لا يمكن أن نتقبل وصايا المسيح إلا بالبساطة
القديس مارفيلوكينس
-
لقد أعطانا ربنا في انجيله بداية سهلة ومريحة، هي الإيمان الحقيقى الراسخ الذى ينشاً طبيعياً من الفكر البسيط الذي يدعونا أن نطيعه ونحفظ وصاياه بواسطة ذلك الإيمان، وذلك على مثال الصديقين القدامى الذين دعاهم الله وقبلوا كلامة ببساطة وتيقنوا من صدق مواعيده بالإيمان.
-
ولست أتكلم عن البساطة التي في العالم، والتي تعتبر نوعاً من البلادة، بل أعنى صفة الفكر الوحية والبسيط الذي يسمع كلام الله ولا يحكم عليه، ويقبله دون فحص، كما يقبل الطفل كلام مربيته، وكطفل يتقبل من معلمه تعليم الكتب دون أن يفتش أو يحكم على ما يقال له. لأنه كما أن قياس إدراك الطفل صغير جداً عن أن يبحث في كتب الكبار، هكذا قياس عقلنا أصغر من أن يجعلنا قادرين أن ندرك تفسير الأسرار الإلهية. إذا قبالإيمان والبساطة وحدهما يمكن للإنسان أن يسمعها ويقبلها.
-
هكذا دُعى ابراهيم وخرج تابعاً لله: فهو لم يفحص القول الذي وجه إليه، ولم يعقه أى ارتباط بالعشيرة والأقوياء. أو البلد والأصدقاء، ولا أية قيود بشرية أخرى، ولكنه حالما سمع الصوت وعرف أنه من الله، أطاعه ببساطة وصدقه بكل أمانة، وازدرى بكل شئ وخرج بكل بساطة الطبيعة التي لم يداخلها أي خبث أو شر. فقد سارع إلى كلمة الله كالطفل وراء أبيه، وصار كل شئ محتقراً في عينيه بمجرد أن سمع صوت الله.
-
لم يكن إبراهيم مفتقراً إلى المعرفة والتميز الطبيعين، ولكنه أظهر تمييزه في أنه كان من الواجب عليه أن يستمع لدعوة الله له كما يدعو السيد خادمه والخالق خليقته. ولم ينسب لمعرفته القدرة على الفحص والاستقصاء: لماذا، ومن أجل أي شئ دعاه الله حين قال له: “اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت ابيك إلى الأرض التي أريك” (تك 1:12).
-
والله لم يعلن له ما هي تلك الأرض، لكى يزكى إيمانه ويستعلن بساطته، ومع أنه كان يبدون أنه يقوده إلى أرض كنعان، إلا أنه كان قد وعده أن يريه أرضاً أخرى، تلك التي في السموات، فحسب قول بولس الرسول:”لأنه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات، التي صانعها وبارئها الله” (عب 10:11)، وقال أيضاً : “ولكنهم بالتأكيد كانوا يبتغون وطناً أفضل (من أرض كنعان) ، أى الوطن السماوى” (عب 16:11) ولكى ما يعرفنا بوضوع أن الأرض التي وعد الله أن يريها لإبراهيم لم تكن هي أرض الموعد الأرضية، فبعد أن أخرجه من أود الكلدانيين جعله يسكن في حارات ولم يوجهه إلى أرض كنعان بعد خروجه مباشرة، ولكى لا ينشغل إبراهيم بالتفكير في المجازاة التي أعلنت له، ولكى لا يكون خروجه تابعاً دعوة الله لهذا السبب، لم يدعه الله يعرف ن البداية إسم الأرض التي سيقوده أليها.
-
تأمل إذاً أيها التلميذ هذا الخروج، وليكن خروجك مثله، ولا تتأخر عن أن تستجيب للصوت الحى، صوت المسيح الذى دعاك، أنه هناك لم يدع غير إبراهيم، أما هنا في أنجيله فإنه ينادى ويدعو لاتباعه كل الذين يريدون، لأنه نادى بدعوة عامة لجميع الناس حين قال: “إن أراد أحد أن يأتي ورائى فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعنى” (مت 24:16) وبينما هو هناك لم يختر سوى أبراهيم، فهو هنا يدعو العالم كله للتشبه بإبرايهم.
-
لقد جدد أيضاً لتلاميذه القديسين دعوة إبراهيم، واعتبر إيمانهم مشابهاً لإيمان ابراهيم، لأنه كما أن ابراهيم قد أطاع الدعوة في الحال، هكذا فإن الرسل تبعوا يسوع ما أن دعاهم وسمعوا الدعوة، حيث يقول:” وأبصرهما يلقيان شباكهما في البحر فدعاهما، فللوقت تركا شباكهما وأباهما وتبعاه” (مت 4 18-22). فقد تركوا كل شئ وتبعوه حتى من قبل أن يقول لهم:” إن كان أحد لا يترك أباه وأمه وكل ماله ويتبعنى فلا يقدر أن يكون لى تلميذاً” ( لو 26:14). فلم يكن تعليماً طويلاً هو الذى جعلهم يصيرون تلاميذاً، ولكن مجرد سماعهم لصوت الإيمان، ولأن إيمانهم كان حياً فما أن قبلوا الصوت المحي حتى أطاعوا الحياة. وهكذا أسرعوا في الحال وراءه ولم يتأخروا، وأظهروا بذلك أنهم كانوا تلاميذاً حتى ومن قبل أن يدعوا لذلك.
-
تلك هي عادة الإيمان الممتزج بالبساطة: فإنه ليس بسبب قوة الجدل يقبل التعليم، ولكن كما أن العين السليمة النقية تتقبل الشعاع الذي يصلها دون سؤال أو تعب، وترى ضوءه في اللحظة التي تنفتح فيها من ذاتها وبقدرتها الخاصة، لان بصرها الطبيعي سليم، هكذا أيضاً فإن عين الإيمان التي وضعت في حدقة البساطة تعرف صوت الله لحظة أن تسمعه ويشرق نور كلمته فيها ويندفع بفرح نحوه وتحتضنه، كما قال ربنا في إنجيله: “خرافي تسمع صوتي وتتبعني” (يو 27:10)، لأنه أينما يُحفظ الإيمان طبيعياً في كماله، فالذي يحفظه هو حقاًمن خراف الراعى.
-
لقد جاء أيضاً عن القديس متى الذي رآه ربنا جالساً عند مكان الجباية، أنه لما دعاه ترك كل عمله وكل مقتنياته وقام وتبعه في الحال (لو 27:5). كذلك كتب عن القديس فيلبس: “فقال له اتبعنى”، وفي الحال تبعه ( يو43:1). وهكذا نرى كيف أن الرسل بمثل هذه النقاوة وهذه البساطة كانوا يطيعون دعوة المسيح، ولم يستطع العالم أن يعيقهم ولا الارتباطات البشرية أن تعطلهم ولا أى شئ من مقتنيات هذا العالم يعرقلهم.
-
هذه نفوس أحسنت بالله وعاشت بالإيمان، وعند مثل هذه النفوس لا يمكن لأي شئ في العالم أن يستظهر على كلمة الله. ولكن الإيمان يكون ضعيفاً عند النفوس المائتة، حتى إنه بسبب موت النفس تنتقل من القوة إلى الضعف، ويتحول تعليم الله ليصير دون أي تأثير عندها. لأن كل نشاط الإنسان يتركز حيثما يعيش: فالذي يعيش للعالم يتجه عمل أفكاره وخدمة حواسه نحو العالم، والذي يحيا لله يتحول لكل قوة حركاته إلى حفظ وصاياه.
-
جميع الذين وصلتهم الدعوة أطاعوا في الحال الصوت الذي دعاهم، حيث لم تتعطل نفوسهم تحت ثقل محبة الأشياء الأرضية. لأن رباطات هذا العالم تثقل القلب والأفكار. والمقيدون بتلك الرباطات يسمعون بصعوبة صوت دعوة الله. أما الرسل، ومن قبلهم الآباء والأبرار فلم يكونوا هكذا، فقد أطاعوا كأحياء، وخرجوا بكل نشاط، لأن شيئاً من هذا العالم لم يقيد اقدامهم. فليس شئ على الإطلاق يمكن أن يقيد أو يعوق النفس التي تحس بالله: فهى تكون دائماً منفتحة ومتأهية، حتى أن كل مرة بأيتها نور الدعوة إلالهية يجدها مستعدة لقبوله.
-
لقد نادى ربنا ايضاً زكا وهو فوق الجميزة، وفي الحال أسرع ونزل وقبله في بيته فرحاً (لو 5:19)، وذلك لأنه طلب أن يراه ويصير تلميذاً له حتى ومن قبل أن يدعوه. إننا نرى هنا شيئاً عجيباً : إنه قد آمن بالرب قبل أن يتكلم معه، بل وقبل أن يراه جسدياً، وذلك بمجرد السماع عنه من الآخرين. كا هذا هو الإيمان الذي كان مدخراً عنده في كامل صحته وحيويته الطبيعيتين. وقد أظهر إيمانه حينما آمن بربنا لما سمعه يناديه، وظهرت بساطة إيمانه عندما وعد بأن يعطى نصف أمواله للمساكين ويرد أربعة أضعاف لكل من وشئ به. لأنه لو لم يكن قلب زكا في ذلك الوقت ممتلئاً من البساطة التي تليق بالإيمان، لما كان قدم هذا الوعد للرب يسوع، ولما استطاع أن يصرف ويوزع في وقت قليل ما كان قد جمعه بجهد خلال السنين. هكذا نرى البساطة توزع هنا وهناك ما كان قد جمعة بالمكر والخداع، ونقاوة النفس تبدد ما اقتناه بأفكار الحملة والدهاء، والإيمان يتخلى عن كل ما حصل عليه وامتلكه بغير وجه حق ويعلن ن أن ذفأن أن ذلك لم يعد يخصه. فالله هو المقتنى الوحيد للإيمان، وهو لا يرضى بامتلاك أية قنية أخرى معه. فكل المقتنيات عنده خارجاً عن الخير الثاب (الأوحد) الذى هو الله، لا أهمية لها عنده على الإطلاق. والإيمان قد وُضع فينا لكى ما بواسطته نجد الله ولا نقتنى غيره، ولكى ما نرى أن كل شئ خارجاً عنه إنما هو خسارة لنا.
