الرسالة الراعوية الثالثة
معا أمام الله في سبيل الإنسان والمجتمع
“العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في العالم العربي”
بكركي ١٩٩٤
مقدّمة
السلام المنبثق من عيد الميلاد
١. اخوتنا الأساقفة والكهنة والشمامسة، أبناءنا وبناتنا من الرهبان والراهبات والمؤمنين، في جميع أبرشياتنا في البلدان العربية وفي المهجر، عليكم جميعًا سلام ربّنا ومعلّمنا يسوع المسيح، الذي تجلَّى في سر تجسده مجدُ الله، والذي بشّر الناسَ أجمعيين بالسلام: «المجدلله في العلى! والسلام في الارض للناس أهلِ رضاه!» (لوقا ١٤:٢). ان هذا النشيد الذي ترئَّم به الملائكة ليلةَ الميلاد، وسمعه الرعاة البسطاء، ما زال يتردد صداه في قلوبنا وفي جميع صلواتنا الميلادية.
رسالة راعوية جديدة
٢. نوجِّه اليكم مرة اخرى، ايها الإخوة والأبناء الأعزاء، نحن بطاركةَ الشرق الكاثوليك، وفي هذه السنة بمناسبة الأعياد الميلادية المجيدة، رسالة راعوية مشتركة تتناول العيشَ المشتركَ بين المسيحيين والمسلمين في هذه المنطقة من العالم، التي اراد الله ان تكون مكانَ تلاقينا وتفاعلنا وتعاوننا. فبعد ان وضعنا في رسالتنا السابقة الخطوط العامة لرسالة المسيحي وشهادته في العالم العربي١، نود في هذه الرسالة الجديدة ان نخص العلاقة الأخوية والبنّاءة، التي يجب ان تربط بين المسيحيين والمسلمين، بمزيد من التعمق والتفكير، خدمةً للعالم بأسره، علمًا بأن هذه العلاقة كانت موضع مداولات مطوّلة بيننا في اجتماعات الدورة الثالثة لمجلسنا، التي عُقِّدت في عمان في ایار (مايو) سنة ٠١٩٩٣
الدفع بالعيش المشترك الى الأمام
٣. ان الأسباب التي تدعونا الى التطرّق الى هذا الموضوع كثيرة، وأهمّها ان علاقتنا بإخوتنا المسلمين وبالإسلام تشكّل جانبًا مميّزًا واساسيًّا لهويّة كنائسنا ضمنَ الكنيسة الجامعة. إن العيش المشترك مع المسلمين هو عنصر اساسي من حياتنا المسيحية في هذه المنطقة العزيزة من العالم. وعليه فيجب ان يظل دائمًا محطّ اهتمامنا وتفكيرنا والتزامنا. وفي هذا المجال نتذكّر ما سبق وقلناه في رسالتنا السابقة: «إن حوارَنا هو حوار
1. الرسالة الثانية لبطاركة الشرق الكاثوليك “الحضور المسيحي في الشرق، شهادة ورسالة”، عيد الفصح ١٩٩٢.
مع إخوتنا المسلمين قبل كل شيء. إن العيش المشترك بيننا على مدى قرون طويلة يشكل خبرة اساسية لا عودةَ عنها، وجزءًا من مشيئة الله علينا وعليهم،٢. ونودّ ان نعمل دومًا جاهدين كي نعزّز هذا العيش المشترك، ونفتح له إمكانات وآفاقًا تقتضيها تحدِّيات العصر ومُستَجدَّاتُه، محليّا وعالميًا.
في عالم اليوم
بالاضافة الى هذا الدافعالبالغ الأهمية، فإنّنا لا ننسى أنّ العالم اليوم يسير بشكل مضطّرد نحو التلاقي والشمولية، بكل ما في ذلك من إمكانات وآمال وصعوبات وتوتّرات. فقد أشار المجمع الفاتيكاني الثاني الى تلك الظاهرة بقوله : «يُعتبر تعدّد العلاقات المتبادَلة بين البشر من أخص خصائص هذا العصر. وقد عمل التقدّم العلمي الحالي على تنمية هذه العلاقات تنمية واسعة». ويضيف قائلا: «غير ان الحوار الأخوي بين البشر لا يكتمل في هذه التطوّرات، بل يكتمل في ما هو أعمق من ذلك، اي في تجمّع الأشخاص الذي يقتضي الاحترام المتبادل لملء كرامتهم الروحية،٣. ومما لا شك فيه ان الديانات تلعب، في هذه الفترة التاريخية بالذات، دورًا خاصًا ومؤثرًا ومصيريًّا في مجال هذه العلاقات البشرية المتنامية. ولعلنا لا نبالغ اذا قلنا ان العيش المشترك بين البشر في الالف الثالث من تاريخنا يقرره التلاقي الإيجابي والبنّاء بين ابناء الديانات المختلفة على وجه العموم، وبين ابناء الديانتين المسيحية والاسلامية على وجه الخصوص.
وهذا كله يدعونا، بصفتنا كنائسَ تعيش في علاقة يومية ومباشرة مع المسلمين الى القيام بدورنا في هذا المجال، فنضع خبرة العيش المشترك، الحية والمميّزة، والتي تمتدَ جذورها الى قرون وقرون، في خدمة ذوي الإرادة الصالحة الذين يبحثون في عالم اليومعن طرق عيش مشترك تتّسم بالتفاعل الحقيقي والإيجابي بين خلائق الله في الأرض كلها.
في التضامن العميق مع كل إنسان في وطننا ومجتمعنا
٥. يعيش عالمنا العربي اليوم حالة «مخاض حضاري عميق. إنّه يبحث عن ذاته، وعن صيغة لوجوده، وعن موقع له في العالم يستطيع من خلاله ان يسهم في صنع الحضارة الإنسانية، وفي تثبيت دعائم الاستقرار والسلام، انطلاقًا من أصالة هويّته وفَرادة تراثه. ويجري هذا البحث وسط تحوّلات اجتماعية وجغرافية وسياسية واقتصادية وثقافية عميقة، ووسط صعوبات جمّة، داخلية وخارجية، تجعل ميلاده عسيرًا لا يخلو من مدّ وجزر، بين الإنجازات والتعثّرات»٤. وفي وسط هذه التحدّيات والتوتّرات والآمال والتطلّعات، لا يحقّ لنا، نحن مسيحبي العالم العربي، ان
2. “الحضور المسيحي في الشرق”، رقم ٤٨.
3. المجمع الفاتيكاني الثاني، “الكنيسة في عالم اليوم”، رقم ٢٣.
4. “الحضور المسيحي في الشرق”، رقم ١٠.
نبقى متفرّجين. إننا نودّ ان نعبّر، لا عن مخاوفنا وتساؤلاتنا فحسب، بل وقبل كل شيء، عن مشاطرتنا الحقيقية لمعاناة بلداننا في هذه اللحظة المصيرية، وعن تضامننا العميق مع انسان منطقتنا الذي «تألّبت عليه المحن من كل جانب في تاريخه المعاصر، حتى بات يعيش تحت علامة الألم والمعاناة، ويسير في درب الآلام وهو يحمل صليبه»°. هذا هو الانسان الذي نريد ان نشاركه البحث عن صيغة حضارية للعيش المشترك تخدم الانسان في عالمنا العربي وفي العالم بأسره.
یقظة دينية بامکاناتها ومخاطرها
٦. في خضمّ التفاعلات التاريخية الحالية، نلاحظ، محليًا وعالميًّا، يقظة دينية بارزة في مختلف المجتمعات البشرية، بكل ما تحمله من إمكانات لتجديد الطاقات الروحية في العالم الذي يعاني اليوم من فراغ روحي قاتل يجرّد الانسان من أسمى ما يميّز انسانيته، وبكل ما تحمله ايضًا من اللَيس والغموض، لا بل من مظاهر التعصب والعدوانية البارزة في بعض ممارساتها. وهذا ما يدعو الجميع الى التوقّف مليًّا والتأمّل برويّة، في جوّ من الصفاء الذهني والسكينة الروحية، كي يجعلوا من هذه اليقظة الدينية عنصرًا إيجابيًا في مواجهة ما يعانيه العالم المعاصر، وعالمنا العربي بشكل خاص، من صعوبات ومشاكل على جميع الأصعدة.
ان التوجّه الديني السويّ يمكن ان يكون عاملاً إيجابيًا في توجيه التاريخ المعاصر اذا ما عاد الى ينابيعه الحية، بعيدًا عن النزعات الطائفية والعدوانية. فالعودة الى الأصول يجب الا تتحوّل الى تزمت وجمود، والتديِّن الى تعصّب يشوّه الدين والمتديّن معًا.
ان الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية المضطربة، وما يرافقها من خلل في تطبيق الحق والعدالة في الأمة الواحدة، وبين الشعوب والدول، تدعو الى تضافر الطاقات الدينية والوحىة لتقوم بمسئولياتها فى عالم البوم م اجهة مشاکلها الگثيرة.
ان هذه الرسالة الراعوية تندرج في مجمل المحاولات والجهود الكثيرة التي تُبذل اليوم في هذا الاتجاه. ومما لا شكَ فيه، ان ترسيخ العيش المشترك، بالرغم مما رافقه ويرافقه من كبوات، سيسهم في تلافي العشرات والمآسي في بلداننا ومجتمعاتنا، كما إنه سيمكّننا جميعًا من الشهادة لتآلف حقيقي يتوق اليه عالم اليوم من أعماق وجدانه الحي.
موضوع الرسالة وروحانيتها
٧. نوجّه رسالتنا هذه الى إخوتنا وأبنائنا الأعزاء، ومن خلالهم الى جميع أبناء أوطاننا، وبالأخص الى المسلمين إخوتنا، والى ذوي الإرادة الصالحة في العالم. وإننا بذلك نضمّ اصواتنا الى الاصوات الصادقة الكثيرة في بلداننا وفي كل مكان، والداعية الى التلاقي الخلاق بين أبناء جميع الديانات.
ان العنوان الذي اخترناهلهذه الرسالة «معًا امام الله في سبيل الانسان والمجتمع، يشير الى الروحانية
5. “الحضور المسيحي في الشرق”، رقم ٥٣.
التي ترافق هذا التفكير وتنعشه. اننا نضع أنفسنا أمام الله قبل كل شيء، بكل خَشية وتواضع وثقة. فهو القدير الرحيم الحنّان الذي يُلهم خلائقه أجمعين كل عمل صالح، وهو الذي نستلهمه في كل خطوة من خطواتنا. وبعونه نتوجّه الى الانسان والمجتمع لنُسهم في بناء عالم أفضل، لاقتناعنا أن الله يتوجّه الى عالم الانسان ليُحْييه ويوحّده ويزرع فيه بذور التآلف، فيتمكّن البشر من بناء «حضارة المحبة، التي تمجِّد الله، والتي يتوق اليها انسان اليوم بكل جوارحه، بالرغم مما يعترض سبيلها من عقبات وعراقيل. واذا ما وضع المرء نفسه، فردًا وجماعة، في حضرة الله، الذي يفوق اسمه جميع الأسماء، فانه يتحوّل من مسكين وعاجز وخائف الى صاحب أمل وعمل وحميّة ورحابة في الذهن والفؤاد. فعليه سبحانه نتوكّل، وبروحه نعمل، وباسمه نستعین.
ولنا رجاء ان تكون هذه الرسالة موضوع تفكير في رهبانياتنا وفي الجماعات المسيحية في أبرشياتنا، وموضوع تبادل حقيقي بين هذه الجماعات ومواطنيهم المسلمين، لبلورة رؤية مشتركة للحاضر والمستقبل.
أقسام الرسالة
٨. قسَّمنا رسالتنا الى خمسة أقسام. ففي القسم الأول، العيش المشترك، من خبرة الماضي الى نداءات الحاضر، انتقلنا من خبرة الماضي الى واقعنا اليوم، ورأينا فيه تاريخًا مشتركًا فيه الايجابيات والسلبيات معا. وتوقَّفنا عند ثلاث قضايا هامَّة تواجهنا اليوم، وتتطلَّب منا تحليلا ودراسة، وهي المشاركة في الحياة العامة والأسرة والتربية الدینیة.
