الرسالة الراعوية الثامنة
العائلة مسؤولية الكنيسة والدولة
(ََُأيها الرِجالَ اَحُّبواِ نَِساءَكُم كَمَا أَحَبَّ المسيحُ الكَنيِسَة)) (أفسس٥ :٢٥)
عيد انتقال سيدتنا مريم العذراء ١٥ آب ٢٠٠٥
مقدّمة
إلى إخوتنا الأساقفة وأبنائنا الكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات والعلمانيين والعلمانيات كافة: «النَّعمَةُ وَالرَّحمَةُ وَالسَّلامُ مِنَ اللهِ أبينَا، وَالَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَاه (١ تيم٢/١).
١. تدرك الكنيسة الكاثوليكية أن خير الشخص والمجتمع وخيرها يمرّ عبر العائلة. فالعائلة مجتمع طبيعي، وجد قبل الدولة أو أية جماعة منظمة. وبهذه الصفة تمتلك حقوقًا خاصة بها، لا يمكن انتزاعها منها. غير أنها ليست مجرّد وحدة قانونية، اجتماعية أو اقتصادية، بل هي جماعة حب وتضامن، قادرة على أن تنقل القيم الثقافية والخلقية، والدينية والاجتماعية؛ وهذه كلها جوهرية لإنماء أعضائها وأفراد المجتمع، وتأمين خيرهم. ذلك أنها «حرم الحياة، إذ تقبلها وتحافظ عليها وتربيها وتحميها من التعديات، فتنمو وفقًا لمقتضيات النموّ الإنساني١.
والعائلة هي «الخلية الأساسية للمجتمع،، حيث ينشأ الإنسان للحياة في جماعة: فالرجل والمرأة مدعوان لهبة الذات بحب؛ والأولاد يتعلمون من الأهل، في كنف العائلة، القيم الإنسانية والخلقية ومحبة الله. والعلاقات العائلية السليمة والمستقرة تولّد المشاعر العاطفية، وتشكّل الأسس للحرية والطمأنينة والأخوّة وسط المجتمع، وتدرب على عيش الشركة بين الأشخاص، وعلى تقاسم الخيرات الروحية والمادية فيما بينهم. إنها حقًّا جماعة مميزة. إذا أصابها خلل، انفتح جرح في المجتمع. يكفي أن نذكر آفة الطلاق وما تخلف من أضرار جسيمة في الوالدين والأولاد. فالوالدون يختبرون مرارة العزلة والإهمال، والأولاد يعانون صدمة الخلاف بين والديهم، الذين غالباً ما يستعملونهم كأداة للقهر والابتزاز. ونستطيع القول إن العائلة «خلية الدولة)، تلد لها المواطنين، وتحمي أخلاق شعبها. فيُطلب من الكنيسة والسلطات العامة أن تسهر عليها لئلاً تتسرّب إلى أعضائها ممارسات منافية للشريعة الطبيعية والإلهية.٢
١. شرعة حقوق العائلة، المقدمة، د،٥؛ إنجيل الحياة، ٩٢؛ السنة المئة، ٣٩.
٢. الحياة البشرية، ٢٣؛ انظر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ٢٢٠٦-٢٢٠٧ و٢٣٨٥؛ في وظائف العائلة المسيحية، ٤٢.
والعائلة «كنيسة مصغرة، أو «كنيسة منزلية، مبنيّة على سرّ الزواج. وبهذه الصفة هي خلية الكنيسة الأساسية. إنها جماعة الإيمان والرجاء والحب؛ فيها تتحقق الشركة بين الأشخاص على صورة الثالوث القدوس، ويعاش التفاني وبذل الذات والانسجام على مثال اتحاد المسيح بالكنيسة. إنها المكان الأول للتربية على الصلاة، حيث يثابر أبناء الله على الصلاة معًا ككنيسة. وبوصفها «كنيسة مصغرة»، تشارك كنيسةً المسيح في حياتها ورسالتها، وتساهم في بناء ملكوت الله، إذا عاشت مشاركتَها كهنوتَ المسيح في أبعاده الثلاثة: البعد النبوي بأن تكون جماعة مؤمنة ومبشّرة بالإنجيل؛ والبعد الكهنوتي بأن تكون جماعة مصلية وفي حوار مع الله؛ والبعد الملوكي بأن تكون جماعة في خدمة الإنسان٣.