-
والأسفار المقدسة قد أظهرت لنا أن الإنسان يدنو إلى الله بروح الإيمان هذا وبالبساطة. لأن آدم وحواء كلاهما بقدر ما كانا عائشين في بساطة الطبيعة، ولم يكن إيمانهما قد انحجب بواسطة الأوجاع الجسدية، كانا يحفظان ويطيعان وصية الله التي سمعاها. فقد قال الله لآدم :”لا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت، وإن أنت حفظت وصيتى أعطيك الحياة الأبدية”. وتقبل آدم الوصية وحفظها بإيمان وبساطة. ولم يفحص أو يفتش: “لماذا ينهانا الله عن شجرة واحدة من بين جميع الأشجار؟ ولماذا وعدنى بالحياة الأبدية إذا ما حفظت الوصية؟” فهو لم يبحث هذه الأمور، ولم يتحر منها، وذلك بسبب بساطته.
ولكن لمادخل العدو بمشورته ووجد هناك هذه البساطة استخدم معه أسلوب المكر والخداع، فزرع فيه فكراً مضاداً لذلك الفكر الفريد البسيط. فالذى كان قبلاً واحداً غير منقسم، راسخاً في بساطته، صار الآن منقسماً إلى فكرين: يريد ولا يريد، يَحكم ويُحكم عليه، يتردد بين أن يعمل ولا يعمل. والمشورة التي قدمت لهذا الطفل بهذه البساطة جعلته يحكم على وصية الله. ولأنه كان في تلك اللحظة قد فقد بساطته. لم يجد السعادة في حكمه، لأنه حكم بحماقة أنه من اللائق أن يطيع العدو أفضل من الصديق، والذي يُميت أفضل من واهب الحياة، والذي يُعلًم الشر أفضل من الذي يُعلم الخير.
لأنه بقدر ما يعيش الإنسان في البساطة، فهو يطيع وصية الله، ولكنه متى أراد أن يستعمل المكر والخداع فهو يتقبل مشورة المنافق. لأن المكر هو الانحراف باتجاه الشيطان، أما البساطة فتكون عند الذين يتبعون المسيح. فالذي يريد أن يكون ماكراً ومخادعاً لا يقدر ان يصير تليمذاً للمسيح كما يشرح ذلك تعليمه.
14- إن روح المكريبنى ويهدم كل حين أفكاراً تضاد بعضها البعض: فهو يربط ويحل، يقول الحق والكذب، يوافق على الشئ ثم يعود ويرفضه ويختار شيئاً آخر مكانه،إنه معبرً لأفكار كثيرة مشوشة، ولا يثبت في فكر واحد منها لكى يصدقه ويركن إليه. أما البساطة فهى ضد المكر في كل شئ كما يشهد إسمها، لأنه ليس فيها أفكار تنقض بعضها البعض. لقد اتخدت البساطة إسماً يناسب الله: فنحن في قانون إيماننا ندعوا الله بسيطاً (واحداً)، لأنه لا يوجد فيه تركيب ولا تقسيم. وبالمثل نحن في لغتنا العادية نطلق إسم “البسط” على الذي لا يسلك بمكر من أجل الشر، لأنه لا توجد أية حركة للشر في قلبه: فهو لا يعرف أن يهتم أو يتجنب ما يحدث ضده من العالم، ولا يحتال في ضرر أعدائه، ولا يُفند ما يقال ضده، ولا ينصب فخاخاً ويدبر مكائد، ولا يستعمل المر والخديعة لإيذاءالآخرين. فهذه الأشياء وما يشبهها لا تعرف البساطة أن تعملها، ولأجل هذا يؤتمن البسيط كل حين على أسرار الله ويحظى بالإعلانات.
15- وبالمثل، فمن المؤكد أن الرسل كانوا بسطاء أكثر من جميع الناس، فقد اختارهم الرب يسوع، لكى ببساطتهم يُخزى حكمة العالم، ولكى بجهلهم يُظهر بُطلان معرفة العارفين والمتعلمين، كما قال القديس بولص أيضاً :”بل اختار الله جهال العالم ليخزى الحكماء” (اكوا 27:1)، وأيضاً: “ألم يُجهل الله حكمة هذا العالم؟”(اكوا 20:1)؟ وأيضاً” :لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة، استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة”(اكو 21:1)، كما قال أيضاً للبعض من تلاميذه الذين كانوا يفتخرون بمعرفة العالم: “أنظروا دعوتكم أيها الإخوة أن ليس بينكم حكماء حسب الجسد” (اكو 26:1).
16- ولا أريد من هذا أن أقول أنه لا توجد حكمة في تعليم المسيح، بل أن حكمة المسيح هي حكمة أعلى من العالم، وإن حكمة العالم هي مخالفة هلا في كل شئ، كما أن الظلمة هي ضد النور والمر هو ضد الحلو والمرض ضد الصحة الجيدة، لأن الحكمة الإلهية لا تسر بالهذيذ والاهتمام بالإفكار الأرضية، ولكن كل اجتهادها منصرف نحو الامور الروحية، وكل حركاتها وأفكارها هي أعلى من العالم. كما يشهد بذلك الرسول نفسه قائلا: “صوت جاهلاً بالنسبة لحكمة العالم، ولكنى أمتلك بمعرفتى الحكمة التي تفوق العالم” (قا:اكو 1:2 – الخ)، وهو يبين لنا أن العالم لا يقدر أن يقبل الحكمة التي يمتلكها، وينادى قائلاً: “الحكمة التي نتكلم بها بين الكاملين هي حكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يُبطلون، ولكننا نتكلم بحكمة الله في سر، التي لا يقدر أحد من حكماء العالم أن سمعها” (اكو 8،6:2). لأن حكمة العالم لا يمكن أن تكون أساساً ولا تقبل بنيان حكمة الله، ولهذا السبب فإن ربنا قد وضع البساطة كأساس لها.
17- مَن لا يعرف كم كانت بساطة آدم وحواء رأسى الجنس البشرى، وكيف كانا بسطاء تجاه كل تدبير هذا العالم! فهما لم يختبرا ولم ينشغلا بشئ من أموره، لأن أعمال وأشعال هذا العالم لم تكن قد كُشفت لهما بعد حتى ذلك الوقت. وهكذا كانا قريبين من الرؤى الإلهية، وكان الله يتكلم معهما دائماً وجهاً لوجه، فقد كان قريباً منهما في كل حسين في صداقة حميمة، يقودهما ويصطحبهما ويخضرهما من حيث خُلقوا وكانوا، ويأتي بهما ويضعهما في الفردوس. وكان يُظهر لهما كل شئ عن قرب كامل كإنسان، ولكنهما لم يقبلا في نفسيهما أي فكر عنه، أين يسكن ذاك الذي يظهرلهما؟ منذ متى هو كائن؟ إذا كان يَخلق فهل هو قد خُلق؟ وإن كان قد خُلق فمن هو الذي خلقه؟ ونحن لماذا وضعنا في الفردوس؟ ولماذا أعطينا هذه الوصية؟ لقد كانت هذه الامور بعيدة تماماً عن تفكيرها، لأن البساطة لا تفكر في أمور من هذا النوع، بل هي منشغلة تماماً في الإنصات إلى ما تسمعه، وجميع أفكارها مرتبطة بكلمة ذلك الذي يكلمها. وهكذا وضع الله البساطة في رأسى جنسنا الأولين، وهي التي قبلا بها الوصية الأولى.
18- البساطة تسبق الإيمان، لأن الإيمان هو إبن البساطة وليس ابن المكر” فالماكر والمخادع لا يصدقان بسهولة ما يسمعان أما البسيط فيسمع كل كلان الله وبصدقه. واذا ما كانت البساطة في نقاوتها الطبيعة فهى تقبل ما يقوله الله فقط. وكما أن الأرض قد وضع في طبيعة تكوينها التي جبلها خالقها أن تتقبل البذور والنباتات النافعة لحاجات البشر، ولم يكن من طبيعتها أن تنتج الشوك والحسك، لكنها أمُرت بذلك فيما بعد من قبل خالقها، هكذا أيضاً وضع الخالق البساطة في طبيعتها، أما نحن فقد قبلنا المكر والخداع فيما بعد بسبب العارات التي دخلت فينا – كما تشهد بذلك أيضاً ذرية البشر بأكملها.
