مخافة الله
القديس مارفيلوكسينوس
-
نتقدم الآن بضمير خائف من الله لنتكلم عن مخافة الله ، ونستمد من الكلمة منفعة شخصية لنا وربما لنفوس الآخرين ، بقدر ما نحصل منها على القوة ، وبقدر ما نستطيع ، أي كما تعطينا نعمة الله ، لأننا لسنا نكتب لكي نظهر أنفسنا كعارفين ، ولكننا نتكلم لأننا نود أن نقدم ما قد ربحناه للأخرين ، وليس لأن كثيرين تكلموا وكتبوا قبلنا نحتفظ نحن بالصمت فلا نتكلم ، لأن الذين تكلوا قبلنا تكلموا وكتبوا كمعلمين ، أما نحن فكتلاميذ لهم نردد من بعدهم ما علموا به ، فكما أن الطفل الذي يتلقى درساً تجده يردد بلا توقف التعليم الذي قبله من معلمهع لكي لا ينساه ، هكذا نحن أيضا نردد ما قد سمعناه لكي نتذكره ، ولكي ما نحفظ أفكارنا من الطياشة في أمور باطلة وغير نافعة .
-
لأنه إذا لم ينضبط الفكر بتأمل مخافة الله ، فإنه حتماً سيطيش خارجاً عنه وينشغل في موضوع خارج عن معونة الله ، فكما أنه إذا انشغل في الخير فإنه يسكن في نور تذكار الله ، هكذا أيضاً فإنه إذا ما انحل وانشغل بأفكار باطلة وفارغة فإن كل عمله يكون في الظلمة . والذي يسلك في الظلمة فهو لا يرى ولا يُرى ، لا يُلاحظ ولا يلاحظه أحد ، لا يعرف ولا يُعرف ، ولكنه يكون محروماً من
( رؤية ) جمال منظر المخلوقات ، وجميع الأعين ايضاً يمتنع عليها رؤيته ، كما إنه لا يميز طريقه ، ولا يعرف سبيله بل ولا يبصر مسار خطواتة.
-
فلكي لا يحصل لنا هذا ، فلنشغل أنفسنا بلا انقطاع في الهذيذ بكلمة الله ، ليس بتحريك اللسان فقط في تلاوتها وترديدها ، بل بهذيذ القلب والتأمل الداخلي ، لكي ما يتكلم الفم من فضله القلب ، لأن اللسان ينطق خارجياً بما يهذبة الفكر سرياً ، فإذا توقف عن الكلام يمكر رغم انتباهه ، فإن سر القلب سوف تكشفه ملامح وحركات بقية الحواس ، ومنظره يُظهر من خلال تغيراته تعبير الفكر الذي يستتر داخل النفس .
-
إن الذي يرتوي من التعليم الإلهي دائماً يعطى كل حين من نفسه – مثل شجرة مثمرة – أثماراً إلهيه ، إذا لم يكن إستماعه لكلام التعليم على سبيل العادة فقط ، وإذا لم يكن من أجل ما يجده من متعة في سماع كلام اله ، وإذا كان لا يتقبله كنوع من المعرفة البشرية ، وإذا كان لا يتخذه وسيلة للمجد الباطل.
-
التعليم الذي يعطى بمعرفة ويسمع بتييز يثمر ثماراً روحية له جانبين : الواحد بالنسبة للسان الذي يزرعه ، والآخر بالنسبة لأذن الذي يتقبله . لأنه بالفرح يتكلم اللسان وبالبهجة تسمع الأذن كلام الله، هذا إذا كان الذي يعلم على الأقل معلماً حقيقياً وليس فاقد لتعليم الاخرين ، لأنه كما أن الممارسة المستمرة لصنعة ما تزيد معرفة المرء بها ، وتدرب كل الحواس على عملها ، هكذا أيضاً فإن التأمل الدائم في كلمة التعليم ينبه الأفكار للمعرفة ويحرك اللسان للكلام عنها ويربط الذهن بالتفكير في الله.
-
ومخافة الله تنمو ايضاً عند من يفكر في الله كل حين ويتذكره دائماً في أعماق نفسة ، وتصير الله سوراً يحفظة من جميع الشرور . فكما أن سور المدينة يحمى سكانها من هجمات الأعداء ، هكذا أيضاً فإن مخافة الله تحمي الانسان من السالبين ومن أعداء نفوسنا ، وهي تمنع الجسد من التعبد للشهوات وتصون النفس الأفكار السمجة . لأن الذي يعتاد على المخافة الحقيقة لله ، لا يحفظ جسده فقط من الشهوا بل وأيضاً يحفظ قلبه من الحركات البغيضة .
6 – أ – ما هي مخافة الله ، وفي أية درجة يقوم الانسان الذي يخاف الله ، وكيف تقتنى هذه المخافة، وبأية الوسائل تنمو : هذا هو ما سوف نبينه كما تسلمناه من الذين وجهوا أنظارهم من قبل إلى معرفتها ، ومن خدام كلمة التعليم .
-
لقد علمونا أن مخافة الله الحقيقة تولد من الايمان الحقيقي . فالذي يؤمن حقاً ، يخاف بحق ممن يؤمن به . وكما انه يؤمن دون فحص ، هكذا فأنه ايضاً يخاف تلقائياً . عندما يؤمن الانسان بأن الله موجود، فهو بالتالي يطيع وصاياه . والايمان يولد من البساطة الطبيعية ، ويتقوى ويحفظ بالبساطة عينها . ومخافة الله تحفظ الوصايا التي يسمعها الانسان ويقبلها . ومثلما تحفظ البساطة الايمان ، كذلك تحفظ مخافة الله الوصايا .
-
مخافة الله ليست هي أن تقول فقط انني اخاف الله كما اعتاد الكثيرون أن يقولوا ، ويعتبرون أنهم بذلك يخافون الله ، بل أنها مخافة تتحرك طبيعياً في النفس تجعلها ترتعب وترهب داخلياً الى درجة أنها تحرك معها ايضاً جميع أعضاء الجسد . فالجسد يخاف مما يؤذيه ، بينما النفس تخاف ممن يستطيع أن يهلكها . الجسد يخاف من هجمات الحيوانات المفترسة ، ومن النار ، ومن السيف ، ومن الاظافر الحديدة ، ويخاف من الغرق ، ومن السقوط من الصخور العالية ، ويخاف من اللصوص ومن القضاة ومن العذابات والقيود والسجون ، كذلك فإن النفس ايضاً تخاف طبيعياً من الديان القادر أن يعذبها مع جسدها بالضيقات النفسية حسب طبيعتها .