٢. هذا المفهوم للعائلة عامة، والمسيحية خاصة، مع ما يجب لها من مساعدة، وحماية من مخاطر تتهددها، لكي تتمكن من تحقيق ذاتها والقيام بواجباتها الجوهرية، حدا بمجلس بطاركة الشرق الكاثوليك أن يختار موضوعًا لمؤتمره الثالث عشر «العائلة في الشرق الأوسط – العائلة مسؤولية الدولة والكنيسة». وقد عُقِدَ في القاهرة ما بين ٩ و١٣ كانون الأول/ديسمبر ٢٠٠٣، في دار القديس إسطفانوس في المعادي، بضيافة صاحب الغبطة الأنبا إسطفانوس الثاني غطاس، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك، و كردینال الكنيسة الجامعة.
فيسرّنا أن نوجّه إليكم، أيها الأخوة والأخوات الأعزاء، هذه الرسالة الراعوية، التي نبين فيها أولاً هوية العائلة المسيحية وقدسيتها، ثم نستعرض المصاعب التي تتعرض لها في بلدان الشرق الأوسط على مستويات الاقتصاد والأخلاق والبرامج الإعلامية وأخلاقيات الحياة والتنشئة الدينية والشركة الزوجية، وعلى مستوى التشريع والقضاء المحليين، وعلى مستوى التشريعات والتدابير الدولية؛ ونعرض أخيرًا ما تقدَّمُه راعوية العائلة من توجيهات وحلول. إن هذه الراعوية تكمّل خدمة الأساقفة والكهنة في التعليم والتقديس والتدبير، وتنسق نشاط الحركات والمنظمات التي تعمل في سبيل العائلة والحياة. فلا بدّ من أن تكون اليوم راعوية العائلة أولويةً ظاهرة وحقيقية وفاعلة، تكون صدى لصوت المسيح الفادي ومحبته، الذي أتى لِيُخَلِّصَ العَالَمَ لا لِيَدِينَ العَالَمَ، (بو ١٧/٣)٤.
٣. راجع الدستور العقائدي <في الكنيسة، ١١؛ التعليم المسيحي ٢٢٠٤-٢٢٠٥ و٢٦٨٥؛ الإرشاد الرسولي «في وظائف العائلة
المسيحية»، ٢١ و ٤٩-٦٤.
٤. البابا يولس السادس: الحياة البشرية، ٢٩.
الفصل الأول: هوية العائلة المسيحية وقدسیتها
٣. نؤمن أن الله محبة. ونؤمن أيضا أن كل ما صنعه الله إنما صنعه بدافع من الحب وفي الحب ومن أجل الحب. صدرت الخليقة كلها عن حب الله وهي تحمل رسمه في عمق كيانها، فيما تسير نحو غايتها أي الرجوع إليه تعالى، مصدر الحب والسعادة لكل الخليقة.
وينطبق هذا الكلام بصورة خاصة على الإنسان المخلوق على صورة الله. إنه يحمل في كيانه وفي كل نشاطاته علامات فارقة تبين من أين جاء وإلى أين يمضي. وبقدر ما يستجيب الإنسان لما هو منطبع في صميم كيانه، يقدر أن يحقق نفسه وأن يكون سعيدًا. وإنه لأمر مكتوب في طبيعته، وهو من ثوابت الوحي: أن الله يدعو الإنسان ليعيش بالحب، بل ليتسامى بقوة الحب فوق ذاته، فيبلغ كمال نفسه. وإن الله يدعو الإنسان ويعطيه في الوقت نفسه الوسائل اللازمة حتى يستجيب لحبه. الزواج مؤسسة طبيعية وإلهية، فيها يخرج الإنسان من فرديته ويتوجه نحو الآخر فيعطيه نفسه بل يضحّي بنفسه في سبيله. بل يكون الإنسان بالحب مستعدًّا حتى أن يموت في سبيل الآخر، لأنه بالحب فقط يُروِي أعمق ما في كيانه من تطلعات، ويُوجِدُ الظروف التي تصنع سعادته. ومثل كل واقع بشري، نجد أن الزواج أيضًا قد جرحته الخطيئة الأصلية والشخصية. ولأنه كان في البدء أمرًا ساميًا جدًّا، فقد ظهرت فيه، أكثرَ من غيره، آثار الخطيئة التي جرحت الإنسان والمجتمع. ولهذا فالزواج أيضًا في حاجة إلى فداء وخلاص.