19- البساطه هي التي تغرس فينا أولاً عندما نًولد، اما المكر فيأتى بعد ذلك. فالأطفال وهم ما يزالون صغاراً يكونون ممتلئين براءة ونقاوة، ولكنهم عندما يمضى عليهم الوقت في العالم يتعلمون المكر بسبب نموهو وحركتهم. فلو أن أحد أحمل طفلاً إبن سنةٍ وخرج به ورباه في برية غير مأهولة بالناس، بعيداً عن استخدام أمور هذا العالم، وحيث لا يرى شيئاً على الإطلاق من أعمال البشر، لكان ممكناً لهذا الطفل أن يثبت في البساطة الطبيعية الكاملة، وكذلك عندما يدرك قامة الرجل يستطيع أن يتقبل بسهولة كبيرة الرؤى الإلهية والأفهام الروحية، ويصير بسرعة إناءً صالحاً لتقبل الحكمة الإلهية.
20- على هذا المثال – كما أرى – عاش يوحنا المعمدان الكارز، ولأنه كان في البرية إلى يوم ظهوره لإسرائيل كما يشهد بذلك الإنجيل ( لو 8:1)، لذلك استطاع أن يتقبل ويتعلم الأسرار الإلهية، ويتلقى قوة المعمودية بالروح، قبواسطة البساطة التي نما فيها، تذوق في البرية ما لم يَتسن لأحد غيره من الأنبياء القدامى أن يتذوقه، فهو قبل أن تبطل اللعنة وحكم موت الخطية، وقبل أن ينقض حائط السياج المتوسط أي العداوة، والذي قيل عنه إنه تمزق بواسطة صليب المسيح، سبق هو فحصل على ما صار بعد الصليب. فقد قادته النعمة لكى يخرج إلى البرية ويحتفظ بالبساطة الطبيعية، لكى ما يمكنه أن يتقبل الأسرار الفائقة للطبيعة.
21- وعلى هذا النمط أيضاً بعد أن أنقذ الله الشعب من مصر، أخرجهم إلى برية فقرة حيث أقتنوا هناك البساطة. وأعتقد أنه أجرجهم إلى البرية لكى يخلصهم من عادات وتصرفات الناس ومن المكر ومن حكمة العالم التى تعلموها في أرض مصر، ولكى ما تصير البساطة الطبيعية عادة عندهم، ولكي ما يتقبلوا التعليم الإلهي بنقاوة. ومع أنه توجد أسباب أخرى كثيرة من أجلها أخرجهم الله إلى البرية، إلا أنه يبعد أن السبب الأول والأساس هو أن يتعرفوا على أسرار العناية الإلهية. ولكن لأن أولئك الذين خرجوا من مصر لم يريدوا أن يتخلوا عن الخبث والمكر الذى تعلموه في مصر وأخذوا يقاومون في كل شئ الوعد الذى اعطاهم الله إياه، لذلك أبقاهم الله في البرية أربعون سنة لكى ما يبيد الشر مع جميع صانعيه ويبطل المكر مع جميع الذين تلقنوه في مصر. وهكذا جعل الجيل الجديد الذى وُلد وتربى في البرية، وتلقى هناك تعليم البساطة بحسب ناموس الله، هو وحده يدخل إلى أرض الموعد ويرثها، لأنه يليق الذين ينشأون وينمون في البرية أن يصيروا بسطاء، ومن اللائق بالبساطة أن تسمع وصايا الله وتطيعها.
22- وإن فكر أحد أنهم آمنوا لكونهم رأوا الآيات والعجائب في البرية، ولأنهم خافوا أن ينالهم العقاب الذى جاء على الذين سبقوهم، فسيجد أن الذين خرجوا من مصر كانوا قد رأوا آيات أكثر منهم، لأنه خلاف الآيات التي عملت في مصر فقد رأوا أيضاً معجزة شق البحر، وذلك العبور الرهيب، وكيف عادة المياة وغطت المصريين الذين دخلوا وراءهم، ورأوا كذلك المعجزة التى جرت عند مازة حين صارت المياه المرة عذبة بواسطة قطعة من الخشب وأرووا عطشهم منها. وباختصار فإن الذين خرجوا من مصر كانوا قد شهدوا المعجزات في مصر وفي البرية وفي المواضع التي مروا بها إلى هناك، بينما الجيل الجديد الذى ولد في البرية فبم يروها فيما عدا الآيات التى رافقتهم باستمرار كعمود النار والسحابة المنيرة والصخرة التى جرى منها الماء والسمان الذى أتى من البحر. ومع أنهم رأوا آيات أقل من التى رآها الذين خرجوا من مصر، إلا أنهم بسبب بساطتهم ثبتوا في مخافة الله أكثر من الذين رأوا المعجزات الباهرة العديدة.
23- ولكى تعلم أن جميع المعجزات والآيات التى جرت هناك لم تستطع أن تنزع وتمحو منهم الشر الذي تعلموه في مصر، وأن الجيل الذى وُلد في البرية استطاع من خلال بساطتهم أن يبتعدوا تماماً عنه. اِفهم ذلك من كونهم بعد أن وصلوا إلى الأرض الآهلة بالسكان في ختام الأربعين سنة، حين خيموا مقابل المديانيين وأرادوا أن يدخلوا أراضى الأمم، عند رؤية بنات مديان وقد زين أنفسهن وجلسن مقابلهم، فالذين تبقوا من الشعب الخارج من مصر أعطوا أنفسهم للزنى معهن، كما ذكر الكتاب المقدس أن الشعب رأوا بنات مديان وابتدأوا يزنون معهن وتعلقوا ببعل فاغور وعبدوا أوثانهم وأو(عد 25: 9-1). والذين فعلوا ذلك كما قال الكتاب هم الذين تبقوا من الشعب الخارج من مصر. وانتابهم الوباء فمات منهم أربعة وعشرون ألفاً، كما قال إنه بهذا قد كمُل عدد الستمئة ألف جملة الذين خرجوا من مصر، والذين قال عنهم إنهم لن يدخلوا ولن يروا أرض الموعد.
24- ومن حقيقة أنهم هم الذين ماتوا وحدهم من بين الشعب كله، ندرك أنهم هم وحدهم الذين ارتكبوا الزنى، لأن الكتاب يقول إن موسى وكل جماعة بنى اسرائيل كانوا جالسين أمام الرب وهم باكون لدى باب خيمة الاجتماع في الوقت الذي فيه دخل زمرى بن سالو رئيس بيت أبٍ من الشمعونيين إلى إمرأة من بنات صور أحد رؤساء مديان أمام عينى موسى وأعين كل جماعة بنى اسرائيل، حين قام فينحاس في ذلك الوقت وأظهر غيرته الشديدة. ومن حقيقة أن الوباً قد أصاب الأحياء الاقين من الشعب الخارج من مصر، نعرف أنهم هم وحدهم الذين اقترفوا هذا الإثم الشنيع، وأن الشعب الذى كان قد وُلد في البرية، وكبر ونما في البراءة والبساطة بخوف الله، هم الذين كانوا جالسين مع موسى لدى باب الله تائبين وطالبين منه الرحمة (عد 25: 7،6).
25- وبالامكان أيضاً أن نؤكد ذلك مما جرى في أمر العجل الذهبى، لأنه عندما نزل موسى على الجبل ورأى هياج الشعب وعلم أنه ليس جميعهم اندفعوا إلى ذلك العمل المهين، بل البعض منهم فقط، أخذ الذى صنعوه وأحرقه بالنار وطحنه حتى صار ناعماً وذرًاه على وجه الماء ظهرت أفكارهم، الذين كانوا قد فكروا في صنع العجل والذين اندفعوا إلى ذلك الفعل الشرير. وقد كتب أن علامة العجل رؤيت عليهم. وأولئك هم الذين قتلوا بسيوف بنى لاوى. وبما أن الموت قد انحصر في أولئك وحدهم، نفهم من ذلك أيضاً أن الضلالة كانت قد بدأت بواسطتهم، وأنهم هم الذين تهوروا وكانوا البادئين بالعمل الشرير، وأنهم هم أيضاً الذين أدركهم العقاب الذي حكم به موسى عليهم بموجب علامة العجل التي شوهدت عليهم. هكذا هنا أيضاً من حقيقة أن الذين ماتوا فجأة بالوباء كانوا أربعة وعشرين ألفاً فقط، وأن الكتاب ذكر انه بهذا اكتمل عدد الذين خرجوا من مصر، نفهم أن أولئك وحدهم هم الذين انفعوا إلى الزنى، ويُعرف زناهم من نوع دينونتهم، ونعلم من موتهم المفاجئ أن خطية الزنى لازمت هؤلاء أيضاً، وأن الذين تذكروا عبادة الأوثان في مصر هم الذين حالما رأوا بنان مديان التهبت الشهوة فيهم.
26- أما بساطة الأبوياء الذين ولدوا في البرية فهى التي حفظتهم وراء الرب. فقد رأيناهم جالسين عند باب خيمة الاجتماع في براءة قلوبهم وبأفكار خلت من الغش والخداع يطلبون رحمة الله. ولهذا تحققت له المواعيد الأرضية التي أعُطيت لإبراهيم، ودخلت البساطة وورثت أرض الموعد، وامتدت البراءة إلى حدود ميراثها لأنه قد صار الوعد به لرئيس جنسها. والبساطة التى سلكوا بها مع الرب أهلتهم للنرة في حروبهم مع الأموريين. فبعد أن عبروا الأردن أمرهم يشوع قائدهم أن يدوروا حول أريحا ستة أيام مرة واحدة في كل يوم، وفي اليوم السابع يدوروا سبع مرات، وكان هو يتقدمهم مع الكهنة حاملين الأبواق وتابوت الرب. ومشى الشعب وراء يشوع ووراء التابوت بكل بساطة كأطفال وراء آبائهم! (يش 6: 15-2).
