من رئيس عصابة إلى قدّيس يَنشد التوبة حتّى الاستشهاد
تعدّدت ألقاب القديس موسى، وسُمّي «الإثيوبي والحبشي والأسود والقويّ». وُلدَ موسى نحو عام 330 م في إثيوبيا، في أسرة مسيحيّة. كان ذا بُنيان جثماني قوي، وأكولًا بدرجة كبيرة وشرِهًا في كلّ شيء.
كان يُعْرَف بطباعه العنيفة التي أهّلته لدخول عالم الجريمة. وبالفعل، لجأ إلى أماكن نائية، وصار زعيمًا لمجموعة من السفّاحين واللصوص الذين جاؤوا إلى وادي النيل لنشر الرعب والعنف والحصول على الغنائم عبر ترويع الآمنين.
عندما صار شابًا، زحف إلى مصر في محاولة لإيجاد وضع مادّي واجتماعي أفضل، لكنّه لم يجد سوى فرصة للعمل خادمًا لدى مسؤول حكومي في مصر أقدَم على طرده بعدما اشتبه في أنّه سرق ماله وقتل أحد حرّاسه.
اهتداء موسى
في برّيّة شِهيت بصحراء وادي النطرون، التجأ إلى أحد الأديرة، وحَلّ على رهبانه ضيفًا. وهو كان قد توجّه إلى هناك بهدف الاختباء، بعدما هرب من محاولة للقبض عليه إثر قيامه بعمليّة سطو وسرقة. تأثر بمدى تفاني رهبان الدير في محبّة الله، وأسلوب الحياة الشديد الزهد والاكتفاء بالزاد الروحي. لقد لفت كُلّ ذلك انتباه الإنسان الداخلي في موسى، ذلك الإنسان الدفين العالق في سجن العادات الجسديّة البغيضة، الجالبة للطّمع والعنف.
بمرور الوقت، لم يشأ موسى أن يترك الدير، ولا أن يعود إلى سيرته القديمة، ولا أن يحتفظ بأيّ شيء استحوذ عليه عن طريق السرقة، برغم منازعة جسده له، وقرّر الانضمام إلى الأسرة الرهبانيّة في دير صحراء شِهيت.
وإذ أشرق نور الربّ على موسى، ملأ قلبه ضياءً وإحساسًا ببشاعة الخطيئة، فَكَرهها وندم على ما فعله من جرائم وآثام لا تُحصى. وتاب عنها، فاعترف علانيةً أمام المؤمنين في الكنيسة بكلّ أخطائه القديمة وأعلن ندمًا صادقًا. وكان «أبو مقار» يشاهد في خلال الاعتراف لوحًا عليه كتابة سوداء. وكلّما اعترف موسى بخطيئة، مسحها الملاك. وعندما أنهى الاعتراف، وجد أبو مقار اللوح أبيض ناصعًا، ثمّ عمَّدهُ الأنبا إيسيذوروس، بعد التأكّد من صدق توبته.
ورغم صعوبة تأقلم شخص اعتاد الاستجابة لمطالب شهواته بلا قيود، اختار أن يعيش الحياة الرهبانيّة المتميّزة بضبط الحواس لصالح سيادة الروح. وقد ساعده عشقه لهذه الحياة الراقية وشوقه لأن يعيشها في أن يستمرّ فيها بلا يأس، رغم الفشل المتكرّر. وكان يجد صعوبة في الأصوام وقلّة الطعام ونوعيّته.
حياة موسى الديريّة
ذات مرّة، حدث هجوم على الدير شنّه لصوص. وقد استطاع الراهب موسى الذي كان لا يزال قويًّا التغلّب عليهم وسحبهم نحو كنيسة الدير في أثناء بدء الصلاة. عفا رهبان الدير عن اللصوص، فتأثّر هؤلاء بوداعتهم وقدرتهم على الغفران. وطالب الرهبان موسى بأن يمتنع عن إيذائهم أو التعامل معهم في شكل عنيف، عملًا بمبادئ الحبّ والوداعة، فآمنوا بالمسيح وانضمّوا إلى الأسرة الرهبانيّة.