وفي الواقع لم يترك الله الإنسان في خطيئته. بل مدّ يده إليه. وأرسل ابنه كلمته الذي صار إنسانًا، يسوع المسيح من الناصرة. وُلِدَ من مريم العذراء بقوة الروح القدس في إطار أسرة، ثم عاش وعمل في إطار أسرة. وحضر حفلات زواج وباركها. وطهَّر الزواج وأعاده إلى دعوته الأصلية ورفعه إلى رتبة سرّ، أي إنه جعل منه علامةً وأداةً للتقديس وينبوعَ نِعَم وعلامةً لحب الله للإنسانية وللكنيسة. وقد لخصت الكنيسة، في تقليدها الطويل ولا سيما في التقليد الشرقي، تعليمها حول سرّ الزواج في العبارة التالية التي نريد أن نتأمّل فيها معًا: «الزواج والأسرة هما مقدس الحب والحياة).
٤. هما مَقدِس. هذا هو موقف الكنيسة الأكيد والثابت والمؤسّس على الوحي وعلى العقل معًا. وينجم عن هذا التعليم نتائج كثيرة روحية وراعوية. منها أن الزواج في أصلِه كلُّه صلاحٌ وقداسة لأن الله أراده، وغرسه في طبيعة الإنسان وباركه ورفعه إلى رتبة سرّ. وأن الأسرة المبنيّة على الزواج تصدر عن حب الله القدوس، وهي ينبوع قداسة لكل أعضائها.
وقد دافعت الكنيسة عبر القرون دفاعًا راسخًا عن صلاح الزواج وقدسية الأسرة ردًّا على بعض الهرطقات التي كانت ترى في الزواج «مملكة الشر، وعلى تيارات «الهيدونية، أو «طلاب المتعة، الذين يرون في الأسرة انتقاصًا من الحرية الشخصية ومصدرًا للمتاعب، ومن ثم حدًّا للمتعة.
نعم، إن واقع الخطيئة ظاهر في الزواج والأسرة. وخبرتنا الاجتماعية في كل يوم تبين لنا مع الأسف الانحلال الذي أصاب قيم الحياة والحب والأسرة، والانحرافات الأليمة والخطرة التي تتعرّض لها الأسرة على الصعيد الشخصي والعائلي والاجتماعي. بالرغم من هذا الواقع الذي يجب من جهة أن نعترف به والذي يقتضي من جهة أخرى جهدًا كبيرًا للإصلاح والتقديس والتنقية، فإننا لا ننفك نكرّر بقوة ونؤكّد إيمان الكنيسة: إن الزواج والأسرة هما في الأساس شأن صالح، وإذا ما عاش فيهما الإنسان بحسب تدبير الله ومشيئته، كانا له مصدر نعم وقداسة.
الزواج هو جزء من تدبير الله ومشيئته. هذا أيضًا لن نتوقف عن التذكير به. ليس الزواج والأسرة من صنع الإنسان. بل هما جزء من الدعوة الطبيعية لكل إنسان، في كل مجتمع وفي كل زمان. وفي التجسّد، أصلح الله ما أفسدته الخطيئة وعاد وفرض ما كان قد حدّده منذ البدء، ورفعه إلى مستوى أسمى مما كان عليه. ولما تجسّد كلمة الله ضم إليه البشرية كلها، فارتبط بكل إنسان وبكل الإنسان، وبهذا الاتحاد فَدى الزواج والأسرة ورفعهما وقدَّسهما. يسوع نفسه لم يتزوج، إنما اختار البتولية «من أجل الملكوت، ودعا إليها، وليس ذلك لأنه احتقر الزواج، بل فعل ذلك من أجل حب أسمى يحقق كمال الإنسان والدعوة التي حدّدها الله له. ويبقى الزواج موضع إكرام وتقديس في حياة الكنيسة. ولهذا فإننا نستقبل بفرح وتقدير، من يد الرب ومن يد الكنيسة، جميع الرجال والنساء الذين أُعلِنَت قداستُهم وهم آباء وأمهات، وأربابُ أسر. إنهم أفضل وأجمل شهادة لقدسية الزواج والأسرة.