27- ولماذا نتحدث عن الشعب جميعه بينما يذكر الكتاب أيضاً لنا أن يشوع بن نون نفسه كانت عنده بساطة وبراءة؟ “كان يشوع بن نون الغلام لا يبرح من داخل الخيمة” (خر 11:33)، وكان هناك مواظباً باجتهاد على خدمة موسى. ولأنه امتنع عن الخروج والدخول وسط الناس، جمله هذا بالتأكيد قريباً للبساطة، لأنه إذا كان المكر والخبث يتجمعان من التلقين في العالم، فمن الواضح أن البساطة والبراءة تقتنيان من التربية والتدبير في السكون، وأنه على قدر ما يُوثر الإنسان السكنى في السكون، على قدر ما يقتنى البساطة. وبحسب ما هو مألوف في العالم بهذا الصدد، نجد أن الذين تربوا ونموا في السكون والذين لم يسلكوا في طرق وأعمال وأحاديث العالم، هم – بوجهٍ خاص – الذين كانوا أبرياء وبسطاء، وأنه عندهم بالذات خُفظ البر الذى تولدت منه الاستقامة. فجميع أبرار الشريعة بالبساطة أرضوا الله.
28- داود المغبوظ يربط أيضاً البر بالبراءة في قوله:”الأبرياء والأبرار لصقوا بي لأني انتظرتك يارب” (مز 24 (25): 21)، وهو يشهد أيضاً بخصوص برائته كيف أنها كانت مع الله:”كنت بريئاً ولم أعرف – صرت كبهيم معك” (مز 72 (73):22). لقد تذلل إلى حد أنه أعتبر نفسه جاهلاً. فالبهيمة التي تسير وراء الإنسان لا تقدر أن تحكم على عمل واحدٍ من أعماله أو تصرفاته لسبب افتقاد طبيعتها إلى العقل والتمييز. هكذا كانت معرفة داود أمام الله، فقد كان يعتبر نفسه مثل بهيمة يقودها إنسان، و1لك لكى ما يُقاد بواسطة مشيئة الله ولا يحكم هو على على مشيئة بأى نوع كان، كما يظهر ذلك من بقية الكلام. فقد قال: لأننى صوت مثل بهيم معك بكل براءة، عزتى برأيك وقدنى إلى مجدك” (مز 72 (73) :23). وقال أيضاً: ” إننى لم اطلب شيئاً مما في السماء معك، ولا مما تريده على الأرض” (25) : إننى لم أعارض أحكام عنايتك حين كنت اطلب معرفة مشيئتك في أمر من الأمور وتطلب إرادتي شيئاً آخر. ولأننى كنت أتحير من جهة تبدل أعمالك كنت أسرع لكى ما أحتمى بالبساطة. ولقد صرت كبهيم عندك لكى ما تكون مشيئتك وحدها هي التي تهدينى، وعملك يقودنى في طريق الحياة، ولكى ما تعطينى تدبير حكمتك في كل ما هو ضروري للحياة الروحية والجسدية.
وهو في المزمور نفسه يبين ايضاً أن الأبرياء بوجه خاص هم الذين تتفاضل عندهم نعمة الله: “إنما الرب صالح لإسرائيل لمستقيمي القلب” (عددا)، وقد ربط البراءة بنظر الله، لأن “اسرائيل” تعنى “يرى الله”. والذي هو بسيط ونقى في قلبه هو الذي يمكنه أن يرى الله، كما قال ربنا أيضاً في إنجيله: “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت 8:5).
29- وقد أظهر داود النبى أيضاً أن النفس التي تبتعد عن خبث التعاليم البشرية هي التي ترجو بر الله وتمتلك الشجاعة الروحية والثقة التي تغلب كل شئ :” لأنى لم أعرف صنعة الكاتب، فأدخل في قوة الله، وأذكر نفسى ببرك وحدك” (مز 7 (71):15). وكمن يعرف في أي شئ هو ساذج وبسيط، وفي أي شئ هو عارف وحكيم يعود فيقول :”تعليمي منذ صباى وإلى الآن. هو أن أخُبر بعجائبك” ((17)، وأيضاً لكى يُظهر نقاوة أفكاره، يقارنها بيديه، ويساوى نقاوتها التي هي النقاوة م الإثم، بغسل يديه :” غسلت يدى لكى تصير نقية”، أى : ظهرت ونقيت أفكاري وانتبهت لمذبحك يارب” (مز 25 (26):6). وكذلك يقول :” كنت أسلك بدعة قلبي في وسط بيتى حتى تأتي إلى ” (مز 100 (101):2)، ثم يعود فيقول: “لا يسكن في بيتى عامل غشٍ”(عدد 7،2)، وهو ايضاً متيقن من أن الغش ينجم عن الخبث. وقال ايضاً :”جربنى يارب وامتحنى ومحص قلبي وكليتى” (مز 25 (26): 2)، كما قال: “انا وحدى قد نقيت قلبي وغسلت يدى لكى تصير نقية” (مز 72 (73):13).
30- وعلاوة على ذلك عندنا أيضاً الشهادة أنه قد أختبر من مكان تُلقنُ فيه البساطة، فقد أختير من وراء الغنم كما عرفنا هو نفسه بذلك وذكره في أحد مزاميره:”واختار داود عبده وأخذه من قطيع الغنم، ومن خلف المرضعات أتى به” (مز 77 (78):70). ولكى يبين أن مُلكه أمضاه في البساطة. قال:”فرعاهم بدعة قلبه” (عدد 71). ومن الواضح أن البراءة (أو الدعة) هي البساطة وهي النقاوة. وكتاب أخباره يُعرفنا كذلك أنه بسبب بساطته كان يقف لديه باستمرار مشير يأخد مشورته في شئون هذا العالم، فيذكر الكتاب أخيتو فل كمشير لداود (امل 32:27).
31- ومن مواضع اخرى يسهل علينا أيضاً أن نرى بساطة داود. ولقد عرفنا هو نفسه بذلك عندما تكلم مع يوناثان قائلاً: ” ليس خبث في قلبي وأبوك ينصب لى فخاخاً لكى ينتزع حياتى” (قا، اصم 1:20)، وذلك الكلام الذى قاله يوناثان أيضاً لأبيه :”لقد وضع نفسه بيده وأقام الحرب ويقتل الفلسطينيين” (أصم 5:19) هو خير شهادة على بساطة داود. وعندما أشار عليه الرجال الذين كانوا معه في المغارة أن يقتل شاول (اصم 24) تمسك أيضاً بروح البساطة عينها، واعتبر أن النصيحة التي أشاروا بها عليه بقتل شاول هي تخص خبث وخداع العالم، لأن هذه هي عادة الذين يمتلئون من خيث العالم أن يبذلوا قصارى جهدهم في إزالة العقبات من أمامهم بإي وسيلة، أما داود قد ظل محتفظاً ببساطته وشفقته.
32- وبأمكاننا أن نجد مواضع أخرى كثيرة في الأسفار المقدسة تعرفنا بدعة قلب رجل الله هذا، منها ما قاله الرب لصموئيل النبى:”قد اخترت لنفسى رجلاً حسب قلبى” (اصم 14:13)، فهذه هي أيضاً شهادة لنقاوة قلب داود. ومعلوم أن نقاوة القلب تولد من البساطة. وهو نفسه قد طلبها في صلاته: “قلباً نقياً أخلقه في يا الله” (مز 50 (51):13).
33- تأملوا أيضاً سائر الأبرار والصديقين، كيف أنهم جميعاً أرضوا الله بالبساطة، لأنه قد كتب عن تلاميذ الرسل الأولين بعد صعود ربنا إلى السماء:” وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة” (أع 32:4)، وأيضاً : وكانوا يكسرون الإفخارستيا في البيت، ويتناولون الطعام باتبهاج، ويمجدون الله ببساطة قلبهم” (أع 46:2)، و ” لم يكن أحد يقول إن شيئاً من أمواله له، لأن كل شئ لهم كان مشتركاً” (أع 32:4). ومن الواضح أن هذا الوفاق يولد من البساطة، وأن تسبيحهم كان يصعد إلى الله ببساطة قلبهم، وأن البهجة التي كانوا يتناولون بها طعامهم معاً دون أن يميزوا بين الذي قدم الكثير للشركة والذي لم يقدم شيئاً – تتولد من نقاوة القلب.
34- والكتاب المقدس أظهر أيضاً كيف أن الطوباوي يشوع بن نون كان أكثر براءة من جميع الشعب لأنه كان قد تربى في داخل خيمة الاجتماع (خر 11:33)، ولأنه كان أكثر بساطة وأكثر نقاوة من الجميع لكونه نما وكبر داخل الخيمة وفي السكون. اخُتير ليقود الشعب بعد موسى (عد 18:27). وقصة يعقوب وعيسو هي أيضاً شهادة على أن البساطة هي أكثر قرباً من الذين تربوا في الخيمة وداخل البيت عن أولئك الذين تعلموا الدخول والخروج الكثير:” كان عيسو إنساناً يعرف الصيد، إنساناً البرية، ويعقوب إنساناً كاملاً يسكن الخيام” (تك 27:25).