بدا من خلال هذه الواقعة أنّ موسى لم يكُن قد اكتسب بعد كامل الصفات المسيحيّة وأنّهُ لم يحسن التصرّف مع اللصوص، فشعر بأنّه فشل في اختبار وداعته. عندئذٍ، حاول رئيس الدير الأب إيزيدورس أن يطمئنه على حالته وألّا يتركه فريسة لليأس. ودعاه إلى السطح العلويّ للدير ليُشاهدا معًا بزوغ أشعّة الفجر الأولى في الأفق. بعد التأمّل، قال رئيس الدير لموسى: «كما ترى، تقوم أشعّة الشمس، بالابتعاد ببطء عن الليل لتستهلّ يومًا جديدًا. كذلك، يبتعد الإنسان ببطء عن ليل سيرته الأولى، متّجهًا إلى حياة جديدة».
وقد اتّفق الإخوة في الدير على الصوم أسبوعًا كاملًا. وفي خلال هذا الأسبوع، أتى بعض الغرباء إلى الدير، فاستضافهم موسى في محبسه وأعدّ لهم طعامًا. تسرّع بعض الإخوة عندما اشتمّوا رائحة الطعام عنده، وأخبروا رئيس الدير بأنّ الراهب موسى مُفطِر. وعندما أتوا إليه، عرفوا أنّه لم يكسر الوصيّة البشريّة بالصوم المتّفَق عليه في الدير، لكنّه طبّق أيضًا الوصيّة الإلهيّة بإطعام الجائع وإيواء الغريب. من هنا، بدأ موسى يتدرّج في الكمال المسيحي في شكلٍ واضح.
وقد تجلَّت قمّة عمل الروح القدس فيه عندما أخطأ أحد إخوته بالدّير. واستدعى رئيس الدير جميع رهبانه إلى جلسة للبتّ في أمر الراهب المخطئ. في البداية، رفض الراهب موسى حضور الجلسة، غير أنّه حضر أخيرًا بعد إصرار رئيس الدير، فأتى يحمل جِوالاً مليئًا بالرمل لكنّه مثقوب، وقال للحضور لدى وصوله إلى المحاكمة إنّ هذا الجِوال ليس سوى «خطاياي التي تسرّبت ورائي وأنا لا أراها، كما تسرّب هذا الرمل من الجِوال المثقوب، لكنّني اليوم آتٍ للحكم على أخطاء شخص آخر!». فَعَفا الإخوة عن الراهب المُخطئ بعد هذه الكلمات. وتأثّر الراهب المُخطئ هو الآخر وتاب توبة صادقة. وأصبح موسى المرافق الروحي لنسّاك الدير، ورُسِمَ كاهنًا.
استشهاد مار موسى
وصل إلى الدير خبرٌ مفاده أنّ البربر خطّطوا لمهاجمته. أراد الرهبان الدفاع عن أنفسهم، لكنّ موسى نهاهم عن ذلك، وأوصاهم بأن يتوبوا بدلًا من أن يحملوا السلاح، مذكِّرًا إيّاهم بقول الربّ يسوع المسيح لبطرس عندما تمّ اعتقاله في بستان جثسيماني: «اِغمِدْ سَيْفَك، فكُلُّ مَن يَأخُذُ بِالسَّيفِ، بِالسَّيفِ يَهلك» (متّى 26: 52).
وتمّ قطع رأسه بالسيف مع سبعة آخرين على يد السفّاحين البربر نحو عام 405 م، وتُعيِّد له الكنيسة الجامعة يوم 28 أغسطس/آب.
من أقواله:
– جواباً لأحد الإخوة سأل كلمة منفعة قال: اذهب واجلس في قلاّيتك وهي تعلّمك كلّ شيء.
– مَن يهرب من الملذّات الدنيوية يشبه كرمة حان قطافها، أمّا مَن يسعى إليها فيشبه الحصرم.
– إذا لم يشعر الإنسان في أعماقه بأنّه خاطئ لا يصغي إليه الله.
– إذا لم تتّفق الصّلاة مع السّيرة عبثاً يكون التّعب.
– سأله أخ: في كلّ مسعى للإنسان، ما الذي يساعده فيه؟ قال: الله! قال: وما نفع الأصوام والأسهار إذاً؟ فأجاب: هذه من شأنها أن تجعل النّفس وديعة متواضعة. إذ ذاك كيف يصلّي المجاهد: انظر إلى تعبي وتواضعي واغفر جميع خطاياي (مزمور ١٨:٢٤) فإنّ الله يتحنّن عليه.
– سألوه: ماذا يعمل الإنسان بكلّ تجربة تأتيه أو بكلّ فكر من الشّرّير؟ فقال: يبكي أمام صلاح الله كي يعينه، فيرتاح للحال.
– لا تكن قاسي القلب على أخيك، فإنّنا جميعًا قد تغلبنا الأفكار الشرّيرة.
«آسي مينا» في مصر
No Result
View All Result