وكما أن الجسد بطبيعته يخاف من كل الامور التي ذكرناها ، هكذا ايضاً فإن النفس بطبيعتها تخاف من دينونة الله ، ومن العذابات التي أعدها للذين يغضبونه ، ومن جهنم التي توعد بها الذين يعملون الشرور ، ومن الظلمة الخارجية والنار التي لاتطفأ والدود الذي لا يموت . والجسد يخاف مما يؤذيه كنتيجة للأدلة والبراهين ، ولكنه بمجرد أن يرى أو يتذكر هذا الشئأو ذاك يرتعب ويخاف طبيعياً ، كذلك فإن النفس عندما تشخص بعين الايمان الى التهديدات المزمعة وترى خفية العذابات المرعبة التي اظهرتها كلمة الديان ، فهي في الحال تمتلئ خوفاً وترتعد معها جميع أفكارها التي هي اعضاؤها الروحانية .
-
والنفس برعدتها تجعل الجسد كله يرتعد معها ، وتملك مخافة افكارها على كافة أعضائة . وكما انها تشارك هي نفسها خوف الجسد من جانبه يشترك في مخافتها ، لأنه بالرغم من أن طبيعة النفس لا يصيبها شئ مما يصيب الجسد ، فإنها لسبب امتزاجها به تخاف هي ايضاً معه . ومع أن عين الجسد لا ترى الضيقات والعذابات المزمعة ، الا أن النفس حين تراها خفياً وترتعب وتأخذها الرعدة بسبب ذلك، تجعل الجسد يرتعب ايضاً معها ، وتملأه بالخوف والرعدة في جميع أعضائة ، والذين جربوا وذاقوا هذه الحقيقة في ذاتهم يعرفون ان النفس اذا ما تذكرت دينونة الله وارتعدت بتذكارها فهي تجعل الجسد يرتعد ايضاً معها بجميع اعضائة . لأنه عندما يتذكر الانسان الله ، وخصوصاً اذا لم تكن نفسه وجسده طاهرين من الخطية فللحال يمتلئ كله خوفاً وترتعب جميع اعضائه ، مثلما يحصل للجسد حين يرى فجأة شيئاً مؤذياً مقبلاً عليه . وإن كان احد لم يجرب هذا الأمر في نفسه – لأنه ليس الجميع قد اقتنوا منزلة مخافة الله الطبيعية – فمن حقيقة الجسد حين يرتعب يجعل النفس ترتعب معه – وهو أمر واضح ومؤكد عند كل الناس – يمكن للإنسان أن يفهم أن النفس حين ترتعب تلقى رعبتها على الجسد ايضاً .
-
والذين جربوا هذا هم قلة ، هؤلاء هم الذين لم تخضع نفوسهم لموت الخطية ، لان الخطية التي تنشأ عن التهاون والانصراف عن ذكر الله الدائم هي موت كامل للنفس ، كما يدعو الكتاب المقدس الانسان الخاطئ الذي لا يتوب مائتاً. لأ الانسان عندما يتذكر الموت يتوب ، ولهذا فأن من يخطئ ولا يتذكر الله سواء في الوقت الذي يخطئ فيه او بعد ان يكون قد أخطأ ، هو إنسان نفسه مائتة إن كان يرى حياً بجسده ، نحن نعلم أن النفس تحيا عندما تداوم تكار الله ، فإن كانت تخطئ تم تتوب فهي نفس مريضة ، أما إذا أخطأت عن تهاون دون أن تتوب أو تذكر الله ، فمن الواضح أن الخطية قد أماتتها. معرفة الله هي الحياه الروحية التي للنفس . وكما أن سكنى النفس الدائم في الجسد هو حياته ، ونحن لا ندرك أنه حي لأنه يحس بكل من يقترب منه وبكل ما يقترب هو اليه ، هكذا أيضاً فإن معرفة الله هي حياة النفس ، ونحن ندرك أنها تحيا لأنها تحس بالله .
-
الجسد المائت لا يحس بالضربات ، والنفس المائتة ( بالخطية ) لا تحس أيضاً بتذكار دينونة الله . إذا لحقت بجسد ماتت كافة أنواع العذابات فهو لا يتوجع ، هكذا أيضاً اذا ماتت النفس من الله بسبب جميع الشرور ، فهي لا تحس بها . يجلد الجسد المائت ولا يحس ، ويضرب ويطعن ولا يتألم، هكذا النفس المائتة من الله ، تخطئ ولا تحس ، تفعل الاثم ولا تعرف ، تذنب ولا تدرك ، فهي تعمل الشر ولا يقلقها ضميرها، وتظلم ولا تتأثر . وكما أن ضمير الحكيم لا يقلقه اذا عمل بتعقل ما يخص حاجة الطبيعة ، هكذا فإن النفس التي فسدت بالخطية وماتت من اله لا تحس أمام ضميرها أنها أخأت في شئ.
-
تذكار الله إذا هو حياة النفس . وكما أن جميع حركات الجسد الحي هي مستمرة ، وممتزجة بكل أعضائه ومفاصلة طالما كان حياً ، هكذا ايضاً فإن تذكار الله يثبت على الدوام في النفس التي تقتني معرفة الله . وما دامت تذكر الله فهي لا تخطئ ، وإن عرض وقت انحجب فيه نور معرفتها بسبب دخان الشهوة، يتحرك فيها ذكر الله في الحال وتجتذبها مخافته للتوبة . لأن مخافة الله تصنع أمرين في النفس : الأول هو أنها تحثه على شفاء خطيئتة بالتوبة . إن من عادة جميع الذين وجدوا مخافة الله أو الناس ، سواء أخطأ أو لم يخطئوا أن يصححوا أعمالهم الرديئة . فمخافة الله هي حقاً درع يحفظ الانسان حتى لا يصيبه ضرر ، وسور يحميه من كافة الامور البغيضة ، وإن دخل الشر فهي كطبيب حكيم تشفيه مما يصيبه من مرض بسبب الأهمال .
