم في مدرسة الآباء اليسوعيين في غزير. اقتبل درجة الكهنوت في الخامس من حزيران 1870، وفي العام 1872، عيّنه البطريرك بولس مسعد (1854-1890) كاتباً لسرّه. وفي 14 كانون الأول 1889 رُقّي إلى درجة الأسقفية وعُيّنَ مطراناً على عرقا شرفاً ونائباً بطريركياً، وذلك في عهد البطريرك بولس مسعد.
ومنذ العام 1870، أي منذ بداية حياته الكهنوتية، كانت تُراوده فِكرة تأسيس جمعية رهبانية نسائية مارونية، وذلك على أثر جولاته في القرى والمُدن كاهناً ثم أسقفاً.. ورؤيته الفقرَ والجَهل سائدَين على قسمٍ كبير من أبناء المجتمع. كما أنه كان يرى ان تأسيس جمعية رهبانية نسائية تَهتَم بتربية الفتاة ضرورة مُلحّة، ووسيلة لمُساعدة المُجتمع على النهوض والتطور والتخلُص من الفساد والجهل. فراح يترقب الفرصة لتحقيق حلمه هذا.. حتى كان يوم من أيام العام 1893، حيث التقى، في كفيفان، في بيت صديقه الشيخ عسّاف البيطار، بالراهبة الأم روز إيلي نصر، وهي لبنانية من القليعات – كسروان كانت قد أمضت 34 سنة في الحياة الرهبانية عند راهبات الناصرة الفرنسيات، و11 سنة عند راهبات الوردية منها 7 سنوات رئيسةً عامَّة لهذه الرهبنة، فكان من هذا اللقاء، بعد سِنتين منه أي في العام 1895، المُباشرة بتأسيس جمعية راهبات العائلة المقدسة المارونيات في جبيل برئاسة الأم روز، وانتقل مَركزِها في السنة التالية 1896 إلى عِبرين. وقد دَخَلت إبنة شقيق البطريرك هذه الرهبنة لتغدو من ثم رئيسةً عامةً بأسم الأم جوزفين.
وعام 1897 طلبه البابا لاوون الثالث عشر (1878-1903) إلى روما ليولّيه إدارة معهد الموارنة الإكليريكي فيها. إلا أنه، في السنة التالية 1898، توفي البطريرك يوحنا الحاج، فوقعت القرعة، في السادس من كانون الثاني 1899، أي يوم عيد الغطاس، على المطران الياس الحويّك ليصبح بطريركاً، فثبَّته البابا لاوون الثالث عشر (1878-1903) في التاسع من حزيران من ذلك العام.. ومنحه الدِرع المُقدَّس على يد وكيله الخوري بولس بصبوص، المطران في ما بعد.
وفي ذلك العام نفسه تلقّى البطريرك نبأ مَصرع الإم روز ايلي نصر، التي شاركته في تأسيس جمعية راهبات العائلة المقدسة المارونيات.
وكانت إقامته في بكركي شتاءً والديمان صيفاً، جاعلاً من كُرسيّ الديمان صرحاً دعاه “كُرسيّ جْدَيْدِة قَنّوبين” كي يُحافظ على اسم قَنّوبين التي انتقل الكُرسيّ البطريركي منها إلى الديمان، عِلماً بأنه كان يُعرِّج على دير عبرين اثناء انتقاله إلى منطقة الشمال.
وفي الحرب العالمية الأولى، وتحديداً في العام 1916، فَتَك الجوع والجِراد باللبنانيين، فأمر بفتح أبواب الأديرة أمام جياع الحرب. وبحلول العام 1920، وكانت الحرب قد انتهت بهزيمة الدولة العُثمانيية واحتلال الحلفاء للبنان وسوريا، أعلن الجنرال غورو، بِحضور البطريرك الحويّك، “دولة لبنان الكبير” في الأول من أيلول من ذلك العام. ذلك أن الحويّك، من يوم انتخابه بطريركاً، وضع إستقلال لبنان هدفه الأول، فكانت أولى كلماته بعد تسلُّمه عصا الرعاية.. التي أصبحت مَضرب مثل: “سأبذل جُهدي وراحتي بل وحياتي في سبيل شعبي وكنيستي”.