الزواج والأسرة هما مقدس الحب. ليس الزواج واقعًا بيولوجيًا وحسب. ولا هو عقد اجتماعي فقط بين رجل وامرأة. بل هو في جوهره حُب ومَقدِسٌ للحب، لأنه واقع بشري صادر عن الله، وفيه يلتزم الشخص التزامًا كليًّا تجاه الآخر، وهو يسير بالزوجين إلى الله. وهو حب يشمل كل مقوِّمات الفرد: الروح والقلب والإرادة والضمير والمسؤولية والجسد، وحتى جميع الربط الداخلية والخارجية التي تربطه بالمجتمع والزمان والمكان والحضارة. هو حب شامل وكَونِيٌّ لأنه مؤسَّسٌ على كيان الشخص نفسه، وليس فقط على وجه واحد من أوجه شخصيته أو نشاطه.
ولقد تأثر القديس بولس بقوة هذا الحب وبعمقه إلى حد أنه قدم الزواج مِثلَ علامة حقيقية، ولو كانت مرارًا علامةً ضعيفة، لحب يسوع المسيح للكنيسة (في الرسالة إلى أهل أفسس).
وبعد هذا كله، نفهم ما قاله يسوع المسيح في الإنجيل المقدّس، وما علمته الكنيسة الكاثوليكية مدى الأجيال، للدفاع عن وحدة الزواج المسيحي وعدم قابليته للانحلال. كان هناك ضعف كثير وصعوبات كثيرة، كما سنرى فيما بعد، عبر التاريخ الماضي واليوم
بصورة خاصة، في مواقف الكثيرين من مؤمنينا، وفي أمانتهم لهذا الحب الذي يقضي البذل الكلي. وتحاول الكنيسة في حنانها الوالدي وفي عملها الراعوي وفي محاكمها الكنسية أن تمدّ يدها إلى الأزواج في صعوباتهم. ولكنها مع ذلك لن تكف عن المناداة بثبات الزواج المسيحي المؤسس على الحب وبوحدته وعدم قابليته للانحلال. وهي تدعو المجتمع أيضًا ليحترم هذا المستودع للقِيَم الإنسانية التي لا يمكن أن يحلّ محلّها شيء آخر مقدس الحب والحياة. الحب والحياة بحسب خطة الله وتدبيره متلازمان غير منفصلين. فالحب الحقيقي يثمر بصورة طبيعية حياة جديدة. والإنجاب، هبة الله العجيبة والحاسمة لمستقبل الإنسان، يتم في إطار مناسب من الحب الذي هو الأسرة المؤسسة على الزواج. هذا هو الأساس المتين لمهمة الأسرة بالنسبة إلى الحياة: إن الحياة هبة مقدسة من الله، فيجب أن نقبلها من يده تعالى وأن نحيطها بالإكرام. ولكن الحياة، في لحظات الحبل والولادة، ضعيفة ولا حِمى لها. ومن ثم لا بد لها من حماية يقدمها القانون والمجتمع والطب. ولا بد لها من حب يحنو عليها، والأسرة وحدها هي القادرة على ذلك. وتحتاج الحياة الجديدة بعد الولادة إلى إطار تجد فيه التربية والتنمية اللازمة والسبيل للاندماج في المجتمع. وهذا أيضًا، الأسرة وحدها تقدر أن تقدمه.