-
هناك من يخاف لأنه يرى الديان ، وهناك من يتب من مجرد سماع إنذاره فقط . الأول يحترس دائماً جتى لا يخطئلأن نظرة الديان تمنعه من الشر ، أما الثاني فيتوب بعد أن يخطئ ، لأن إنذار الديان يلقى فيه الرعب ، وفكر دينونته لا يأتيه إلا عند سماع صوته فقط ، لأنه في وقت الخطيئة لا يستطيع أن يرى الديان لأن الخطية تعمي النفس ، وبعد أن يخطئ لا يمكنه أيضاً أن يراه لأن نظر النفس ينحجب كما من دخان بخار الشهوة ، ولكنه يسمع تهديد الديان من افواه الاخرين ، أي من الأسفار المقدسة ، فيرتعب من الإنذار ويخاف من مما يسمعه . وهذا يحدث اذا لم تكن النفس قد ماتت تماماً من معرفة الله ومن الاحساي به . الأعمى بطبيعته لا يخاف من منظر الخطر لأنه لا يراه ، ولكنه يخاف من الخبر الذي يسمعه عنه من الاخرين فهو لا يرى الاسد الذي يقبل اليه ليمزقه ، ولا الحيه التي تزحف نحوه لكي تلدغه ، ولكنه حين يسمع آخر يحذره منها تجده يرتعب ، إنه لا يرى الصخرة أو الحفرة التي في طريقة ، ولكن عندما ينهه شخص ما بالخطر المماثل أمامه ، فهو يخاف في الحال ويرجع الى الوراء . أما صحيح البصر فهو ليس في حاجة الى آخر يعرفه بذلك ، لأن نظره يعرفه بالخطر الكامن في جسده . بهذا التشبيه نميز ايضاً بين الشخص الذي يحترس من أن يخطئ ،والذي بعد أن يخطئ يتوب.
-
النفس بطبيعتها لا تخاف من مؤذيات الجسد وإن كانت تبدو أنها تخاف لأنها ممتزجة به . فإذا خافت النفس من هذه المؤذيات فإن خوفها هذا يكون خارجاً عن طبيعتها ، أي أن بخار خوف الجسد قد صعد عليها وغشى ذهنا وجعلها تخاف مع الجسد مما لم يدركها هي ذاتها . خوف النفس الطبيعي هو مخافة الله وحده . لأن الجسدد بطبيعته لا يخاف من الله ، والنفس كذلك هي بطبيعتها لا تخاف من الوحوش والمؤذيات الأخرى . ولا الوحوش أيضاً يوجد في طبيعتها خوف الله لأنها جسد فقط ، ولأنه لم يعط لها نصيب في النفس الحية ، فهي تقتني فقط خوفاً من بعضها البعض ومن بقية المؤذيات الأخرى ، هكذا ايضاً فإن الجسد – فيما يخصه – لا يخاف هذه المؤذيات ولا يعي مخافة الله إلا إذا ما أدخلته النفس لمشاركة أفكارها ، كما تعيش هي معه في الخوف من الوحوش .
-
الله هو الديان الوحيد الذي يبكت النفس ، إذا أنه هو وحده القادر أن يدينها بما أنه متطلع على كل أمورها . الناس يحكمون على الجسد ويمكنهم أن يقتلوه ، أما سلطانهم فلا يمكن أن يطال النفس ، وذلك حسب قول المسيح ، لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها
( مت 28:10 ) ، ليس للحكام أي سلطان سوى على الجسد فهم يحكمون عليه ويعذبونه ويقتلونه ، أما طبيعه النفس فهي أعلى من أن تؤذيها سيوف الجلادين ، نارهم لن تحرقها ، عصيهم لا تقع على طبيعتها الروحية وسيوفهم لا تنالها ، وأظافرهم الحديدية لا تمزق جوهرها ، ولأن الحاكم جسداني هو ، ولأنه ينطلق حكمه ضد المذنبين بلسان جسدي ، بينما النفس تقلب سوأ أفكار الحكم ، ولأن كل الادوات المعده للتعذيب هي بدنية ، وأن الجسد وحده هو الذي يتلقى ضرباتها ، ولأن طبيعة النفس هي أعلى بكثير من هذه الاشياء ، وأن العذابات لا تصيب إلا الجسد ، وأن النفس ايضاً قبل أن تخترق وتدخل ( هذه العذابات) إليها تكون هي في الداخل بعيدة جداً عنها ، ولأن موتهم لا يملك على حياتها – لهذا فإن هؤلاء الحكام لا يقدرون على قتل النفس ، ومن أجل ذلك لا ينبغي أن نخاف من أحكامهم، بل خافوا بالجري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم .
-
الله وحده هو الذي يدين النفس ،لأنه هو الذي يحييها ، وهو وحده الذي يقدر أن يجلب الموت ويعذب طبيعتها الروحانية بعقاب روحاني ، والنفس التي قد أحست بأن الرب هو ديانها الوحيد فهي بالضرورة تخافه ، كما أن الاحياء بحيب الجسد وهم أموات بنفوسهم يردعهم عن شرورهم ذكر حكام العالم ، هكذا أيضاً فإن الانسان الحي بنفسه يمتنع عن عمل الشر إذا ما ذكر عقاب الله ، ويتوقف عن أن يخطئ طالما كان يتذكر دينونته ، لأن الدينونة القريبة ليست هي التي يضعها الحكين أمام عينيه ، بل تلك الدينونة العتيدة هي التي يعتبرها وهي التي تجعله يخاف ويرتعد . وكما أن الاشياء المحسوسة تتضح أمام عين الجسد ، هكذا أيضاً فإن الامور الخفية تتكشف لعين الايمان ، وكما أن الجسد الحي يحس بكل الاشياء المادية التي لهذا العال هكذا ايضاً فإن النفس الحية تحس بكل الامور الروحانية التي لذلك العالم وتدركها روحانيا . تذكار الله إذا هو النور الذي يظهر العذاب الآتي ، وتذكر أسمه مخيف ومرعب جداً للإنسان الخاطئ ، لأن خوف الدينونة العتيدة لا يقلق من كان ضميره غير منشغل في الخطية .