وفي القسم الثاني، كيف نبني المستقبل، رأينا أنّه يجب أن نستفيد من واقع عيشنا المشترك لنبنيَ مستقبلنا. وذكرنا السلبيات التي يجب التحرر منها، مثلالنزعات الطائفية والجهل المتبادل، والايجابيات التي يمكن البناء عليها مثل قبول التعددية ودور الخطاب الديني والبيت والمدرسة والكنيسة والجامع والمنشورات ووسائل الإعلام.
وفي القسم الثالث، من اجل مجتمع عربي متكافئ، عرضنا قضايا المشاركة في الحياة العامة ومن ثم لمفهوم المواطنية، ولقضية الدين والسياسة، والدين والعنف.
وفي القسم الرابع، مسلمون ومسيحيون في العالم، انتقلنا الى العلاقات المسيحية الإسلامية على الصعيد العالمي، وانعكاساتها علينا كما وإمكانية تأثيرنا فيها.
وفي القسم الخامس والأخير، توجيهات راعوية لأبنائنا، أبدينا بعض التوجيهات العملية لأبنائنا. فقلنا ان هذا العيش المشترك يقتضي من المسيحي العمل بوصية السيد المسيح وهي المحبة الشاملة والعامَّة. ولهذا يجب ان تستند جميع مواقفه على إيمانه المسيحي. وحتى يكون «الملح والنور> في مجتمعه، يجب ان تكون مواقفه مواقف عطاء وبذل وخدمةوتضامن روحي مع الغير.
القسم الأول: العيش المشترك
من خبرة الماضي الى نداءات الحاضر
٩. ايها الإخوة والأخواتالأعزاء، إنّ ابناء الكنيسة في كل زمان ومكان متأصّلون في مجتمعاتهم وهم جزء منها لا ينفصل عنها، وعليه فإنهم يشاركون جميع إخوتهم المواطنين في السراء والضراء، في وحدة الوطن والتاريخ والمصير. وغني عن القول، إن هذا التأصل في تاريخ بشري محدد، بكل ما فيه من حيثيّات وخصوصيات، هو احد جوانب سر الكنيسة الذي لا يتناقض مع جامعيّتها وشموليّتها.
فالكنيسة المحلّية هي الكنيسة الجامعة الموجودة في مختلف المجتمعات البشرية، والكنيسة الجامعة هي للكنيسة المحليّة ضمان وحدة الايمان والمحبة والرسالة والخدمة. بغير الكنيسة المحليّة تتحوّل الكنيسة الجامعة الى مفهوم ذهني مجرّد، في حين أنّ ديناميّة العلاقة الدائمة بينهما والشركة في ما بين الكنائس المحلية تبقى ينبوع حيوية وخصب وتجدّد لكنيسة الله «الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية» (قانون الايمان المسيحي).
وما التأصّل التاريخي لكنائسنا في مجتمعاتنا الا وجه من أوجه سر التجسّد: «والكلمة صار جسدًا وسكن بينناء (يوحنا ١٤:١). وهذا ما سبق وأكّدناه في رسالتنا الاولى٦. فكما اتخذ السيد المسيح، كلمة الله الازلي، طبيعتنا البشرية وتجسّد في تاريخنا، كذلك يُدعى كل مسيحي الى تجسيد ايمانه في الأرض التي أراده الله فيها، وفي الجماعة البشرية التي دعاه الى ان يكون جزءًا منها. على هذا الأساس المتين يترسّخ ارتباط المسیحي بإیمانه وبوطنه في آن واحد.
خبرة الماضي
١٠. يعود الحضور المسيحي في معظم البلدان العربية الى نشأة المسيحية. ويشهد التاريخ على وجود جماعات مسيحية عربية في مختلف مناطق الشرق. وبمجيء الاسلام في القرن السابع بدأ تاريخ مشترك جمع بين المسيحيين والمسلمين في الشرق العربي، وحضارة مشتركةورثت جميع الحضارات السابقة في هذه البلاد.
ولقد أدّت خبرة الماضي بالمسلمين والمسيحيين الى الانصهار في بوتقة واحدة هي الحضارة العربية، مع احتفاظ كل منهما بأصالته الدينية وخصوصيّات تقاليده. ويشكلهذا التراث الحضاري المشتر كضمانًا لاستمرارية التفاعل الذي يواجه اليوم مستجدّات لا بدّ من استيعابها، وإمكانات لا بدّ من بلورتها، وتحدّيات لا بدّ من مواجهتها. وهذا كله يفتح الأبواب واسعة أمام مستقبل هذه الخبرة بكل حيويّتها وأصالتها.
6. “الحضور المسيحي في الشرق”، رقم ٣٧.
على المستوى الثقافي
١١. ظهر التلاقي الاسلامي المسيحي في الماضي على المستويين الثقافيو الشعبي. أمّا على المستوى الثقافي فقد تعاون رجال العلم المسلمون والمسيحيون وعملوا جنبًا الى جنب لإرساء أركان حضارة مشتركة، تحوّلت فيما بعد الى منارة للإنسانية طيلة عصور كثيرة متعاقبة. واستمر هذا التعاون مدى الأجيالوظهر بنوع خاص في العصور الحديثة. وهذا إرث نفتخر ونعتز به، لأنه مرجع من
مراجع تأصلنا وأصالتنا وغنى عيشنا المشترك.
عندما وجدت اللغة العربية طريقها الى الجماعات المسيحية في منطقتنا، على اختلاف انتماءاتها الكنسية، أصبحت في الغالب وبسرعة أداة تعبيرها اللاهوتي والكنسي والطقسي واليومي. وهذا ما أسهم في بناء جسور التواصل بينها وبين هذا العالم الجديد الذي نشأ، كما أسهم في الوقت عينه في إعادة التواصل الثقافي بين مختلف كنائسها، بعد عهد من القطيعة والغربة.
ان التراث العربي المسيحي هو الوجه المشرق لهذا الغنى الثقافي في الكنائس المسيحية المختلفة في ظل الحضارة العربية. ولا بدّ من القول إن جزءًا كبيرًا من هذا الفكر نما وترعرع في علاقة بالاسلام، وهذا يعطيه طابعه الخاص والمميّز ضمن التراث المسيحي العام. ولقد أتاح التسامح الديني السائد في الحضارة العربية والاسلامية قيام حوارات دينية جادّة بين مسلمين ومسيحيين تجدر الإشارة اليها، بالرغم من روح الجدل العقيم الذي اتَّسم بها بعضها أحيانًا.
على المستوى الشعبي
١٢. وأمّا على المستوى الشعبي، فقد اندمج المسيحيون والمسلمون في مجتمع واحد يتقاسمون فيه «العيش والملح، ويقف الواحد منهم الى جانب الآخر في السرَّاء والضرَّاء، في ظل قيم مشتركة، وأنماط حياة خاصّة تجمعهم وتوحّدهم. وتكوّنت عادات وتقاليد لا تزال حتى اليوم تميّز مجتمعناوتدمغه بطابعها الخاص، لا فرق في ذلك بين مسلمين ومسيحيين. وطوّر الطرفان حكمة شعبية خاصّة بهم، تتّسم بالرزانة والتعقّل والصبر، استمداها من حضارتهما المشتركة، يواجهان بها صروف الدهر والخلافات التي يمكن ان تطرأ علیهما.
واليوم، بينما نواجه قضايا الحاضر ونتحسّس سبل المستقبل، يجدر بنا ان نستلهم هذه الحكمة الشعبية الأصيلة، التي صقلتها أجيال من التلاحم وأورثتنا اياها وبها نواجه المشاكل اليومية التي لا يخلو منها اي مجتمع من المجتمعات. ان ذاكرتنا الجماعية المشتركة ضمان لديمومة عيشنا المشترك.
سلبيات وظلال
١٣. مع كل هذا لا نودّ ان نغضّ الطرف عن السلبيّات التي علقت بهذه الخبرة. وقد يكون ذلك من صلب كل خبرة تاريخية. إنّ الظاهرة التي ذكرناها هي واقع تاريخي حيٍّ لا يمكن ان تخلو جوانبه المضيئة من ظلال. فقد عشنا معًا ايضًا فترات صعبة من التصلّب والقسوة والتعدّي.
ولقد لعبت دورًا مهمًّا في هذه الفترات الصعبة حساباتٌ سياسية وظروف نفسية واجتماعية واقتصادية ونزعات تعصّب ديني وأمزجة حكّام متقلّبين ونزعات طائفية وحروب دينية، وغيرها من العوامل. ومن الطبيعي ان تخلّف وراءها لدى الطرفين رواسب نفسية واجتماعية، لا بد من ان نأخذها بعين الاعتبار، لنعمل على تشخيصها ومداواتها، بينما نقف الآن على عتبة حقبة جديدة من علاقاتنا المتبادلة.
فمن لا يتصالح مع ماضيه بكل جوانبه يظل عاجزًا عن مواجهة حاضره ومستقبله مواجهة سويّة.
نداءات الحاضر
١٤. تشكّل خبرة الماضي حافزًا على الإصغاء الى نداءات الحاضر. فكل خبرة تاريخية تأخذ دورها الفعّال في حياة الشعوب بقدر ما تحتفظ بديناميّتها المستمرة. والا فإنها تتجمّد وتتحوّل الى أطلال نتوقّف عندها متغنّين بأمجادهامن غير ان يكون لها الدور الفعّال في حياتنا. فالمتغيِّرات العميقة التي تتعرّض لها منطقتنا تقتضي منا ان ندخل في حنايا خبرات الماضي لتكون منارة لنا. وما ينطبق على حياة الشعوب عامة ينطبق ايضا على خبرة العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في العالم العربي. وهي خبرة يجب ان نحافظ على حيويتها لتتنقّى وتتعمّق وتترسّخ في وجداننا الحضاري ولتتجدّد وتتماشى مع الظروف الحالية المستجدّة والدائمة التغيّر. ومما لا شكَ فيه ان العيش المشترك هو من القضايا المهمّة التي تواجه بلداننا، لأنّه عليه يتوقّف إثراء الوطن بطاقات جميع أبنائه او حرمانه منها.
مسؤولية متبادلة
١٥. وفي هذا المجال، نود ان نذكر ما قلناه في رسالتنا السابقة حول مسؤوليتنا المتبادلة في هذا الميدان، لاننا نعتقد انه يشكل منطلقًا يضع جميع المؤمنين من الديانتين امام مسؤولياتهم التاريخية: «في زمن المخاض الحالي الذي يحتاح عالمنا العربي، يبقى أنّ إحدى المشاكل الكبرى التي يواجهها، هي علاقته مع جميع الفئات الوطنية على اختلاف معتقداتها، ولا سيما مع المسيحيين الذين شاركوه «العيش والملح، منذ قرون طويلة. وهذا ما يلقي على المسيحيين والمسلمين مسؤولية متبادلة.
فالمسلمون يتحمّلون مسؤولية كبرى في هذا المجال لأنهم يكّونون العدد الأكبر في المنطقة، فهم مدعوّون الى طمأنة المؤمنين المسيحيين الذين يعيشون معهم في الوطن الواحد. فإذا ما أراد المسلمون في الشرق العربي أن يطوّروا ايّ مشروع لنظام اجتماعي وسياسي، فلا بدَّ منان يأخذوابالحسبان الجماعة المسيحية بشكل يعطيها الثقة. ولا يكفي المحافظة على حقوقها الدينية فقط، وانما الذي يبعث على الاطمئنان هو اعتبارها جزءًا لا ينفصل عن حياة المجتمع، وأنّها كاملة العضوية في الجماعة الوطنية، بكل ما لهذه الجماعة من حقوق وواجبات.
والمسيحيون من جانبهم يتحمَّلون مسؤولية مماثلة تدعوهم الى التخلّص من بعض المواقف الاجتماعية والنفسية السلبية التي خلّفها لهم التاريخ. واتّايمانهم قادر على أن يحرّرهم من كل ما يَحُول دون قبولهم لذواتهم ودون تلاقيهم مع الآخر، فيتحوّل حضورهم الى التزام ايجابي وصادق وحازم في حياة مجتمعاتهم7.
