الرسالة الراعوية الأولى لبطاركة الشرق الكاثوليك
في مناسبة انعقاد اجتماعهم الأول في لبنان
من ١٩ الى ٢٤ آب ١٩٩١
إننا نحمد الله الذي منّ علينا، لأوّل مرّة في منطقتنا، ان نجتمع للتباحث معًا في أمور تتعلق بحياة كنائسنا. لقد عقدنا اجتماعنا الأول هذا في لبنان في ضيافة غبطة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، وتناول أولاً دستور القوانين للكنائس الشرقية« الذي صدر في روما، مؤخرًا ليدخل حيّز التنفيذ ابتداء من مطلع تشرين الأول (اكتوبر) ١٩٩١. وبحث ثانيًا في علاقاتنا بالمسلمين الذين يربطنا بهم تاريخ مميّز وأصيل نريد تعميقه وتطويره خدمة لكلّ من أبناء بلداننا.
اننا نجتمع في أوقات مصيرية بالنسبة الى كنائسنا ومنطقتنا والعالم. ولا يخفى على أحد ان الشرق الأوسط تحوّل الى بؤرة صراعات دولية بينما، تبحث البشرية عن نظام عالمي جديد لم تتحدّد معالمه حتى الآن ولا يعرف أحد ما سيتمخض عنه ونحن على عتبة الألف الثالث. والكل يدرك أن هذه الصراعات الكثيرة والمتشابكة تركت وراءها، ولا تزال، الدمار والتشرّد والموت وغير ذلك من أشكال المعاناة.
في وسط هذه الظروف أردنا أن نجتمع كي نستلهم ايماننا ورجاءنا ومحبتنا فنلتمس ارادة الله في كنائسنا في هذه الأوقات العصيبة لنعمل على الاستجابة لهذه الارادة بايمان وفرح وعزيمة متجدّدة بالرغم من كل الصعوبات التي تواجهنا.
اننا نؤمن أن السيد المسيح لا يزال معنا ومع كنائسنا، كما وعد عندما قال:)»هاءنذا معكم طوال الأيام الى انقضاء الدهر«(متى ٢٨: ٢٠).
وقد أردنا، في ختام مداولاتنا، أن نوجه رسالة الى أبنائنا الكاثوليك والى اخوتنا المسیحیین، والمسلمين واليهود، والى كل ذي ارادة صالحة في هذا الشرق العزيز وفي العالم بأسره كي نشركهم في بعض التساؤلات والتطلعات التي لا نرمي من ورائها الاّ الخير للجميع.
الى أبنائنا الكاثوليك
اننا نتوجّه اليكم، يا أبناءنا الكاثوليك في شرقنا الحبيب. لقد اجتمعنا ونحن نحمل همومكم وآمالكم التي هي هموم كل واحد منّا وآماله. لقد عشنا معكم ظروفًا، عصيبة في كل مكان نتواجد فيه تركت عميق الأثر في نفوسنا، وفي نفوس جميع مواطنينا، ونحن في أمسّ الحاجة الى التوقّف والتأمل، بهدي من ايماننا، وانجيلنا وتراثنا، في معنى وجودنا، ودعوتنا، وشهادتنا، في هذه المنطقة من العالم التي اراد الله لنا أن نعيش فيها ايماننا ورسالننا.
ان الظروف الصعبة التي نواجهها يجب ألا تؤذي بنا الى الهروب أو القوقع او الانعزال او الذوبان، بل تردّنا، بالاحرى الى جذور ايماننا لنجد فيها منبعًا للقوة والثيات واللقة بالنفس والأمل متذكرين قول السيد المسيح له المجد:، لا تخف، أيها القطيع الصغير (لوقا ١٣:١٢)، لأن الكيسة لا تقاس بالأرقام والاحصاءات، بل بوعي أبنائها الحي لدعوتهم ورسالتهم.