35- ونحن نستطيع أيضاً بمقارنة أعمالهما أن نعرف الفرق بين قلبيهما. والكتاب المقدس في كل موضع كان يدعو عنيسو غضوباً وحاقداً يكتم الغضب ويخفى الحقد:”تبع بالسيف أخاه وأفسد مراحمه، وغضبه إلى الدهر بفترس وسخطه يحفظه إلى الأبد” (عا 11:1). وقال الرب أيضاً بخصوص غضبه مقابل نسل يعقوب: “قد عمل بالانتقام على بيت يهوذا وأساء إساءة وانتقم منه” (خر 12:25). وخروجه في جيش لمقابلة أخيه ومعه أربعمائة رجل، يبين أيضاً أن غضبه كان طويل الأمد، لأنه بعد عشرين عاماً”، حين رجع يعقوب من حاران طلب أن ينتقم منه بسبب امر البركة. ولو لم يكن اتضاع يعقوب وعناية الله الخفية قد أوقفنا غضبه، لكان قد تم الفعل الذى جاء من أجله.
36- أما يعقوب فقد ظهر في كل شئ على خلاف هذا، سواء عند أبوية أو في بيت خاله لا بان: لأن أعماله تُظهره بسيطاً ومطيعاً. ولهذا فالكتاب المقدس يبين لناكل بساطته في قول واحد: “كان يعقوب إنساناً بسيطاً” (كاملاً) يسكن الخيام”(تك 27:25). وهو ما كان ليفكر أن يسرق البركة لو لم تكن أمه هي التي قالت له ذلك. ولما سمع: ” الله القدير يباركك”، اقتنع ببساطة قلبه ولم يجد أية صعوبة، ولكى لا يظن أحد أن بساطته كانت بلادة طبيعية، فلينظر كيف أنه كان يحترس من لعنة أبيه ويجيب يغطنةٍ على كلام رفقة أمه:” هوذا عيسو رجل أشعر وأنا رجل أملس، ربما يحبسنى أبي فأكون في عينيه كمتهاون وأجلب على نفسى لعنة لا بركة،(تك 12،11:27). ولكن أمه التي كانت قد قبلت بإيمان المواعيد الأولى التي أعلنت لها حين مضت لتسأل الرب فقال لها :”الكبير يستعبد للصغير” (تك 23:25)، أجابته قائلة:”لعنتك على يا أبي، اسمع لقولى فقط”واعمل ما أطلبه منك (تك 13:27). فأطاع أمه في الحال مثل طفل. أما هي فصنعت أطعمة كما كان أبوه يحب، ووضعت جلود جدى المعزى على يديه وعنقه وهي المواضع التي كان يُحتمل أن يلمسها. أما يعقوب في بساطته فلم يسأل عما كانت تعمله له، وهذا الرجل بمثل هذه البساطة الكاملة صار أمام أمه كطفل بين يدى مربيته التي فعلت له كا ما أرادت. ولما أخذ الأطعمة ودخل إلى أبيه كانت أمه قد وضعت في فمه الكلام الذى كان سيقوله دون زيادة أو نقصان مثل طفل. ولما حان وقت زواجه لم يكن هو البادئ بالطلب حسب رغبته – ولكنه استمع في براءة إلى وصية أبوبه.
37- أما عيسو في خبثه وشره، فأراد أن يقم ويغبظ والديه رداً على ما استعملاه معه من حيلة، فذهب واتخذ زوجاته من بنات كنعان (تك 9،8:28،34:26)، فكن مرارة نفس لاسحق ورفقه. ولما رأى بغضة والديه قد تزايدت بسبب شرور نسائه المستمرة، ولخوفة من أن يُحرَم من الميراث الأرضى، ذهب بخيثٍ وأخذ محلة بنت اسمعيل زوجة له على نسائه، كما لو كان يضع ضمادة على الجرح، ليس كإبن انتبه لكى يتوب عما سبق أن فعله من قبل، ولكن خوفاً من أن يحرمه اسحق من ميراث الأملاك والمقتنيات التى ستؤول إلى البكر.
38- وكذلك فيما يتعلق بحق البكورية والبركة، كان عيسو مغتماً، ليس بسبب فقدانه للمواعيد الروحية التي كان مرتبطاً بها، بل بسبب حرمانه من النصيب الأكبر من الأملاك التي كانت العادة تقضى بأن يحصل عليها الإبن البكر، إلى جانب ما رآه من تغير محبة أبيه من نحوه، الأمر الذى من أجله فرك أن يحصل على أي شئ علاوة على ما يناله في الميراث. وهكذا كانت كل تصرفات عيسو تنمٌ عن خبثه وحقده تجاه من وضعه نصب عينيه.
39- كما أننا نلاحظ أيضاً بساطة اسحق أبيهما في الموضوع نفسه. فمع أن كل محبته كانت متجهة نحو عيسو، وكان يحبه بأعتباره البكر، فبمجرد أن شعر بتدبير الله الذي نقلته إليه رفقة من جهة ما قيل لها عندما مضت لتسأل الرب (تك 22:25) – تغيرت محبته لعيسو وتحول عنه إلى يعقوب الذى كان يستحق ذلك.
40- تأمل أيضاً في طاعة يعقوب: فقد كان مطيعاً لأبويه في كل شئ مثل طفل. قالت رفقة لإسحق: “إذا أخذ يعقوب أيضاً زوجة من بنات كنعان، فلماذا لى حياة؟”(تك 46:27). فدعا إسحق يعقوب وأوساه وقال له:”لا تأخذ زوجة من بنات كنعان، ولكن اذهب إلى لا بان إبن بتوئيل أخى أمك، وخذ لنفسك من هناك زوجة”. وأطاع يعقوب وخرج لوقته وترك جميع خيرات بيت أبيه، وسار في الطريق كغريب لا يمتلك شيئاً. ولم يطلب لنفسه شيئاً من أبويه، لا دوابا” لتحمله ولا عبيداً ليخدمونه ولا حاشية لكرامته، ولا شيئاً آخر مما يمكن أن نتصوره مما يهتم به الكثيرون اليوم، بل خرج من عنده بعصاته فقط، وقد تزود عوضاً عن كل الأشياء الأرضية ببركات المواعيد الثمينة (تك 4،3: 28). وقوله هو وحده يخبرنا بذلك، حين قدم الشكر لله على كل ما صنعه الله معه وطلب منه أن يخلصه من يدى أخيه، حيث قال :”بعصا عبرت هذا الأردن، والآن قد صرت جيشين. نجنى من يد أخى من يد عيسو لأنى خائق منه” (تك 12،11:32).
ولنسمع أيضاً الكلام الذي قاله في المكان الذي ظهر له الله فيه، والذي نرى منه بالتأكيد قدر بساطته :حقاً إن الرب في هذا المكان أنا لم أعلم!” (تك 16:28)، ولماذا فكرت أيها الإنسان البسيط يعقوب أن الله كان محصوراً فقط في بيت أبويك، وأنه لا يظهر ولا يتراءى في كل مكان لكل الذين يستحقون ظهوره لهم؟!
41- تأمل كذلك كم مرة تغيرت أجرته في بيت لا بان، وكيف لامه في النهاية على غدره به وقال له :”أنت غدرت بي وغيرتَ أجرتي عشر مرات، ولكن الله لم يسمح لك أن تصنع بي شراً” (تك 7:31). وأيضاً حين خدم لا بان من أجل ابنته الصغرى وأدخل لا بان الاخرى بدلاً منها خلسة، وخدعه في بساطته دون أن يلاحظ ذلك، ولما سأله عن السبب الذي جعله يسخر منه، أسرع لا بان وقدم له السبب، ومع أنه قد نالته الخديعة إلا أنه قَبل وأطاع، كم من مره خيب لابان رجاءه بخبثه! وبكم من الطرق غير وجهه تاهه بقساوته ومكره! وفي كل هذا لم تضظرب نقاوة يعقوب ولا اهتزت بساطته، ولا تحول عن براءته قط إلى المكر أو التحايل. والرب كان يعتنى به بقدر ما كان هو نفسه يراعيى شئونه. وهكذا أصبح مثاله تعليماً منيراً لكل من يريد أن يعمل مع الرب دون أن تغفل أفكاره تذكار الله، أو يستخدمها في إيجاد وسيلة لإيذاء أعدائه.
42- اثبت إذاً أيها التلميذ في نقاوة قلبك. فالرب يعرف كيف يدبر حياتك ويصنع معك ما هو نافع لك، فقد تسمع عن أناس يريدون أيذاءك، وآخرون يكمنون لقطع حياتك، وآخرون يسعون لهدم ما بنيت، وآخرون يحطون من قدر ما يمدحك، ويزمون سيرتك، و آخرون يجتهدون في النيل من كرامتك، و آخرون يتكلمون عليك بالهزء والازدراء. أو ينهالون عليك بالشتائم والاستهزاء، و آخرون قد صيروك لهم مثلاً ومالهم حديث سواك وكل همهم أن يلموك. في كل هذا أثبت أنت في بساطتك، ولا ترجع اى الوراء عن الهدف الذي تتطلع اليه، ولا تبطل مناجاتك الخفية مع الله.
43- لا تجعل المضايقات الخارجية تعطلك عن التمسك بالمرساه الخفية التي بها حياتك معلقة. فلا تكف عن التطلع الى المسيح بالرجاء الذي لا يكذب، بحسب الوعد الذي تكلم عنه القديس بولس” لنتمسك بالرجاء الموضوع أمامنا . الذي هولنا كمرساه ثابتة في نفسنا” (عب 6:18،19) لكي لا تضطرب، لانه كما أن الموساه التي تلقى في العمق تضبط وتثبت المركب في وسط الأمواج حتى لا تميل هنا وهناك ولا تدفعها التيارات في مسار خارج طريقها، هكذا أيضاً فإن الرجاء الموضوع لنا في السماء الذي هو كمرساة خفيفة موضوعة فوق، تدخل وتستتر من أجلمنا داخل سماء السموات لكي ما تضبط أفكارنا عندها وتربط سفينة نفسنا حتى لا تميل هنا وهناك أو تنساق مع التيار بواسطة العواصف والأمواج التي تلاطمها بشدة من العالم، ولكي لا تخرج عن مسار طريقها.
