الإيمان
القديس مارفيلوكسينوس
-
الذي يريد ان يدنو من تدبير سيرة التلمذة للمسيح ينبغي له قبل كل شيئ ان يقتني الايمان الحقيقي: الايمان الذي يصدق الله ولا يفحص عنه يتخذ اقواله كحقائق ولا يبحث عن طبيعتهِ، يسمع وصاياه و لا يحكم على أعماله. الايمان الحقيقي يصدق الله في كل ما يقوله دون ان يطلب ادلة او براهين على حقيقة قولهِ، اذ انه يكفي ان يكون الله نفسه هو الذي يتكلم. فالعلامات و الادلة و البراهين تكون ضرورية اذا كان الانسان هو يتكلم او يعمل شيئاً ما. ولكن اذا كان الله نفسه هو الذي يتكلم و رب الكون هو الذي يقول و هو الذي يعمل، فأنه يتوجب علينا ان نصدق، لأنه يكفي ان يتثبت ايماننا ان نعرف ان الله هو الذي يتكلم و يجرى.
-
ليس للانسان الاستطاعة ان يحكم على مشيئاته، فكيف يمكن للانسان الذي هو احد المخلوقات ان يحكم على مشيئته خالقهِ؟ فكما ان إناء من الصلصال لا يقدر ان يلوم الخزاف و يسأله لماذا صنعتني هكذا (رو 9: 21) ولا يراجعه في شيئ واحد من جميع اعمالهِ، هكذا فإن الانسان الذي ليس هو سوى إناء من طين وُهِبَ النطق، لا يقدر بالاحرى ان يلوم جابله الذي خلقهُ. لأنه ولو انه يمتلك النطق و المعرفة الا انه لم يعطِ ذلك لكي يلوم ارادة خالقهِ، ولكن لكي يمتدح معرفة الذي جبله. فالانسان وإن كان قد وهِب النطق، فهو يظل غير قادر ان يبحث عن طبيعة خالقهِ بأكثر مما يعجز الاناء الذي من طين عن ان يتكلم او يجابه الخزاف الذي صنعه. لأن خالقنا انما وضع فينا موهبة النطق لكي نشكره و نعترف بفضلهِ، و اعطانا علم معرفتهِ لكي نتعجب من خلائقه، و اعطانا موهبة الحكمة لكي نحس بهِ، ووضع فينا مذاق التمييز لكي نتذوق خيراته، و اعطانا عين الايمان التي تدرك اسرارهِ لكي ما نتأمل اعمالهِ.
-
الله اعظم بكثير من افاق فحص افكارنا، و عنايته تفوق ايضاً مجال بحث معرفتنا. و افعال الله تتمشى مع طبيعتهِ. فكما ان الطبيعة لا تخضع لأي فحص، بالمثل فأن افعال طبيعتهِ هي ايضاً ليست مواضيع للبحث و الاستقصاء. و نحن لا نقدر ان نحكم على مشيئاتهِ، لماذا اراد الله هكذا ولماذا فعل هكذا، لأنه كما اننا لانستطيع الحكم لماذا صنعنا بهذهِ الصورة او لماذا خلقنا ووضعنا في عالم بهذا التركيب. فأننا كذلك لا نقدر ان نلوم واحدة من مشيئاتهِ ونقول لماذا اراد و لماذا فعل هكذا.
-
يجب ان اللذي يأتي الى الله يؤمن بأنه موجود وانه يجازي اللذين يطلبونه (عب 11: 6) هذا هو القانون الذي وضعه القديس بولس للإنسان الذي يريد ان يدنو من الله، ودين الصلاة الذي اوجبه عليه: امن فقط ان الله موجود والذي يؤمن بأن بالله موجود لا يبحث بعد ذلك و متى و كيف، وبالمثل اذا فإنه اذا ادرك مشيئتهُ و قوله و تعليمهُ، يصدق انها حقاً ارادة الله و يصغي الى صوت الله و الى وصاياه. اما الحكم: لماذا وبأي نوع ولأي علة، فهذا الفحص المتجاسر هو من شأن نفس لم تحس بالله.
-
لأن الذي قد احس بالله ينبغي ان يقتني ضمير طفل، ويكون تجاه الله وعنايتهُ مثل طفل تجاه ابيه وامه. وكما ان الطفل يتقبل التعليم من معلمهِ ولا يفحص اقواله، ولا يُقَيم تعليمه ولا يحكم بفكرهِ على من يُعلمه، لأنهٌ يمتلك قوة في افكارهِ ان يبحث عما يسمع، هكذا ينبغي ان يكون الانسان تجاه الله، وليس كمن يفحص او يحكم على افعالهِ بواسطة افكارهِ الخفية ذلك لأنه طفل ولأنه يسمع تعليمهُ مثل طفل ويقبلهُ بايمان.
-
لأن الله قد أعطانا ان نولد من جديد لكي ماندرك اننا اطفال، و اننا مولودون من العالم الى الايمان كمولودين جدد، و الاحشاء التي تلدنا من جديد قد اظهرت في وسطنا: انها المعموذية التي يشترك فيها الروح، ونحن نولد بالايمان، و كما ان الطفل في هذا العالم لحظة ان يولد من الاحشاء، يكون كسائر الاطفال في الطبيعة، لا يعرف شيئاً عن العالم، ولا يفحص و لا يبحث ولا يفكر، بل حتى ولايتكلم، ولكنه يومئ فقط بالحركات الطبيبعية، اذ يكون غير قادر تماماً على التفكير، هكذا الطفل الروحاني الذي يولد من بطن المعموذية، وليس بعد من الاحشاء الطبيعية، يمتنع عليه ان يفحص عن الذي ولده، ولكنه يسمع كلامه ليس الا، و يسلك كطفل تجاه تعليمهُ متقبلاً افكاره دون ان يفكر في تفحصها.
-
وكما ان الطفل المولود في هذا العالم يتعلم اسماء امور العالم دون ان يفهم معناها، هكذا نحن ايضاً نتقبل الاسماء و الاقوال اما اسرار معرفتها فنتركها لله وحدهُ. لأننا كلنا اطفال امام تلك المعرفة، و كمولودين حديثاً تجاه حكمة الله التي لا ينطق بها، فأنه هكذا دعانا قول مخلصنا “دعوا الاولاد يأتون الي ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات”: وقال ايضاً في موضع اخر “من لايقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخلهُ” (مت 19: 14، مر 10: 15).
-
لهذا يجب ان يكون ايماننا بحسب الاقوال التي قلناها، مثل ايمان الاطفال تجاه امور العالم، و هذا هو ما يكون عليه الطفل تجاه الكلام الذي يسمعه من ابيه: فهو يصدق دون تردد انه سوف يعطيه كل ما وعده بهِ، ولا يعتبر كلمة كاذبة على الاطلاق، و هو لا يقيمها ولا يفحصها، ولا يبذل كل جهده في اختبارها ، لأنه يتكلم عن صدقها و يتقبلها. ان لا يعرف ان يميز ان الشيئ الذي وعده به ابوه هو اعلى من منزلتهِ، ولكنه يتقبل منه ببساطة كل ما يقوله دون ارتياب. أنه اذا راى الارجوان على ابن الملك و التاج الموضوع على رأسهِ، فهو يطلب من ابيه ان يعطيه اياه، لأنه يعرف ان اباه يستطيع ذلك تماما. وان كان ماراه فهو حيا او عقربا تجده لا يخاف ان يمد يده نحوها بسذاجتهِ، و يطلب من ابيه وامه ان يعطيه اياها معبراً عن رغبتهِ الساذجة هذهِ بدموعهِ، و ازعاجهما المستمر و صراخهِ و دموعهِ تشهد انه يطلب بكل ما يمتلك من قوة طبيعية، وهو متيقن ان سلطة ابيه ستتقصد لكل ما من شأنه ان يؤذى بواسطة الحية الضارة. وليس عنده اقل شك ان ما يطلبه سوف يعطى له، ولهذا طلب ربنا من كل اللذين يقبلون الى ملكوتهِ ان يتخذوا من الاطفال مثالاً لهم، فيصدقوا و يؤمنوا بمواعيد الله بشبه الاطفال الصغار.
-
نادى ربنا بملكوتهِ و اعلنه للارضيين و قال لهم “توبوا فأنه قد اقترب ملكوت السماوات” (مت 4: 17). لقد سمعت الصوت الذي يكرز بالملكوت: امن به دون تردد، عالماً انه بالاخص صوت الله. لا تتسائل كيف يكون هذا الملكوت ولا تفحص هذهِ المواضيع الروحية بأفكارك. ولا تتخذ لنفسك طرق المعرفة الجسدانية حين تشرع في الكلام عن المواضع غير المادية، ولا تخترع اشباها بتصوراتك لهذه المنازل المجيدة التي اعدها الابن عند صعودهِ، ولا ترسم بمعونتك لما سبق لمعرفة الله ان دبرته، لأنك لم تدعى ان تفحص الملكوت و لا لكي تعده او تأسسه، بل لكي ماترثه وتدعى اليه، ولكي ما تفرح بوفرة مباهجه الروحية. لقد سمعت صوت ربنا يسوع المسيح الذي يقول لك: توبوا فأنه قد اقترب ملكوت السماوات: انه يقول “تـــب” وليس “افحص عن الملكوت” لأن الملكوت قريب منك اذا كنت تقترب اليه، والاقتراب اليه لا يكون بالبحث و التقصي: والسؤال كيف و كم وماذا يشبه الملكوت، بل بمراعاة سنن وشرائع الملكوت و حفظ الوصايا التي وضعت علينا.