-
كل إنسان يكون حيال تذكار الله على الحال الذي يكون عليه هو نفسه تجاه ذاته ، فإن كان في درجة الخطاه فهو يرى الله كديان . وإن صعد الى الدرجة الثانية التي للتائبين ، يظهر الله له بغفرانه . وإن إرتقى الى درجة الرحما ، فإنه يتفرس دائماً في غنى مراحم الله ، وإن تسربل بالوداعة واللطف، فإن لطف الله يظهر أمامه . وإن اقتنى ذهناً حكيماً ، فإنه يتأمل كل حين غنى حكمه الله الفائقة . وإن تجرد من الغضب وتخلص من الاحتداد وتملك عليه السلام والهدوء دائماً ، فإنه يرتفع لينظر صفاء نقاء الله الذي لا يتكرر أبداً . وإذا كان الايمان يضئ في نفسه بلا انقطاع ، فإنه ينظر كل وقت أعمال الله الفائقة الادراك ، ويقتني ثقة بأن ما يدرك تفسيره هو فوق تفسير . ولمن كان قائماً في درجة المحبد العالية ، فهو بحسب الدرجة التي وصل اليها يرى أن الله كله محبة.
-
ياللعجب أن الله الذي هو بسيط وليس له أعضاء او اجزاء ، يظهر نفسه للكل باشكال كثيرة . وكل من يطلبه يراه من كل الجوانب التي يريدها . ومع أنه وحيد في ذاته وليس له تشابيه ، فإن النفوس تراه بأشباه مختلفة بحسب ما يظهرونه في نفوسهم . فالذي يريد أن يرى الله صالحاً ينبغي أن يصير هو نفسه صالحاً . ولا تظن أنه في إمكانك أن تراه صالحاً وأنت قائم في الشرور ، لأن التهاون والانحلال هو الذي يضع فيك هذا التصور ، وقد جعلك ترى الله بخلاف ما يريدك هو أن تراه . فأنت لم تنظره حقاً ، لأنك أردت أن تراه خارجاً عن إرادته . إنك ستراه كما هو في كل واحدة من وصاياه حينما تصير انت مثله . وإذا فكرت أنك تراه بغير ذلك ، فما تراه حينئذ يكون من صنع تصورك وليس حقيقة تظرته ذاتها .
-
لذلك ينبغي لكل من هو قائم في الخطية ويحس ب الاوجاع الرديئة في نفسه ، وينخسه ضميره من أجل خطيتة أن ينظر الى الله كديان . ولا ينبغي أن يتجاسر وينظر اليه بخلاف ذلك ، لكي بهذا تكثر فيه المخافة وتمنعه من عمل الشر . فإذا شئت أن تراه غفوراً، اترك شرك واقرب من التوبة ، واغفر ايضاً لمن اساء اليك ، وبهذه الصورة ترفع عين عقلك وتراه غفوراً ، اما الذي يخطئ على الدوام ويتصور ان الله غفور ، فهو يضيف شراً الى شر ، لا تتكل على الغفران لكي لا تزيد خطيئة على خطيئة ( سى 5:5) لأنه بسبب الاتكال على الفغرات تجد الكثيرون يخطئون بإستمرار دون أن يتوبوا ، في حين أنهم لا يحسوا بالغفران بل بمجرد سماع كلمة الغفران . فالذين يغفرون للآخرين هم فقط الذين يقدرون أن يحسوا بغفران الله .
-
والى أن نبلغ الى تكميل كل وصايا الله لن يكون بمقدورنا أن نحس بالصلاح الذي في الله ، الكل يعرفوا أن الله صالح لأنهم يسمعون ذلك ، لكن الصالحون فقط هم الذين يشعرون بصلاحة بمعرفة النفس. الكل يعرفون يعترفون بأنه رحوم ، وأنه طويل الأناة ورؤوف ، وأنه مملوء كله محبه ، بما سمعوه عنه ، ولكن الذين مارسوا لأنفسهم هذه الامور يذوقونها في الله لأنهم يحسون بها في أنفسهم. ولهذا فما دمت قائماً في الخطية ينبغي لك أن تتذكر دينونة الله ، وبتذكار دينونتة تمنع نفسك من عمل الشر ، ولا تتجاسر أن تفكر شيئاً آخر عنه طالما كنت في موضوع الخوف هذا .
-
لأنهع يوجد موضوع الخوف ، آخر للفرح . موضع الخوف هو للتائبين وللذين يشعرون بخطاياهم، ولأناس لم يتحرروا بعد من أوجاعهم . أما موضع الفرح فهو فوق درجة الخطاة . والانسان يبلغ الى الفرح بعد أن يكون قد غلب الشهوات ، ويكون قد وطأ تحت قدميه جميع أوجاعة بقوة افكاره، فيدخل ويفرح في موضع الفرح الذي يخلو من الرعب والخوف ، لأن الخوف هو ضد الفرح ، ولا يولد الفرح حيثما يوجد الخوف ، كما أن الخوف لا يدخل حيثما يكون الفرح . لأن الخوف يرافق الشرور، أما الفرح فيصاحب الصلاح . الفرح هو ضد الخوف كما أن الصلاح هو ضد الشرور . فالذي لا يكون في الشرور لا يحس به بما أنه يولد من الصلاح ، والذي اقتنى الفرح لا بتوجع من الخوف الذي يتبع الشر . من يريد أن يكون في فرح بينما هو مازال في موضع الخوف ، يكون كالذي يفكر أنه صالح بينما هو ماكر مخادع ، أو يظن أنه غنى بينما هو في فقر مدقع .
-
ينبغي إذا لمن يحس في نفسه بخطايا وزلات أن يربي منها خوف الله في كل وقت ويلهج فيه في دخوله وخروجه ، ويفكر فيه في جلوسه وقيامه ، لكي ما تمتلئ افكاره من خوف الله في كل اعماله. ولا ينبغي أن يجعل لذلك وقتاً خاصاً ، بل أن تكون كل اوقاته اوقات خوف الله . لان التهاون بحفظ وصايا الله يوجد في الانسان في الوقت الذي تفتقر فيه افكاره عن الهذيذ بخوف الله ، ولذلك تغرق افكاره في نوم الغفلة ويفكر في الشرور ويعمل أموراً بغيضة مثل أداة لا حس فيها ، فيخطئ ولا يعرف أنه أخطأ ، وإن عرف ذلك فلأنه سمع عنه وليس لأنه أدرك ذلك حقاً بضميره .