قضایا راهنة
١٦. لا يسعنا، ونحن نواجه الحاضر، الا ان نلفت النظر الى بعض القضايا الراهنة، لما لها من تأثير على العيش المشترك وتعميق جذوره وتوطيد أركانه.ونذكرها على سبيل المثال لا الحصر، لان مجالات العيش المشترك واسعة ومتشعّبة تشمل مجالات الحياة كلها التي لا تُعَدّ ولا تُحصى. نتوقف هنا عند المشاركة في الحياة العامة، وعند الاسرة والتربية الدينية والجهل المتبادل او الأفكار المسبقة التي تشوّه صورة الآخر.
ونرجو ان تكون هذه القضايا مادة حوار وتبادل آراء بين الإخوة يعزّز التلاقي والتآخي. ولنا أمل ثابت بأنّ مجتمعاتنا قادرة على حلّ مشاكلها، في جو من الصفاء والصدق والمصارحة. وعلينا ان نتحلّى بالصبر والتفهّم والحِلم والفطنة، التي لا يخلو منها مجتمعنا بالرغم من جسامة التحدّيات المختلفة التي یواجهها.
المشاركة في الحياة العامة
١٧. اولى هذه القضايا هي المشاركة في الحياة العامة في جميع أوجهها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها. ان المشاركة في الحياة العامة حقّ لكل مواطنوواجب عليه. وهذا ما يتطلب من المجتمع نفسه ان يوفّر الشروط المؤاتية الضرورية التي تكفل ممارسة هذا الحق والقيام بهذا الواجب.
فمن حق كل فئة وطنية أن تُسهم في بناء المجتمعبجميع مجالات الحياة الوطنية فيه (أجهزة الدولة والمؤسسات العامة والخاصة والوظائف والمصالح الاقتصادية وغيرها). وهذا يعني الا يُهَمَّش احد لسبب انتمائه الديني او لأيّ سبب من الأسباب، بل تُتاح الفرص لكل مواطنٍ، أيًا كان، ومهما كانت عقيدته، لكي يجد موقعه في الحياة العامة بعيدًا عن الحدود والحساسيات الطائفية.
ومن ناحية اخرى، فمن واجب كل فئة وطنية مهما كان انتماؤها الديني ان تولي الشأن العام وخدمة المجتمع جُلّ اهتمامها، فتقوم بواجبها بكل تفان وصدق وأمانة بعيدًا عن النزعات الانعزالية التي تحرم المجتمع عطاء جميع ابنائه. لا يزال الطريق أمامنا طويلا قبل ان نصل الى مجتمع تتكافأ فيه الفرص للجميع، بعيدًا عن اي تمییز.
7. “الحضور المسيحي في الشرق”، رقم ٤٩.
ومع ذلك لا بد من مواصلة الجهد في هذا الاتجاه.
الاسرة
١٨. والمجال الثاني هو الأسرة وكل ما يتصل بها، ولا سيما الزيجات المختلطة بين المسلمين والمسيحيين والتي قد تُحدث المآسي في البيت والمجتمع. وقد يحصل احيانًا ان بعض المسيحيين انفسهم، لافتقارهم الى العمق الديني، يستغلّون حماية القوانين الدينية الاسلامية، ليتهربوا من واجباتهم الزوجية والاسرية. ومهما كانت القوانين الدينية في الاسلام والمسيحية مختلفة، ومهما كان من الصعب التوفيق بينها، فان هذا لا يعفي المسؤولين وأولي الامر في كلا الديانتين من تنظيم الامور وتلافي ما يعكّر صفو المجتمع الواحد. ومن الملاحظ ايضًا ان المتهربين من واجباتهم الزوجية، واللاجئين الى قوانين الدين الاسلامي، قد لا يهمّهم غالبًا امر الدين في شيء، وانما هم فقط مستغلون للدينواصحاب اغراض انانية. والمهم في الامر انه لا بد من ايجاد آلية اتصال بين الطرفين، تناقش بموجبها كل حالة بمفردها، فلا يشعر أيّ طرف بالكبت او الغبن. وهذا بدوره يساعد على إرساء قواعد حياة أُسَرِيّة سليمة، ولا سيما في هذا الوقت الذي اخذت فيه هذه الخليّة الأساسية تتداعى شيئًا فشيئًا، اذ تتعرّض لشتّى أنواع الانحلال التي تتنافى مع قيمنا الشرقية الأصيلة.
التربية الدينية
١٩. والمجال الثالث هو التربية الدينية. ففي معظم البلدان العربية التي توجد فيها جماعات مسيحية عريقة، تتمتّع الكنيسة بالحرية الدينية في تربية أبنائها في كنائسها، وفي مدارسها حيث يتاح لها ان تنشئ مدارس خاصة بها، واحيانًا في المدارس الحكومية ايضا. ومع ذلك، يظل الطالب المسيحي في المدارس الحكومية موضع قلق لنا في بعض البلدان العربية، حيث لا تُوَفَّر له، بخلاف زملائه المسلمين، التربيةُ الدينية اللازمة في مدرسته الحكومية نفسها. وفي بعض البلدان لا يُتاح له ذلك حتى في المدرسة المسيحية الخاصة.
ان التربية الدينية، اسلامية أو مسيحية، دعم للقيم الروحية التي تقوم عليها مجتمعاتنا. وكل مواطن ينشأ على معتقده الديني هو ثروة روحية ورصيد بناء للمجتمع كله. وحبذا لو نشأ تعاون صادق بين أجهزة الدولة وبين الكنائس المسيحية، كما وبين المثقَّفين والعلماء المتخصِّصين من الطرفين، لكي نجد معًا الطريق الأمثل في هذا المضمار، مستفيدين من الخبرات الجارية في بعض الدول العربية.
ويشمل هذا المجال ايضًا الكتب المدرسية التي لا تأخذ بعين الاعتبار الطالب المسيحي وواقع تعدد الأديان والثقافات في وطننا العربي. وهذا ما يسبِّب لدى الطالب المسيحي اضطرابًا في عقيدته، فيصبح في تردُّد بين العقيدة المسيحية التي يؤمن بها ويتشرّبها في الاسرة والكنيسة وبين ما عليه استيعابه منذ نعومة اظفاره في المدرسة، من خلال الكتب المقرّرة. وهذا كله يؤدّي به الى الشعور بالغربة في وطنه وبين زملاءله من المفروض ان يبني معهم فيما بعد معالم المستقبل.
الأوهام والأحكام المسبقة
٢٠. ان ظاهرة الأوهام والأحكام المسبقة معروفة في علاقات الفئات الاجتماعية المختلفة، لا بل وفي علاقات الأفراد انفسهم. وإنها تشكّل عقبة كأداء في وجه التعامل السوي والمثمر بين الافراد والجماعات الانسانية. ومن المعروف ايضًا ان هذه الاوهام والاحكام المسبقة، التي بها نصنّف الآخرين، تنشأ في القلب البشري وتتحكّم به وتوجّهتصرفاته وردود فعله، بعيدًا عن أيّة عقلانية او موضوعية، مسبِّبة الخلل والتمزّق في نسيج الحياة الاجتماعية.
وهذا ما يحصل في مجال العلاقات المسيحية الاسلامية في بلادنا، حيث يتوارث الطرفان أوهامًا وصورًا خلّفتها الأجيال من غير تمحيص وحوّلتها الى أحكام مسبقة سلبية بالنسبة الى الطرف الآخر.
ولذلك كثيرًا ما نرى لدى كل من الطرفين خوفًا متبادلاً لا أساس له، وتأويلات طائفية لا مبرِّر لها، إثر صدامات فردیة او حوادث اخرى عادية ليس لها اية صلة بالدين.
وقد يفتقر مجتمعنا الشرقي في كثير من الاحيان الى التصرّف العقلاني اللازم، مما يجعله ضحيّة سهلة للإشاعات والأقاويل والتأويلات والانفعالات المتسرّعة. وعندما يكون الدين موضوع هذه المشاعر، فمن السهل ان نفهم آليّة الدمار والفتنة التي تنجم عنها، في مجالات الحياة الفردية والعامة. وهذا يفرض على المسؤولين من كلا الطرفين الحيطة والحذر والسهر، والعمل على تحديد هذه الظاهرة وتحليلها ووضع حدَّ لها عن طريق حوار منتظم، ضمانًا لاستقرار المجتمع والوطن.
القسم الثاني: كيف نبني المستقبل؟
٢١. ان أوّل واقع يجب الانطلاق منه لتدعيم العلاقات بين المسيحيين والمسلمينوتطويرها هو واقع العيش المشترك القائم اليوم في جميع بلدان الشرق الاوسط، بالرغم من الخلل الذي لحق بهذه العلاقات لأسباب متعددة داخلية وخارجية، منها الحروب الأهلية التي اتخذت طابعًا طائفيًا والأغراض السياسية المحلية والعالمية، ونزعة التعصب الديني لدى بعض الفئات وما تؤدي اليه من تصريحات او أعمال عنف، وما تقوم به بعض وسائل الإعلام من وصف غير موضوعي للعلاقات القائمة بين المسلمين والمسيحيين في المنطقة. ناهيك عن المشاكل الاقتصادية والمعيشية الجمّة التي تواجهها مجتمعاتنا والتي يجد فيها التطرف بكل أنواعه غذاء ومرتعا.
بالرغم من ذلك كله، فإنّ خبرة العيش المشترك التي عشناها في الماضي لا تزال صامدة امام كل العقبات والعراقيل. فهناك إيجابيات كثيرة وقواعد كثيرة سليمة، ومودّة حقيقية تربط بين المسيحيين والمسلمين على جميع الأصعدة المدنية والدينية، وفي مختلف شرائح المجتمع. ويجمع بينهم، بالرغم من الاختلافات الأساسية بين الديانتين، الايمان بالله الواحد، كما يجمع بينهم الانتماء الى وطن واحد والارتباط بمصير واحد. وهذا كله يشكّل منطلقًا متينًا للجهد الرامي الى ترسيخ العلاقات بين الإخوة وتوطيدها في الحاضر والمستقبل.
مهما قيل ومهما ظهرت السلبيات التي لا بد منها، لا أحد يستطيع ان ينكر الواقع البديهي وهو أن المسلمين والمسيحيين في بلداننا العربية ينتمون الى وطن واحد ولهم فيه مصير واحد وأحاسيسهم وردود فعلهم واحدة امام التحديات العالمية والمحلية. وفي ما يلي نلقي الضوء على بعض النقاطالتي من شأنها ان تُنميَ العيش المشترك وان تفتح امامنا آفاقًا جدیدة.
جرأة روحية على مواجهة الحقيقة
٢٢. ان الحوار الذي يجب ان تقوم عليه كل علاقة بشرية يقتضي، قبل كل شيء، جرأة روحية على مواجهة الحقيقة. عندما نتناول موضوع العلاقات المسيحية الاسلامية، فإنه من السهل ان نلجأ الى المجاملات واعلان المبادىء النظرية، متغاضين عن مواجهة حقيقة الامور. ويذهب بعضهم الى حد القول إنه من غير الضروري إثارة مثل هذها لقضايا لشدّة حساسيّتها، وخوفًا من تفجير سلبيات لا يقوى أحد على ضبطها بعد انفلاتها.
اننا نعتقد أنّ مثل هذه الهواجس غير صحّية في مجتمع يريد ان يطوّر مشروعًا حضاريًا حقيقيًا. فالمجتمعات الأصيلة هي تلك التي تمتلك القدرة على مواجهة الواقع في حقيقته، بكل أوجهه ومظاهره، بصدق وايجابية وموضوعية، بغية اصلاح ما يتعثّر، وتلافي السلبيات التي قد تطرأ، لما هو في مصلحة المجتمع ككل. لا ينفع احدًا في هذا المجال جهل السلبيات او تجاهلها او التهرّب منها او التكتّم على ما يجري على ارض الواقع، والاستعاضة عنها بالمجاملات التي قد نغطّي بها عجزنا او جبننا في مواجهة الحقيقة، والتي قد تخفي وراءها، في بعض الاحيان، ميولاً عدوانية لا يجرؤ المرء على مصارحة النفس بها. وتتطلّب هذه المصارحة التمييز بين المبادىء السامية التي نجدها في كل من المسيحية والاسلام، وبين الممارسات العملية على ارض الواقع، لدى المنتمين الى الديانتين، والتي قد تخالف المبادىء السامية التي تنادیان بها.