حضور، رسالة وشهادة
انناء نعيش في هذا الشرق منذ القدم، فهو جزء من هويتنا العميقة كما أننا بدورنا، جزء من هويته وكيانه. وعليه فلا يحقّ لنا أن نبقى هنا وجلّ اهتمامنا فقط الاستمرار في البقاء، مما قد يؤدي الى الانعزال والخوف وعقدة الأقلية القاتلة. ان حضورنا في الشرق هو حضور رسالة وشهادة. لا حضور جسم يكتفي بالحنين الى الماضي ويعجز عن شقّ طريقه الى المستقبل. ان كنائسنا حيّة تتفاعل مع دعوة الله لها عبر الأحداث والبيئة والتراث والحضارة. لقد نظرنا الى أنفسنا طويلاً ونظر الينا الآخرون من زاوية الطالفية التي تحول دون معرفة الآخر والتواصل معه والاندماج في حياته وهمومه، كما تمنع الآخرين من معرفتا معرفة حقيقية، وهذا كلَّه يولّد الشكوك والعداوات والأفكار المسبقة التي ما تعتم ان تتحول، لأدنى سبب، الى صراعات مفتعلة وعقيمة.
لا طوائف بل كنائس حيّة
ولقد حان الوقت ان تتحول من الطائفية الى كنائس حيّة تعمل، في تنوع طقوسها وتراثاتها، على عيش ايمانها بكلّ أصالته في تفاعل خلاق مع البيئة التي أرادها الله لنا، وأرادنا لها، فنسهم اسهامًا، فعالاً في كل مجال من مجالات الحياة العامة (الأجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، وغيرها) بقلب مفتوح وصدر رحب وسخاء شامل وفي تواصل حقيقي مع كل انسان نعيش معه,
واننا لا نبغي من وراء كلّ ذلك الا مجد الله وخدمة الانسان، كلّ انسان وكلّ الانسان، وفق تديبر الله الخلاصي الذي خلق كلاً منا على صورته ومثاله. وما الصعوبات التي تعترض طريقا الا حافزا لتجذير هذه الأصالة وهذا التواصل وتفعيلهما، وفق الظروف التاريخية الدائمة التغيّر والتحول في منطقتنا.
الأمل والعمل
ان المسيح هو هو، اليوم والأمس والى الأبد (راجع عيرانين ٨:١٢). ومن خلال كنائسنا، يتجسّد المسيح، كلمة الله الأزلية، في الظروف التاريخية بكل جوانبها وأوجهها. وهذا كلّه يتطلب منا استعدادًا دائمًا للتجاوب مع عمل الروح الذي ينقي ايماننا ويبلوره كي يكون على مستوى الدعوة التي اليها دعينا، وعلى مستوى الرجاء الذي نحمله في قلوبنا، هذا الرجاء الذي يدعونا، الرسول يطرس الى الشهادة له باستمرار (١ يطرس ٣: ١٥). ان الوقت الذي تعيش فيه ليس وقت الخوف والتظلم والتشكّي والتهرّب، بل وقت الأمل والعمل من أجل مستقبل ننغرس فيه باضطراد في مسيحنا، وننغرس فيه، في الوقت عينه، في مجتمعاتنا لنكون فيها، خميرة خير ومحبة ومصالحة وتقارب وسلام. وهكذا ترون، أيّها الأبناء الأعزاء، ان أوطاتنا وكنائسنا بحاجة الينا، في هذه الأوقات العصبية، لقد عشنا مع مواطينا أيام اليسر، وما أحرانا أن نقاسمهم أيام العسر فنعمل معًا على النهوض بأوطاننا وننائها، على أسس ثابئة وسليمة.
آفة الهجرة
وفي هذا المجال لا يسعنا، الاّ أن نشير، والألم يعصر قلوبنا، كما أشار كلّ منا، على حدة في الماضي، الى آفة الهجرة الخطيرة التي تنخر جسمنا، وتعطّل مسيرتنا، وتحرم كنائسنا وأوطاننا من عطائنا، واسهامنا، وتعاوننا، اننا بحاجة الى أوطاننا، لأنها بيئة دعوتنا ورسالتنا، وأوطاننا بحاجة الينا كي تثريها بأصالة حضورنا النشط والعامل، ومما لا شكٌ فيه أن أوطاننا راغبة، وهذا هو أملنا الدائم
في مساعدتنا على العيش بكرامة في أرضنا وبلداننا.