-
لأن الإدراك الحقيقي للشر يلد الخوف في الحال . وكما أن النور يشرق في العين المنتفخة ، هكذا أيضاً فإن مخافة الله تشرق في النفس بتذكار الله . فهو يوقظ الانسان كما من نوم عميق ويقيمه، وكأن النور قد سطع على فراشة مبكراً ففتح عينيه ورأى النهار وانتبه وتيقظ ، وفي الحال نفض عنه ثقل النوم الذي كان غارقاً فيه . هكذا إن تهاون الانسان وأبطل عنه تذكارالله واستسلم لنوم الغفلة والاهمال، وغرق في الكسل والانحلال ، ثم حدث صدفة او بأختياره أن أشرق تذكار الله في نفسه ، فإنه ينتبه للوقت ويبعد عنه أهماله السابق ، ويمتلئ عوضاً عن ذلك خوفاً ، ويستزلي عليه الفزع عند تذكر عدل الديان . فبعد أن يطرح التهاون خارجاً تدخل التوبة مكنه ، ويمتلئ الانسان رعباً وندماً على ما عمله في الاوقات السالفة بعيداً عن تذكار الله .
-
الانسان الذي يحيا في تذكار الله الدائم يمتلئ خوفاً من أصغر فكر للشهوه يتسرب الى نفسه ، فينتبه ويرتعد بسبب هذا الفكر وحده ، فيهرب منه الفكر في الحال ويختفي من قدام خوف النفس مثلما يهرب عصفور من أمام شخص أزعج هدوءه . الخوف هو صفه الذين يحفظون الجسد من الشهوات، وهو الخشية التي يقتنيها الانسان أمام الله فتجعله يحفظ حركان النفس من أفكار الشرور ، لأنه يحسب أن الله يراه في كل وقت ، ويسهر هو على نفسه بإستمرار ويحفظ إنسانه الخفي من العيوب الخفية
-
احط نفسك إذا أيها الحكيم بسياج مخافة الله ، فلن تجسر الشرور على الدخول الى مدينة نفسك، اقتن ذكر الله سراً ، فتحفظ نفسك فس نقاوتها ، حرك فيها مخافة الله دائماً ، فتمنع عن أن تخطئ بالفكر. وليسكن فيك تذكار الله على الدوام ، فلن يثبت معه ذكر الشرور ، لأن النور والظلمة لا يوجدان معاً في العين في وقت واحد ، وذكر الله لا يسكن مع ذكر الشرور في النفس . فما دمت لا تنسى الله فإنك لن تذكر الشر ، وإن كنت لا تنسى الشرور ، فإن تذكار الله لن يتحرك فيك ، فإهمال الواحد هو تذكار الآخر ، وبخروج الواحد يدخل الآخر ، لأن تذكار الشر هو خطية ، وتذكر الله هو معرفة حقيقية ، والخطية هي الظلمة والمعرفة هي النور .
-
كما أن الرجل يخجل من عريه في النور ، هكذا فإن النفس تخجل من خزي الشرور عند تذكر الله، وكما ان رؤية الناس تخيف الانسان وتجعله يستر عريه ، هكذا أيضاً فإن تذكار الله يحفظ النفس حتى تصير متضعة وتتسربل ثوب العفة ، وإن وجد فيها عضو واحد من أفكارها عرياناً فهي تخفيه، وإذا ضبطت أمراً مالا يناسبها فهي ترفضه وتنبذه ، وإذا انقلب حالها فهي تستعيد نظامها ، وإذا احتدت فهي تسكن نفسها ، وإذا أخطأت تعود الى البر ، وإذا تدنست بأية شائبة فهي تتنظف ، وإذا اتسخت تغتسل ، وإن كانت نجسة تتطهر ، وإن فسدت تتنقى ، وإن تبذلت تصير عفيفة ، وإن أصابتها الشهوة تصير متضعة، وإن تخلت عن وقارها تصير حكيمة ، وإن أصابها التشتت استجمعت أفكارها، وإن شردت خارجاً عنها رجعت الى نفسها ، وإن كانت فقيرة فإنها تغتني ، وإن فقدت الحياة تسعى لكي ما تستردها ، وإن كانت مريضة تستعيد صحتها ، وإن كانت ضعيفة فهي تتقوى ، ولن كانت عاجزة فهي تشفى ، وإن كانت قد اصابتها الكسور تربطها ، وإن كانت بها جروح تضمدها ، وإن كانت قد عنفت وترسخت بالخطية، وإن تذكار الله مع مخافته يجددانها.
-
إن إختبار مخافة الله كائن في النفس ، والانسان نفسه هو وحده الذي يقدر أن يعرف إن كانت فيه مخافة الله أم لا ، لأن كل واحد منا ينبغي أن يقتني في نفسه هذا الصلاح . إذا أنت دعوت الله فإرتعبت، وإذا ذكرته فإمتلأت مخافة ، وإذا ارتجفت أفكارك مع أعضائك ونفسك مع جسدك ، وإذا كان عقلك قد أحنى رأسك وخجلت نفسك سراً أمام الله – إذا حدث ذلك فأعلم أن مخافة الله فيك ، وأن تذكار الله هو حقاً حاضر عندك . فليس كل من يقول إني أخاف الله هو كذلك بالحق ، بل من يحس بالتجربة في نفسه بما ذكرته ( من علامات ) هذا هو الذي يخاف الله حقاً .
-
الصلاح الذي يرى بحسب الظاهر لا يدل على أن صاحية يخاف الله حقاً ،لأن الاسباب يعمل الصلاح من اجلها بين الناس كثيرة ،ولأنه توجد هناك دوافع مختلفة وتدعو لحفظ وصايا الله ،لكن الذي يحفظ الوصايا بمخافة الله هو وحدة الذي يعتبر خادعاُ حقيقياً يعمل مع الله ويخاف واضع الناموس وينفذ وصاياه. لأن الناموس الإلهي لا يحفظ بالمال ما لم يحفظ بالجسد وبالنفس معاً .
-
كثيرون يتعبون أنفسهم بالاعمال الظاهرة بينما هم في الخفاء يخدمون كل انواع الشرور ، فهناك م ربطوا أعضاءهم بقيود الامانات واطلقوا افكارهم تطيش في الامور البغيضة ، وهناك من يلبسون ثوب العفة من الخارج ويرتدون الفسق من الداخل . وهناك من يصومون من الخارج وهم شرهون ونهمون في الداخل . وهناك من يتراءون انهم ابرار في الظاهر وهم مستعبدون لسائر الشرور في الخفاء . وهناك من يتظاهر أنه صوام وهو أكول . وهناك من يتراءى أنه متجرد وهو محب المال. وهناك من يظهر أنه طويل الأناه وهو محتد ، يرى من الخارج أنه صابر بينما يسكن الغضب فيه خفيه ، وهناك من يرفض الملذات في العلن ويطلبا سراً. وهناك من لا يتنازل لكي يسمع النميمة ظاهراً وهو يدين الآخرين بجسارة خفية .