٧. الزواج والعائلة جزء من الإرث الذي وهبه الله للبشرية: «خلق الله الإنسان على صورته، ذكرًا وأنثى خلقهما، وباركهما، وقال: انميا واكثرا واملاءا الأرض (تك ٢٧/١-٢٨). ورسم لهما شرائع وقيمًا لا تحدّ من حرية الإنسان، بل تساعده على النمو الشخصي والاجتماعي. ولهذا ليست العائلة والزواج مؤسستین فقط مسیحیتین°.
أسّس الله الزواج وجعل له قِيَمًا وحدّد له غايات: انه جماعة حياة وحب، ينشىء فيه الزوجان شركة زوجية مدى الحياة، برضى لا رجوع عنه، يتبادلان به ذاتيهما أمام الله والناس. وتهدف هذه الشركة الزوجية إلى خيرها الشخصي وخير الحياة البشرية وذلك بإنجاب الأولاد وتربيتهم. ففي الزواج والعائلة يتواصل الجنس البشري، ويحقق الإنسان كماله الشخصي، ويبلغ مصيره الأبدي، وتتعزز الكرامة البشرية مع الاستقرار الاجتماعي والسلام والازدهار في العائلة وفي المجتمع البشري بأسره٦.
٥. البابا يوحنا بولس الثاني، خطاب الى الجمعية العمومية للمجلس الحبري للعائلة (١٠ حزيران ١٩٨٨)، ٤.
٦. الدستور الراعوي «الكنيسة في عالم اليوم،، ٤٨.
الزواج عهد متأصل في عهد الله مع شعبه بصورة حب زوجي استئثاري وأمين عبّر عنه الأنبياء، والزواج، هذا العهد مدى الحياة القائم بين الرجل والمرأة، برباط ثنائي وحب استثاري، هو خير تنبع أصوله من الخلق وتتأصل جذوره في الطبيعة البشرية. «فالخالق في الأصل جعلهما ذكرًا وأنثى، وقال: يترك الرجل أباه وأمّه ويلزم امرأته، ويكونان كلاهما جسدًا واحدًا» (متى٤/١٩-٥). فكل ما تصنعه الكنيسة والدولة لصالح الزواج والعائلة، إنما تصنعه لخير المجتمع بحد ذاته، وخير جميع الناس٧. وقد اتخذ الله المبادرة الأولى فرفع الزواج إلى كرامة سرّ مقدس مشدّدًا وثاقه بميزة الديمومة، بفضل النعمة المبرّرة التي تقدّس الزوجين وحبهما، والنعمة الحالية التي تعضدهما، فيصبحان في حياتهما الزوجية على صورة اتحاد المسيح بالكنيسة (راجع أفسس ٢٣/٥-٣٢)٨. إن كل زواج صحيح، بالمفهوم القانوني أي الذي لا يعترضه مانع مبطل ولا يشوبه عيب جوهري في الرضى الزوجي ولا ينقصه عنصر في صيغته القانونية٩، يكون سرًّا من أسرار الكنيسة السبعة ١٠.
ندرك من كل ذلك أن الزواج عهد وعقد وسرّ في المفهوم القانوني واللاهوتي. وقد حافظت عليه عائلاتنا الشرقية، ما جعلها ضمانة لصمود شعبنا.
٨. وهيّأوا به ضمير الشعب المختار لفهم وحدة الزواج وديمومته١١. إن جماعة الحب بين الله والناس، كما كشفها الوحي وخبرة الإيمان عند الشعب وجدت التعبير عنها في العهد الزوجي القائم بين الرجل والمرأة. فالكلمة المحورية التي تشكل نقطة الدائرة هي أن «الله يحب شعبه» وتقال بلغة الزوجين على لسان هوشع: «أتزوجكِ إلى الأبد، أتزوجكِ بالعدل والرأفة والمراحم، وأتزوجكِ بالأمانة فتعرفين الرب، (هوشع ٢١/٢- ٢٢). والخطيئة نفسها التي تجرح العهد الزوجي تصبح صورة عن خيانة الشعب لربه، ومعصية الشريعة خيانة لحبه، ولكنها لا تهدم أمانة الرب الأبدية لأنه «يحب بني شعبه وهم يلتفتون إلى آلهة أخر» (هوشع ١/٣). وقد وجدت الشركة بين الله والناس كمالها في يسوع المسيح، العريس الذي يحب البشرية ويهب ذاته لها مخلصًا، ويجعل منها جسده. فكمّل عهد الحب الجديد متخذًا الطبيعة البشرية، وختمه بدمه المراق على الصليب، هو الذي «أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي العَالَمِ، أحبَّهُمْ حَتَّى النَّهَايَةِ» (بو ١/١٣)١٢.