ولم يكن إعلان “لبنان الكبير” مُجرّد بادرة من جانب الجنرال غورو، بل سبقت ذلك مساعٍ من جانب البطريرك بدأت منذ العام 1919، إذ، نزولاً على طلبه، اتخذ مجلس الإدارة اللبناني قراراً بالمطالبة بلبنان الكبير، فحمله داود عَمّون على رأس وفدٍ إلى مؤتمر الصلح المُنعقد في فرساي في 13 شباط 1919. ولكنَّ هذا الوفد مُني بالفشل في تحقيق مطلبه، لذلك ترأس البطريرك الحويّك وفداً ثانياً ذهب إلى مؤتمر الصلح وقابل رئيس الجمهورية الفرنسية بوانكاريه ورئيس وزرائه كليمنصو وسواهما، ورفع إلى المؤتمر مذكرة طالب فيها بالاعتراف بإستقلال لبنان، وإعادته إلى حدوده التاريخية والطبيعية، وإن لا ينال الإانتداب الفرنسي على لبنان من سيادته المطلقة.
في العام 1931، قبل وفاته بزمنٍ قصير، أصدر البطريرك الياس الحويّك منشوره السنوي بعنوان “محبة الوطن”، وليلة عيد الميلاد، في 24 كانون الأول 1931، رقد بسلام في كُرسيّه ببكركي ودُفن فيها، ثم نُقل جثمانه عام 1936 إلى الدير الأُمّ لراهبات العائلة المقدَّسة المارونيات في عبرين بَصفته مؤسِّس جَمعيتهنّ، إذ كان يردّد دائماً: “إن قلبي في عِبرين”.
أقيم له ضريح من المَرمَر في أحد اقبية الدير عليه هذه الكتابة:
“هنا يَرقد بالرب المُثلث الغبطة مار الياس بطرس الحويّك، بطريرك إنطاكية وسائر المشرق،
وُلد سنة 1843
سيم كاهناً سنة 1870
ارتقى إلى الدرجة الأسقفية سنة 1889
أسَّس جمعية العائلة المقدَّسة المارونية سنة 1895
انتخب بطريركاً سنة 1899
رقد بالرب سنة1931″.
كذلك نقرأ على الضريح العبارة التالية باللغات العربية والفرنسية واللاتينية والسريانية:
“قام إيليا كالنّار وتوقَّد كلامُه كالمِشْعل. سيراخ 48/1”.
ما أعظم مَجدَك يا إيليا بعجائبك، ومَن له فخرٌ كفخرك. سيراخ 48/4.
وقد اكتتبك الرب لأقضية تجري في أوقاتها، ولتسكين الغضب قبل حِدَّتِه، وَرَدَ قلبُ الآب إلى الإبن، وإصلاح أسباط يعقوب. سيراخ 48/1.
طوبى لمن عاينك ولِمَن حاز فخرَ مُصافاتِكَ. سيراخ 48/11″.
وأمام ضريح هذا البطريرك يتواجد ضريح كلٌ من الرئيسات العامّات الثلاث الأُوَل للرهبنة وهُنَّ الأم روزالي نصر والأم إسطفاني كردوش والأم جوزفين الحويّك.. إبنة شقيق البطريرك.
كذلك نُصبَ في الغرفة تمثال للبطريرك من البرونز من صُنِع إبن شقيقه الفنّان يوسف سعدالله الحويّك عام 1934، بالإضافة إلى جِدرانية فنيّة من رَسم إبن شقيقه الآخر لاوون.