44- أما أنت فأثبت في البساطة مقابل ما قد سمعته، ولا تغيرك ما يتكلمون به عليك أو يجعلك تصير مثلهم. لأن العدو يجمع هذه الأمور ويضعها قبالتك، ويبذل بساطتك الى المكر لتصير شبيهاْ بالذين يقاتلون مقابلك وتمتلىْ غضباً مثلهم، وتصير إناءً للسخط مثلهم، وتلبس ثوب الخبث والشر. فإذا إنحدرت أفكارك عن تلك البساطة التي تحفظ الوحيد وحده فقط، وبدأت تهتم بما يقوله الناس عنك، فبفضل ذلك يجدك العدو كما يريد، وتصير عن قريب صيداً سهلاً جاهزاً له. أما أنت فأثبت في البساطة، فهي إناء للبر، وكما أن الإناء الطبيعي تيقبل ما يقع فيه، هكذا فإن البساطة هي الإناء النقي الثمين الذي يتقبل ثمار البر.
45- ليكن لك يعقوب البسيط الذي تكلمنا عنه نموذجاً لما قلته لك، عندما تعمل أحاديث الآخرين على إزعاج بساطتك وتبدأ أن تحس بخبث العدو الذي يريد أن يعرقل خطواتك، تفكر في ذلك الإنسان المغبوط، وتأمل سيرته كلها من البداية الى النهاية. لأنه من أجل هذا كتبت تلك الأمور وما أشبهها في الأسفار الإلهية، ولكي تصير عوناً لنفيسك إذا مالت الى السقوط، وعزاءً للأفكار المملوءة حزناً وكآبة من غضب القائمين ضدك. أنظر كم تحايل عيسو ولا بان في إيذاء يعقوب ! والرب كان يدبر كل أمورة. وفي حين أنه كان هادئاً ولم يكن على الإطلاق أن يرد على شرور أعدائة، كان الله يرد شرورهم عليهم، ويجعله يجني المكاسب بدلاً من الخسارات. كان يعقوب يجتهد أن يحفظ ببراءته، وكان الله يهتم بكل ما هو لخيره. كان يدبر في جميع شؤونه ببساطة مثل طفل، و كان الله ينجح طرقه بحكمته. لا بان فكر وسعى أن يسبب له ضرراً. أما يعقوب فلم يلاحظ، البسيط لا يدرك والنقي القلب لا يعلم، أما الله فيرى و يعرف كل شيء في وقته. لا بان يربط والله يحل، لابان يدبر بخبث لإيذاء يعقوب. والعلي يبطل تدبيره، لابان يستعمل كل وسيله ممكنه لكي يضاعف مقتنياته وينقص ما ليعقوب، والله يدبر وسيله أخرى ضده، وبينما ظل يعقوب هادئاً كان الديان يحامى عنه، وبينما كان يتقدم ببساطة في جميع أعماله، كان الله يرشده في طرقه بحكمه.
هذه الأمور التي كتبت عن يعقوب إنماهي قد كتبت من أجلك، وهي لك إذا ثبت في بساطة قلب يعقوب وفي نقاوة نفس ذلك الإنسان البسيط.
46- البسطاء هم للرب، فلا تخجل من البساطة، أما الماكرون والمخادعون فهم أوان للعدو، فلا تشته المكر ولا تسربه. المكر هو أرض تلد الشرور. أما البساطة فهىحقل يعطى ثمر البر. ومن أجل هذا يتكلم الرب مع البساطة دائماً ويجد مسرانه فيها، وتكون محط إعلاناته.
كان عالى الكاهن ينام مع أولاده في بيت الرب. وعندها أراد الله أن يتكلم مع الشعب، ترك الشيخوخة المرتبكة في الخداع والمنشغله في مشاغل العالم، والفتوة التي تعلمت خبث الشرور، واتى الى البساطة وإختار أن يتكلم ويتحدث معها. وهكذا نادى الرب صموئيل مرتين: ” صموئيل ! صموئيل!”. ونهضت البساطة وأسرعت الى الشيخوخة، ولم يعرف الطفل من الذي دعاه فجرى ليجيب عالى بدلاً من الله وحصل هذا ثلاث مرات لأنه لم يسبق له من قبل أن تلقى الإعلانات الإلهية. أما عالى فلأنه علم أن الله هوالذي دعاه طلب منه أن يجيب الله ولا يأتي اليه: ” ففهم عالي أن الرب يدعو الصبي. (أصم 8:3) . وأرسلت الشيخوخة الطفولة الى الله، وصار المكر في حاجة الى البساطة لكي يتعرف على المشيئات الإلهية. وطلب عالى من صموئيل أن يعلمهبكل ما سمعه من الرب ولا يخفي عنه شيئاً من كلامه. لأنه لما رأي أنه لم يحصل على شئ مما تكلم به الرب مع الصبي، طلب منه أن يكشف له السر الإلهي. وصارت الطفولة وسيطة بين اللاهوت والمعرفة. وقبل الطفل أن يخبره بكل شئ.
47- وهكذا نرى معرفة الله تستعلن لطفل ما زال صغيراً لم يندفع وراء ما ينشغل به كل الناس، لأن الرب يسكن في الأبرياء ويتكلم مع البسطاء. لقد إختار الجهال الذين اذا ما سمعوا الكلام لا يظنون انه لهم، ولكنهم يعرفون ذاك الذي قاله لهم ويعطونه المجد، لكي لا يصير كلام الله الذي توجه اليهم مدعاهللغرور والمجد الباطل. وأختار الذين لا يفتخرون بما قيل الله كمالو كان هو من عندهم، فلا يقولون أن كلام الحكمة الذي نتكلم به هو من عندنا، فالبسطاء والابراياء لا يفكرون هكذا ولكنهم ببساطتهم يعرفون أن عندهم إنما يخص الرب. ولهذا فنحن في كل شئ نجد أن الله يرفض الخبث والمكر ويختار البساطة. ولأن البساطة الطبيعية مقبولة ومرضية عند الله، ليس من السهل أن تجد حكيماً روحانياً يجد كعماً لحكمة هذا الدهر بعلمه الخاص. لأن البساطة هي عطية الله وجزء من التركيب الأول لطبيعتنا، فهو قد وضعها فينا منذ البداية عندما خلقنا.
48- البساطة إذا هي نقطة انطلاق، منها نصعد لنتعلم الأمور الروحية و نتحكم بالروح، وعنها ننحط لنتعلم ونتفحص أمور هذا الدهر. والذي ينحط عنها يصير ماكراً خبيثاً. وإذا كانت الأشياء تدعى بأسمائها، فنحن لا نسمى الذين يستغرقون تماماً في الأمور المادية حكماء، ولا الذين يسلكون بالبساطة في الأمور الروحية ندعوهم ماكرين وخبثاء، ولكننا نطلق إسم الماكر والخبيث على الذين لا يعرفون سوى أشياء هذا الدهر. وإسم العارف والحكيم على الذين ينشغلون بالأمور الروحية، لأن الحكمة لا تختص بغير الله وكل من يطلب الله. لأن معرفة العالم لا تستحق أن تدعى حكمة، وحكمة الله لا يمكن لمن كان حكيماً أن يدعوها مكراً أو خداعاً لأنه ليس ثمه شر في تلك الحكمة ولأنها لأتتركب من أفكار متخالفة.
49- والكتاب لم يقل لماذا يسر الله بالبساطة ويفضلها على حكمة العالم، لأن حكمة العالم هي أيضاً عطية الله، كما قال الرسول: “إن العالم وهو في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة”. (أكو 21:1) ولهذا فمن المعلوم أنه لو لم تكن الحكمة فينا منذ بداية خلقتنا، ولو أنها لم تكن قد وضعت في كافة الخلائق، لما كان ممكناً أن نحصل عليها من العالم. فإذا كانت حكمة العالم هي أيضاً عطيه من الله، فلماذا إذا رفضها الله وفضل عنها البساطة؟ ذلك بالتأكيد لأنه يوجد فيها إجتهاد يخصنا، ولأن الذين يمتلكوها يوجهون كل إهتمامهم نحو العالم وليس نحو الله، ويسعون وراءها باعتبار أنهم حكماء. وبإختصار لأن نفوسهم تمتلئ من الأوجاع البشرية فيما يلتقطون هذه الحكمة في المخلوقات. ولأنهم يجهدون أنفسهم في طلبها ويتحملون المشقة والألم من أجل الحصول عليها، يعتقدون أنهم لهم بالنظر الى تعبهم. ولهذا رفض الله حكماء العالم وإختار الله البسطاء مكانهم.
50- ولما كانت حكمة العالم مضادة لحكمة الله في كل شئ، ولا يمكن للإثنين أن تمتزجا الواحدة في الأخرى، كما أن النور لا يمتزج بالظلمة، فإذا أراد أحد حكماء العالم أن يصير حكيماً من أمور الروح، ينبغي له أولاً أن يتعرى من أفكار حكمته العالمية وظنون معرفته الأولى ويمسك في بداية الطريق بالدرجة الأولى التي هي البساطة والطفولة والإيمان الذي يسمع ويقبل بكل إخلاص كلمة الله. ويبدأ بالسعى في طريق حكمة المسيح، والحكمة داتها تتقدمه في مسيرته وفي حرصة الزائد على التقدم نحوها، وتظهر ذاتها له.