-
و هذا هو كل ما سمعته بواسطة الايمان عن الله: انه ازلي وقبل الدهور، وهو كائن بطبيعتهِ ولم يأت من اخر و هو ليس اقنوم واحد بل طبيعة واحدة جوهرية يؤمن ويعترف بها ثلاثة اقانيم، و بخصوص الأقانيم فقانون الايمان يعلمك ان تصدق ان اللذي ولد ما تجزأ، والذي ولد ما انفصل، بل ان الاب هو مع ابنهِ جوهرياً و ابدياً مع الروح القدس المساوي لهما في الجوهر. وانت تعترف فقط انهم هكذا اما كيف ومنذ متى و كم والى اين وبأي شكل وبأي ترتيب وماذا يشبهون، وكيف هم ثلاثة ولاينفصل الواحد عن الاخر، وكيف يدعون ثلاثة و الواحد في الاخر، وكيف الابن مولود وهو ما انفصل قط عن الاب، وكيف ولده الاب وهو ماخرج خارجاً عنه، وكيف يقال انهم ثلاثة وهم كائنون في الجوهر (الواحد) منذ القدم ومن الأزل. هذهِ ما يشبهها تقبل الايمان وبدون ايمان لا يستطيع احد ان يسمعها، لأن السماع العادي المجرد لا يحتملها مالم يوجد الايمان قبله لكي ما يتقبلها.
-
كذلك ان كل كلام يقال عن الطبائع الروحانية والطغمات العلوية لايمكن قبوله الا بالايمان، لأنه كيف لا يكون الايمان ضرورياً بينما الكتاب المقدس، ومع كونهِ يدعوها بالتأكيد روحانية، يتكلم عنها في موضع اخر كطبائع مركبة، ويخلع على تركيبها صفات تختلف من الواحد الى الاخر؟ لأن بالنسبة للسرافيم يعرفنا الكتاب المقدس ان له اجنحة ووجوه، وللشاروبيم صفات اخرى تختلف عنه. فهل نصدق كل هذهِ الاقوال بينما نرى ان القول الواحد منها يتناقض مع الاخر بحسب المنطوق الخارجي لكل قول؟ فالنصدق انهم ارواح و نتيقن من انهم مركبون، ونقبل ان تركيبهم يتضمن صفات مختلفة، ونحن نقبل كل هذهِ الامور بالأيمان لأن الله هو الذي قالها.
-
يقول النبي: وأطر الحيوانات ملانة عيوناً حواليها (حزقيال 1: 18). انه يعلمنا بهذهِ الاقوال الطبيعية الروحانية تنظر كلها برؤية كاملة تماماً، وهي ايضاً تسمع وتشعر وتفكر وتحس وتفهم وترغب كل ما تشتاق اليهِ طبيعتها بصفة كلية. فهي لا تسمع بجزء دون جزء اخر، أو انها ترى بجزء ولاترى بجزء اخر، بل انها كلها بكاملها سمع وكلها نظر، وهي كلها كل شيئ تكونه. كما أن سمعها لايتعارض مع نظرها عندما ترى بواسطة الجزء الذي تسمع بهِ، او تحس بالجزء الذي تفكر بهِ. وكذلك لا يتعارض ولا يبطل كل واحد بواسطة الاخر، فهي تعرف فقط انها هكذا.
-
أما عند الطبائع المركبة فالحاصل هو عكس ذلك: فالطبيعة (الواحدة) تسمع بجزء وتنظر بجزء اخر وتشعر باخر وتفكر باخر، ونتيجة لتركيب أعضاءها، فحركات أوجاعها تنقسم ايضاً. اما هناك عند الطبائع الروحانية، فكل واحد منها يكون بكليتهِ في كل حركة من حركاتهِ، فلا تنفصل الأعضاء عن بعضها (في حركاتها) الى رأس وارجل وايدي ووجوه وصدر وظهور طول وعرض ولون وشكل، لأنها تتبادل وتتداخل الواحد في الاخر، لأن تركيب الأعضاء لايوجد عند تلك الطبائع: وليس لأنه لاتوجد عين فلا تكون هناك رؤية، أو انه لا توجد اذن فلا يكون هناك سمع، او انه لا يوجد حنك الجسد فلا تمتلك مذاقهُ الامور الروحية، أو لأنه ليس لها أجنحة فلا تطير، أو لأنه ليس لها اقدام فلا تمشي، أو لأنها لا تملك أعضاء القلب فلا تفكر، ولكنها تمتلك سائر أعمال الأعضاء كلها ولو أنها لا تمتلك أعضاء مركبة.
-
وليس في قدرة معرفتنا ان نفهم كيف تجرء اعمال الأعضاء بدون أعضاء، ولكن بواسطة المعرفة التي منحنا الله اياها. أي بالايمان- نحن ندرك ذلك. ومع ان هذهِ الامور لاتقع تحت منطق التفكير البشري، الا اننا نقبلها بدون تردد. وكذلك بالنسبة لوجودها فنحن أيضاً بالأيمان ندركها، وليس لوجودها فقط، بل وأيضاً لوجود الطبيعة الجوهرية التي خلقتها، فنحن بالايمان نعرفها، لأن كل ماندركه عنها يكون مصدره من الايمان. لأن ولو أن الحياة نفسها وتوافق المخلوقات تطلع الحكماء وتعلمهم بما يخص خالقها، الا أنه لابد في الوقت نفسه ان يسبقها الايمان، لأن كثيرين، وبالذات ممن لم يكن عندهم ايمان، أعتبروا هذا الامر من الاكاذيب.
-
وبأختصار: كل ماهو روحاني و كل عالم الكائنات الروحانية. فأن الايمان هو الذي يراها و الايمان هو الذي يحس بها. واذا لم نقتني الايمان في داخلنا فلا يكن بمقدورنا ان نستوعب شيئاً خارجاَ عما يرى (بالعين الجسدية). وحتى في الأمور المرئية ليست هناك حاجة للايمان، لأن بصر العين يراها، ولأن كل ماهو مادي يراه الأنسان بصورة مادية. أما عالم الروح فالايمان وحده هو الذي يشعر بهِ. واذا لم يكن ايمان يصبح ذلك العالم كما لو كان غير موجود.
-
فانظر اذ كم هي عظيمة قوة الايمان، بما انه بدونه تصير كل الامور الروحية كما لو كانت غير موجودة، وليس فقط الخلائق التي تحيا في تلك المواضع الروحانية، بل أيضاً الجوهر (الخالق) هو نفسه يصير لنا كما لو كان غير موجود. ولهذا فأن القديس بولس قد ابدى أهتمامه بسر تعليمنا وقال “يجب ان الذي يأتي الى الله يؤمن انه موجود” (عب 11: 6). فقد طلب من كل تلميذ أن يؤمن اولاً بعد ذلك يدنو من سيرة تلمذة المسيح، ولأنه كان يعلم ان الطبيعة الالهية لا تقع تحت ادراك الحواس الجسدانية، وأن وجوده بالمثل لايُعرف ما دام الانسان يستخدم شيئاً من تلك الحواس، لهذا السبب فقد طلب منا في تعليمه ان نؤمن فقط انه موجود.
-
لقد قسم الخالق جميع الطبائع الجسدانية الى خمسة انواع: نوع يُرى و نوع يُسمع و نوع يُذاق ونوع يُلمس، و اعطى الانسان خمسة حواس لكي يذوق بها العالم بحسب تعدد اشكالهِ المتنوعة. والان فخارج عن هذهِ الحواس الخمس التي ذكرتها لايستطيع الانسان ان يدرك شيئاًمن العالم الجسداني، بل والعالم نفسه خارجاً عنها لايكون. أما كل ماهو روجاني ان كان الجوهر(الخالق) أو كانت الخليقة، فما يخضع لشيئ من هذهِ الخمسة انواع، ولا يدرك بشيئ من هذهِ الخمس حواس. ولأجل هذا لكي يعطينا ربنا نعمة الشعور بهِ، سلمنا اولاً الايمان لكي ما نحس بهِ، وبعد ذلك اظهر لنا (ذاتهُ) بأعلانات. ولهذا السبب قال القديس بولس “اذن الايمان نتيجة لسماع الأذن، وسماع الأذن هو من (التبشير) بكلمة الله” (رو 10: 17). لأن الرسول بولس علمنا ان نقبل الايمان بسماع كلمة الله.
-
لكن مع ان الايمان قد زرع فينا بواسطة الله خالقنا حين خلقنا، الا انه قد فسد وتحول من ايمان الى ضلال. وكما اننا حولنا الحكمة الطبيعية التي وهبت لنا ايضاً حين خلقنا، وبواسطة كدسنا حكمة العالم مكان حكمة الله، الواحدة محل الأخرى، خارجاً عن الله، واستبدلنا حكمة الله بها. كما قال القديس بولس ” اذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة”. (ا كو 1: 21). هكذا ايضاً فأن الايمان الطبيعي الذي كان فينا قد تحول الى ضلالة، و ما كان قد وهبهُ لنا الخالق لأجل غيرنا ونفعنا وحد سبباً للهلاك، لأننا غيرنا غايتهُ النافعة. وبالتالي صرنا نستخدمهُ خارجاً عن هدفهِ.
-
لقد اصبح ايماننا يصدق امور غير مناسبة، وحكمتنا تعرف امور غير واجبة. فقد استخدمنا الايمان حيثُ لايطلب الايمان، فأن ماتراه عين الجسد وتدركه كل الحواس الجسدية، يراهُ ايماننا شيئاً اخر، وصرنا نتصور شيئاً مكان الاخر. ولهذا فأن ترتيب الايمان الذي غرسهُ الخالق في طبيعتنا كان قد فسد حتى احتاج الأمر أن تغرس كلمة الله مرة اخرى. وأن تنشط القوة التي فينا بواسطة تعليم المسيح. ولهذا، وبالأخص بواسطة ذلك التعليم، يمكن ان يصل الأيمان الينا “الحق اقول لكم لو كان لكم ايمان مثل حبة الخردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا الى هناك فينتقل، ولا يكون شيئ غير ممكن لديكم” (متى 17: 20).