وفي العام 2013 فُتحت دعوى تطويب هذا البطريرك، وفي العام 2020 انتهت أعمال التحقيق في ملفّ دعوى التطويب، وأرسلت إلى مَجمَع دعاوى القديسين في الفاتيكان.
وفي العام 2019، وقَّع البابا فرنسيس على مرسوم إعلان البَطريرك الياس الحويّك مُكرمًا، واضعاً البطريرك الماروني الثاني والسبعين، بطريرك الإستقلال (1899-1931)، ومؤسس رَهَبنَة “راهِبات العائِلَة المُقَدَّسَة المارونيات”، في أقرب مَرحلة قبل إعلانه طوباويًا.
سَمّاه البطريرك بشارة بطرس الراعي خلال عظة تولِّيه السدّة البطريركية عام 2011 بأبي الإستقلال ولبنان الكبير.. الذي ترأس الوفد اللبناني الرسمي إلى مؤتمر الصلح في فرساي – باريس سنة 1919.
وعلى أثره انتخب مطران طرابلس أنطون عريضة بطريركاً (1932-1955)، وذلك يوم 17 كانون الثاني 1932 الذي يقع فيه عيد شفيعه القديس مار مطانيوس، وسَنتكلم عنه مُفصَّلاً في حديثنا عن دير الديمان كونه هو الذي رمَّمه ووسَّعه ثم دُفن فيه.
البطريرك بولس بطرس المعوشي (1955-1975)، الذي خَلَفَ البطريرك عريضة، وُلد، تحت اسم فريد، في الأول من نيسان عام 1894 في جزّين، وبعد دراسته الإبتدائية في بلدته دَخل مدرسة “الحكمة” في بيروت، ولمّا أنهى دروسه فيها لبّى دعوته إلى الكهنوت، فأوفده مطران أبرشيته بولس بصبوص إلى روما حيث درس في المعهد الماروني الروماني ومعهد إكليرانيكا والمعهد الإكليريكي الفرنسي وجامعتَي البروباغندا والغريغوريانا، وَسيم كاهناً في روما بوضع يد المطران نعمة الله أبي كرم سنة 1917. وفي أوآخر العام 1919 عاد إلى لبنان، ثم أُوفِدَ إلى أميركا لتفقُّد أحوال المغتريبن فيها، وهناك استقرَّ لمدة أربع عشرة سنة في خدمة النفوس. وبعد عودته إلى لبنان بانقضاء هذه المُدة انتخبه مَجمَع الأساقفة مطراناً على أبرشية صور، فرُقّي إلى الدرجة الأسقفية في 8 كانون الأول عام 1934. وقد عُيّن المطران المعوشي رئيساً للَّجنة الأسقفية لتصريف شؤون البطريركية لمّا لم تَعُد سِنّ البطريرك أنطون عريضة (1932-1955) تَسمح له بإدارة هذه الشؤون… وعندما توفيّ البطريرك عريضة التأم مَجمَع أساقفة الكنيسة المارونية لانتخاب خلفه، ولكنَّ هذا المَجمَع فشل في التوصل إلى انتخاب مُرشَّح يحوز على ثلثَي الأصوات وفق الشرع الكنسي، مِمّا جعل البابا بيوس الثاني عشر (1939-1958) يَعمد بنفسه إلى تعيين بطريرك، حيث وقع إختياره على المطران معوشي.. وذلك في 25 ايار من العام 1955. فلم يَعترِض المطارنة على هذا التعيين ولا طعنوا بشرعيته، ليكون بذلك البطريرك الوحيد في القرن العشرين الذي لم يُنتخب انتخاباً.
ولمّا غدا بطريركاً شارك في أعمال المَجمَع الفاتيكاني الثاني الذي إنعقد ما بين العامَين 1963 و1965. وقبل خِتام هذا المَجمَع في 22 آذار 1965 مَنحه البابا بولس السادس (1963-1978) رِتبة كاردينال، فكان أول بطريرك ماروني ينال هذه الرتبة. وكان في هذا المَجمَع مُدافعاً عن طائفته من حيث الإمتيازات التي جسَّدها المَجمَع اللبناني الذي إنعقد في دير سيّدة اللويزة في العام 1736.