من جهة اخرى نؤكد ان هذه المصارحة يجب ان تتِمّ بنية حسنة وبالمحبة والصدق وفي سبيل المصلحة العامة، بعيدًا عن التجريح والجدل العقيم والتهجّمات والتشكيك في الآخر وتصنيفه تصنيفًا ذاتيًّا ومجحفًا.
والا فإنّنا نوسّع الهوّة، بدل سدِّها وتسويتها.ولا ننسَ ایضًا ان هنالك من يطیب لهم ان یستغلوا هذه القضایا بسوء نية، مما يقتضي ان نظل جميعًا على حذر، كي نتقدم على ارض صلبة، واعين وعيًا كاملا جميع ابعاد الوضع بالرغم من حساسياته الكثيرة. اننا ندعو ابناءنا جميعًا الى الحذر من هؤلاء الذين يحدون من مصلحتهم زجَّ مجتمعنا في متاهات، يكونون هم فيها دائمًا المستفيدين، ونحن جميعًا الخاسرين. ان الحق في المحبة هو النهج السليم الذي نهتدي به. فالحق يحرر، والمحبة تجمع بين القلوب: «تعرفون الحق والحق يحرركم> (يوحنا ٣٢:٨).
النزعة الطائفية
٢٣. لعلنا نخدع انفسنا اذا تجاهلنا واقع النزعة الطائفية لدى كل منا، لدى المسيحيين والمسلمين على السواء، بوعي او بغير وعي، بشكلها الظاهر او المبطن. وقد تظهر هذه النزعة على السطح لأتفه الأسباب وأوهاها. فإذا ما اختلف اثنان مثلا في أمر ما وكان الواحد منهما مسيحيًا والآخر مسلمًا تَحوَّل الاختلاف الفردي، إثر كلمة طائشة او تصرّف أهوج، الى نزاع طائفي ولربما الى فتنة عامة. ومن المؤسف ان مثل هذه الحوادث تثير في جماعات بأكملها المشاعر السلبية، وتشعل العصبية الدينية العمياء التي تعطّل العقل وتنفي كل القيم الروحية والدينية.
اما الذين اتخذوا من التعصّب الديني نهجًا لهم – وقد نجدهم في اي مجتمع – فاننا نرجو ان يجدوا في وعي المجتمع ككلحصنًا منيعًا تتكسّر على أسواره جميع أشكال التطرّف والتعصّب. يجب ان تتعاون جميع المؤسسات الاجتماعية والدينية لاستئصال هذه الظاهرة عن طريق تخطيط تربوي شامل وعمل دؤوب يتَّسم بروح المودَّة والمشورة الحسنة.
التحرّر من الجهل والأفكار المسبقة
٢٤. قيل ان الانسان عدو ما يجهل. وهذا ما ينطبق الى حد كبير على المسلمين والمسيحيينفي واقع عيشهما المشترك. كثيرًا ما يجهل كل من الطرفين من هو الآخر في حقيقة ذاته ومشاعره وطموحاته. ومن ثم يرسم كل واحد لنفسه صورة عن الآخر انطلاقًا من مخاوفه وشكوكه. ومن باب الدفاع عن النفس فيرسمها صورة عدوانية، بدلا من ان يرى في الآخر شريكًا له في البناء.
ولهذا نقول للمسيحي: تحرّر من الأوهام والجهل، واسعَ جاهدًا لكي تفهم فهمًا مباشرًا ما هو الاسلام، ومن هو المسلم. ولا تتوقّف عند أقاويل مبتذلة او معلومات سطحية تشوّه الحقيقة. وللمسلم ايضًا نقول القول نفسه: تحرّر من الاوهام والافكار المسبقة، وحاول ان تعرف ما هي المسيحية ومن هو المسيحي معرفة مباشرة، ولا تكتفٍ بالافكار السطحية والمشوِّهة، وحاول ان تنظر الى الواقع المعاش اليوم لتطّلع على كل ما يدور فيه لتتدارك الصدامات، وتبثّ الطمأنينة في المجتمع كله. وللمسيحي والمسلم نقول: ليس احدكما عدوًّا للآخر ولا مهدِّدًا لكيانه او معوِّقًا لنموِّه. بل على العكس من ذلك انه أخ وصديق وجار وشریك یغتني بغناه وينمو بنموّه.
وهذا كله يتمّ بالحوار المستمر والتلاقي الشخصي المباشر والأخوي، الذي يتيح للطرفين ان يكتشف الواحد الاخر، بعيدًا عن القوالب الجاهزة والافكار المسبقة. ان حضارتنا العربية هي حضارة الوجه، والوجه لا نكتشفه الا بالتلاقي الودّي والتحاور الحقيقي والتخاطب المباشر. عندئذ تسقط الحواجز النفسية والاجتماعية، التي تحول دون معرفة الآخر والاعتراف به. يجب ان يفهم كل واحد الآخر كما هو وكما يفهم ذاته وكما يُحِبُّ ان يُفهَم.
قبول التعددية والتنوّع
٢٥. من شروط العيش المشترك اذن معرفة الآخر والاعتراف به وقبوله كما هو، ولو كان مختلفًا عنا. ان عددًا من المشاكل تنجم عن رفضنا لمن هو مختلف عنا، لاننا ننظر اليه وكأنه خطر علينا او تهديد لنا او حتى نفيٌ لوجودنا وهذا ما يجعل التنوّع والتعدّدية في المعتقد وفي نهج الحياة مصدر خلاف وعداوة في كثير من الأحيان، بدلا من ان يكون مصدر غنى متبادل للافراد والمجتمعات. وعليه فالمسيحي لا يمكن ان ينتظر من المسلم ألا يكون مسلما، ولا المسلم من المسيحي الا يكون مسيحيا، بل على المسيحي ان يحترم اخاه المسلم في اسلامه، وعلى المسلم ان يحترم اخاه المسيحي في مسيحيته. ومتى قبلنا الآخر بهذا الشكل، فالسبيل سالك امام التفاهم المتبادل والمحبة، والمحبة بدورها تفتح الابواب امام التعاون والمشاركة. وبهذين الاعتراف والقبول، بما فيهما من محبة وتعاون، لا يضحّي اي جانب بذاته وبما يميّزه، بل يفترض في صاحبه عمقًا في الايمانوثقة بالنفس تفسح المجال للتعامل مع الآخر، بعيدًا عن عقدة النقص او الاعتلاء. فعلى المؤمن ان يكون قويّ الايمان، عارفًا نفسه وهوّيّته، بحيث لا يخاف التعرّف الى أخيه المختلف عنه، ولا يمتنع عن الاغتناء بكل ما لديه من قيم وثراء.
يتّسم مجتمعنا العربي بالتنوّع والتعدّدية الواسعة على مستويات متعدّدة، ومنها التعددية الدينية. وهو يتّسع لجميع ابنائه. والتعددية لا تتناقض مع وحدة المجتمع وتآلفه وانسجامه، فالتنوُّع ثراءللوطن الواحد الذي تغنيه كل الفئات بأصالة قيمها وعطائها وابداعها. وعليه فمن الضروري ان يُعطَى هذا التنوّع فرصة التعبيرعن ذاته وتطوير خواصِّه من غير حرجفي إطار خيرالوطن العام. ان أيّ مشروع وطني لا يأخذ في الحسبان واقع التعددية، او يعجز عن التعامل معها تعاملا ايجابيا، يحكم على نفسه بالفشل.
الخطاب الديني
٢٦. للخطاب الديني أصول وأدبيّات. وهو في حد ذاته يوجِّه الى الايمان بالله والى محبة جميع خلائقه البشر على اي دين كانوا. واما اذا تحوّل الى تهجّم وتشويه للحقيقة فهو يلحق الضرر بجميع الاطراف.
والخطاب الديني التهجّمي يتلقّفه الشارع المسيحي والاسلامي ليحوّله عفويًّا الى تعصّب ديني أعمى، يتنافى مع العيش المشترك ومتطلباته. قد يذهب البعض مع الاسف الى الظنّ بأنّ سلامة معتقدهم تقوم بتشويه معتقد الآخر والتهجّم عليه. ان في هذا الموقف سطحية واضحة، وبالإضافة الى ذلك فإنّه يؤدّي الى تصوير الآخر بصورة العدو، وبالتالي يحمل المؤمنين الى التنافر والعداء المتبادل. وهذا ما يهيئ الظروف النفسية لتصفية الآخر والتخلّص منه معنویًا او جسدیا.
ولهذا لا بدّ من تطوير الخطاب الديني لدى الجانبين، بمنأى عن روح الجدلالعقيم، الذي لا يفلح أبدًا في إقناع الآخر، بل ينعكس سلبيًا على العلاقات الشخصية والجماعية. وعليه فإنّنا ندعو المفكّرين واللاهوتيين المسيحيين في عالمنا العربي الى تطوير رؤية جديدة تُنصف الاسلام من غير مجاملات. كما نُهيب بالمؤسسات العلمية المسيحية ان تُدخل الاسلاميات في سياق برامجها الاكاديمية بالتعاون مع أساتذة مختصّين.
وهو الجهد عينه الذي ندعو اليه العلماء المسلمين والمؤسسات العلمية الاسلامية، لتفهّم الدين المسيحي. فاذا ما أتيح للمسيحيين ان يسمعوا ما يقوله المسلمون عن انفسهم، وللمسلمين ان يسمعوا ما يقوله المسيحيون عن انفسهم، حينئذ تحصل المعرفة الحقيقية والموضوعية المتبادلة. وهذه هي المعرفة التي من شأنها ان تهدم الجدران التي تعزلنا بعضنا عن بعض وان تخلق الاجواء الملائمة للتواصل والتعاون ومتابعة السعي نحو الهدف المشترك.
دور المراجع التربوية واولها البيت
٢٧. تلعب المراجع التربوية دورًا اساسيًا في هذا المجال. فهي التي يمكن ان تسهم إسهامًا فعّالا في تذويب الصور التي يتبادلها الطرفان عبر مرايا مشوِّهة. كل مشروع وطني لا يتحوّل الى مشروع تربوي يظل في نطاق الأماني الجميلة البعيدة عن التطبيق العملي. فالمراجع التربوية هي المكان التي تصقل فيها الشخصية الانسانية وتتأصّل فيها القيم التي يودّ المجتمع ان يزرعها في ابنائه. ونتوقّف في ما يلي عند بعض هذه المراجع، وأوّلها البيت.
ان الأسرة هي اولى قنوات الاتصال بين المجتمع والافراد. وهي الوسيط الحضاري بينهما، اذ تأخذ من المجتمع، بحكم تلاحمها معه، مجموعة القيمو المفاهيم الايجابية والسلبية، وتنقلها الى ابنائها الذين يقبلونها بغير نقاش، لتكون سبيل اندماجهم في المجتمع.
من هذا المنطلق يجب ان نتساءل عن مظاهر النزعة الطائفية التي قد نجدها في بيوتنا، مسيحيين ومسلمين، على حدّ سواء، في القول والفعل وردة الفعل وفي المسلك والتصرف. فماذا يسمع الطفل في بيته عن «الطرف الاخر»؟ وما هي ردود الفعل العفوية التي تسجلها نفسه الفتية في هذا المجال؟ ما هي السلوك والتصرّفات التي يرصدها عندما يتردّد على مجالس البالغين؟ حبّذا لو أُجْريت دراسات ميدانية مشتركة تجيب عن هذه الاسئلة لتساعد المراجع التربوية على اتخاذ الوسائل الضرورية لتنمية نموذج عيش مشترك حقيقي، انطلاقًا من البيت المسيحي والبيت المسلم.