الى اخوتنا المسيحيين
ان كنائسنا في الشرق تمتاز بقدمها، وغنى تراثاتها، وتنوع تعابيرها الطقسية، وأصالة روحانياتها، وآفاقها اللاهولية، وقوة شهادتها عبر القرون التي وصلت حتى الاستشهاد البطولي في بعض الأحيان. وكل هذا رصيد حيّ تحمله في قلوبنا، وحافز أمل عظيم ومصدر ثقة وثبات نستلهمه بينما نلمس طريق المستقبل.
ان التنوع هو السمة الأساسية للكنيسة الجامعة والمسيحية في الشرق. ولقد كان هذا التنوع دومًا مصدر غنى للكنيسة جمعاء عندما عشناه في وحدة الايمان وبروح المحبة، ولكنه، ويا للأسف الشديد، تحول الى انقسام وفرقة بسبب خطايا البشر وابتعادهم عن روح المسيح. ومع هذا فان ما يجمعنا أكثر وأهم مما يفرقنا وما يفرقنا لا يحول دون تلاقينا وتعاوننا، ان مسيحية الشرق، على انقساماتها، تشكّل في أساسها وحدة ايمان لا تتجزأ. اننا مسيحيون معًا في السراء والضرّاء. فالدعوة واحدة والشهادة واحدة والمصير واحد، وعليه فنحن مطالبون بالعمل معًا، بشتّى الطرق والوسائل، لتثييت جذور المؤمنين الموكلين الينا بروح الاخوة والمحبة، في مجالات عدة يدفعنا اليها الخير المشترك لعامة المسيحين، كما تدفعنا اليها تطلّعات جميع المؤمنين من مختلف الكنائس المسيحية، الذين يضعون كبير آماهم في تعاوننا وتقاربنا.
نكون مسيحيين معا أو لا نكون
اننا في الشرق، نكون مسيحيين معًا، أو لا نكون. وان لم تكن العلاقات بين الكنائس في الشرق دومًا على ما يرام لأسباب كثيرة، منها الداخلية ومنها الخارجية، فقد حان الوقت ان ننقي ذاكرتنا من رواسب الماضي السلبية مهما كانت مؤلمة، كي ننظر معًا الى المستقبل بروح المسيح وبهدي انجیله و تعالیم رسله,
اننا نقول هذا في وقت انضمّت فيه العائلة الكالوليكية الى مجلس كنائس الشرق الأوسط الذي يشكّل واحة فريدة للتلاقي والبحث عن القواسم المشتركة، التي تؤدي الى حضور جماعي وشهادة مشتركة في شرقنا العزيز، ولا تريد هذه الشهادة نفع ذاتها، بل تبتغي مجد الله وخدمة الانسان في مجتمعاتنا. ان تلاقينا وتآخينا نريدهما علامة حيّة للتآخي والتلاقي بين جميع أبناء الله في هذه البقعة من العالم، التي خصها الله بوحي محبته وآيات خلاصه. وحبّذا لو عملنا على تثبيت ركائز عملية وواقعية وملموسة لتعاوننا هذا تعود بالخير على مؤمنينا ومجمعاتنا، ريثما تحلّ الساعة التي نلتقي فيها من جديد في الافخارسيا الواحدة، وفق رغبة السيد المسيح وصلاته (راجع يوحدا: ١٧).
الى إخوتنا المسلمين
إننا نتوجه الى إخوتنا المسلمين بقلب مفتوح ونية صادقة. ان عيشنا المشترك الذي يمتد على قرون طويلة يشكل، بالرغم من كل الصعوبات، الأرضية الصلبة التي نبني عليها عملنا المشترك حاضراً ومستقبلاً، في سبيل مجتمع متساو ومتكافئ لا يشعر أحد فيه، أياً كان، إنه غريب أو منبوذ.