-
لقد علمنا ان الايمان ليس شيئ غير ممكن لدينا. ولهذا فأن كل شيئ ينغلب لقوة الايمان حسب قول المسيح. فبالايمان تنزل الامطار، وتجري المعجزات، وتحصل العجائب، و تُعمل اعمال مذهلة. الأيمان وحدهُ يعمل كل ماهو فوق الطبيعة. فهو يقيم الموتى، ويشفي المرضى، وينهض المعوقين، ويطهر البرص، ويفتح اعين العميان، ويجعل العرج يمشون، ويقوم ويبرئ بقية الأعضاء جميعها، فيعطي النطق للخرس والسمع للصم، ويطرد الشياطين. هذهِ كلها فأن الايمان هو الذي يعملها. فالجبل ينتقل من مكانهُ بالأيمان، و البحر واللامواج تطأها القدم بواسطة الايمان، وجميع الطبائع تطيع امر الانسان بالايمان. وبأختصار فالأيمان يضع في الانسان قوة الله، بحيث انه حينما يؤمن احد يمكنه ان يفعل مايريد بواسطة قوة ايمانه. والايمان يحول ضعف الجسد الى قوتهِ الخاصة، ويجعل من امر الانسان المحتقر امرا الهيا مطاعاً.
-
الايمان غير موجود كأنه موجود، ويعتبر ماهو موجود كأنه غير موجود. وهذه ايضا صورة لقدرة الله التي قال عنها القديس بولس “الذي يدعوا الاشياء غير موجودة كأنها موجودة” رو 4: 17، وقال النبي انه ينتهر البحر و يجففه ويفجر العيون، و ايضا “ينظر الى الارض فترتعد، يمس الجبال فتدخن” (مز 106 : 9، 74: 15، 104: 33). وايضا اشعياء النبي يقول: “كل الامم تحسب كلاشيئ قدامه” (اش 40: 17).
-
هذه الاقوال اذا قالها الروح عن قدرة الله، لأنه يدعو الاشياء غير الموجودة فتوجد، والموجودة يلاشيها. والايمان يماثل تلك القدرة ليس فقط لانه يعمل بشبه الله ايات وعجائب لم تكن موجودة، وبقوة الله يبطل ويلاشى ماهو مودود، ولكن لانه ينظر ايضا بدون حجاب مايحسب انه غير موجود لكونه مستتر، ويحسب ماهو موجود والذي من اجله نتعب ونشفى، وكأنه غير موجود، ذلك لأنه يعتبر- مسبقا- توقفه (عن الوجود)، ومع ان الشيئ لم يتوقف لحظة، الا انه يعتبر قد مضى، ومع انه موجود الا انه يحسبه قد انصرف، ومع انه ممتع ومحبب الا انه يكون بالنسبة له كأنه غير موجود. ومع ان الناس يجرون فهم للايمان لا يتحركون، ومع انه يرى الموت لايصدق انه الموت، والغنى يعتبر فقراً، وكل ماهو في العالم، بل وطبيعة العالم نفسها ايضا، يعتبر كأنه غير موجود، و ذلك لأن مسيرته تتوقف وكل اموره تنتهي.
-
وكل ماهو بعيد (ومرتفع) عنه، يجعله الايمان حاضراً وقريباً جداً امامه، فيراه وجهاً لوجه، ويرى دون حجاب كل الاشياء المخفية وكل الامور الغامضة. لأن الملكوت السماوي بعيد هو عن نظر الجسد، ولكن عين الايمان تراه، ومنازل بيت الاب بعيد عنا جسديا، ولكن الايمان يسكنها الان، وذلك النور الروحاني مرتفع ببهائه داخل بلده مو لكن ص 36 الايمان يسير فيه ويرى بواسطتهِ، وراء مجدنا هو في السماوات، ولايمان يتزين به هنا، غنانا وكل خيراتنا الروحية هي من العلا، وايماننا يستطيع ان يجلبها لنا، مدينتنا الحقيقة هي في السماوات ومنذ الان بايماننا نسكنها، جنسنا وعائلتنا واباؤنا هم من تلك الكورة النائية، والايمان يتكلم معهم ويدوم حديثهم معهم كل حين. جميع الاحياء وطغمات النور هم هناك في بلدة الحياة، والايمان يتمجد معهم على الدوام.
-
ولكن لماذا نتكلم عن الخلائق مع كونها مجيدة ليست سوى مخلوقات، مع كونها عظيمة ومدهشة، لها بداية خلقة ووجود؟ فأذا كانت هي بعيدة عننا بسبب استنارتها، الا اننا مزمعون اننا ندنو منها اننا نصير روحانيين بحسب طقس بلدها. ولماذا نذكر الخلائق في حين ان الله نفسه الذي هو بعيد وفائق عن الكل، هو قريب للايمان في طبيعته الجوهرية ذاتها، وهو ليس بعيد عننا بقدر بعدنا نحن عنه، وهو ليس ببعيد عن الايمان قدر بعدهِ في كيانهِ، وهو قريب جدا للايمان مع انه فوق الكل، بل واقرب حتى من الايمان مع انه في داخل جميع الخلائق واهبا النطق للخرس ومحيا لفاقدي الحس؟
-
تلك هي اذن طبيعة الايمان. فنحن نرى ما لايرى، ونعرف مالايعرف، ونشعر مالايحس به، وننظر ونقترب مما هو متناه في البعد. وبقدر ما كانت الطبيعة التي يطلب الايمان ان يراها دقيقة و مخفية متداخلة وروحانية وسامية وفائقة الوصف، وبقدر ما تكون رؤيته واضحة. والايمان يجد براهانه في كل ماهو عظيم جدا، ويعتبره امرا محتقرا ان يتوقف عند الامور الصغيرة او ان ينحصر عند عمل مخلوق. ولهذا فهو يتجاوز كل شيئ ولا ينحصر في شيئ ان لم يكن عند الخالق. لأن قياس المخلوق لايمكن ان ينحصر او يحد قوة الايمان، فلا يوجد خليقة يتيقن منها ولايتصورها، او ما يكون مخلوقا او ليس موجوداً. اختباره الصحيح هو مذاقته لله فقط، لأنه يرفض الكل ويرتفع فوق كل الطبائع، ويدنو قريباً جدا من الخالق.
-
الايمان يتخطى ماهو حاضر ويستقدم ماهو مستقبل. الايمان هو لسان الله، وهو امر الله. الايمان يأمر ومثل الله يطاع الجميع. الايمان يؤمى بالاشارة وكافة الخلائق تستجيب له. قوة الايمان هي قوة الله لأن الله هو الذي وهب قوة الايمان. الايمان هو سيد الخلائق، وكما يأمر السيد عبيده فيطيعونه هكذا ايضاً يأمر الايمان الخلائق فتطيعه. وما هو عجيب ايضاً ان ليس فقط الخلائق تطيع الايمان، بل ان الخالق نفسه لايعارض مشيئته: فكل مايرغب فيه يحصل عليه، وكل مايطلبه منه يعطيه اياه، يدعوا فيجيب، وباب المعطى مفتوح دائما امام طلباته. كما قال: “كل ماتطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه” (متى 21: 22). نعم فالايمان يطلب في بيت الله كمتسلط على كنوز الغنى الوفيرة وكموزع للخيرات.
-
عجيب وفائق جدا هو سر الايمان، ومن هوالذي يستطيع ان يفسره، انه عظيم بقدر ماهو مسكن الله و اعني الايمان الذي لايكون بالاسم فقط، والذي لا يتوقف عند الصوت والكلام فقط. بل الايمان الذي يختبر في صلابة النفس وفي ثبات ورسوخ الافكاروالذي لا ينكر نفسه والذي يتشبه بالله الذي قال عنه القديس بولس “لايقدر ان ينكر نفسه” (2 تي 2: 13). ولان الايمان لاينكر نفسه ولايسمح بدخول الشك عليه، ولايقع فيه الظن، ولايتغلغل الخوف في سلطانهِ، فأنه يفعل كل مايشاء، وكل مايطلبه يعطى له. هذا هو الايمان الذي يحرص على اقتنائهِ في نفسهِ كل من يريد الاقتراب من الله. وليس في الايمان افكار تناقض بعضها البعض، فهو لايندم على شيئ فعله او نطق به، ولا يلوم نفسه متى قال وطلب مايريد. وكما ان الله لايندم قط على شيئ مما قد صنعه او نطق به، بالمثل فأن الايمان لايندم على ماقد عمله، لكي مافي هذا فقط يشابه الله.
-
أوامر الايمان هي اوامر لها طابع السلطة. فالايمان يصلى بيقين، وبحسب يقينه هذا تستجاب صلاته على الفور بواسطة الخلائق. وأحياناً لايصلى وفي الوقت نفسه يطلب شيئاً ما ويتكلم بسلطان على مثال الله، وكما ان لاشيئ يعارض امر الله، هكذا ايضا لايعارض شيئ امر الايمان. فأحيانا يصلى فيستعلن الايمان بواسطة صلاته، واحياناً اخرى يطلب بسلطانٍ بغير صلاة فيطاع.