شهدت مدة ولاية البطريرك المعوشي إعلان قداسة الراهب اللبناني شربل مخلوف، وفَتح دعوى تطويب الأب نعمة الله الحرديني والراهبة رفقا الريّس. وقد تَولّى ترميم الصرح البطريركي في بكركي، وتوفّي في 11 كانون الثاني عام 1975 ودُفن في البدء في كنيسة الصرح، وعندما شُيّدت المقابر الجديدة نُقل رفاته إليها .
سمّاه البطريرك بشارة بطرس الراعي عام 2011، خلال عظة تولّيه السدّة البطريركية، “بطريرك الإنفتاح بحكمة على العالمَين العربي والغربي“.
سيّد الكُرسيّ بعد البطريرك المعوشي كان أنطونيوس خريش (1975-1986)، وهذا التاريخ الإخير يُشير إلى سنة إستقالته لا إلى تاريخ وفاته، وقد قضى بقية حياته في دير سيّدة بكركي إلى ان توفّي في 19 آب من العام 1994 ودُفن في مدافن البطاركة في هذا الصرح.
هو البطريرك الماروني الثاني من جنوب لبنان بعد البطريرك المعوشي، وُلد في بلدة عين إبل عام 1907، وذهب إلى روما للدراسة وهو بعد في الثالثة عشرة من سنّه، لكنه hضطرَّ للعودة إلى لبنان لأسبابٍ صحية، فأكمل دروسه اللاهوتية في جامعة القدّيس يوسف ببيروت.
وبعد وفاة البطريرك المعوشي انتخب خَلَفاً له بتاريخ 2 آذار 1975، وبعد شهرٍ واحدٍ من انتخابه تقريباً إندلعت نيران الحرب الأهلية اللبنانية، فلم يَدَع وسيلةً إلاّ استخدمها من أجل تخفيف آلام شعبه وإنقاذ لبنان، وكان إذ ذاك بطريرك الحوار والوحدة الوطنية.
منحه البابا يوحنا بولس الثاني (1972-2005) رتبة الكاردينالية في 2 شباط 1983، مِمّا خوَّله حضور المَجمَع السادس للأساقفة الكاثوليك في العالم الذي إنعقد في الفاتيكان يوم 29 ايلول 1983.
شهدت سنو بطريركيته تطويب الراهبة رفقة الريّس في 17 تشرين الثاني 1985، فكانت ثالث طوباوية مارونية بعد القدّيس شربل والإخوة المسابكيين.
أسَّس أثناء ولايته عدداً من أبرشيات الإغتراب الماروني، كما قام بتأسيس “إتحاد العائلات” الذي عُرف لاحقاً باسم “الصندوق الماروني والمشاريع الإسكانية والإنمائية”، وأسَّس كذلك “الهيئة المارونية للتخطيط والبناء”.
البطريرك الكاردينال مار أنطونيوس بطرس خريش كان بطريرك الأخوَّة والمحبة والسلام، والإلفة بين اللبنانيين على إختلاف نزعاتهم، سمّاه البطريرك بشارة بطرس الراعي عام 2011 خلال عظة تولّيه السدّة البطريركية رُباناً حكيماً، قاد سفينة الكنيسة والوطن وسط أمواج الحرب اللبنانية الهائجة، ورفض بعناد مشروع تقسيم لبنان والتحالفات مع الخارج.
بعد تقديمه إستقالته عُيِّن المطران إبراهيم الحلو مُدبّراً رسولياً للطائفة إلى ان انتخب مَجمَع الأساقفة المطران نصرالله صفير بطريركاً، وهو المَجمَع الذي إنعقد في بكركي في نيسان 1986.