إننا ننهل من تراث حضاري واحد نتقاسمه، وقد اسهم كل منّا في صياغته انطلاقاً من عبقريته الخاصة. ان قرابتنا الحضارية هي ارثنا التاريخي الذي نصرّ على المحافظة عليه وتطويره وتجذيره وتفعيله كي يكون اساس عيشنا المشترك وتعاوننا الأخوي. ان المسيحيين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسلمين، كما ان المسلمين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهوية
الحضارية للمسيحيين. ومن هذا المنطلق نحن مسؤولون بعضنا عن بعض أمام الله والتاريخ.
دعوة نموذجية
ولذا يتحتم علينا أن نبحث، بشكل مستمرّ، عن صيغة، لا للتعايش فحسب، بل للتواصل الخلاّق والمثمر الذي يضمن الاستقرار والامان لكل مؤمن بالله في أوطاننا، بعيداً عن آلية الحقد والتعصب والفئوية ورفض الآخر. واننا على قناعة بأن قيمنا الروحية والدينية الأصيلة خليقة بأن تساعدنا على تخطي المشاكل التي قد تطرأ على مسيرة عيشنا المشترك. وهذا ما يفرض علينا أن ينظر بعضنا الى بعض بروح الانفتاح والتعرف المتبادل الحقيقي لأن الانسان عدو ما يجهل. إن العالم اليوم تمزِّقه آفات الفرقة والتعصب والتمييز على اختلاف انواعها. واننا نطمح الى ارساء قواعد عيش تكون نموذجًا لعالمنا، بدل أن نشوه قصد الله فينا فنكون صورة عكسية لما يطمح اليه انسان اليوم من السلام والوئام والتعاون على اساس المواطنة الحقيقية والصادقة.
لقد ارادنا الله، جلّت حكمته، معًا في هذه البقعة من العالم. واننا نقبل هذه الارادة برحابة صدر ونرجو ان تعمل هذه الارادة على توسيع قلوبنا بحيث تتسع للجميع مهما كانت انتماءاتهم المختلفة.
الی اخوتنا اليهود
ونتوجه اليكم انتم اخوتنا اليهود، مع الصراع الذي ادمى شعوبنا منذ مطلع هذا القرن. لقد ذهب ضحية هذا الصراع الفلسطيني الاسرائيلي والعربي الاسرائيلي الكثير من الأبرياء، وذلك لدى جميع الأطراف. ونجم عنه بصورة خاصة ظلم صارخ في حقّ الشعبَين الفلسطيني واللبناني.
ان الكتب المقدسة المشتركة تجمع بيننا، وكذلك مشاركتكم في الحضارة العربية في العصور الغابرة. ولهذا فاننا، في توقّفنا، أمام مستقبل هذا الشرق العزيز، لنرى ان لكم ايضاً، ولكل ذي نية صالحة، مسؤولية في اعادة السلام والعدل والاستقرار في مجتمعاتنا وفي الأرض التي تحوي مؤسساتنا.
وأول خطوة في طريق العدل والسلام والثقة المتبادلة مع تحرير الذات من الخوف. وهذا يعني التحرر من رؤية العداء المحتوم شعوب المنطقة، ومن ربط الأمن بالقوة والعنف. فالعدل هو الطريق الوحيد الى الأمن والسلام. وكذلك رؤية صورة الله في الخصم هي الطريق التي تؤدي الى الاعتراف المتبادل بحقوق الشعوب.
ولهذا فإننا ندعوكم الى الإنفتاح على الشرق وتغيير نظرتكم فيه، بحيث تتمكنون من فهم ومن ایجاد مکانکم فیه علی اسس جدیدة.