-
ايليا النبي لم يصل امام اخاب واطيع. بأيمانه طلب بسلطان، وما قاله حصل في الحال. وحكم قوله على كل الطبائع والمخلوقات بأكثر مايحكم امر ملك على بلاد بمملكتهِ «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي وَقَفْتُ أَمَامَهُ، إِنَّهُ لاَ يَكُونُ طَلٌّ وَلاَ مَطَرٌ فِي هذِهِ السِّنِينَ إِلاَّ عِنْدَ قَوْلِي»(1 مل 17: 1). لم يكتب انه صلى اولا ثم قال بعد ذلك ولكن عندما سمعت الخليقة قوله خضعت لأمرهِ. كافة العناصر سمعت لأمر انسان مائت كما لأمر الله: فقد أطاعته الغيوم، ودعا الارض فستجابت له وامر الريح فلم تشاهد بعد تغيراتها، وكافة الخليقة صارت امام كلمة ايليا خادمة مطيعة ومنفذة سريعة “للامر الذي اعطاه اياه سيدها. و في موضع اخر امر القادة اللذين صعدوا الى الجبل ليأتوا مع الاخرين اللذين كانوا معهم كما مكتوب. واذ تكلم بسلطان الهي، نزلت نار من السماء و احرقتهم عن اخرهم قال “ان كنت انا رجل الله فالتنزل نار من السماء وتأكلك انت والخمسين اللذين لك” (2مل :1- 10). وللحال نزلت نار من السماء و تحقق قول ايليا النبي بالفعل.
-
وفي مواضع اخرى كتب ان الايمان صلى اولا وبعد ذلك استجيب له حسب المكتوب: وخر الى الارض وجعل وجهه بين ركبتيه وارسل غلامه ليتطلع الى البحر (ا مل 18: 42 – 43). وحين قام ابنة الارملة صلى وسجد واذ ذاك اقامه. لقد استعلن الايمان في تلك الصلاة، لأنه لو لم يكن امن انه سيقيمه لما احضر الطفل حياً الى امه، ولما صعد انطرح على فراشه. وكذلك نراه ايضا يقول لتلاميذه: “اطلب ماتريد وانا اعطيك اياه” قبل ان أوخذ منك (2 مل: 2: 9). وقد عمل الروح بالفعل بحسب ماطلب التلميذ وأمر به معلمهِ، و استقرت الموهبة على اليشع. وحين كان يرفع الذبائح على جبل الكرمل في حضور اخاب وكل اسرائيل صرخ قائلا: “استجبني يارب استجبني، ليعلم جميع هذا الشعب انك الرب الاله وانا عبدك وبأمرك قد فعلتُ كل هذهِ الامور” (امل 18: 36). ولم يستجب ولم تنزل النار قبل ان صلى.
-
والسبب انهم في بعض المواضع كانوا يصلون اولا، وفي مواضع اخرى كانوا يطلبون بسلطان، واضح، ففي الموضع الواحد كانوا يضهرون ضعفهم، وفي الاخر كانت تستعلن قوة الله التي كانت فيهم. لأنه حين كانوا يصلون ويتوسلون كان يرى انهم كانوا اناس ضعفاء، وحين كانوا يطلبون ويطاع امرهم دون صلاة كان يعرف ان قوة الله مع طلبهم. وفي موضع كانوا يتكلمون كبشر عاديين، وفي مواضع اخرى كخدام الله، اي كالهة بشريين، لأن الايمان الذي فيهم جعل منهم الهة سمائيين.
-
وهم في ذلك يشبهون المسيح الهنا الذي كان يعمل الامور كصاحب سلطان، وفي احيانا اخرى كان يصلي ثم يجري العمل بعد ذلك، فهو لم يقم لعازر قبل ان يصلي، ولم يبارك الخبز ويقسمه للجموع قبل ان نظر الى السماء، ولم يقل للاصم (افثا) اي انفتح قبل ان وضع اصابعه في اذنيه وتفل ولمس لسانه ونظر الى السماء. واخرون كان يشفيهم بامر له سلطان ودون ان ينظر الى السماء و يطلب من ابيه. فقد اقام الشاب ابن الارملة بأمر وسلطان، ونادى بصوت عالي ابنة رئيس المجمع فقامت في الحال وامر البحر فصار هادئاً، والريح توقفت وقال فقط للخدام “املؤا الاجران ماء” ثم قال “استقوا الان”، وقدموا الى رئيس المتكأ (يو 2: 7)، ولم يستلزم الامر ان ينظر اعلان ارادته، وقد قال للروح الاخرس الاصم: “انا امرك، اخرج منه” (مر 9: 25)، فخرج من الولد في الحال. والابرص قال: “اريد فاطهر” (مت 8: 3) وللوقت طهر برصه كما اراد.
-
فمن جهة واحدة كان يسوع يصنع المعجزات وهو يصلي لكي ما يتنازل بنعمتهِ ليكون قريباً من اللذين دعاهم اخوته، ولكي لايحزنوا ان يستجاب لهم بدون صلاة، نزل هو ايضاً لمستواهم وكان يصلي اولا ثم بعد ذلك يجري المعجزة، والسيد اظهر ذاته مساويا لخدامه، لكي ما يكمل المكتوب: “كان ينبغي ان يشبه اخوته في كل شيئ” (عب 2: 17). ومن جهة اخرى فأنه اعطاهم القدرة ان يتكلموا بسلطان ويُطاعوا، لكي مايعرفوا من هنا انهم كانوا خدام الله، ولكي يعطي الايمان اليقين انه سيفعل كما يريد.
-
يشوع بن نون طلب ايضا بسلطان ان تقف الشمس ويقف القمر فوقفا، وثبت كل منهما في موقعه. لقد رفع يشوع يده وتكلم بسلطان الايمان: “ياشمس روحي على جبعون، وياقمر على وارى ايلون: (يش 10: 12)، فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من اعدائهِ. ولماذا نذكر الانبياء فقط. وفي حين ان في جميع الشعب ايضا، بما فيهم النساء والاطفال معاً كان الايمان يحرز انتصارات من هذا النوع؟ لقد استطاع الايمان بمجرد الهتاف ان يأمر الاسوار، فلم تقوى على الصمود امام صوتهِ. وفي كل مكان كان الايمان يحرز انتصارات مثل هذهِ، وفي كل الاسفار المقدسة رأيناه يجري المعجزات. وكل من حس بقوة الايمان واختبرها بالفعل، هو يعرف انها حقاً قد عملت هذهِ كلها، ويؤمن انها ايضا تعمل مثلها.
-
والان انت ايضا يامن تريد ان تكون تلميذاً لله: اقتنِ الايمان سيد كل مقتنياتنا. اتخذه بداية لتدبير سيرة تلمذتك، واضعه كأساس لبرجك، لكي ما اذا ارتفع كما تريد فلا يسقط، لان البناء الذي يتأسس على الايمان لا تزعزعه الامواج والرياح. هذا الايمان الذي وضعه الرب يسوع كأساس لبيعته بواسطة سمعان، وكما ان ربنا جعله بداية (البناء)، هكذا ايضا ينبغي للتلميذ الذي يدنو بترتيب لتدبير سيرة التلمذة ان يبدأ به. لقد جعله الرب يسوع اساساً للكنيسة كلها، فاجعله انت اساساً لتدبيرك. لقد بنى عليه التدابير المتقنة للعالم كله، فأبنِ انت عليه انجازات تدابيرك. لقد ثبته بصفة قاطعة كأساس لكل الاجيال التي تبعث مجيئهِ، فاجعل انت بداية لحياتك في الله.
-
تأمل مقدار عظمة قوة الايمان، كيف انها تقدر ان تحمل كل البشر لقد وضعه الرب في اساس كنيستهِ، لأنه قد راى مسبقاً قدرته التي لاتقهر وصلابته التي لاتهتز، وقوته التي لاتستنفذ، ونصرته التي لايشوبها عيب، وعزيمته التي لاتنثني، وشجاعته التي لاتتعب، ومره الذي لايرد، وحكمه الذي لاينقض، وكلمته التي لاتكذب وسلطانه الذي لايستهان به. هذا الايمان الذي جعله الرب يسوع اساس الكنيسة ومبدأ بنيان جسده المقدس، لكي يعلم كل احد ان يبدأ به وكل تلميذ ان يضعه اساس كافة تدابيره، لأنه لم يوضع كأساس لكنيستهلكي يضهر قوته فقط، بل وايضاً لكي مايعلم الانسان الذي يرسد ان يبدأ في بناء تدبير سيرته الجديدة كتلميذ ويتقدم فيها، وفي بقية نواحي البناء فأن الايمان هو الذي يدعمه، ويعلى جميع منازل الصلاح.
-
لأنه لايوجد حجر واحد يدخل في بناء ذلك البرج الا ويكون الايمان هو الذي يبنيه. ولاتوجد حياة في واحدة من مجموعة الفضائل مالم تكن فيها حياة الايمان. فكما انه بدون حياة التنفس تكون جميع اعضاء الجسد مائتة، هكذا بدون حياة الايمان تكون جميع تدابير البر مائتة. وكما ان الاعضاء تحيا بواسطة التنفس، هكذا تحيا الاعمال بالايمان. وكما ان اعضاء الجسد ما لم تكن بصحة جيدة وصلابة، فأنها تصبح غير نافعة ويصير جمالها وحسنها بلا فائدة، مادامت النفس التي فيها، هكذا تدابير الفضائل، اذا كانت شاقة ومجهدة، وكان الانسان في صحة جيدة وفي تدبير سيرة البر، فهي لاتفيد شيئا مادام الايمان ليس موجود في الاعمال.