توفّي هذا البطريرك في بكركي يوم 19 آب 1994، وكان أول مَن دُفن في المقابر الحديثة للبطاركة، مُودَعاً في قبرٍ تعلوه رخامة نقرأ عليها ما يلي:
“البطريرك الكردينال مار أنطونيوس بطرس خريش
وُلدَ في عَين إبل في 20/9/1907
سُيّم كاهناً في 12/4/1930
انتُخِبَ مُطران شَرف على طرطوس في 15/10/1950
عُينَ راعياً لأبرشية صيدا المارونية في 25/11/1957
انتُخب بطريرك انطاكية وسائر المشرق في 3/2/1975
عُيّن كردينالاً في 2/2/1983
إستقال من مهامه البطريركية في 3/4/1986
توفي في 19/8/1994″.
البطريرك نصرالله صفير (1986-2011) هو البطريرك المارونيّ الثالث الذي أصبح كاردينالاً. وُلد في ريفون عام 1920، وتَسلَّم عصا رعاية طائفته والحرب اللبنانية في أوج إستعارها، فاستطاع قيادة الطائفة والوطن في أصعب الظروف، وظلَّ صوته الأعلى والأصلب مُطالباً بحرّية لبنان وسيادته وإستقلاله. والجدير بالذكر أن العام 2011، الذي ذكرناه أعلاه، يُشير إلى سنة إستقالته من السدَّة البطريركية. وأثناء مرض البطريرك المعوشي تعيَّنَ عضواً في اللجنة الأسقفية التي سيَّرت شؤون البطريركية في هذه الفترة.
في أيامه صَدَرَت “مَجموعة قوانين الكنائس الشرقية” عام 1990، كما صدر عن البطريركية كتاب “القدّاس الماروني” عام 1992 بعد مرور أربعمئة عام على صدور الطبعة الأولى منه.
كذلك انعقد سينودس الأساقفة الخاص بلبنان الذي صدر عنه الإرشاد الرسوليّ في العام 1997، تزامناً مع الزيارة التاريخية للبابا يوحنّا بولس الثاني، والتأم المَجمَع البطريركي الماروني الذي دام من سنة 2003 إلى 2006، كما التأم سينودوس الأساقفة الخاص بالشرق الأوسط في العام 2010.
ومن أعماله المُميَّزة إعلانه عامَ 2010 عاماً يوبيلياً لمار مارون لمناسبة مرور 1600 سنة على وفاته وإنطلاق المارونية التي أصبح لبنان معقلها وموطنها الأكبر.
سَمّاه البطريرك بشارة بطرس الراعي عام 2011 خلال عظة توليه السدّة البطريركية: “الذي ناضل من أجل تحرير القرار الوطني والأرض اللبنانية من كل أشكال الوصاية والإحتلال، وأجرى المُصالحة في الجبل، وحَقَقَ الإصلاحات الكنسية اللازمة، والذي في عهده جرت أحداث كنسية كبيرة: إعلان طوباويين وقديسين في كنيستنا هم نعمة الله ورفقا وأبونا يعقوب والأخ اسطفان، وصدور مجموعة قوانين الكنائس الشرقية (1990)، وانعقاد جمعية سينودوس الأساقفة الخاصة بلبنان (1995) التي أعطتنا الإرشاد الرسولي رجاءً جديداً للبنان (1997)، وانعقاد المَجمَع البطريركي الماروني (2003 – 2006)، وأخيراً انعقاد جمعية سينودس الأساقفة الخاصة بالشرق الأوسط (2010).