الى المسيحيين في العالم
اننا نشعر بالحاجة الى ان نتوجه الى اخوتنا المسيحيين في العالم لفتح آفاق جديدة من الحوار والتعارف والتبادل. في المشرق ولدت الكنيسة. ومنذ ذلك الوقت تواجدت جماعات مسيحية في هذه البقعة من العالم، حيّة بايمانها واسرارها وشهادتها. وانه ليحزّ في نفوسنا ان نرى اخوتنا المسيحيين في العالم لا يعرفون الا القليل عن هذه الكنائس العريقة في القدم، والغنية بالتراثات، والمتنوعة في تعابيرها الكنسيّة. ان كنائسنا أعطت الكثير للكنيسة الجامعة. ومن حق هذه الكنائس ان تنظر الى شقيقاتها في العالم منتظرة منها مزيدًا من المعرفة والتضامن. ان الكنيسة الجامعة تكتشف في كنائسنا تنوعًا يغنيها كما ان كنائسنا تكتشف في الكنيسة الجامعة امتداداً لرسالتها ودعوتها. وهذا ما يدعو الى التبادل المستمر بين كنائسنا في الشرق والكنائس في العالم كله في سبيل اثراء متبادل وتفهم أفضل لقضايا الشعوب التي تعیش في وسطها.
اننا نشكر جميع أخوتنا المسيحيين في العالم على كلّ ما بذلوه حتى اليوم من مساعٍ في سبيل دعمنا وتأييدنا في الأيام العصيبة التي مازلنا نجتازها. ونخص بشكرنا قداسة البابا يوحنا بولس الثاني لنداءاته المتكررة ولمواقفه العادلة والنبيلة في جميع الأزمات التي مرّت بها بلداننا المختلفة، ولا سيما أزمة الخلیج.
وانّا لندعو مع ذلك جميع المؤمنين في العالم، وبصورة خاصة اخوتنا قادة الكنائس، الى مضاعفة الجهود لدى رؤساء هذا العالم الممسكين بزمام الأمور للعمل على تنفيذ قرارات هيئة الأمم المتّحدة المتعلقة ببلداننا، والتي تنتظر التنفيذ منذ سنوات طويلة.
الى الأسرة الدولية
ان العالم يعيش على مفترق طرق. وفي هذا المفترق تبحث البشرية عن نظام عالمي جديد يتّسم بالعدالة والتساوي والتكافؤ، ويعطي كل شعب من الشعوب الحقّ في التعبير عن ذاته والمساهمة الفعلية في بناء هذا العالم الجديد، الذي يتطلّع اليه البشر أجمعين ويسعون الى تحقيقه. ان ايّ نظام عالمي جديد يستثني شعبًا من الشعوب، مهما كان صغيرًا، عن مائدة البشرية يكون دون الطموحات الانسانية.
وهنا لا بدّ من الملاحظة ان منطقتنا، بسبب موقعها الجغرافي والاستراتيجي والاقتصادي، تستقطب اهتمام العالم، لان الجميع يعرف ان استقرارها هو استقرار للعالم وخللها خلل له. وكم يحزّ في نفوسنا ان نرى الأسرة الدولية وقد حولت هذه المنطقة الى مسرح صراعات ودمار من أجل مصلحة مادية، أو نوايا أنانية، أو بدافع من روح الهيمنة. لقد حان الوقت أن تنظر الأسرة الدولية الى الشرق بمنظار جديد يتيح لهذه المنطقة من العالم أن تأخذ دورها الايجابي والخيّر والأصيل في بناء عالم جديد، بعيدًا عن المطامع والأنانيات، وبهدي من مبادئ حقوق الشعوب في التنمية والسلام والعدالة.