-
وكما ان جميع الاعضاء تستمد حيويتها من حياة النفس، حتى ان بواسطة حياتها تتحرك بحسب طبيعتها للعمل الذي يناسبها: العين للنظر والاذن للسمع والحنك للذوق والانف للشم واليد للمس والقدم للمشي والجسم كله للحركة والعمل، ويتحرك بحركات حية من كل نوع بواسطة عمل جميع اعضائه هكذا ايضا هي جميع اعضاء اي انواع اعمال البر مالم تكن فيها حياة الايمان فأنها تصير مائتة وعديمة الفائدة. فالصوم لايكون صوما ان لم يكن معه الايمان، والصدقة لاتحسب صدقة ان لم تعطي الايمان، والرحمة ليست شيئا مالم يرافقها الايمان، ولا العفة ولا النسك مالم يمتزج بالايمان، ولا الطاعة ولا الخضوع مالم يسندها الايمان، ولا الحبس الضيق ليس شيئا ما لم يكن معه الايمان، والصلاح لايحسب صلاحاً حقيقياً مالم يمتزج به الايمان. والبر الذي لايختلط به الايمان يفقد اسمه ويتوقف عن اعمالهِ. وكما ان ضل جسد ما لايدعي جسدا، وظل اليد والقدم ما لا يدعى بأسمها، كذلك ان جسم البر مالم توجد فيه حياة الايمان لا يدعى جيما بعد. فالصوم ليس صوماً، والنسك والعفة لايستحقان اسم الاعضاء الصحيحة، لان بدون الايمان كل هذه الامور هي ظل وجسد مائت، ولايمكن بأي حال ان تدعى جسداً حقيقياً، ذلك لانه يشك في انها تخدم في كرمة غريبة.
-
الايمان هو سياج زروع وصايا المسيح، وكل نبات يوجد داخل هذا السياج يختص بالمسيح وهو مغروس في كرمهِ. اما النبات التي تكون خارج ذلك السياج فتسمى نباتات برية: وهي لاتحمل ثمرا على الاطلاق، وحتى اذا اعطت ثمرت فأن حيوانات البرية و العصافير تجدها ساقطة فتهلكها، وحتى لو انها بقيت فهي تكون جافة ليس فيها اي قيمة غذائية. هذا هو الكرم الذي اكترى له رب البيت فعلة، وكل من راه خارجا اعتبره عاطلاً ودعاه ان ياتي لكي يعمل في كرمه. وبالايمان يحفظ كل صالح يكون هناك، والذي لايكون هناك يترك.
-
الايمان يجمع الكنوز ويحفظها: يخفى الودائع ويحرسها. الايمان هو الاساس وهو المهندس، انه راسخ تحت جميع المنازل وهو الذي يرتفع معها. الايمان يصنع الاعضاء (الفضائل) وهو الذي يهبها الحياة. الايمان يغرس زروع الروح وهو الذي يعتني بها. الايمان هو سياج الزروع وهو الذي يرويها، هو يطلع النبات وهو الذي يربيه، هو الجسم وهو النفس في الجسد. الايمان يبذر البذار ويجمع الحصاد ويخزنه، يغرس الاشجار ويجني الثمار ويحفظها. فالايمان هو الكل لأنه قادر على كل شيئ.
-
ايها التلميذ، اقتني هذا الايمان. تحصن بهذهِ الحقيقة ولا ترخها. اطلب كل ماتؤمن به وانت تحظى به من المسيح الذي وعد بأعطائه لك. لأنه له المجد مع ابيه والروح القدس الى دهر الدهور امين.
الإيمان ٢
القديس مارفيلوكسينوس
-
تعال أيضاً أيها التلميذ، لنسمع عن انجازات الإيمان المشتهاة.تعال وانصت لصوت والدتك، لأنها تعطيك الحياة من ألحانها العذبة، تعال لترضع لبن التعليم الحى من الثدى الحى الذى للأم التى ولدتك، تعال لتنهل من النبع الذى يروى الأجيال، لأن الذي لا يشرب منه لن يروى عطشه. تعال لتجلس على المائدة الممتلئة من طعام الحياة، لأن الذى لا يقتات به لا يجد الحياة في نفسه. تعال، أمل أذنك واسمع، وافتح عينيك وانظر العجائب التي أظهرت بواسطة الإيمان. أقتن لك أعيناً جديدة، وخذ لك آذاناً خفية، ولأنك قد دعيت لكى ما تسمع الخفيات، فمن الواجب أن تكون لك آذاناً خفية، ولأنك قد دعيت لتشاهد أموراً روحية، فأعين الروح صارت لازمه لك. تعال إذاً لكى ترى نفسك شيئاً آخر غيرما كنت، وتتغير لكى ما تصير كلك جديداً.
-
لأن الخالق قد صيدك خليقة جديدة، وكان الإيمان وسيلته لذلك. أنت تعيش الأن تغييراً عجيباً وخلقة سمائية، وكان الإيمان عنده حين خلقك. لأنه في البدء حين خلق الله الخلائق وثبت الأشياء في ترتيبها، كانت الحكمة تعمل ذلك معه، كما قال سليمان: “الرب بحكمته أسس الأرض، وخلق السموات بفهمه، وبعلمه انكشفت الأعماق وتقطر السحاب مياهاً،(أم 20-19:3). وقالت الحكمة أيضاً:” لما ثبت السموات كنت هناك أنا، ولما أنثبت السحب من فوق، ولما تشددت ينابيع العمر” (أم 27:8).
-
لقد كانت الحكمة معة في أعماله الأولى، أما في هذه الخليقة الثانية فقد كان الإيمان معه، وفي هذه الولادة الثانية اتخذ له الإيمان مساعداً. الإيمان يرافق الله في كل شئ، وهو لا يعمل شيئاً جديداً اليوم بدونه.
-
لقد كان من السهل عليه أن يلدك من الماء والروح بدونه، ومع ذلك فهو لم يجعلك تولد الميلاد الثاني قبل أن تتلو قانون الإيمان. كان يقدر أن يغيرك من قبل ويجعلك جديداً. ومع ذلك فهو لم يغيرك ولم يجددك قبل أن يتقبل منك الإيمان كضمان. فالإيمان يطلب من كل من يعتمد في حين أنه يتقبل من الماء الكنوز. بدون الإيمان يكون كل شئ تافهاً، واذا أتى قصير الأشياء الوضيعة مجيدة. المعمودية بدون الإيمان هى من الماء فقط، والأسرار المحيية بدون الإيمان هى خبز وماء فقط، والإنسان العتيق يبدو ساذجة وأعاجيب الروح تكون وضيعة بدون عين الإيمان التى تراها.
-
إن قوة الإيمان لا تحس من خبرة الكلام، ولكنها تحس منها وفيها وحدها. والإيمان لا يدرك بواسطة السماع بالأذن، ولكنه يتأكد في الداخل بواسطة قوة النفس، لأن الأذن تتقبل فقط خبر الإيمان، ولكن عمل الإيمان يولد بواسطة الأفكار. لأن النبع الذى يفيض منه الإيمان هو العقل النقى والفكر البسيط الذى لا يوجد فيه هذا الشئ وذاك: ففكر الإيمان هو فكر فريد وليس فيه شئ يقاتل الآخر.
-
الإيمان ينظر ويتأمل ويتفطن سراً في القوة المستترة في الأشياء. لأن الإيمان مكانه أكثر عمقاً من المعرفة، وما لا يمكن أن تراه المعرفة ينكشف للإيمان الذى هو أكثر عمقاً. ولأن المعرفة لا تقدر أن تعمل أعمال الإيمان، فهى تتنحى ويأتي الإيمان مكانها، لأن المعرفة هى في الخارج بين المخلوقات. أما الإيمان فهو في الداخل بالقرب من الحقيقة. المعرفة تجرى بحوثاً على الحكمة المخفية في المخلوقات، أما الإيمان فيفحص خفايا الأسرار. المعرفة تدرس قوة النباتات والأثمار وكل طعام يعطى للجسد. والإيمان يتعلق بالقوة المخفية في الأسرار المحيية التى هى غذاء النفس. المعرفة نظراً لأنها يمكن أن تكون دقيقة فهى تنساب إلى داخل الأشياء المادية، وتطوف متجولة في العالم المنظور، أما الإيمان فهو لا يسكن في تلك الخليقة، وليس في المخلوقات استطاعة أن تقبله لكى يسكن فيها.
-
اللسان لا يقدر أن يحس بقوة الإيمان، لا الكلام يمكنه أن يعبر عن أمجادها أو يأتي بتشبيهات لها. قدرة الإيمان لا تدرك بالقول ولا تعرف الكلام ولا بجزء من الحواس التي تتجه نحو الجسد، ولكن أسوار الإيمان تكشف، والخفيات تستعلن فقط في داخل قدس أقداس العقل الخفى والروحاني. فالجزء الأكثر بهاءً في الإنسان هو وحده الذى يقدر أن يحس بالإيمان. أعمال الإيمان ترى خارجياً وأقواله تسمعها الآذان، أما قوته فتدرك في الداخل بواسطة العقل. لأنه حتى ولو كنت ترى الأموات يقومون أو العميان يبصرون أو الشياطين تخرج، فإنك لا ترى قوة الإيمان: فكيف ترى قوة الإيمان في جسد يقوم، بما أنه يقييم أيضاً موتى النفوس؟ وكيف تشعر بقوته في شفاء أعين الجسد، بما أنه يخلق أيضاً أعيناً للطبائع الروحانية؟ وكيف ترى سلطانه على الشياطين التي تخرج، بما أنه يطرد أيضاً من النفس الأفكار الطبيعية؟
-
المخلوقات ترى قوة الإيمان من الأفعال الخارجية، أما الإنسان فيحس بها بقوة النفس. والإيمان لا يعطى نفسه لمذاقة العقل عن طريق شئ آخر غيرها هى بالذات، وبدون توسط أى شئ آخر يعلن عن نفسه له ويجعله يجس بقوته. وفي الدخل، بالقرب من النفس، لا تكون العلامات الخارجية وسائط لمذاقة الإيمان ، ولكن الإيمان هو نفسه يسكن في النفس وينعمها وينير ويبهج أفكارها، ويرفع نور طبيعتها في الداخل، فتدهس النفس من النور الجديد الذى يشرق عليها. والإيمان لا يظهر للنفس بهاء طبيعته قبل أن يكون قد أعاد وجمع من كل مكان نظرتها، لأن النفس لا تقدر من ذاتها أن تراه طالما كانت تشغل نظرها في أشياء أخرى، فالنظر الطبيعي للنفس إذا ما تشتت صار ضعيفاً وغير قادر أن يتطلع إلى نقاوة نور الإيمان.