توفّي هذا البطريرك في بكركي يوم 1912 أيار 2019، ودُفن في المقابر الحديثة للبطاركة، مُودَعاً في قبرٍ تعلوه رخامة نقرأ عليها ما يلي:
أمّا الجالس اليوم على كُرسيّ بكركي بعده فهو البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي (2011-) الذي جرى انتخابه في 15 آذار من العام 2011. وهو من قرية حِملايا في المتن الشمالي، وُلد في25 شباط عام 1940، وانخرط باكراً في صفوف الرهبنة المريمية المارونية عام 1953. درس في كلية سيّدة الجمهور للآباء اليسوعيين، ثم في إيطاليا حيث عمل بعد ذلك في الفاتيكان، وتعاطى تدريس اللاهوت والحقّ الكنسي في عدِّة جامعاتٍ هناك.. قبل أن يصبح أسقفاً عام 1986، ورئيس أساقفة جبيل عام 1990، مُترئساً عدداً من اللجان الكنسية منذ سيامته أسقفاً حتى انتخابه بطريركاً. وهو، إلى جانب كونه البطريرك الماروني، يُعتبر رئيس مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك.
وهذا البطريرك، منذ أن انضوى في سِلك الكهنوت حتى سيامته أسقفاً، تميَّز بِكونه شَخصية حكيمة وواعدة من خلال المَهامّ والمسؤوليات التي عُهد بها إليه، بحيث، لدى انتخابه بطريركاً، استبشر به الموارنة واللبنانيون خيراً، وما زال يزكّي فيهم هذا الأمل، وبالجولات التي قام ويقوم بها على رعاياه في مختلف المناطق اللبنانية، وبجولاته في الخارج على الجاليات اللبنانية والمارونية خصوصاً، وزياراته للمراجع الأجنبية مناشداً ضَمان بقاء المسيحيين في الشرق في ظل ما يتهدَّدهم، مُسترشداً في ذلك بالموقف البابويّ من هذه المسألة الذي لا يألو جِهداً في العمل على ترسيخ الوجود المسيحيّ في هذه المنطقة التي هي مَهد المسيح ونقطة إنطلاق المسيحية إلى العالم.
شعار هذا البطريرك: “شركة ومحبة“، فَمِمَّا جاء في خطاب تولّيه السدَّة البطريركية:
“إننا سنعيش معاً هذه الشركة بالمحبة.. في لبنان الذي “مَجده” في رسالته. لقد أُطلق على البطريرك الماروني شعار”مجد لبنان أعطي له” مأخوذا من نبوءة إشعيا، لكنه يُعطى له ولكنيسته بقدر ما يلتزمان ببناء الشركة والشهادة للمحبة. مَجدُ لبنان يُنتقص بالإنغلاق على الذات والتقوقع، لكنه ينمو ويعلو بالإنفتاح على الآخر، على هذا الشرق وعلى العالم. بل يُعطى “المجد” للبنان وشعبه إذا كنا كلنا للوطن كما نُنشد. فالوطن ليس لطائفة أو فئة، ولن يَحتكرَه أحد لأن في إحتكار فئة له إحتقاراً لنا جميعاً، وفقداناً لهذا “المجد” الذي عظمته في تنوُّع عائلاته الروحية وغناها، ولا أقول في تنوُّع طوائفه لأنها صُبغت بألوان سياسية وحزبية ضيّقة انتزعت من هذه الطوائف قُدسيتها وأصالة إيمانها وروحانية دينها. “فالويل لأمة كثرت فيها الطوائف وقلَّ فيها الدين”، نقولها مع إبن الأرز جبران خليل جبران”.
وبعد مرور ثلاث سنوات على أعتلائه السدَّة البطريركية أصدر بمناسبة عيد مار مارون أربعة أنظمة داخلية جديدة استكمالاً لتطبيق توصيات وآليات المَجمَع البطريركي الماروني، بعد إنشاء المكاتب الجديدة والأمانة العامة في الدائرة البطريركية، وهذه الأنظمة هي:
-
النظام الخاص بالدائرة البطريركية والمؤسسات التابعة لها.
-
النظام الداخلي للأبرشية البطريركية بنياباتها الأربع.
-
قانون الموظفين في الدائرة البطريركية.
-
النظام المالي في الدائرة البطريركية والنيابات والوكالات والمؤسسات التابعة لها.