الشرق أحقّ بثروته
من المعروف ان منطقتنا تشكّل مخزونًا كبيرًا من الثروات. ومن السهل ان تتحول الى بؤرة صراع يقصد منه استئثار البعض لهذه الثروات وحرمان الآخرين منها، خاصة أهلها. من حقّ الشرق الذي لا يزال الجزء الأكبر منه يرزح تحت ثقل الفقر والتخلف والمعاناة ان يكون أول المستفيدين من ثرواته، على أن يكون أيضًا الاول في التوجّه الى توظيف هذه الثروات لخير البشرية جمعاء، خاصة الجزء الفقير منها، فتتقلص الهوة بين الدول الفقيرة والدول الغنية، بين دول الشمال ودول الجنوب، بين دول العالم الصناعي ودول العالم الثالث، وبين الأغنياء والفقراء في الوطن الواحد.
وفي هذا المجال لا يسعنا، الاّ ان نلفت النظر الى بعض المشاكل التي عانت منها المنطقة، ولا تزال، أشدّ أنواع الألم، والتي يوليها قداسة البابا يوحنا بولس الثاني باستمرار جلّ اهتمامه داعيًا الى حلّها حلاًّ عادلاً ومنصفًا يضمن للجميع حقوقه وكرامته.
أ – القضية اللبنانية
لقد عانى الشعب اللبناني الأهوال لسنوات عديدة وكان ضحية اقتتال رهيب خطّطت له أطراف متعدّدة. ولقد دخلت القضية اللبنانية طورًا جديدًا يأمل فيه جميع اللبنانيين ان يصبحوا أصحاب القرار وأن يجدوا فيما بينهم، بروح الحوار البنّاء والتبادل الصادق، صيغة لبنان المستقبل، صيغة تحترم الوضع الخاص الذي يعيشه لبنان والرسالة الأصيلة التي ما زال يحملها، عبر القرون. لقد اظهرت قسوة السنوات الماضية ان العنف لا يؤدي الاّ الى العنف وان الحوار الملتزم هو السبيل الوحيد الذي يضمن للبنان سيادته واستقراره وأصالته ودوره ورسالته وسلامة أراضيه.
وانّا نشكر لقداسة الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني ما خصّ به لبنان طوال سني المحنة من عطف كبير حمله على لفت النظر الى وضعه المأساوي باستمرار لما للوجود المسيحي فيه وفي البلدان المجاورة له من تفاعل خيّر بنّاء. انّا نطالب بالحاح المجموعة الدولية بإيلاء لبنان ما له من حق في تنفيذ قرارات أخذتها لمصلحته ولتمكينه من استعادة سيادته واستقلاله وبسط سلطته على كلّ أراضيه.
ب – القضية الفلسطينية
لقد عانى الشعب الفلسطيني، هو ايضًا ما لا يطاق من الآلام والتشرّد والتهجير والظلم وشتّ أنواع القهر والقمع والاذلال. ولا تزال القضية الفلسطينية شوكة في جنب العالم لا تجعله يستريح ما لم يقدم حلاً حقيقيًّا وشاملاً وعادلاً لها، على أساس الشرعة الدولية وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها وقرارات الأمم المتحدة. ان الحل العادل والشامل والدائم بعيدًا عن المساومات الضيقة الأفق، هو وحده القادر أن يعطي كلّ ذي حقّ حقّه ويضع حدًّا لمأساة تهاونت الأسرة الدولية حتى الآن في معاجتها معالجة جدّیة.
ان الأسرة الدولية تحمّلت مسؤولية جسيمة منذ بداية القضية، فلا يحق لها ادًا ان تتوانى او أن تتخلى عن هذه المسؤولية في ايجاد حلّ حقيقي للقضية الفلسطينية بعيدًا عن المقاييس المزدوجة او الانحياز لطرف دون آخر.
وضع القدس
وفي قلب القضية الفلسطينية يكمن وضع القدس، تلك المدينة التي قدّستها السماء وتعتبرها الديانات الثلاث، المسيحية، الاسلام واليهودية، جزءًا من تراثها الديني والروحي والحضاري. وعليه فان ايّ حلّ سياسي لا يستطيع أن يتغاضى عن هذا الواقع الصميم لمدينة القدس مما يدعو الى ايجاد صيغة فريدة لها يشعر كل مؤمن بالله مسيحيًا كان أم يهوديًا أم مسلمًا، انه على قدم المساواة مع غيره، من غير استثناء او سيطرة من جانب واحد. بهذه الطريقة تتحول مدينة القدس من مدينة الصراع والفرقة والنزاع والاقتتال الى مدينة سلام وتلاق وتآخ لأهاليها، وعلامة أمل ورجاء للعالم اجمع.