-
والنفس التى صارت مسكناً نقياً للإيمان، فإنه يعطيها قوة مثل هذه حتى أنها لا تعود ترى الأشياء كما هي، بل كما يريد الإيمان أن يراها. فهوذا أنت تحمل في يديك جوهرة الأسرار (في النتاول)، التي هي بحسب طبيعتها خبز ساذج، بينما الإيمان يراها جسد الوحيد (ابن الله)، لأن عين الإيمان لا ترى كما ترى عين الجسد، ولكن الإيمان يغصب نظرته لكى يرى ما لا يمكن أن يراه: فالجسد يرجى الخبز والخمر والزيت والماء، ولكن الإيمان يغصب نظرته لكى يرى روحانياً مالم يره جسدانياً، أي انه يجعله يأكل الجسد المقدس عوض الخبز ويشرب الدم الكريم عوض الخمر، وعوض الماء يرى معمودية الروح، وعوض الزيت قوة المسيح!
-
الإيمان يمتلك قوة الله وإرادته وسلطانه، وهو يجمع المكاسب من كل مكان كما يريد إنه يدنو من عظام القديسين. وعوض موتى يراهم أحياء ويتكلم معهم كما مع أحياء ويطلب إليهم من أجل حاجاته، إنه يظهر للأجساد ما يحتاج إليه من الذى يعطى لكل من يطلب منه، ويقول: “إننى بطلباتهم أحظى بما أطلبه”، ودون أى اعتبار لكونها أجساد خالية من الحياة، وأنها صامتة لا تتكلم، وأنها ساكنة بغير صوت، عاطلة وخاملة، وأنها فاقدة لكل حركات الطبيعة. لأنه ليس من شفيعته، وهو يعرف أنها بطبيعة الحال لا في موتها ولا في حياتها تقدر أن تصير شفيعة بين الخالق وخلائقه، ولكنه يتطلع إلى ما هو أعلى من الطبيعة، إلى ما امتزج في (طبيعة) القديسين بواسطة قوة المسيح، والتى كانت عندهم حينما وضعوا في القبور – ويطلب من الاموات كأحياء، ويتكلم مع الصامتين كما مع المتكلمين!
-
عين الإيمان تتجرد من نظرة كافة الأشياء المرئية، وتقتنى نظرة خفية لكل الأمور الروحية، وتتغلغل في كل ما هو بداخل الجسد، لأن الإنسان يكون في موضع ولكنه ينظر إلى موضع آخر، فهو يسكن جسدياً في العالم الأرضى وبواسطة الإيمان يرتقى إلى العالم العلوى. الإيمان يسمع الحديث عن قيامة الأموات وتجديد أجساد البشر، ويحسبهم كما لو كانوا الآن قائمين ومتجددين. لقد قبل وعداً بخصوص عالم الحياة وملكوت النور ومواضع المجد والمباهج الروحية ومذاقة التنعمات وتفسير الأسرار وحقيقة تشبه المزمع بالملائكة، وبحسب كل ما سمعه كأنه قد تم بالفعل. لأن الإيمان يقف بين الماضى والمستقبل، ونحن نعرف بواسطته ما هو قدام وبعيد عنا و ما هو وراءنا في القديم، كما قال بولس الرسول :”بالإيمان نفهم أن العالمين اتقنت بكلمة الله حتى لم يتكون ما يرى مما كان ظاهراً، (3:11). لأنه بدون الإيمان نجعل كا ما كتب في الأسفار المقدسة كاذباً، ونقول عن كل الأمور الخفية الموجودة حقاً، إنها غير موجودة، ولأنها لا ترى فلا يتوبخ الشك سريعاً.
-
الإيمان ليس في حاجة إلى شهادة لكى يثبت في ما يسمعه، فالمعرفة هى التى تحتاج إلى الأدلة والراهين، وكذلك كل من يريد أن يرى ويحبس قبل أن يصدق الحقيقة، والإيمان أيضاً لا يحتاج إلى معجزات، فكما أن لله ليس في حاجة إلى آيات ومعجزات لكى يقتنع بما هو مزمع أن يعمله طالما أن كل شي ظاهر ومكشوف في سابق معرفته، هكذا أيضاً فإن الإيمان ليس في حاجة إلى المعجزات، لأنه كيف يكون في حاجة إلى شهادة شئ مما يعمله هو نفسه؟ فالمعجزات والآيات والعجائب وكل الأشياء التى من هذا النوع يعملها الإيمان، فكيف إذاً يكون في حاجة إلى ما يعمله هو نفسه لكى ما يتثبت بشهادته في الأمور الخفية؟ وكما أن الله ليس في حاجة إلى أعماله، بالمثل أيضاً فإن الإيمان ليس في حاجة إلى شهادة مما يعمله، الإيمان ليس في حاجة لأي شئ، لا مما يرى أو يلمس ولا من الأعاجيب ولا من المجادلات ولا من الشهادات، إنه لا يحتاج إلا أن يسمع كلمة الله: ويعرف أن الله هو الذى يتكلم،” ويقبل كلامه في الحال ودون تردد.
-
ليس أحد من الأبرار أرضى الله بدون الإيمان، كما يشهد بذلك تعليم القديس بولس الذى ذكرهم جميعاً بالتتابع مبتدئاً من هابيل إلى ظهور المسيح، مبيناً أن الجميع قد أرضوا الله بالإيمان. ولكي يضع تحديداً واضحاً لسائر التلاميذ، قال إنه بدون إيمان لا يقدر أحد أن يرضى الله (عب 6:11)، وأيضاً:” في الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد، لأن الله سبق فنظر لنا ما هو أفضل، لكى لا ينالوا عطية السلام بدوننا” (عب 12:11 ،40). فبحسب قول الرسول كان الإيمان يرافقهم كل أيام حياتهم حتى وفاتهم، وهم بواسطته قد صنعوا معجزات بينما كانوا في العالم، وبواسطته امتلكوا الرجاء وعاشوا في انتظار تحقيق المواعيد المزمعة واقتناء ما وعدهم به ذاك الذى آمنوا بكلامه.
-
الإيمان هو التربة التى تتقبل بذور كلمة الله. وكما أن بذار الزارع تبقى بلا ثمر ولا حصاد ما لم يكن هناك حقل (تزرع فيه)، بالمثل فإن كلمة الله تبقى بلا ثمر عندنا وبغير منفعة روحية ما لم تكن هناك تربة الإيمان التى تتقبلها. ونظر الإيمان يستقبل النور الروحاني الذى لوصايا المسيح كما تستقبل العين نور الشمس. وكما أن نور الشمس مع كونه يجعل كل شئ مضيئاً، إلا أنه لا يمكن أن يرى أى شي بدون العين التي تراه، هكذا ايضاً وصية الله لا تكمل عندنا بدون الإيمان. فالشمس مضيئة بطبيعتها، وكلمة الله مقتدرة عند قائلها، إلا أنه كما أن ضوء الشمس الطبيعي ينحجب عن أعين العميان ولا يجعل شيئاً يرى عندها، هكذا وصية الله تصبح ضعيفة بالنسبة للنفس التى لتم تقتن الإيمان، لأن الإيمان هو عين بصيرة ترى كل شئ وتقدره كما هو، لأن الأشياء المرئية ليست بذات أهيمة في عينيه، فهو يتغافل عنها ويتطلع إلى الأمور غير المرئية، فالإيمان إنما ينظر كل ما هو فوق الطبيعة وفوق الحواس، وهذا هو ما يعرفه.
-
لقد اطلق الإيمان ايضاً اسمه علينا، لأنه هو الذى ولدنا من الضلال إلى معرفة الله. ولهذا فإن كل من يدنو إلى المسيح ويصير تلميذاً لإنجيله يستمد اسمه من الإيمان فيدعى مؤمناً. وحيث أن الإبمان هو أمنا وهو قد ولدنا، فمن المناسب أن ندعى باسم الذى ولدنا. إنه لشئ مذهل حقاً أن يصل الإيمان في عظمته إلى الدرجة التي فيها يسمى الناس باسمه كما باسم الله واسم مسيحه، لأننا باسم الله ندعى إلهيين، وباسم المسيح ندع مسيحين، وباسم الإيمان نلقب مؤمنين. هذا هو الاسم الذى يميزنا عن كل المعتقدات الأخرى ويجعلها غرباء عن كل تعاليم الضلال، لأنه لا يوجد أحد يدعى مؤمناً ما لم يكن قد ولد من الإيمان الحقيقى، ومن التى هم الأم والمربية. كما أنه من المناسب أن ندعى مؤمنين، لأن تعليمنا كل متعلق برجاء الأمور المزمعة واشتياقنا هو بانتظار الأمور غير المرئية، ولأن كل الأمور التى تعلمناها ليست ظاهرة ولا هي تعرف للحواس الجسدانية. فرجاء كل ما نبتغيه من خيرات هو في الإيمان، واذا ما اختفى الإيمان هو لا واحدة من تلك الأمور التى تخصنا تصدق.