-
كذلك هناك من يكون حاضراً في الصلاة ( الجماعية ) وهو لا يصلي في الخفاء ، يتلو التسبحة بلسانه وليس بنفسة .وهناك من صلب جسده ولم يصلب نفسه مع جسده ، وهناك من يحترس من خطية لكي لا يلام من الناس وليس من اجل محبته للبر . وهناك من يخجل أمام الناس ولكنه لا يختشي أمام وجه الله ، وهناك من يمتنع عن الأثم لأنه يرى أن الخبث يستحق اللوم في نظر الناس، ويكره الخطيه ولكن ليس لأنها مكروهه عند الله . وهناك من يحترس من الخطية خوفاً من الدينونة الحاضرة ، ولا يبتعد من الضلالة خوفاً من الدينونة العتيدة . وهناك ايضاً من يسكن شهوته ويطفئ حركاته بتذكر النار القريبة ، بينما تذكر نار جهنم البعيدة لا يطفئ الشهوة منه ولا يجعلها تختفي . إذاً فالأعمال التي ترى خارجاً لا تكفي لكي تظهر أن الإنسان يخاف الله حقاً .
-
اختبر ذاتك اذاً ، أيها الحكيم ، واتخذمن نفسك الشهادة عليك لتعرف ان كانت مخافة الله هي في نفسك حقاً . مخافة الله هي التي تعمل البر الذي يبدأ من الداخل ، أما البر الذي تبدأ أعماله في المكان نفسه وتظهر في الخارج فإن رؤية الناي هي التي تدفعه ويكون عمله من الخارج وليس في الداخل، فهو لا يرى سوى الناس ، وليست له رؤية سرية لله .
-
جيدة هي أعمال النسك الظاهره ، لأنها تخضع الأعضاء وتجعلها مطيعة للأفكار ، وهي تقمع تسلط الجسد وتجعله يخضع لإرادة النفس ، الا أنها لا تظهر العقل من حركات الخطية ولا تجعل النفس تخاف الله ما لم تتعلم هي من ذاتها أن تخاف الله خفيه . فالخدمة الخفية تخص النفس ، أما العمل الظاهر فهو يخص الجسد ، في حين أن خدمة النفس قد تعتبر صحيحة بدون اعمال الجسد – هذا إذا لم يكن توقف الانسان عن العمل هو بسبب التهاون ، أو لأنه يهرب من الضيقات لمحبته في الراحة.
-
نظر الناس لا يمنع الانسان من الخطية خفياً ولا ظاهراً ، بينما نظرة خوف الله تمنع النفس والجسد كليهما من الخطية . كما أن المتهم حين يمثل أمام القاضي ليعطي جواباً عن اخطائة لا يستطيع أن يعمل مثلها أمامة ، وهو في الوقت نفسه يحاول أن يخفي أخطاءه الماضية ، هكذا ايضاً لا يمكن للانسان أن يخطئ إن كان يضع الله امام عينيه مثل قاض ، إن كانت مخافة الله تجتذب إليها أفكاره كل حين ، فهو ليلاً ونهاراً يتسربل بالتواضع والتخشع في انسانه الخفي ، وبواسطة مخافة الله يطرد من قلبه كل حركة للخطية تظهر فيه .
-
مخافة الله تزين الانسان الخفي ، بينما خوف الناس لا يزين سوى الانسان الخارجي . ليكن ديان أعمالك هو ايضاً مختبر جهادك ، واجعل مخافته قدام وجهك كل حين ، لأنه إذا كان خوف السادة هو دائماً أمام أعين عبيدهم ، وإذا كان خوف الملك والولاة وقادة الجيوش يستولي كل حين على مرؤوسيهم والخاضعين لهم ، وإذا كان خوف النظار والمعلمين يضبط ويحفظ نقاوة الطفولة دائماً ، فكم بالأولى جداً تلميذ الله ، والخادم الطبيعي لهذا السيد السمائي ، وجندي الملك الأبدي ، والخاضع للديان الحقيقي بحسب الناموس – يجب عليه أن يملك مخافته كل حين على كل تدبيره وأفكاره في الخفاء ، وعلى كافة أعضائه في الظاهر ، لأن مخافة الله هي لجام يضبط اندفاع الانسان نحو ضلالة، ويوقفه إذا ما تهيأ للجري وراء الشهوات البغيضة ، ليس فقط في حياتة الخارجية ، بل أيضاً – وبصفة خاصة – في حياته السرية .
-
المجاهد الروحاني لا يخاف اللع كما يخاف العبيد أسيادهم ، أو كما يخاف الناس الملوك والولاة ، لأن مخافتهم تملك ( فقط ) على كافة تصرفاتهم الظاهرة وتبدو على أعضاء الجسد من الخارج ، ومع أنهم يكرهونهم في السر ويحتقرونهم بأفكارهم ، إلا أنهم يظهرون في الخارج بكل خوف . فلا تكن مخافتك لله من هذا النوع ، ولكن أظهر له أنك تخافه من الموضع الخفي الذي تخترقه عيناه حيث يرى سراً جميع حركات نفسك ، فلتملك في داخلك مخافته بكل سلطانها ، ولتخف الله بكل نفسك تماماً في حياتك الخفية كما في تدبيرك الظاهر ، لأنه هو الديان لسائر أفعالك الخفية والظاهرة ، ولتدفعك مخافته إلى الخجل من أن تخطئ أمامه والى الخزي من أن تتفكر بالاثم في حضرته ، لأنه إذا كان الخجل من الناس يمنعنا من الخطية ، فكم بالاولى كثيراً يجعلنا الخجل من الله نمتنع عن عمل الشر .
-
ذكر نفسك دائماً أن الله يراك ، وتطلع أنت ايضاً إليه سراً كما يراك هو ايضاً سراً فلا يمكن أن تجد الخطية لها مكاناً في أفكارك ، فكما أن الظلمة لا تجد لها مكاناً في موضع يرى الشمس ، هكذا ايضاً فإن ظلام الشر لا يمكن أن يوجد في النفس التي يراها الله وتشعر عي بأنه يراها ، كما يقول الكتاب ” إن عيني الرب إضوا من الشمس عشرة آلاف ضعف فتبصران جميع أعمال البشر “
(سى 28:23 )، وايضاً جميع اعمال البشر كالشمس أمامه ، وعيناه على الدوام تنظران إلى طرقهم
( سى 15:17 ) .