51- البساطة هي عطيه الطبيعة، وهي تخص الخالق، وليس شئ مما يخصنا – لا من إرادتنا ولا من جهادنا – يختلط بها. الله هو الذي يعطينا إياها حين يعطينا ذاته، وحكمته تسكن في المكان الذي أعده هو نفسه. فقد مال الى صموئيل وابتعد عن المكر، تكلم معه وترك رئيس الكهنة.
والكتاب لم ينسب الى عالى نفسه شيئاً من الشر سوى أمراً واحداً فقط: أنه أهمل وتغافل عن توبيخ أولاده. فهو لم يشترك معهم في شرهم بالأفعال، كما ولو يذكر عنه انه كان يسلك مثلهم في شبابه، فالكتاب لم يوجه إليه اللوم، ولم يقل له: “أنت سلكت في الإثم في أيام شبابك والآن أولادك يعملون مثلك”، ولكن الرب قال لصموئيل: “هوذا أنا فاعل أمراً في إسرائيل كل من سمع به تطن أذناه.. لأن عالي سمع بكل ما عمله بنوه من إثم في باب خيمه الإجتماع ولم يردعهم” (اصم 11:3-13، 22:2) ولم يدن عالي إلا تكونه أهمل، ولأن توبيخة لهم كان هشاً ضعيفاً وليس كما كان ينبغي أن يكون لمثل تلك الخطايا، هذا هو اللوم الوحيد الذي واجه عالي الكاهن: إهماله في ردع أولاده، وليس شره هو شخصياً، وعلى الرغم من ذلك إختار الله الطفولة عوضاً عنه، وجعل حديثه مع الطفولة والبساطة.
52- وكما عرفنا من الكتاب المقدس أن صموئيل قد تربى في بيت الرب على مثال يشوع بن نون ويعقوب، لأنهما تربيا هما أيضاً في بيت الرب كما قلنا سابقاً. وهذا أمر عجيب حقاً: لماذا دعا الله مختاريه من هذين المكانين بالذات، أي من الذين عاشوا في البرية ومن الذين تربوا في خيمة الإجتماع؟ لأن البساطة تقتف في هذين المكانين. فهوذا داود وموسى وآخرون أفرزهم الله من البرية لتدبيره، وصموئيل ويشوع ويعقوب إختارهم من التربية في الخيمة، ونحن نتعلم من هذا أيضاً أن البساطة محبوبة جداً عند الله، وأنها هي بداية طريق الذين يدنون الى الله.
53- كذلك يمكننا أن نرى البساطة عند هابيل أول الصديقين والكتاب المقدس يذكر لنا أنه كان أكثر بساطة من قايين: فقد قدم كلاهما قرابين أما الرب، فقبل قربان البساطة بينما رفض قربان الخبث، وأغتاظ قايين تجاه الرب وتجاه هابيل فقد اغتاظ من هابيل لأنه كان يحسده، ومن الرب لأنه رفض قربانه. فلو أنه كان بسيطاً لما صار حسوداً، ولو كان نقياً لما أغتاظ وبالأكثر مقابل الرب. ونرى أيضاً خبث قايين من التصرف الذي وصل البه من شره‘ فقد فكر أن يقتل أخاه هابيل، ولأنه لم يقدر أن يعمل ذلك أمام والديه قال له: “لنذهب الى الحقل” (تك 8:4). أما هابيل فمن أجل بساطته اسمتع له وأطاعه مثل طفل، فبساطته لم تجعله يفكر في الخبث، ولم يفحص قط في نفسه لماذا يدعوه أخوه الى الحقل، وكما إنه لم يحس بكراهية أخيه له، ذلك لأن البساطة لا تعرف أن ترى هذه الأمور، فقد كان يسلك معه ببساطة قلبه وبالمحبه الأخوية، وكان يطيعه في الحال في كل ما كان يطلبه منه.
54- تأمل هنا أيضاً أعمال البساطة وأنظر مساوئ الخبث والمكر. اجتهد أن ترافق البساطة الذين يرضون الرب في كل حين، وأرفض الخبث مثل شئ لا يليق لك ولا يناسب تدبير سيرة تلمذتك، فكلما أن قامة جسدك هي التي تحدد مقاس الثوب الذي يناسبك، فإذا لبست ثوباً آخر لا يناسبك صرت هزء ألكل الناس، هكذا فإن رداء البساطة هو الذي يناسب نفسك، فإذا لبست ثوب الخبث نالك التوبيخ من الحكماء، كما أن صاحب العرس نفسه لن يقبلك وأنت لابس هذا الثوب. (مت 12:22).
55- تأمل أيضاً يوسف العفيف، فقد كان توقيره لأبيه ومحبته لإخوته ينبع من بساطته، كان أخوته يحسدونه أما هو فلم يشعر بذلك، ثم تشاوروا في قتله ولم يعرف. أمره أبوه أن يذهب ويتفقدهم فأطاعه في الحال. كام قد رأى أحلاماً تعلن عن عظم شأنه وخضوعهم له في المستقبل، وفي بساطته أعلن لهم ذلك، ولم يدرك هذا البرئ الوديع أن الحسد زاد من حقدهم، وأن البغضة تعاظمت عندهم لما سمعوا منه ذلك. وعندما سمع أبوه الشيخ، ورأى بساطة إبنه يوسف انتهره حتى لا يكشف إحلانه لأحد، ليس لأنه كان يشك في أنها سوف تتحقق – لأن الكتاب نفسه يقول إنه حفظ هذه التنبؤات معتمداً أنها سوف تتحقق – ولكن لكي لا يزيد يوسف بغضة إخواته له.
56- حمل يوسف الزاد لإخوته ومضى يبحث عنهم من مكان الى مكان، وهو لا يدري أنه يذهب الى قاتليه وليس الى أخوته، أما هو فلما وجدهم امتلأ فرحاً في بساطة قلبه، أماهم فلما أبصروه امتلأوا مرارةً وغيظاً. وبينما تفكرتالبساطة بالخبز وتزايدت محبتها لما رأى إخوته، إزداد الحسد الذي تولد عن خبثهم وتعظم حتى إنهم إحتالوا له ليميتوه. تفكروا بالشر وفعلوا الشر.
57- ولكن تأمل نهاية الإثنين، وأنظر بأيهما شر الرب. البساطة التي لم تعرف أن تخفي أحلامها رفعت صاحبها الى منزله الكرامة، أما الخبث فطرح أصحابه الى الأرضقدامها. البساطة تأمر والحبث يطيع، لأنالبساطة قد علا قدرها في حكمة الله، والخبث إزداد في الشر. “رأيت أنه ليس بصير وحكيم مثلم” (تك 39:41 ) هكذا قال فرعون مصر لهذا الإنسان البسيط يوسف. لأن البساطة قريبة للحكمة والفهم الإلهي رفيق للبراءة: فهي الإناء المختار الذي يتقبل اعلانات الله.
58- لقد كان القديس بولس محقاً حين رفض هو أيضاً المكر، حيث يقول : “أننا لا نسلك في المكر ولا نفش كلمة الله بل نمدح أنفسنا لدى ضمير كل إنسان بإعلاننا الحق” (2 كو 2:4). فهوذا بولس الرسول أيضاً قد أدرك أن الغش يصاحب المكر، وأن الخبث هو إناء لكل الشر، ولهذا فهو أيضاً يهرب منه. وأي تلميذ لا يرفض الخبث إن كان بولس الرسول نفسه قد رفضه و أقصاه وأعتبره خارجاً عن تعليم المسيح؟ لأنه لم يعد مناسباً له على الإطلاق، فكما أن الشر هو ضد الخير هكذا فإن المكر هو ضد البساطة. وفي موضع آخر يكتب أيضاً القديس بولس الى تلاميذه ويقول “هل خدعتكم كمحتال بمكر؟” (2 كو 16:12) ، ونجده هنا أيضاً يربط بين الغش والمكر. وفي موضع آخر أيضاً يتهم الهراطقة ويبين أن كل تعليمهم هو بمكر، عندما قال : “كي لا نكون في ما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم بخداع الناس وعكرهم الذي يقود الى الضلال، بل نثبت في محبتنا حتى ينمو كل ما لنا في المسيح” (أف4: 15-14).
59- وربنا أيضاً وصف الهراطقة بالمكر والخداع، فقد قال: “أحترزوا من الأنبياء الكذبة الذين بأتونكم بثياب الحملان، ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة” (مت 15:7) . لأن هذا هو عمل الخداع أن يبطن شيئاً ويظهر شيئاً آخر. والخداع هو الذي يعلم بما للذئاب ويتراءى بمظهر الحملان، إنه يفعل الأمرين بآن واحد، يزرع الضلالة وينميها ثم يحتال ما يعلمها للآخرين، يخفى ما يجب إخفاؤه ةيعلن ما يراه مناسباً لإعلان. الخبث أعمى، ولكنه اتخذ الخداع له عيناً.
60- وفي موضع آخر علم ربنا تلاميذه أن يحترزوا من رباء الفريسيين والصدوقيين: “تحرزوا من خمير الفريسيين وخمير هيرودس” (مر 15:8)، وإفهم أن ما يدعوه هنا خميراً هو الرياء والخبث. لأنه في موضع آخر عندما قال له الفريسيون أن هيرودس يريد أن يقتلك، دعا هيرودس ثعلباً بسبب مكره، وقال : ” قولوا لهذا الثعلب” (لو 32:13). وكما أن هيرودس لم يكن له سلطان أن يفعل ما يريد، فالرب بهذا يشبه مكائد المكر التي تقوم القوة بالثعلب. ويقول: “إنني أفعل ما أريد، والمكر لا يمكن أن يدفعني الى ذلك خارجاً عن إرادتي: “أما أنا أخرج شياطين وأشفى اليوم وغداً وفي اليوم الثالث أكمل”. وهكذا نرى ربنا يحذر تلاميذه من مكر هيرودي ومن خبث الفريسيين الذين يعملةن شيئاً ويعملون شيئاً آخر.