-
فإن كانت الأسرار التي في هذه الدنيا أو الخيرات التي صار لنا الوعد بها هناك في العلا، فإن الإيمان هو الذى يقفها ويحفظها. فلو اننا تأملنا الأسرار التي في الكنيسة بعين الجسد فقط بدون إيمان، لا عتقدنا أنها ساذجة وتافهة، بينما تلك التي للعالم، فبحسب مظهرها الخارجى تبدو أكثر قوة وأكثر عظمة من التي عندنا. فعندنا يوجد الفقر وفي العالم الغني، عندنا المتكأ الأخير وهناك المقام الأول، عندنا ألنسك وهناك وقوة الخيرات، عندنا الجوع وهناك الشبع، عندنا العوز وهناك السعة، عندنا الأحزان وهناك المسرات، عندنا الخضوع وهناك الطريق الواسع، عندنا الثوب الواحد حسب الوصية وهناك التزين بالملابس المتنوعة، عندنا الكلمة التى تنهيناً عن الاهتمام بالطعام اليومي وهناك الكنوز المكدسة لسنين وأجيال، عندنا احتمال شكل المحقرة والنسيان وهناك مظهر العظمة والكرامة.
ولكن كل هذه الأشياء وما يشبهها تعتبر عند العالم أنها أكثر عظمة وأفضل مما هو لنا، إذا ما أغفلنا الإيمان الذى هو غنانا الحقيقى، كما يشهد معلمنا القديس بولس في قوله :” إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح فإننا أشقى جميع الناس” (اكو 19:15)، وأيضاً :” نحن جهال من أجل المسيح، وضعفاء (ومحتقرون وأدنياء) وكأن لا شئ لنا” (اكو 10:4).
-
ولكن مع أننا لا نمتلك شيئاً مما يخص المكان الذي نسكنه (أي العالم)، إلا أننا نملك الكل في ذلك المكان الذي يخصنا (أي في السماء)، كقول الرسول :” كأن لا شئ لنا ونحن نملك كل شئ” (كو 10:6). ولكن ليس شئ مما يخصنا يمكن أن يرى في هذه الحياة بغير عين الإيمان، التي هي وحدها يمكن أن تراه. فغنانا الحقيقي لا يمكن أن يرى هنا، ولا سلطاننا، ولا سمو أعمالنا، ولا كرامتنا ولا مسرانتا ولا ملكوتنا ولا منازل نعيمنا ولا أفراحنا الخفية المختومة والمحفوظة لنا، ولا مدينة سكننا السمائي ولا صهيون مسكن الأحياء والأم التي تحنن وتشتاق أن تجمع أولادها إليها، ولا مخازن كنوزنا ولا غنى خيرانتا السمائية، ولا حريتنا التي هي اعلى من كل عبودية، ولا كثرة الخيرات التي سوف نحظى بها هناك.
فكل هذه الاشياء التى تخصنا هي مخفية في تلك الحياة، والبشر الجسدانيون لا يرونها، أما المؤمنون فهم وحدهم يشعرون بها بواسطة الإيمان. فهم يرون ما لا تران عين. ويسمعون أصواتاً لا تسمعها أذن الجسد، ويلمسون ما لا يمكن ليد الجسد أن تلمسه، ويتذوقون ما لا يمكن لحنك الفم أن يتذوقه. لأن الحساس بخيرات الروح التى وعدنا بها موضوع واخلاً من الحواس الجسدانية، لأنه إذا كنا لا نمتلك تلك الحاسة الروحانية التي تختص بها، التي هي الإيمان الذى يشعر بها ، فهي تصبح وكأنها لم تكن.
-
وإذا قلت :” ها إن أسرارنا هنا هي عظيمة ومجيدة”، تأمل أنها بغير الإيمان لا تظهر عظمتها. وكل ما تقبلناه من العالم وما نعمله بحسب التقليد الذي وصل إلينا، إن كنا ننظر إليه بعين العالم فهو يكون من العالم، أما إذا كنا ننظر إليه بالإيمان فهو أعلى من هذا العالم. هيا كل كنائسنا هي من العالم لأن بناءها تركب واكتمل من هذا العالم، أما روحانياً فهي أعلى من العالم لأنها أمثلة ” لكنيسة الأبكار المكتوبين في السموات، ولأورشليم الجديدة أمنا جميعاً ” (عب 23:12، غل 26:4) جميع المذابح مع بقية أوانى خدمة الأسرار وكل ما نستخدمه في خدمة الأسرار التي استلمناها هي من العالم لكونها من (عناصر) الطبيعة. ولكن بسبب عظمة ذاك الذي تكمل بواسطته هي فائقة جداً مرتفعة، ونحن نحسبها لأنها فوق الطبيعة، لأنها صورة الخدمة) طغمات الأحياء الروحانيين الذين في السموات والذين بواسطتهم تكمل خدمة أسرار الله ومشيئاته.
فالأسرار التي نقيمها لأجل خلاص نفوسنا هي قبل كل شئ من العالم، لأن منه يؤخد الخبر والخمر اللذان يقدمان على المذبح الروحي، إلا أنه حالما يوضعان على المذبح وتتقبلا الكلمة (ابن الله) فإنه يجعلهما فوق العالم، ويصيران الجسد والدم المحيين للإله الذى هو أعلى من العالم.
-
كذلك الماء والزيت اللذان تكمل بهما معموديتنا يؤخذان من العالم، إلا أنه عندما يحين وقت العماد فيمها وبواسطتهما وباستدعاء النعمة، فإن المعمودية من الماء والزيت- وهي أشياء ساذجة – تصير هي الأحشاء والقوة التي تلد الروحانيين. وكما قام المسيح من القبر في اليوم الثالث فإن الخاظئ المائت الذي ينزل في جرن المعمودية يصعد منها حياً كذلك. ولأن مخلصنا قام في اليوم الثالث فهو (أي الانسان) يتجدد بثلاثة غطسات باسم الثالوث المقدس. وكما أن مخلصنا قد انتقل بعد قيامته من التدبير الجسداني الذي كان له قبل الصلب إلى التدبير الروحاني، هكذا أيضاً فإن الإنسان الذي يتجدد المعمودية ينتقل كما من قبر إلى الحياة حسب تعليم القديس بولس.
-
نحن ندفن أمواتنا مثل باقي الناس، والمظهر الخارجي للتكفين والوضع في القبر عندنا لا يختلف عنه عند اليهود والوثنين، إلا أننا على رجاء الإيمان وانتظار القيامة من الأموات نقدم أمواتنا للحياة وليس للموت، ونرسلهم بموجب إيماننا إلى السماء وليس إلى الهاوية، أما الذين هم في الضلال فيرسلون أمواتهم إلى الموت وإلى الهلاك الأبدى، لأن رجاء الإيمان غير موجود عندهم.
-
ولأن عين الجسد هي أصغر بكثير من أن ترى أسرارنا، لذلك فإننا قد وهبنا عيناً أخرى، هي عين الإيمان القادرة أن تتطلع عليها وتراها كما صارت وليس كما كانت (قبل الاستحالة)، وأن تشاهد عن قرب ما وعدنا به، وتحسب ما هو بعيد عنا كما لو كان ليس بعيداً.
افهم إذاً، يامن تريد أن تصير تليمذاً للمسيح، أن جيمع أمورنا هي بالإيمان، وأنه بغير الإيمان لا نحن ولا أمورنا ولا ما هو بعيد عنا ولا الأشياء التي وعدنا بأن نعطى إياها تصير مرئية، ونكون نحن كما لو كنا غير موجودين. اجعل الإيمان إذاً بداية تدبير تلمذتك، وكن تلميذاً لله، لأنك لم تتبعه إلا لكى تحفظ وصاياه، هذا إذا كنت قد آمنت بكلامه.
-
لقد غرس الإيمان في طبيعتك، وقد وضعه الخالق فيك لكى تؤمن به بواسطته، فلا تحول إذاً قوة الإيمان، ولا تصدق عن طريقه ما هو ليس بموجود، لا تصدق ما هو ضعيف وزائل بدلاً مما هو قوى ودائم إلى الأبد. لأن كل الأمور الحاضرة لها هيئة، وهيئتها تزول وتنحل بحسب تعليم الكتاب المقدس (اكو 21:7)، أما الأمور الآتية والموعود بها للمؤمنين فهى ثابتة أبدية لا تفنى ولا تضمحل. فلا تصدق إذاً بواسطة الإيمان الذي فيك أموراً زائلة وتعتبرها دائمة، ولكن استعمل الإيمان في موضعه وصدق بواسطته الأمور الروحية. لأن هو ذا الإيمان موجود أيضاً عد الذين يعبدون الأوثان والذين يتخذون الحجارة والخسب وكل عناصر الطبيعة آلهة لهم. فقد غيروا نظامها الحسن وعوض أن يؤمنوا بالله عن طريقها، آمنوا بواسطتها بالأصنام المصنوعة، وعبدوا الأشياء غير الموجودة كآلهة.
فالإيمان يكون إيماناً حقيقاً بقدر ما يعتبرأن ما يؤمن به هو حقيقى، وإن هو صدق أشياءً أخرى مخالفة وتصور لنفسه أموراً غير موجودة، فمنذ ذلك الوقت لا تعتبر إيماناً بل ضلالة. لأن الله قد وضع الإيمان في الطبيعة لكى تؤمن به وحده، وعن طريقة تصدق ما يريده هو وليس شيئاً آخر.
-
وكما أن معرفة الله قد وضعت فينا طبيعياً كما قال المغبوط بولس:” إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم: (روا:19)، هكذا أيضاً فإن الإيمان قد تثبت طبيعياً في أفكارنا جميعاً. وفي الوقت نفسه كما أن معرفة الله قد وضعت فيهم ومع ذلك لم يعبدوه ولم يكرموا شخصه، بل اسمه فقط، وكرموا سائر المخلوقات عوضاً عنه، هكذا أيضاً نحن جميعنا نستطيع أن نصدق بواسطة الإيمان الذي وضع فينا، وارادتنا تقدر أن توجه إيماننا إلى أية جهة تريد، وتتخذ لنفسها الحركات الطبيعية التي فينا للرؤية. فإن شاءت إرادتنا تؤمن بالله بواسطة الإيمان، وإن أرادت تصدق أن عالم الحياة (الأبدية) دائم إلى الأبد فتشتاق إليه وتشتهيه، وإن أرادت تصدق أن هذا العالم الحاضر دائم فتحبه وتجرى وراءه.