المدرسة
٢٨. من المعروف ان الطلاب المسيحيين والمسلمين يجلسون جنبًا الى جنب على المقاعد المدرسية، سواء اكانت حكومية ام خاصة. وهذا بحد ذاته يسمح بالتفاعل والتعارف والاكتشاف المتبادل. ولهذا يجب ان يدخل واقع العيش المشترك في صميم المشروع التربوي ليصبح واقعًا ملموسًا في البرامج المدرسية؟ ان تراث العيش المشترك الذي نفتخر به يظل في دائرة الأماني والتصريحات الخطابية ما لم يتجسّم في رؤية واضحة نتبنّى تلقينها لطلابنا وطالباتنا على مقاعد الدراسة، عن طريق كتبهم المدرسية والمبادرات التربوية المنهجية واللامنهجية وتأهيل معلمينا ومعلماتنا.
وغنيّ عن القول إن التربية الدينية تلعب دورًا حاسمًا في هذا المجال. فهي التي تُعنى بإيصال المفاهيم الدينية وتنشئة الطلاب عليها. وفي إطارها لا مفرَّ من التعرّض لذكر مبادئ «الدين الآخر، سواء في مناهج التربية الدينية نفسها ام من خلال اسئلة الطلاب واستفساراتهم. وهنا يأتي دور المربي ليوجّه الطلاب توجيهًا سليمًا في الاحترام للحقيقة التي يؤمن بها، وفي احترام الآخر في دينه وعقيدته. فكيف يوجّه الطالب المسيحي في ما يختص بالمسلمين والاسلام في حصص التربية الدينية؟ وكيف يوجّه الطالب المسلم فيما يختص بالمسيحيين والمسيحية؟حبّذا لوجرى في هذا المجال تعاون ما بين معلمي التربية الدينية من الطرفين بغية التعرّف الأخوي المتبادل بينهما وبين طلابهما بفطنة ودراية، حيث لا يُطلَب من أيِّ منهما ان يُسقط هويته وأصالته امام الآخر، بل يُطلَب ان يحترم احدهما الآخر.
الجامع والكنيسة
٢٩. اذا تذكّرنا ان الدين يلعب دورًا اساسيًا في صقل شخصيتنا الانسانية في هذه المنطقة من العالم، فيمكن ان ندرك ما هو تأثير المنابر الدينية على سلوكيات المجتمع وتوجّهاته. ومما لا شك فيه ان الجامع والكنيسة هما من اهم هذه المنابر. وجميعنا يعرف تأثير الجامع على المجتمع الاسلامي وتأثير الكنيسة على المجتمع المسيحي. فمن هذه المنابر تنطلق توجيهات دينية واجتماعية يتلقفها الناس بشغف وانتباه. وقد تنطلق من المنابر نفسها أصوات الفتنة المخالفة لجوهر الدين، او أصوات المحبة والتسامح والتآخي التي تنادي بها جميع الأديان. وهنا نتمنى ونريد ان يسمعكل واحد عن الآخر، في الجامع وفي الكنيسة، ما يُشيع الارتياح والطمأنينة في القلوب.
الانتاج الفكري والمؤسسات الاعلامية
٣٠. يأخذ الاعلام أهميّة متنامية في خلق الرأي العام وصقله وتوجيهه. ان وسائل اعلامنا المكتوبة والمسموعة والمرئية يجب ان تأخذ دورها في هذا المضمار، لتسهم في خلق رأي عام،عقلاني ومتسامح، ينبذ تلقائيًا النعرات الطائفية ويعزل اصحابها. وهنا نلفت النظر الى الضرر الذي ينجم عن عدد من الكتب التي تقدِّم صورة مشوَّهة عن المسيحية (عن العقيدة ونظام الكنيسة والحياة المسيحية والتاريخ … ). ويضطرب المسيحيون ازاء هذه المنشورات، كما وازاء بعض برامج وسائل الاعلام التي تهاجم المسيحية بطريقة غير منصفة. وفي معظم الحالات تتعذر إمكانية التصحيح او الرد الموضوعي والاخوي. وهذا يؤثر تأثيرًا سلبيًا في الجو العام وفي الشباب المسيحي، ويولّد في النفوس مرارة وكبتًا.
وهذا طبعًا يجب الا ينسينا الكتب والمطبوعات وغيرها التي تعنى بالشأن المسيحي بطريقة الجابية والتي يمكن ان تشكل أساسًا للحوار النافع والمثمر بيننا. وفي الوقت عينه نلاحظ ايضًا في الأوساط المسيحية تداول بعض الكتب التي تقسم بطابع الجدل العقيم واللاموضوعي حيال الاسلام والمسلمين. وهو امر ننبذه نبذًا صريحا لانه يثير النعرات ويغدّي العداواتونذكر هنا ايضًا أنّ مفكرين مسيحيين عربًا كثيرين أثرَوا ولا يزالون يُثرُون المكتبة العربية وحتى العالمية ببحوث تتناول الدين الاسلامي والحضارة الاسلامية بموضوعية تثير الإعجاب والتقدير. ومن الوسائلالفعّالة لتدعيم العيش المشترك تأليف مطبوعات مشتركة يسهم فيها المفكرون المسلمون والمسيحيون معًا.
القسم الثالث: من اجل مجتمع عربيّ متكافئ*
٣١. يجري حاليًا في العالم العربي، وفي ظروف تختلف من بلد الى آخر، بحث جادّ ونقاشواسع حول النموذج الأمثل لنظام المجتمع من مختلف جوانبه. ويأتي هذا البحث على خلفيّة الاوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية، التي خلّفتها لنا العصور الماضية، بما فيها من استغلال وتخلّف وفقر وفساد واستبداد داخلي وخارجي. ومع الايام يزداد هذا البحث وهذا النقاش حدّة وإلحاحا، ويصل في بعض الاحيان الى حدّ العنف المعنوي او الجسدي. ولقد تعدّى هذا البحث الدوائر الفكرية والثقافية ليصل الى القاعدة الشعبية، عن طريق نماذج مقترحة متعددة ومتباينة، لا بل متصارعة ومتناحرة. وانه ليدمي قلوبنا حقًا ما يحدث اليوم في بعض البلدان العربية من اقتتال واعمال عنف يذهب ضحيتها اخوة لنا واخوات، ايًا كانوا، واينما كانوا في الوطن العربي الكبير. وهي اعمال تؤدّي الى المزيد من التصلّب والتطرّف الذي يفكّك المجتمع، ويعطّل مسيرته ويعرقل سبل التفكير الهادئ في كل ما تعاني بلادنا من مشاكل تستدعي تضافر الجهود لإيجاد الحل المناسب لها.
واذ نعرب عن تضامننا العميق مع مجتمعاتنا في ما تواجهه من تحدّيات وصعوبات وآلام، فاننا نود ان نقوم بدورنا قدر المستطاع في هذا المجال مهما كان متواضعًا. اننا نعرف تمام المعرفة ان المسائل المطروحة شديدة الحساسية والتعقيد. وهذا ما يدعونا الى الإصغاء والحوار والتأنّي والتعاون مع الجميع بغير استثناء، كي نصل معًا الى بلورة صيغة مقبولة تتيح لمجتمعاتنا ان تخرج من المأزق التاريخي التي وصلت اليه في هذا الظرف الصعب والدقيق. واننا نُهيب بالجميع ان ينهجوا منهجًا يحتكم الى العقل والايمان، لا الى الإكراه عن طريق السلاح والعنف.
ونَوَدُّ ان نتوقف في ما يلي عند بعض المواضيع الأساسية التي تهم عيشنا المشترك وبناءَ المستقبل في مجتمعاتنا وبلداننا.
المواطنية
٣٢. تقوم المواطنية بالتأصّل في الارض والشعب وبالولاء الحقيقي للوطن والالتزام بخدمة الخير العام. وتفترض المساواة الكاملة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، بعيدًا عن اي تمييز ينشأ بسبب المعتقد الديني او السياسي او اللون والعرق والجنس، حيث إنّ لا أحد افضل من غيره الا بولائه لوطنه وخدمته له. ولهذا يجب ان يتمكن الجميع من المشاركة في المشروع الوطني، وعلى المجتمع والمسؤولين فيهان يضمنوا تكافوء الفرص للجميع بعيدًا عن اية اعتبارات لا تخدم مصلحة الوطن.
وللايمان والقيم الدينية والروحية دور هام في السمو بالإنسان الى مستوى رفيع من المواطنية. فالقيم التي تنادي بها الأديان بمعناها الصحيح، بالإضافة الى المجد الذي ترفعه الى الباري تعالى، تدخل في نسيج الحياة السياسية والاجتماعية، لتبعث في الانسان مفهوم مواطنية منزّهة عن كل هوى وانانية وانتهازية وفساد، بل تولّد انتماءً حقيقيًا يسعى الى الخير العام والمصلحة الوطنية الحقيقية. ان مفاهيم التأصّل والولاء والإخلاص والمساواة والمشاركة التي تتأسّس عليها المواطنية الحقّة تجد في الممارسة الايمانية الحياتية حافزًا لها وضمانًا. وعلاوة على ذلك، يمكن ان يكون المؤمنون بالله، اذا ما أخلصوا الولاء لقيمهم الدينية، ضمير الأمّة، يرفعون صوتهم عاليًا للتنديد بمظاهر الفساد السياسي والاجتماعي، بتعزيز القيم التي يتأسّس عليها کل مجتمع سليم.
المشاركة الحرة والمسؤولة
٣٣. لا يمكن ان تكون الحياة العامة حكرًا على فرد او فئة او حزب او عشيرة او طبقة، بل يجب ان يفسح المجال لكافة فئات المجتمع للمشاركة، بشكل من الاشكال، في اتخاذ القرار، الذي يتصل بحياة الأمّة. وهذا يتطلّب من اي نظام سياسي او اجتماعي ان يكفل هذا الحق لكل مواطن، فيمارسه بحرية ومسؤولية امام الله وضميره والمجتمع. وهذا كله يرتبط بنوعية العلاقات القائمة في المجتمع، والتي يجب ان تتّسم باحترام الرأي الآخر وإعطائه مجال التعبير الحر عن نفسه وإمكانية تطوير حياته الفردية والجماعية، بعيدًا عن الضغوط من أيّ نوع كانت، ضمن اطار قانون عادل وواضح. وفي هذا المجال لا يهم العدد الاكثر والعدد الاقل، فالحقوق والواجبات لا تتسع ولا تتقلّص مع نسبة العدد. بل هي مؤسسة على الطبيعة الإنسانية نفسها وعلى الكرامة التي منحها الله لكل انسان. ولذلك من واجب القانون ان يساوي بين الجميع وان يحمي الجميع على السواء، مهما كانت ديانتهم، ومهما كان عددهم.
ومما لا شك فيه أنّ هذا النهج من المشاركة الحرة والمسؤولة يشوبه الكثير من الاضطراب في مجتمعاتنا العربية، التي غالبًا ما تتحكّم فيها الروح العشائرية والقبلية والفئوية والحزبية المتسلطة، ناهيك عن الفساد بكل اشكاله الذي تفرزه مثل هذه الأوضاع. وهذا يتطلّب إصلاحًا سريعًا قبل ان تتفاقم الأمور وتصل بنا الى ما لا تحمد عقباه. وكذلك فان المواطنية بمعناها الحقيقي بحاجة الى جهد تربوي واضح ومكثّف يبدأ بالبيت ليصل الى كافة المراجع التربوية، بغية تنشئة مواطن حر ومسؤول وواع، قادر على المشاركة في الحياة العامة مشاركة سويّة، وقادر على تقديم المصلحة العامة على مصالحه الفردية او الفئوية.
ولا شك اننا ما زلنا بعيدين عن الهدف، والعمل الكثير الكثير في هذا الاتجاه لا يزال ينتظر مجتمعاتنا العربية.