61- كما أن ربنا لا يحذر من تعليم موسى الذي يعلم به الفريسيون بل من تقاليدهم هم أنفسهم: لأنهم بمكرهم اتخذوا منها وسيلة مناسبة لتجارة ظالمة. فهم يتراؤون أمام أعين الناس لأبرار وغيورين على كرامة الله، بينما هم يسيئون اليه بأعمالهم في السر، يطيلون صلواتهم لكي بأكلون بيوت الأرامل، يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين، ينقون خارج الكأس والصحفة، أي يزينون ويحملون هيئتهم وأعمالهم الخارجية بينما في الداخل مملوؤون نجاسة وإثماً يظهرون من خارج ذوو وقار وعفة لكي يجذبوا اليهم الأنظار، بينما هم في السر مملوؤون اختطافاً وفساداً وداره ومسرة بكل الشهوان. فربا حذر تلاميذه من تعليم الفريسيين هذا. وكل هذه الأمور التي تعمل من أجل الدارة وتحت مظاهر خادعة تتولد من المكر.
62- لماذا عرض تلك الأمور ربنا من تلاميذه أن يكونواودعاء في الخير كالحمام، وحكماء كالحيات مقابل الشر؟ لأن البساطة هي عند الإيمان والحكمة هي تجاه الشر، فقد صاروا ودعاء لكي ما يجدوا حياتهم، وصاروا حكماء حتى لا يفقدونها . فالبساطة نافعة لنا لاقتناء الفضائل، والحكمة لازمة لكي نحتفظ بها ولا نفقدها. نقاوة القلب هي تجاه الله، أما تجاه الناس – فلانهم يمتلكون القدرة على انتزاع أمور الله منا – فتلزم حكمة الأفكار. ولهذا بالصواب يطلب منا ربنا أن نكون ودعاء كالحمام الواحد تجاه الآخرين وتجاهه، وحكماء كالحيات مقابل الذين يبذلون مافي وسعهم لكي يبعدوننا من الأمور الروحية.لأن الحيه تكون حكيمة تجاه الإنسان وليس تجاه نفسها، لأنها في حكمتها الطبيعية تسلم جسمها للضرب ولكنها تحرس رأسها من أي جرح قد يسبب لها الموت نهائياً.
63- والتلاميذ الذين تساءلوا بمكر: “من هو أعظم من ملكوت السموات؟” (مت 1:18)، الذين ارادوا بروح الدهاء أن يكونوا أعلى درجة من الآخرين، هؤلاء علمهم ربنا بساطة الأطفال الذين يشتهون السلطة أو التقدم على الآخرين، والذين لا يخطر على فكرهم مجد الناس: ” الحق أقول لكم أن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات” (مت 18: 3-4) ، وأيضاً : “من لا يقبل ملكوت الله مثل ولد في البساطة وبراءة القلب – فلن يدخله ” (مرقص 15:10).
64- والقديس بولس لا يعلمنا نحن فقط أن نكون بسطاء تجاه الله وتجاه الآخرين، ولكنه يطلب من العبيد أيضاً أن يكرموا سادتهم بالبساطة دون مكراً ورباء: “أيها العبيد أطيعوا سادتكم في كل شئ، ليس فقط حين تكون عيونهم عليكم كمن يحاول إرضاء الناس، بل كمن يطيع المسيح بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم” (أف 6:6 ، كو 22:3).
65- ويطلب أيضاً من الذين يتصدقون أن يعطوا ببساطة: “المعطي فببساطة. المدبر فباجتهاد” (رو 8:12). لأنه لو وجد المكر عند الذين يعطون فإنهم سوف براقبون أعمال الذين يأخدون، وبسبب هذا الدافع يتعطل العطاء الذي تقدمة البساطة ولا يحسب. ليس من عادة البساطة أن تحسب وبعد ذلك تعطى، ولكنها تعطى وتشارك بسعة لكل الناس بلا حساب. وقد علمنا الرب هذه البساطة حين فال: “من سألك فأعطه” (مت 42:5). والقديس بولس يصلي من أجل الذين أن تزداد ثماربرهم ، ويقدمون عطاياهم ببساطة لكل من له احتياج. “الله الذي يقدم بذاراً للزارع وخبزاً للأكل سيقدم ويكثر بذاركم وينمى غلات بركم، لكي تفتنون في كل بساطه، لأن البساطة هي التي تنشئ شكراً لله بواسطتنا” (2 كو 11،10:9). وهكذا نرى القديس بولس يصلي هنا أيضاً لكي يصير تلاميذه أغنياء في البساطة، ويقول أنه بواسطتها ينمو ويزداد الشكر لله.
66- وقال أيضاً: “لقد أطعم اعتراف إيمان إنجيل المسيح وأظهرتم خضوعكم بواسطة بساطتكم لهم وللجميع” (2كو 13:9) كما قال: “ولكنني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها، هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح” (2كو 11:3). وهو يعلمنا هنا أنه ينبغي لمن يؤمن بالمسيح أن يظل بسيطاً تجاه تعليمه، ويبين لنا أيضاً أن حواء لم تقبل خديعة مكر المجرب إلا لأنها تخلت من بساطتها تجاه وصية الله.
67- وفي تحية القديس بولس الختامية في نهاية كل رسائله يطلب من تلاميذه أن يتفانوا في بذل أنفسهم بعضهم لبعض، فعذا هو ما يتولد عن البساطة، وهو ما تعطيه نقاوة القلب. فقد قال أيضاً: طإذا كنا نعيش بالروح فلنخضع للروح، ولا نكن طامحين الى المجد الباطل نغاضب بعضنا بعضاً ويحسد أحدنا الآخر. (غل 25:5) فإن البساطة ونقاوة القلب هما اللتان تعيشان بالروح وتنقادان بالروح.
68- جيد إذا لتلاميذه المسيح أن يسعوا أثر البساطة، وأن يقتنوا في قلوبهم نقاوة الأفكار، ولا يغيرون من الذين يتجاهلون في عمل الشر أو ___ الخديعة للحصول على الكرامة وعلى ملذات العالم. فهوذا جميع الأسفار الإلهية في العهدين القديم والجديد تعلمنا أن البساطة هي التي بواستطها يدنو الإنسان من الله، وأن البساطة هي مسكن الله. وبالإضافة الى تعليم الكتاب المقدس، فإن الخبرة نفسها تظهر لنا أيضاً أن البر أكثر قرباً الى البساطة منه الى المكر والخداع. لأن الماكرين والمخادعين على الرغم من أنهم قد يعملون ويجتهدون في حفظ نواميس البر، إلا أنهم ينساقون وراء الأوجاع الرديئة التي تتحرك في نفوسهم، أما البساطة فلا توجد فيها ميول مثل هذه في أعمالها: فالذي يقودها هو الناموس الصالح الذي قبلته واحتضنته، أو هو خوف المخالفة، أو أن محبة الله إذا كانت قد أدركتها، فهي التي تحفظها في إماتاتها : لأنه قبل درجة الحب يكون الخوف هو الذي يحفظ ويدعم البساطة.
69- لا تخجل إذا أيها التلميذ من هذا اللقب النبيل، حتى النهاية في كل صلاح. لأنك بالبساطة وبالإيمان قد أطعت الله وخرجت من العالم، ولم تفحص أو تفتش ما قاله لك، لأنك لو كنت قد سلكت بالمكر لما كنت قد أطعت، ولو كنت قد معت قوله بأفكار متشككة لما كنت قد خرجت وراء الله الذي دعاك، ولا أنت ولا أي أحد من الذين دعوا وأطاعوا قوله، ما كنتم سمعتم قوله ولا أطعتم وصيته مع أنكم قد دعيتم لكي ما تتبعوه وتصيروا خداماً لتدبيره بنوع أو بآخر عند الناس. وأعلم أن القلب البسيط هو أيضاً الذي يمكنه أن يتقبل تعليم هذا العالم. ولأن الطفولة هي على درجة كبيرة من البساطة، لذلك فهي تقبل بسهولة تعليم العالم وتصدق المعلمين، ولكن بقدر ما تنمو وتقتني المكر في الأمور البشرية. بقدر ما تزيدي بالمعلمين وتحتقر التعليم. كما أن الذي يقبل تعليم الروح هو البساطة، لأنها ممتلئة من المخافة للمعلم، وتحرص ألا تنسى ما تعلمته. وإذا أراد أحد أن يدنو من المكر، وبواسطته الى الشهوات، فهو في الحال يحتقر التعليم ويزدري بالله.
70- فلنقتن إذا لأنفسنا هذه العطية الفائقة ونحافظ عليها. وليكن كل تدبيرنا بنقاوة القلب. ولنطرح عنا المكر ونبتعد عن الفش، ولننبذ ونتحفظ من الرياء. ولنبتعد عن المكائد ونهرب من الأفتراء. ولنطرد عنا الكلام الذي يذم الآخرين في الخفاء. وبقلب بسيط وذهن نقي نمجد الثالوث المقدس الآب والإبن والروح القدس الى الدهور. آمين.