-
هكذا نرى أن نبي الله يقول هذا لكي يبكت الانسان الذي يكذب وهو على فراشه دون خوف الله ، ولكي يوبخه على تفكيرة الأحمق بأن الله لا يراه ، فيوجه إليه هذا التأكيد : إن عيني الرب أضوأ من الشمس عشرة آلاف ضعف . ومن خلال تبكيته لهذا الشخص الكاذي يعلمنا نحن جميعاً أن الله يرى أسرارنا ، لكي ما نحترس بكل اهتمام من أن نخطئ سراً. لا تخطئ بفكرك وأنت بالتالي سوف لا تخطئ سراً في مسكنك، لأن الله يراك بصفة خاصة في الاماكن المستترة ، فحالما يتحول عنك نظر الناس يلاقيك نظر الله . لأنه بالتأكيد حين لا يراك الناس فإن سيد الخليقة في ذلك الوقت هو يراك. لأنه مادام الناس يرونك فهو يعرف أنك سوف تحفظ نفسك من أعمال الخزي ، وأن الخوف والخجل يمنعانك من فعل الخطية. أما إذا كنت وحدك حيث تسترك حيطان مسكنك وسقفه من كل ناحيه ، فمن الضروري أن تتسلح بخوف الله ، لأنه في الظلام تفعل الخطية بسهولة ، ومن هنا يجب عليك أن تنهض نفسك بتذكار الله دائماً ، وتحفظ أعضاءك حتى لا تخضع للشهوه ، وتقف مثل بطل شجاع مقابل الخطية التي تريد أن تقحمك لتغلبك ، ومقابل العدو الذي يقاتلك بواسطة حركات شهوتك ليقنص حياتك.
-
أفكار النفس هي أيضاً مستترة في أعضاء الجسد مثلما يستتر الجسد في بيت ما ، فهي مخفية تحت حجاب الجسد حتى أنه ليس من السهل أن يرى ما بداخل الانسان ، هكذا يسهل عليه أن يخطئ بالفكر كلما أراد ذلك . فالخطأ باأفكار أسهل جداً من الخطأ بالأعضاء ، ذلك لأن الاعضاء يمكن أن تمتنع عن الخطية لأسبابا كثيرة ، أما عمل الخطية فيكمل بالفكر بمجرد أن يرضى بذلك . فلا الزمان ولا المكان ولا الظروف لها أهمية بالنسبة للخطية التي تكمل بالفكر ، وعلى قدر نشاط حركة الفكر هكذا أيضاً تكون سرعة عمل الخطية . ولهذا صار من الضروري مواجهة حدة حركات الفكر بمداومة تذكار الله واللهج المستمر يخوف ديان هذا الامور السرية ، لأن حركة مخافة الله تكون أقوى وأسرع من حركة الفكر حتى أنه بمجرد أن تبدأ حركة فكر الخطية فإن تذكار الله يطرده في الحال . والنفس التي تضبط بهذا اللجام تهدأ وتسكت مقابل حركات الأفكار البغيضة، وإن عرض لها أن تخطف بغتة، فإن هذا التذكار يقمعها ويردها لتنظر فب ذاتها في الحال .
-
ليس شئ من الصلاح إلا ويحفظ بخوف الله ، وإذا ما تمسك الانسان بخوف الله ولاحظ الجسد عمل الصلاح فلن يضل ، لأن خوف الله هو الذي يثبت الايمان ويحفظ الصوم ، وبتذكاره تدوم الصلوات عندنا، وهو الذي يحث على الصدقات ، ويهدئ الحركات السمجة بالنفس ويطفئ الشهوة المضطرمه في الاعضاء وينقي الافكار النجسة ويقتلع من النفس فكر الامور البغيضة ، وهو الذي يطرد منها أفكار البغضة والعداوة. وهو الذي يمنع النفس من اشتهاء ما ليس لها ، وهو الذي يراعي القوانين التي لا تطأا الاقدام ، ويحث الناس ألا يعصوا وصايا الله .
-
خوف الله سرور منيع في وجه كافة الشرور ، ودرع ضد كل الامور البغيضة ، هو يحذر من الامور المثالية ويحث على السلوك في الاعمال الصالحة اليمينية . هو يوقف الشر ويحفز على عمل الخير، يقف في وجه الشر ويمنع الانسان من السير في طريق الاثم ، أنه نافع ومفيد في كلا الناحيتين، يمنع الانسان من السعي في سبيل الشر وينبهه للسلوك في طرق الخير ، ويحرضه على جمع الفضائل ثم يحفظ له ما قام بجمعه منها . إذا لم يوجد الخوف فإن الفساد يسود على الجميع . إنه يرافق القضاه وينفذ احكامهم ، يحيط بالملوك فلا يعصى احد ، أوامرهم ، يتبع القادة ويجعل مرؤوسيهم يخضعون لهم . إنه يحفظ الجميع في الايمان بالله ومع أنه يولد من الايمان ، إلا أنه يصير بعد ذلك حافظاً له ، لأن الذي يؤمن بالله يمتلئ مخافة ، والذي يخاف الله يحفظ وصاياه بكل اهتمام .
-
لقد آمن آدم بالله ، ولكنه لم يخف الله . آمن بأنه موجود وتقبل من الوصية ، لقد جعل المشترع الخوف مرتبطاً بالوصيه حين قال : “لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت ” ، ولأن آدم طرح عنه هذا الخوف ، صدق المضل بدلاً من الله ، وداس الوصية التي كان قد وضعها له الديان . بيد أن الله لم يضع الخوف مثل سياج يحفظ الوصية بالنسبة لآدم فقط ، ولكننا نرى أنه عمل ذلك فيما بعد بالنسبة لجميع الأجيال، حيث أضاف الخوف الى وصاياه . ولأن قايين لم يقتن خوف الله عن طيب خاطر ، تملكه الخوف بالقوة حتى أنه صار مرتعداً وتائهاً في الارض . ولأنه لم يخف الشخص الوحيد الذي يجب أن نخافه، صار كل من يراه يملأه رعباً وخوفاً ، وفي شدة خوفة قال لله إن كل من سيجده سوف يقتله ، وطلب أن يخلص من هذه الحياه المملوءة من الفزع والخوف .