الدين والسياسة
٣٤. ان ربط الدين بالسياسة قضية معقدة، كثر النقاش حولها في المجتمعات البشرية نظريًا او انطلاقًا من الخبرات الماضية. اما في مجتمعاتنا فهي أيضًا موضع صراع مرير في بعض الاحيان، تتواجه فيه مختلف التيارات والنماذج الدينية والعلمانية وغيرها. ونتمنى لهذا الصراع ان يتحوّل الى حوار جادّ وهادئ وخصب تشترك فيه جميع الاطراف المعنية. فالكل لديه ما يطرحه، والكل بحاجة الى ان يسمع طروحات غيره. وهذا ما قد يسهم في ايجاد صيغة نظام سياسي او اجتماعي يرضي الله ويخدم الانسان ويبني المجتمع.
ومن المعروف ان الدين يلعب دورًا حاسمًا في حياة الافراد والجماعات في عالمنا العربي، حيث إن الايمان والقيم الدينية والروحية جزء لا ينفصل عن البنية الداخلية للإنسان في منطقتنا. وعليه لا يستطيع اي مشروع وطني متماسك وشامل ان يتجاهل هذا الواقع. فلا احد يستطيع إقصاء الدين عن الحياة العامة او حصره في مجال الشعائر والعبادات، لان الدين عقيدة وحياة تتناول الوجود الإنساني الخاصّ والعامّ، الفردي والجماعي.
ومن ناحية اخرى، يعلِّمنا تاريخ المجتمعات البشرية المختلفة ان خلط الدين والسياسة ما يلبث ان ينتج عنه ضرر عميق على الدين والسياسة معا. فعندما يتحوّل الدين الى ايديولوجية سياسية، فانه يبتعد عن هدفه الاساسي، ويصبح أداة وصول الى السلطة، واحيانًا أداة قمع وتسلط. واذا تحوّلت السياسة الى ايديولوجية دينية، فانها تستغلّ الدين وتوظّفه كوسيلة لتثبيت مصالحها الخاصة. وفي كلتا الحالتين تَفسُد السياسة ويُشوَّه المعنى الحقيقي للدين. والتاريخ شاهد على هذا الفساد وهذا التشويه، شرقًا وغربًا.
ان ربط الدين بالسياسة يثير الكثير من الاسئلة الملحة: كيف يستطيع الدين ان يؤثّر في الحياة العامة تأثيرًا حقيقيًا، مع الحفاظ على استقلاليته واستقلاليتها؟ كيف يمكن التمييز بين المؤسسات السياسية والدينية دون الفصل بينهما، فلا يُسخَّر الدين للسياسة ولا تكون السياسة استغلالاً للدين؟ كيف يمكن ان يظل الدين عامل وحدة وتقريب بين جميع فئات المجتمع، من غير تمييز او تهميش او استثناء؟
الاسئلة كثيرة والموضوع شديد الحساسية، ويستحق ان يستمر النقاش حوله والحوار بشأنه بين التيارات المختلفة، للوصول الى صيغة يطمئنّ اليها الجميع، وترى فيها الفئات الوطنية على اختلاف معتقداتها صيغة لا تتناقض مع وجودها وحقوقها وواجباتها. لن نتمكن في هذه الرسالة من الإجابة على هذه الاسئلة المطروحة على مجتمعاتنا، او تقديم الحلول والاقتراحات، لان الحلول لا يمكن ان تنتج الا عن حوار منتظم في كافة البلدان العربية، وفي كل بلد بحسب خصوصياته ومميِّزاته. والاستمرار بهذا الحوار مسؤولية ملقاة على عاتق رجال السياسة والدين والفكر، وإننا لنرحّب بكل مبادرة في هذا المجال.
تساؤلات
٣٥. اذا ما نظرنا الى هذه القضايا المرتبطة بالدين والسياسة من زاوية العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين، فالسؤال الذي يطرح نفسه، لا بل التحدي الذي نواجهه هو: كيفيمكننا المساواة بين المسيحي والمسلم في البلد العربي الواحد؟ نحن اليوم على مفترق طرق، وما زلنا نواجه القضية نفسها، اي كيفية الابقاء على الروح الاسلامية والمسيحية معا لبناء الشخصية العربية في كل بلد يتواجد او لا يتواجد فيه العربي المسيحي والمسلم. فمع بقاء الدين عنصرًا جوهريًا في المواطنية والحياة العامة، كيف يمكننا ان نتجاوز عقبة التفريق بين المواطنين بسبب انتمائهم الديني؟ كيف يمكننا ان نتجاوز هذه العقبة في الواقع المعاش؟ ان المسيحيين يتطلّعون الى اعتبارهم مواطنين بكل معنى الكلمة، لا أقلية تطلب الحماية. ونتمنى ان يمتلىء كل واحد من نور دينه في ممارسة الحياة العامة من خلال إطار قانوني يسمح حقًا للجميع بالمشاركة المتساوية في مجال الحياة الوطنية، بما فيها القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيره.
لا ضير ان تكون القيم الدينية حاضرة في المواطنية، لا بل ان هذه القيم تضفي روحًا على هذه المواطنية، شرط ان يكون الدين خالصًا لله يحترم احترامًا كاملاً خليقة الله، وكل معتقد ديني، خاصة اذا كان دين الاقلية، فتضمن قوانين الدولة حقوقه بالقوة نفسها التي بها تضمن حقوق دين الاكثرية او دين الدولة.
اننا نرجو ان يتمخض النقاش الواسع الجاري حول هذا الوضوع عن صيغ تنصف المسلم والمسيحي، وتتبلور في حوار وطني واسع وصريح يشترك فيه الجميع لمصلحة الوطن والمواطنين.
المقياس هو الانسان
٣٦. في وسط النقاش القائمنذكَّر بأنّ مقياس النظم السياسية والاجتماعية هو الانسان أوّلا وآخرا، فردًا وجماعة. فجميع هذه النظم انما وضعت لخدمته، ونعني به الانسان كاملا، روحًا وجسدا، فردًا وجماعة. ان حقوق الانسان مقدسة بقدسية الله الذي خلقه وأراده محطَّ حقوق وواجبات، وأعطاه ضميرًا حيّا يبحث عن الحق ويُقبل إليه دون إكراه. فلا يوجد تناقض بين حقوق الله وحقوق الانسان، ومن لا يحترم خليقة الله لا يحترم الخالق سبحانه.
لا يمكن ان يكتفي النظام السياسي بنفسه، بل لا بدّ من ان يرتبط بالنظام الخلقي. فالشأن السياسي يمارسه بشر يتعرضون للخطأ والأهواء البشرية، ومن الممكن ان ينحرفوا بسهولة عن أنبل المُثُل، وتتحوّل السياسة في هذه الحالة من نظام «لصالح الانسان، الى نظام «ضد الانسان. وهنا يأتي دور القيم الدينية والروحية لتكون العين الساهرة ليظل النظام السياسي والاجتماعي في خدمة كرامة الانسان.
وهذا ما حمل البابا يوحنا بولس الثاني على القول: دانني مقتنع بأنّ الديانات اليوم وغدًا سيكون لها دور من الطراز الاول للمحافظة على السلام وبناء مجتمع خليق بالانسان،٨. وفي نطاق الكلام على الانسان فاننا نتمنى على المؤمنين من ابنائنا ان يطّلعوا على التعليم الاجتماعي للكنيسة، كما وردت في وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، وخاصة «الدستور الراعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، وفي الرسائل البابوية العامة المتعلقة بالقضايا الاجتماعية. فإنّ هذه الوثائق الكنسية هيلهم مصدر نور وهداية، ويمكنها ان تشكّل مادّة حوار مع إخوتهم المسلمين، اذ تتلاقى وجهات النظر في كثير من الامور.
إنّ المشاكل الاجتماعية الكثيرة التي نواجهها جميعًا تظلُّ مجالا واسعًا لاتّخاذ المبادرات العملية وتطوير برامج مشتركة لخدمة الإنسان واحترام حقوقه وتثبیت کرامته.
الدين والعنف
٣٧. مما يؤسف له أنّ البشرية بأسرها لجأت الى العنف في جميع مراحل تاريخها، لحل النزاعات بين البشر. ومن المؤسف ايضًا ان الحضارات والشعوب كلَّها كثيرًا ما سخّرت الديانات وجعلت منها عاملا للحروب، او لجأت الى العنف للدفاع عن الدين او لإقرار مبادئه. والأسوأ من ذلك أنّ أبناء الدين الواحد يلجأون الى العنف أحيانًا فيما بينهم لأسباب دينية أو لغيرها من الأسباب. وما زالت هذه العقلية قائمة الى اليوم بشكل من الاشكال. ومع ذلك، فإنّنا نقول إنّ العنف ليس من الدين في شيء، بالرغم من هذه الجذور البعيدة في التاريخ من حيث استخدامُ العنف ومن حيث ربطُ الدين به. بل الدين ايمان بالله وبما يوحي به الله من حق وعدل ومحبة ورحمة تقرِّب الناس بعضهم من بعض. فهو عامل تقريب بينهم. وليس الدين وليس الله بحاجة
8. البابا يوحنا بولس الثاني، “السنة المئة”، رقم ٤١.
الى ان يقتتل الناس في ما بينهم فيغدّوا النفس بالكراهية المتبادلة. قال السيد المسيح في انجيله المقدس: «طوبى للودعاء فانهم يرثون الارض، (متى ٤:٥). وجاء في سفر الامثال: «ان عنف الاشرار يجرفهم، (امثال ٧:٢١). وقال يوحنا الرسول في رسالته الاولى: «نحن نعلم اننا انتقلنا من الموت الى الحياة لأنّا نُحبّ إخوتنا، من لا يُحبّ بقي رهن الموت. وكل من أبغض اخاه فهو قاتل (١ يوحنا ٣ : ١٥). ان العالم يبحث اليوم عن نظام جديد. ولا يقوم مثل هذا النظام الا اذا اتخذ الاقوياء في هذا العالم طريق العدل والمساواة أساسًا للتعامل بين الافراد والشعوب. واذ ذاك يمكن البحث عن طريق جديدة غير طريق العنف والحروب والدمار لحل النزاعات بين البشر. ان الايمان بالله يفرض محبة جميع البشر خلائق الله: (اذا قال احد اني أحبّ الله وهو يبغض اخاه كان كاذباء (١ يوحنا ٤: ٢٠).
اننا نواجه اليوم في مناطق عدة من العالم، وفي بعض مجتمعاتنا العربية، مظاهر العنف الطائفي والديني. وهذا ما نتألّم له ومنه. إنّنا لا نستطيع ان نبقى متفرّجين إزاء ظاهرة العنف باسم الدين، أيًّا كانت ضحاياه، سواء كانت من بني قومنا ام من غيرهم، من بني ديننا ام من غيرهم. ومع رفضنا لجميع مظاهر العنف المعنوي والجسدي، وخاصة الديني والطائفي، فاننا لا نستطيع ان ننسى الأسباب التي قد تولّده وهي المظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفساد والفقروروح الهيمنة وإذلال الشعوب. واذا ما اراد العالم ان يتحرّر من العنف فعليه ان يعمل بشكل جذري على استئصالالاسباب التي تؤدّي اليه. ان الظلم يولّد العنف والعنف المضادّ، ويُدخِل المجتمع في دوّامة لا نهاية لها.
نقول هذا ونحن مقتنعون تمام الاقتناع بأن العنف ليس طريقة انسانية لحل مشاكل المجتمع والنزاعات بين الشعوب. قال السيد المسيح لبطرس حين اراد اللجوء الى العنف ليدافع عنه: «اغمد سيفك، فكل من يأخذ بالسيف بالسيف يهلك» (متى ٥٢:٢٦). ويقوم دور الاديان بالدعوة الدائمة الى حوار المودّة والرحمة، الكفيل بمواجهة المشاكل بإيجابية بالرغم من جميع الصعوبات.
القسم الرابع: مسلمون ومسيحيون في العالم
٣٨. لقد تكلمنا في كل ما تقدّم على تنظيم العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في العالم العربي. ولا بدّ من التمييز بين العلاقات الاسلامية المسيحية في البلدان العربية وبينها على الصعيد العالمي. فبينما ترسّخت الأولى على قاعدة التاريخ والمصير المشتركين، مرّت الثانية بظروف خاصة بها أثرت في مسارها ماضيًا وحاضرًا. وعليه، فإنّا نودّ الآن ان نوسّع آفاقنا لتشمل العلاقات بين المسيحيين والمسلمين على المستوى العالمي، لاقتناعنا ان لدينا كلمة مميّزة نقولها في هذا المجال.