ج – الوضع في العراق والمنطقة
لقد كان بالامكان ان تحل الأزمة التي حصلت في الخليج بالطرق السلمية. غير أن القوى الكبرى فضّلت، خلافًا لما نادى به قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، طريق العنف والدمار. ولقد ذاقت منطقة الخليج الأمرّين من هذا الخيار ولا يزال شعب العراق يتعرض لسياسة وتدابير مجحفة تهدّده بالجوع وفرض عليه التهجير والحرمان من وسائل الحياة الأساسية بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرض عليه.
رفع الحصار
ان العمل على رفع هذا الحصار هو مطلب انساني يتيح للشعب العراقي ان يبني ذاته ويعود الى الاسهام مع الأسرة الدولية في بناء المنطقة وتطويرها على أسس سليمة. وهنا لا بد من الاشارة الى نتائج حرب الخليج وتسبّبها في نزوح أعداد كبيرة من جنسيات عربية مختلفة الى بلدانهم بعد ان فقدوا كل شيء في ظروف مأساوية أو هجرة عدد آخر الى بلدان المنطقة بسبب الظروف القاسية
الراهنة في بلادهم. وهذا قد تمّ تحت أنظار العالم وصمته. ان الأسرة الدولية تتحمل مسؤولية خاصة تجاه هذه المأساة ومن الضروري أن تعمل على وضع حدّ لها بكل الوسائل ومساعدة ضحاياها كي يجدوا ظروفًا انسانية تكفل لهم العيش الكريم والاستقرار.
ويطيب لنا أن نكرر هنا، ما قلناه في لقائنا في روما مع قداسة البابا يوحنا بولس الثاني وأساقفة الدول المعنية في حرب الخليج في آذار/مارس/١٩٩١: نرفض كل تبرير أو تفسير ديني قد يعزى الى حرب الخليج، اذ ليس فيها ما يمكن اعتباره صراعًا بين الشرق والغرب ولا صراعًا بين الاسلام والمسيحية.
خاتمة
لقد ذكرنا هذه القضايا الملحة دون أن ننسى غيرها من المشاكل الانسانية والاجتماعية التي يعاني منها، كل بلد من بلداننا. اننا جزء من هذه المنطقة ونؤكد تضامننا معها ونعلن عزمنا، كنائس ومؤسسات وأفرادًا على الاسهام، قدر طاقتنا في حلّ مشاكلها بروح الخدمة الصادقة والتعاون مع جميع الذين يريدون خيرًا لهذا الجزء من العالم. اننا نود أن نعمل مع الجميع في سبيل بناء الانسان واحترام كرامته وتأمين حرّياته الأساسية كي يكون عنصرًا ايجابيًا في بناء مجتمعه بعيدًا عن الخوف والقلق والقهر والكبت.
لقد عقدنا اجتماعنا هذا الأول في لبنان، وبعون الله سنعود الى الاجتماع بشكل دوري منتظم في المستقبل كي نتابع البحث في الخطوات العملية والمشاريع الملموسة خدمة لأبنائنا ومجتمعاتنا وأوطاننا واننا نطلب من الله أن يأخذ بأيدينا ويبارك نيّاتنا، كي نكون علامة حيّة لمحبته وسلامه، ونسهم في بناء حضارة الحياة والحب التي تدعو اليها الكنيسة جمعاء. في ختام هذه الرسالة نسأل الله ان يشملنا جميعًا ببركته السماوية فنكون واياکم بناة عدل وسلام، لمجده تعالى وخير الانسان في منطقتنا وفي العالم.
بكركي في ٢٤ آب (اغسطس) ١٩٩١
No Result
View All Result