-
لأن الإرادة تتسلط على الإيمان كما على بقية الحركات الطبيعية الأخرى التي فينا، وهي التي تواجهها جميعاً، سواء كانت الحواس الخارجية أو الافكار الداخلية. وكما أننا أعطينا الأعين لكى نرى بها حسن المخلوقات، والأذن لكى نسمع بها الوصايا الالهية، والأيدى لكى نمدها لعمل الصلاح، والأرجل لنذهب بها إلى الاجتماعات النافعة، وأن الإرادة تحولها إلى نقيض ذلك، وأنه عوض الصلاح الذى من أجله خلقت الأعضاء والحواس تفعل بها الشرور والجرائم الشينعة. هكذا أيضاً فإنه بإمكان الإرادة أن تغير الإيمان الذى وضع في طبيعتنا لكى نؤمن بواسطته بالله ونصدق مواعيد الروح، فتجعلها تؤمن بالشياطين بدلاً من الله، وتصدق الأمور الجسدانية بدلاً من الأمور الروحانية، وما يُرى بدلاً مما لا يُرى، والزائل والفانى بدلاً من الدائم الذى لا يزول ولا يضمحل.
-
أما أنت، أيها التلميذ، فاستعمل الإيمان بترتيبه الحسن ولا تحوله إلى الضلالة، وبواسطته آمن بالله وبمواعيدة ولا تصدق العالم ولا مغرياته، :لأن الأشياء التى ترى وقتية وأما التى لات تُرى فأبدية، “(2كو18:4)، كما قال القديس بولس. آمن إذا بالله، وفكر أن الخير الأبدى قد أعطى لك من قبله: وأن الإيمان هو بداية طريقك. لأنك إن لم تصدق وعد المسيح والخيرات التى وعد بها الذين يخرجون وراء إنجيله، فلن تقدر أن تتخلى مما أنت تمتلكه، ولن تقدر أن تسعى لاقتناء الخيرات التي وعدك بها.
-
إن كان أحد يأتي إلى ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وأخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً، فلا يقدر أن يكون لى تلميذاً. (لوقا 26:14). انصت لهذا الصوت أيها التلميذ، وأخرج من العالم، وهذا الإنجيل الذى يعد بالخير الروحى هو وحده الذى يبعدكمن اهتمامات ومشاغل العالم. باسمع إذاً هذا الصوت وكن تلميذاً له وليس لأى شئ آخر. ولا يكن لخروجك لا يكون مربحاً، لأنه مثلما تكون الانطلاقة الأولى هكذا يكون كل ما يأتى بعدها.
-
كثيرون يتركون تدبير العالم ويقتربون إلى تدبير سيرة التلمذة للمسيح لأِسباب متنوعة وليس لهذا السبب الواحد الذى هو الحقيقى، ولهذا تصير تلمذتهم غير ناجحة، ويعيقون الأعضاء الصحيحة عن تكميل خدمتهم الروحية وحفظ جميع وصايا المسيح مخلصنا. هؤلاء كان أفضل لهم لو أنهم بقوا في العالم من أن يكونوا مثالاً للانحلال في بلد الروحانيين. لأن كل تدبير العالم هو كجسد عاجز بالنسبة للأمور الروحية، أما التلمذة للمسيح فهى جسد معا في وصحيح. فالذي يقطع أعضاءه من ذلك الجسد المريض، ويأتي للإلتصاق بهذا الجسد الحى، لا يمكنه أن يدنو من شركة هذا الجسد إلا بمحبة تدبيره وحده.
-
لا ينبغى أن يكون هناك سبب آخر للاقتراب (من تدبير تلمذة المسيح) كما يفعل كثيرون للإفلات من العبودية او من َدين او من قسوة الأباء أو من غضب امرأة مع بقية الأسباب الأخرى السقيمة والملتوية التي تغضب كثيرين أن يأتوا ليصيروا تلاميذاً للمسيح، لأنهم عندما يأتون فهم يتبعونه حسب الظاهر ولكنهم في الحقيقة يتبعون العالم. يكونون هنا بالكذب وهناك بالفعل والأفكار، هنا بحسب العادة وهناك بالإرادة، تأثير الضيقة يقودهم هنا واختيار إرادتهم بحبسهم هناك، وباختصار يكون ظلهم أما أجسادهم فتبقى في العالم، يعيشون هنا بالشكل والصورة فقط، ولكنهم في حقيقة أنفسهم يكونون هناك.
-
وهكذا يصيرون عثرة لأنفسهم ولأخوتهم أيضاً. فهم يأكلون خبر المسيح اختظافاً وليس عن استحقاق، وبينما يكونون قد تعهدوا أن يعملوا معه، تجدهم يعملون مع آخر دون خجل، ومع أنه هو الذى دعاهم تجدهم يقدمون الطاعة لأخر هو خصمة، ومع أن جميع الناس يكرمونهم كمن هم أتباع المسيح، إلا أنهم يظهرون العقوق تجاهه ويزدرون بوصاياه. وقد صاروا عثرة في موضع التقديم، منظراً مخسراُ في مكان المكاسب، سبباً للضلالة في موضع الحق، ومظهراً للدمار على مسرح الأرباح. لقد كان خيراً لهم حسب قول المسيح لو لم يولدوا (مر21:14)، أو – لأنهم قد ولدوا – أن يبقوا في موضع المرضى قي تدبير العالم ولا يتسببون في مرض الآخرين معهم، وكونهم صاروا أمواتاً بالنسبة لله، يجذبون الأعضاء الحية للموت معهم.
-
أما أنت، أيها التلميذ، فاهرب من أمثال هؤلاء، وليكن الإيمان وحده هو علة خروجك من العالم، حتى يرتفع بناء عملك كله كما وضعت اساسه. لأنه إذا كانت أعمالك تستمد قوٌتها من إيمانك الأول الذى خرجت به من العالم، فإنه بهذا الإيمان عينه تكمل وتحفظ جميعها سالمة وصحيحة، وتثبت في استقامة، وتجرى أمام عين الله الخفية، وتعمل وتكمل تحت دفع الإيمان.
-
ما دام الإيمان يتطلع إلى فوق، فإننا نتقدم باهتمام ونشاط في طريق الوصايا، ونجرى بسرعة في درب الجهاد. وعين الإيمان هذه، التي فتحها منذ البداية، والتي بواسطتها رأيت عن قرب مواعيد المسيح، احرص ألا تغلقها لأى سبب يعرض لك إذا ما بدأت في طريق مسيرتك، حتى لا تحدثلك نجأة أية عثرة وتسقط في السبيل الذى تسلكه. ولكن كما أن الذين يشرعون في السير على طريق العالم يسيرون حتى نهاية الطريق بنفس الاهتمام الذى بدأوا به، وهم يحرصون ألا يغلقوا أعينهم أثناء مسيرتهم، ولا يغفلون عن الهدف الذي يرشدهم، هكذا أنت أيضاً أيها التلميذ، يامن بدأت تتقدم في طريق السموات، احرص حتى النهاية على الهدف الذي قد اقتنيته لك منذ البداية.
-
بقدر ما تتفرس عين الأيمان في المرمعات، بقدر ما تجف منك جميع أتعاب سيرتك وتتلذذ نفسك في أخزان أعمالك الفاضلة. وكما أن القدم تنجو من التعثر ما دامت العين مفتوحة للنظر، هكذا يُرفع الإهمال بعيداً ع النفس طالما كان نظر الإيمان سليماً، وهو يتفرس دائماً ويتأمل الأمور السمائية، والنفس التي تحرم من نظر الإيمان تصير إما نائمة أو مائتة. فإن هي طرحت عنها الإيمان تماماً وصارت مائتة، والتي تحتفظ فقط باسم الإيمان ولكن عينها لا تنفتح كل حين لتنظر الأمور الروحية، فهى تكون نائمة وقد كال رقادها في الكسل والغفلة : فمع أنها تعمل إلا أنها لا تشعر، ومع أنها قد بتررت فهى لا تدرك، ومع أنها تجرى لكنها لا تعرف طريقها. وكما أن من يكون نائماً لا يحس بما يمر جانبه، هكذا أيضاً من يغمض عين إيمانه لا يشعر بالصلاح الذى يعمل بواسطته، وكمثل الأعمى الذى يقوده آخر، هكذا هو أيضاً يُقاد من اضطرار العادة ولا يستطيع أن يغير أنواع الأعمال التي التزم بها، ويبقى في الموضع الذي انحصر فيه.
-
لا ينبغى لتلميذ المسيح أن يقيم صلاحه على أساس شرائع الناس، لئلا إذا ألغيت تلك الشرائع أو أراد واضعوها أن يغيروها، تتشتت وتتبدد فضائله. فلأن واضع (ناموس) جهادنا ليس هو إنسان، لهذا لا يجب أن تفرض علينا نوامينس الناس في مجال هذا الجهاد، بل مشيئة واضع جهادنا وحده هو المسيح.
-
هذا إذاً هو بدء خروجك من العالم، أنت يامن تبتدئ بالسير في طريق السماء: أن تتعرى من ثوب ضلالة الأفكار التي ربطتك بأمور العالم، تلك التي تخدعك وتجعلك تتخيل ما هو ليس شيئاً كأنه شئ. فاحترس إذا ألا تتحول عن إيمانك. ذكر نفسك كل حين بقول بولس الرسول، وبواسطته قوً أيمانك ونق أفكارك من صدأ الضلالة حسب قوله :”يجب أن الذى يأتي إلى الله يؤمن بأنه موجود” (عب 6:11). لإلهنا المجد إلى دهر الدهور. آمين.