تستأثر الديانتان بقسم كبير جدًا من سكّان الكرة الارضية، مما يجعل العلاقة الايجابية بينهما عاملا حيويًا لاستتباب السلام والاستقرار بين بني البشر في العالم بأسره. ونلاحظ اليوم أنّ هذه العلاقات غالبًا ما تشوبها الشكوك والظنون والمخاوف. فالغرب المسيحي كثيرًا ما يقولب الشرق المسلم في أطُر سلبية.
والشرق المسلم بدوره ينظر بعين الرَيبة والشك الى الغرب المسيحي ويتّهمه بالنوايا المبطّنة والشريرة. وهو في ذلك غالبًا ما يتهم الدين المسيحي عامة بالسياسات المجحفة التي تتبناها بعض الدول الغربية في هذه المنطقة.
كما يخلط أحيانًا بين الغرب ومسيحيي الشرق أنفسهم. وهو خلط لا يساعد على الرؤية الواضحة للأمور. وفي كل الاحوال هناك سوء فهم تعود جذوره الى التاريخ البعيد والقريب. فاللقاء بين الغرب المسيحي والشرق المسلم لم يخلُ من الحروب ونزعات الهيمنة والاستغلال التي نشأت عنها ذاكرة جماعية تتّسم بالطابع العدواني المتبادَل. فمنذ نشأة الاسلام ظلّت الحروب سِجالا بين الغرب المسيحي والشرق المسلم. ومن جملتها الحروب الحروب الصليبية والحروب الإسلامية في قلب أوروبا، وغيرها من الحروب التي شنّها الطرفان أحدهما على الآخر، والتي ما زالت تغذّي الذاكرتين بصور سلبية متعاكسة. وفي التاريخ الحديث برزت ظاهرة الاستعمار وتجزئة الوطن العربي ونشوب الصراع العربي الاسرائيلي وغيرها.
ومع ذلك فلا بد من ان نذكر للامانة التاريخية أنّ العلاقة بين الطرفين لم تخلُ من التفاعل الحضاري الخلاق في العصور الوسطى وما بعدها. وهذا ما يجب احياؤه والتركيز عليه وتفعيله ليأخذ دوره كمرجع من مراجع الحوار والتلاقي الايجابي اليوم، ولتأخذ الديانتان دورًا رياديًا في الجهد الرامي الى تعزيز السلام والإخاء بين الشعوب، وللدفاع عن الانسان في مجالات كثيرة يشترك فيها الطرفان برؤية روحية ودينية متقاربة، كالدفاع عن الحياة والأخلاق السويّة التي ترفع من شأن الانسان وكرامته ونبله.
من الصراع الى الحوار والتعاون
٣٩. ان المتغيرات الكبيرة التي حدثت في العقود الاخيرة على الساحة العالمية أفرزت ظاهرة التعصُّب الديني والقومي والطائفي في حياة الشعوب. فبينما راحت الفئات المختلفة تعي هويتها وتبحث عن موقعها وحقوقها، أدّى هذا الوعي في بعض مناطق العالم الى نزاعات صريحة ودامية بين اصحاب الديانات والقوميات المختلفة. وما يهمنا في هذا المجال هي العلاقة بين الاسلام والمسيحية التي تشكل اليوم موضع اهتمام واسع، لا بل مصدر قلق كبير لدی الكثيرین.
إنّ أبناء الديانتين مدعوّون اليوم الى تطوير نوعية جديدة من العلاقات. والخطوة الاولى لتلاقي الطرفين هي شفاء الذاكرة التاريخية لكل منهما من الرواسب العالقة بها، والتي تحول دون ذلك. وهذا بدوره يفتح الطريق امام الحوار البنّاء بين اصحاب الديانتين على الصعيد العالمي، لخير البشرية جمعاء.
ويُخطئ من يَحسَب أنّ هذه العلاقات يجب ان تكون حتما علاقات صراع ونزاع وعنف، لأن لهذا الاتجاه نتائج وخيمة ومدمّرة للجميع. لا بدّ لأبناء الديانتين من ان ينتقلوا من منطق الصراع والنزاع الى منطق الحوار والتعاون. فالسؤال المطروح على المؤمنين من الديانتين معًا هو التالي: أيريدون ان يكونوا جسر سلام ومصالحة ام حائط تنافر وتناحر ؟
وفي هذا المجال، نذكر ما قاله المجمع الفاتيكاني الثاني في تصريحه حول علاقة الكنيسة بالدیانات غير المسيحية: «اذا كانت قد نشأت على مرّ القرون منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيين والمسلمين، فالمجمع المقدس يحضّ الجميع على ان ينسَوا الماضي، وينصرفوا بإخلاص الى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعزّزوا معًا العدالة الاجتماعية والخيرات الاخلاقية، والسلام والحرية، لفائدة جميع الناس،٩. وفي هذا الصدد نشير الى هيئات الحوار المختلفة التي نشأت لدى الجانبين والتي تقوم بمجهود دؤوب وصبور لتذليل العقبات التي تقف حائلا دون التلاقي المثمر. فبالاضافة الى الهيئات الاسلامية التي تعنى بهذا الشأن، هنالك، في الكنيسة الكاثوليكية، المجلس البابوي للحوار بين الاديان، وفي الكنائس عامة، هناك ايضًا مجلس الكنائس العالمي ومجلس كنائس الشرق الاوسط اللذان يوليان الموضوع اهتمامًا خاصًا، وقد اتخذا منذ زمن المبادرات العملية العديدة في هذا الشأن.
المسيحيون في الوطن العربي
٤٠. وفي مجال التلاقي الاسلامي المسيحي على الصعيد العالمي، يحدّد المسيحيون موقفهم بكل وضوح. فهم مع العرب المسلمين أبناء أوفياء لأوطانهم وأبناء حضارة عربية واحدة بجميع مقوّماتها فيما يحقَّق خير الإنسانية جمعاء. وهم في الوقت نفسه مسيحيون، ومع جميع المسيحيين في العالم، مؤمنون بالسيد المسيح، كلمة الله الازلي. ومن هذا المنطلق، يرَون أنّ لهم دورًا في تقريب المواقف بين العالم المسيحي والعالم الاسلامي، وفي تحويل الصراع الى تعاون ايجابي مبني على الاحترام المتبادل. وهم يقولون للعالم الغربي إنّ الاسلام ليس العدو، بل هو احد اطراف الحوار الذي لا يمكن الاستغناء عنه في بناء الحضارة الانسانية الجديدة. ويقولون القول نفسه للشرق المسلم: إنّ المسيحية في الغرب ليست عدوًّا بل هي طرف أساسي في حوار لا بدّ منه لبناء عالم جدید.
ان المسيحيين في العالم العربي يتطلّعون الى ان يكونوا جسور حوار وتفاهم بين هذين العالمين المتقابلين. فالقرابة الحضارية التي تجمعهم بالمسلمين في الشرق، والشركة الايمانية التي تجمعهم بالمسيحية في كل مكان، تؤهلهم احسن تأهيل ليقوموا بهذا الدور الحضاري. مسلمون و مسحیون في المهاجر
9. المجمع الفاتيكاني الثاني، “علاقة الكنيسة مع الديانات غير المسيحية”، رقم ٣.
٤١. ان العوز والفقروالمظالم، وروح المغامرة ايضا، دفعت أعدادًا كبيرة من المسيحيين والمسلمين الى الهجرة عن اوطانهم. ففي اوروبا اليوم، هناك الملايين من المسلمين الوافدين من العالم الاسلامي. وفي بعض البلدان العربية التي تتوفّر فيها ظروف العمل، اعداد كبيرة من المسيحيين الوافدين من البلدان الفقيرة، ومنهم مسيحيون عرب. والكل يعلم كل ما تجرَّه هذه الظاهرة من مشاكل على جميع الأصعدة. ان هذا الواقع الجديد يضع الحوار والتعاون على المحكّ. كيف يتعامل الطرفان مع هذا الواقع الجديد؟
وهنا لا يسعنا الا ان نوجّه نداء الى الكنائس المسيحية في الغرب، كي تكون في المواقع المتقدمة، في علاقاتها الايجابية مع المغتربين الذين يشكل المسلمون نسبة كبيرة منهم. ان هؤلاء يعانون من مشاكل دينية وثقافية واجتماعية واقتصادية لا حصر لها. وحبّذا لو عملت المؤسسات الكنسية في الغرب على تطوير وسائل اتصال اخوي معهم، بعيدًا عن اي غرض كان، في الاحترام الكامل لحقوق الانسان، ليكون هذا الواقع مكانًا ممتازًا للقاء ايجابي بين الاسلام والمسيحية في عالم اليوم. ونوجه النداء نفسه الى البلدان الاسلامية التي تتواجد فيها اعداد من المسيحيين الوافدين للعمل، کي تعطيهم المجال ليعيشوا بموجب ايمانهم بأمان، ويمارسوا شعائرهم الدينية، ويتمتعوا بحقوقهم الانسانية.
الحوار بين الاديان في الشرق
٤٢. لقد ميّز الله منطقة الشرق الاوسط، اذ جعل منها مساحة حواره مع البشرية جمعاء. ففي هذه الارض المباركة نشأت الديانات الموحِّدة الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. ان الظروف التاريخية القديمة والحديثة، كثيرًا ما وضعت أبناء هذه الديانات في موضع صراع ونزاع، علمًا بأنَّهم عاشوا قرونا طويلة من التواصل والتفاعل والتعاون في ظل الحضارة العربية الاسلامية. ان الصعوبات الراهنة يجب الا تتحوّل الى قدر محتوم لا يمكن التغلّب عليه، بل على الجميع ان يعملوا على تخطّيها لتوفير الشروط اللازمة للتلاقي الصريح والبنّاء لخير انسان منطقتنا والعالم.
في الوقت الذي يتطلّع فيه الشرق الاوسط، وسط التردّد والشكوك والمخاوف، الى آفاق جديدة من السلام والعدل والمصالحة، يجدر بجميع الديانات ان تضع يدها على المحراث انطلاقًا من تراثها الأصيل. واننا لمقتنعون ان جميع هذه الديانات تملك من تراث المودّة والتسامح ما يؤهّلها للقيام بدور ريادي في التقارب فيما بينها. ان العلاقة الايجابية بين الاديان في عالم اليوم قد تتأثر الى حد كبير بالعلاقة بين هذه الاديان في الشرق، حيث ترى كل منها منبتها ومنبعها. وهذا ما يدعونا الى القيام بهذا الدور الحضاري الذي لا يعود بالخير على منطقتنا فحسب، بل على العالم بأسره ايضًا.
القسم الخامس: توجیهات راعویة الى أبنائنا
٤٣. ايها الاخوة والاخوات في شرقنا الحبيب، في هذا القسم الاخير من رسالتنا، نتوجه اليكم بشكل خاص كرعاة يحملون في قلوبهم امام الله آمالكم وتطلّعاتكم وهمومكم وتساؤلاتكم «ما نحن الا خَدَمٌ لكم من أجل يسوع> (١ قورنتس ٥:٤) فمن يتألّم ولا نتألّم نحن؟ ومن يفرح ولا نفرح نحن؟ (راجع ٢ قورنتوس ٢٨:١١).
وما نقوله لكم، هو ان تتحرّروا من عقدة الأقلية. فلا تهمّشوا انفسكم وكأنّ الشؤون العامة لا تهمّكم، او ليست من اختصاصكم. بل كونوا في قلب المجتمع ملتزمين بكل خدمة تستطيعون ان تقوموا بها. ولا تحسبوا أتكم لا تستطيعون الجمع بين ايمانكم المسيحي وخدمة مجتمع تنعشه حضارة عربية اسلامية. ان ايمانكم المسيحي هو في هذا المجتمع عامل فعّال لخدمته، ومن ثمّ لا يجوز ان تغدّوا في أنفسكم عقليّة الخوف او العزلة او الاغتراب القومي. بل كونوا منفتحين على سعة الوطن العربي الذي أنتم جزء منه، وإخوة لكل أخ فيه، مشاركين في بنائه بعطاء وبذل، ولا سيما في هذه الفترة التي ترتسم فيها معالم المستقبل. ولهذا، فعلى المسيحيين ان يُعِدّوا أنفسَهم للقيام بخدمة الوطن على أفضل وجه.