-
وقد أعطى الله ايضاً من يد موسى النبي ناموساً يتضمن وصايا كثيرة متنوعة ، وربط الخوف بكل هذه الوصايا ،لأنه بدون خوف لا تحفظ الوصايا ، فهو مثلاً يقول : ” لا تقتل “
( خر 13:20) ، ثم يقول ” من قتل يُقتل ” (خر 12:21) . فقد أعطى دواء الخوف لمداواة المرض لكي ما يمنعه من أن يزيد ويشتد في الاثم . كما يقول : ” لا تزن ” ( خر 14:20 ) ، ثم يقول :
” وإذا زنى فإنه يقتل ” ( لا 10:20 ) . فالخوف يحفظ الوصية حتى لا يستهان بها . وكان الخوف يمنع بني اسرائيل من أن يعملوا الشر الواحد الآخر ، ولأن الله كان يراهم يميلون للشركات يمنعهم عن فعلع بواسطة خوف الدينونة .
-
الخوف يحفظ الوصايا حين لا يوجد الحب . فكل وصية تحفظ بثلاثة طرق : إما عن خوف او لأجل مكافأة أو عن حب ، الخوف هو الثلاثة ، ومواعيد العطايا هو الثاني أما الثالث فهو الحب الحقيقي . الأول، أعني الخوف هو للعبيد ، والثاني للإجراء ، أما الثالث فهو الروحانيين والصدقين، الخوف هو بدء تدبير سيرة التلمذة للمسيح ، لأن كل من يبدأ بهذا التعليم يقتني قلب طفل ، والمخافة تليق بالطفولة ، ولأن الطفل لا يستطيع بعد أن يتذوق حلاوة المعرفة ، لهذ ينبغي أنيرافقة الخوف .
-
وعندما يذوق الانسان حلاوة معرفة المسيح ويحس بقوة وصاياه ، فالحلاوة التي يذوقها تجتذبه لحفظ الوصايا .وطالما لم يبلغ الانسان بعد لهذه المذاقة ، يظل الخوف ضرورياً لتربيته وتهذيبة ولكي ما يذكره بجميع الوصايا ، فكما أن أطفال هذا العالم يتقبلون تعليم المعلمين ، ومن بعدهم يتكفل المربي بأن تذكرهم بما سمعوه ، هكذا أيضاً فإن الانسان بمجرد أن يتقب من الله ، المعلم الحقيقي ، تعليم الوصايا ، يكون من اللازم أن يعمل الخوف عمل المربي ، فيذكره بكل ما تقبله من الله ، وإن نسيه يذكره فيه ، وإن تهاون يستحثه وإن نام يوقظه . وهو إذا مال الى اللعب يوبخهويرده الى الطريق إذا ضل عنه ، ويحذره إذا أهمل، ويذكره بالعقاب إذا ازدرى . الخوف ضروري لمن كان محتاجاً أن يتذكر ما تعلمه . وبدون الخوف لا ينتهي التعليم ، وإذا ما انتهى بغيره لا يقبل ، وإن قبل بغيره لا يمكن أن يحفظ .
-
إرسيا النبي يوبخ ” الذين كسروا نير مخافة الله وقطعوا ربطها ” ( ار 5:5 ) . وفي موضع آخر يوبخ هوشع النبي اسرائيل لكونهم تحرروا من نير وصايا الله : “إنه قد جمع اسرائيل كبقرة جامحة ، هم وملوكهم ورؤساهم ” ( هو 16:4،ار 32:32 ). صار اسرائيل عاصياً لأنهم لم يقتنوا المخافة . فقد داسو الوصايا بأقدامهم ، لأنهم لم يتذكروا التهديد ، واستهانوا بالناموس ، لأنهم لم يحتفظوا بتذكر حكم واضع الناموس . والله في حكمته ، ولأنه كان يعرف من هم الذين أعطاهم الناموس ، قصد أن يضاعف التهديدات إلى جانب وصاياه لكي ما إذ ترتبط المخافة بالناموس تجعله يحفظ حتى ولو استهانت به إرادة الانسان . ولأن الذي تقبل الناموس كان عبداً عاصياً ، فقد غصبه أن يخضع للناموس لسبب الخوف من العقاب . لقد وضع أمامه كل أشكال العذابات لكي ما بملاحظتها يحفظ الوصايا ويفهم الناموس .
-
فلنبادر أن نثبت مخافة الله في قلبنا ونهذبها ليلاً ونهاراً. فإذا اشتعلت نار الشهوة نضع قبالتها نار جهنم، وإن خطفنا شره البطن نذكر ذلك الدود الذي لا يموت ، وإن خدعنا حسن الوجوه نذكر الظلمة الخارجية، وإن جاربتنا محبة المال نذكر قلوبنا بهلاكنا ، وإن جذبتنا الارباح البشرية نخاف لئلا نخسر ملكوت الابدي ، وإن قام علينا الغضب الحاد بسلاحه نفكر في تهديد الله للغضوبين ، وإذا أزعجنا المجد الباطل نحضر الى قلبنا المذلة والهوان اللذين ينتظراننا أمام الديان ، وهكذا نبطل الازعاج ونقهر الموت بالموت.
-
وينبغي ايضاً لكل من يريد أن يحفظ حياته من الخطية أن يهتم بإقتناء ذكر الموت في كل وقت . لأن الذي يذكر نفسه كل حين بيوم خروجه ، ويفكر على الدوام بساعة موته ، لا يسهل عليه أن يتجه للإثم، ولن يتجاسر أن يقترب من فعل الخطية ، لأن ذكر الموت يضعف جميع الشهوات ، ويبدد الشر الذي يتجمع مقابل النفس والشهوات التي تحدق بالجسد . ليكن قرب الموت معلماً لنا قبل موت جهنم . ولنحفظ حياتنا بإحتراس من جميع النواحي . ولنذكر الله ونخاف من دينونته ونحفظ وصاياه، لكي ما إذ نتنقى من الشر ونتزين بميع الصالحات نحصل على فرح المسرات السمائية مع جميع الأبرار والقديسين ، ونمجد برفقتهم الآب والأبن والروح القدس إلى الدهور . آمين .