ان إيماننا بالسيد المسيح وبتعاليمه لا يمكنه إطلاقًا ان يشكّل حاجزًا بيننا وبين مجتمعنا. بل إنّ المسيح هو طريقنا الى هذا المجتمع الذي نذهب للقائه وخدمته بالروح التي أوصانا بها هو نفسه في الانجيل المقدس حيث قال: «انتم ملح الأرض، فإذا فسد الملحفأيّ شيء يملِّحه؟ … وأنتم نور العالم … فليضىء نوركم للناس ليروا أعمالكم الصالحة فيمجّدو أباكم الذي في السماوات، (متى ١٣:٥ -١٦). وقال ايضا: «كما أحیبتکم أحبّوا انتم ایضًا بعضكم بعضا. اذا أحبّ بعضكم بعضا عرف الناس أتكم تلامیذي، (يوحنا ١٣:٣٤ – ٣٥). وقال القديس يوحنا في رسالته الاولى: «لا تكن محبتنا بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحقء (١ يوحنا ٣:١٨).
تضامن روحي ومسؤولية امام الله
٤٤. ان التضامن الروحي هو من أفضل وسائل العمل لتوطيد العلاقات بين المسيحيين والمسلمين، ولبلوغ أفضل نمط من أنماط العيش المشترك. والتضامن الروحي يعني ان يحمل كل واحد، المسلم والمسيحي، امام الله هموم أخيه وآلامه وآماله وطموحاته. فهو اولا صلاة ترتفع امام الله سبحانه وتعالى من كلا الجانبين، في سبيل الذات وفي سبيل الآخر.
فعندما نَمْثُل أمام الله لا نمثل وحدنا، بل يكون إحساسنا وشعورنا بإخوتنا الآخرين المختلفين عنّا امامه تعالى كإحساسنا وشعورنا بأنفسنا. ويكون ابتهالنا من أجلهم كمثل ابتهالنا من أجل انفسنا. لأن الله يريد منّا، اذا حضرنا امامه، ان نحضر مع جميع إخوتنا، سواء اكانوا من المؤمنين مثلنا ام من المختلفين عنا إيمانًا.
جاء في رسالة القديس بولس الى اهل فيلبي: «لا ينظرنّ أحد الى ما له، بل الى ما لغيره. وليكن فيما بينكم الشعور الذي هو ايضًا في يسوع المسيح، (فيلبي ٢: ٤ – ٥).
وهو ثانيًا مسؤولية نحملها معًا امام الله، وهي مسؤولية العيش المشترك، لان الله هو الذي دعانا وأراد لنا ان نكون معا، وان نبني معًا وطنًا واحدًا. وجعلنا في هذا البناء المشترك مسؤولين بعضنا عن بعض. ومن ثم، فإنّ حضور الآخرين في حياتنا هو صوت الله فيها. وبهذا تصبح علاقتنابهم جزءًا أساسيًا من هويتنا الروحية. ولذلك قلنا في رسالتنا السابقة: دان الحوار موقف روحي قبل كل شيء، يقف فيه المرء أمام ربِّه محاورا، فتسمو نفسه ويطهر قلبه ووجدانه، فينعكس ذلك على حواره مع نفسه وعلى حواره مع الآخرين، أفرادًا وجماعات. ان الحوار روحانية تنقلنا من الاستبعاد الى الاستيعاب، ومن الرفض الى القبول، ومن التصنيف الى التفهّم، ومن التشويه الى الاحترام، ومن الإدانة الى الرحمة، ومن العداوة الى الألفة، ومن التنافس الى التكامل، ومن التنافر الى التلاقي، ومن الخصومة الى الأخُوّة،١٠.
ولهذا، فإنّ العيش المشترك بين المسيحي والمسلم، بموجب التضامن الروحي، لا يقومعلى التعايش السلمي الموازي، جنبًا الى جنب من غير تواصل والتقاء وتفاعل، ومن غير صدام او حوار، بل هو عيش فيه لقاء صميم في الايمان بالله الواحد الأحد، وفي الرجاء بنعمته الفاعلة، وفي محبة الله والآخرين. ان التضامن الروحي ينقّي العلاقات على مستوى الحياة اليومية ويقوّيها، اذ يضع كل واحد نفسه محل الآخر، فيكون معه في الصعوبة التي يعيشها وفي التحديات التي يواجهها، وفي الآمال التي يسعى اليها او يحقّقها، عندما يقف في حضرة الله وقوف الخاشع التائب.
من منطلق ايمانكم الحي
٤٥. ان التزامنا في المجتمع الذي نعيش فيه يجب ان نستلهمه من إيماننا بيسوع المسيح. يجب ان تؤدوا كل خدمة في كل مجال، بناء على معرفة عميقة لإيمانكم المسيحي بكل ما فيه من مبادئ وممارسات حياتية.
ان تفريغ المسيحي لذاته من ايمانه هو تصغير لذاته ولشخصيته وتشويه لدوره وخدمته في المجتمع. ان مجتمعنا مجتمع مُشبَع بالروح الدينية. فالمسيحي يؤدّي خدمته فيه على أفضل وجه، اذا عاش إيمانه واستلهمه في جميع مواقفه الحياتية. ومن ثم لن يؤدّي المسيحي دوره ورسالته ولن يخدم مجتمعه ووطنه من منطلق أصالته إلا اذا حافظ على هذا الإيمان وأنماه واسترشد به في جميع مرافق حياته. فوطنه وأخوه المسلم يطالبانه بتفعيل ما لديه من قيم مسيحية تؤهّله لحمل الاسم المسيحي وتبّرر کونه مختلفًا بإیمانه في
الوطن الواحد. ان إخلاصنا لأوطاننا يحتّم علينا ان نخلص لإيماننا المسيحي، وان نخصب مواقفنا ومبادراتنا بما في هذا الإيمان من قيم وطاقات.
ان القاعدة الأولى لكل موقف يتّخذه المسيحي هو ان يكون مسيحيًا فعلاً لا اسمًا فقط، اي ان يؤمن وان يعيش بحسب ما يؤمن به، وان يكون في جميع أعماله إنجيلا حيًّا شاهدًا للمسيح. شهود للقیم الانجيلية في مجتمعنا
10. “الحضور المسيحي في الشرق”، رقم ٤٧.
٤٦. ان علاقتنا بالمسلمين تضعنا أمام مقتضيات إيماننا، بمعنى أنّها تدعونا الى الارتفاع على مستوى مسؤولياتنا وأصالتنا ورسالتنا في هذه المنطقة من العالم. فلن تأخذ العلاقة بين المسيحيين والمسلمين وجهة ايجابية وحاسمة ما لم يعد المسيحيون من جانبهم الى الينابيع الصافية للقيم الإنجيلية، التي تتمثل في العظة على الجبل (راجع متى فصل ٥ -٧)، وبالأخص في التطويبات الانجيلية التي افتتح بها يسوع هذه العظة، والتي تظَلّ النهج الحياتي للمسيحي. ولقد لخّص القديس بولس هذه القيم الإنجيلية في رسالته الى اهل غلاطية: داما ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام والصبر واللطف وكرم الاخلاق والايمان والوداعة والعفاف، (غلاطية
٢٢:٥).
من أجل الإنسان والمجتمع
٤٧. ان المسيحي، والمسيحي العربي بشكل خاص، لا يبحث عن امتيازات يجد فيها أمنًا نفسيًا مزيّفًا. كل ما يريده هو امتياز الخدمة، خدمة كل انسان وكل المجتمع. لقد نوّهنا في رسالتنا السابقة ١١الى الإنسان المتألّم في شرقنا. هذا هو الإنسان الذي نريد ان نتضامن معه وتخدمه، فنكون دومًا في المواقع المتقدّمة للدفاع عنه، عندما يجوع ويمرض ويُنبَذ ويتعرّض لجميع أصناف القهر والقمع والظلم والمعاناة. وفي هذا العمل لسنا وحدنا ولا نقوم به وحدنا. فهناك الكثيرون في مجتمعنا من كل الاتجاهات، يضعون الإنسان على رأس قائمة اهتماماتهم. اننا نضع ايدينافي أيديهم لملاقاة جميع المتألّمين. فالإنسان المتألّم يجمع بين البشر اكثر مما تجمعهم الأفكار المجرّدة. ونحن نعرف تمام المعرفة ان كل ما نصنعه لأحد إخوتنا المتألّمين انما للمسيح نفعله: «لقد جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني، وكنت غريبًا فآويتموني، وعريانًا فكسوتموني، ومريضًا فعدتموني، وسجينًا فجئتم إليّ … الحق أقول لكم: كلّما صنعتم شيئًا من ذلك لواحد من إخوتي هؤلاء الصّغار فلي قد صنعتموه» (متى ٢٥: ٣٥ – ٣٦؛٤٠).
11. “الحضور المسيحي في الشرق”، رقم ٥٣.
خاتمة
معًا أمام الله
٤٨. ايها الإخوة والأبناء الأعزاء، نختم هذه الرسالة من حيث بدأناها: «معًا أمام الله. نحن – المسلمين والمسيحيين – لسنا جبهتين او حزيين متواجهين، بل إنّنا جميعًا وقبل كل شيء أمام الله، وهو ربّ العالمين، وليس مُلكًا لأحد. وكلّنا منه وله وإليه. لانقدر بتائًا ان نقبل الآخرين الذين يضعهم الله في طريقنا ما لم نقبل الله أولا في حياتنا. وكلّما اكتشفنا الله، اكتشفنا ايضًا قدسيَّة الإنسان. لأنّ كل وجه انساني انما يمثّل خليقة فريدة خلقها الله «على صورته كمثاله)، وخلقها لتكون «خليفته على الارض. إنّ عيشنا المشترك هو من صميم وقوفنا امام الله. فلنقف معًا أمامه ونبحث عما يريدهلمجتمعنا ومن خلاله للبشرية جمعاء، فنتّحد بعضنا ببعض اتحادًا روحيًا باسم الله، وبهذا الاتحاد نمجّد اسمه تعالى في شرقنا العزيز، الذي ندعو الله ان يكون دائمًا أرضًا طيبة لعبادة الله ولرُقِيّ الانسان.
نسأل الله ان يوفّقنا في أداء رسالتنا لترسيخ المحبة في أوطاننا ولتشييد حضارة المستقبل في بلادنا العربية، حضارة المحبة. نسأله ان يلهمنا جميعًا مسيحيين ومسلمين أفضل السبل لتتميم مشيئته تعالى فينا وفي بلادنا.
ولجميعكم ايها الإخوة والأبناء الأعزاء، اينما كنتم، نسأله تعالى ان يُمدّكم بروحه، وان يفيض فيكم محبته، وان يمنحكم بركته، باسم الآب والابن والروح القدس الاله الواحد آمين.
+اسطفانوس الثاني غطاس، بطريرك الاسكندرية والكرازة المرقسية للأقباط الكاثوليك
+مكسيموس الخامس حكيم، بطريرك انطاكية وسائر المشرق والاسكندرية واورشليم للروم الملكيين الكاثوليك
+مار اغناطيوس انطون الثاني حايك، بطريرك انطاكية للسريان الكاثوليك
+مار نصر الله بطرس الكردينال صفير، بطريرك انطاكية وسائر المشرق للموارنة
+مار روفائيل الاول بيداويد، بطريرك بابل للكلدان
+ يوحنا بطرس الثامن عشر كسباريان، بطريرك قليقية للأرمن الكاثوليك
+ميشيل صباح، البطريرك الاورشليمي للاتين
صدر عن مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك
في عید المیلاد المجید عام ١٩٩٤
No Result
View All Result