٧. المجلس الحبري للعائلة: التحضير للزواج، ٧.
٨. راجع مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، ٧٧٨ بند٢؛ الحياة البشرية، ٨.
٩. راجع مجموعة قوانين الكنائس الشرقية: القوانين ٨٠٠-٨٢٨.
١٠. المصدر نفسه، ق ٧٧٦ بند٢.
١١. التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، ٣١٨.
١٢. أنظر في وظائف العائلة المسيحية، ٥١٤-٥١٥.
بعهد الزواج ينشىء الزوجان بينهما جماعة حياة وحب، تدوم مدى العمر ولا رجوع عنها١٣. يتكرس فيها الزوجان لتعزيز حياتهما الشخصية بالاحترام المتبادل والتكامل والتعاضد، ساعيًا كل واحد منهما إلى إسعاد الآخر، ويتكرّسان لخدمة الحياة البشرية التي تأتي ثمرة هبة الذات المتبادلة بينهما، وذلك بإنجاب الأولاد وتربيتهم؛ ويشهدان في شركة الحب لمحبة الله المفاضة بالروح القدس في قلبيهما؛ ويتساويان في الحقوق والواجبات، في شركة الحياة والحب ١٤.
والزواج عقد فريد من نوعه، شبيه بكل عقد في عناصره الثلاثة: أهلية الزوجين التي لا يحول دونها أي مانع مبطل١٥، ورضاهما الواعي والحر الذي لا يشوبه عيب جوهري يبطله١٦، والصيغة التي يتبادلان بها الرضى الزوجي والتي لا يبطلها أي نقص في شكلياتها القانونية ١٧. لكنه يختلف عن سواه من العقود في موضوعه: في سائر العقود يتبادل المتعاقدان أشياء من هذه الدنيا، أما في عقد الزواج فيتبادل الزوجان ذاتيهما، إذ يعطي الواحد ذاته للآخر ويقبل ذات الآخر. يتصف تبادل الذات بما يعطي ويأخذ من حق على الجسد في الأفعال المرتبة لإنجاب البنين، بوحدة وأمانة واستثثارية تنحصر بالزوجين دون
سواهما، وبرباط دائم وغير قابل للانفصام، لا يزول إلاّ بموت أحد الزوجين١٨. إن العقد الزوجي، بما ينتج عنه من مفاعيل قانونية، يحصّن حياة الزوجين، ويشكل الصخرة الصلدة التي تبنى عليها العائلة، فتؤمّن لها حالة الاستقرار والثبات على المستويات كافة.
والزواج سرّ من أسرار الكنيسة عندما يكون عقدًا قانونیًّا صحیحًا. رفع الرب يسوع العهد الزوجي إلى رتبة سرّ، وأشرك الزوجين في حبه الذي وهب به ذاته للكنيسة عروسته (أنظر أفسس٢٥/٥-٣٢)، وجعلهما صورة لحبه وشريكيه في الحب١٩ صانعاً من العائلة المسيحية «كنيسة بيتية، ودخلية أولى وحيّة للمجتمع،٢٠ و«معبدًا للحياة،٢١. يوهب الزوجان، بقوة سرّ الزواج، نعمة خاصة هي حضور الروح القدس في حياة الزوجين: فتصورهما على مثال اتحاد المسيح بالكنيسة (أفسس ٢٣/٥-٣٣)، وتجعل من الاثنين جسدًا واحدًا (متى ٤/١٩-٦): إنها نعمة خلاّقة. وتقدّس الزوجين، وتنقّي حبّهما، وتعضد مقاصدهما للقيام بواجبات حالتهما الزوجية، وتمكّنهما من تكريس الذات المتبادل لإسعاد الواحد الآخر: إنها نعمة مبرِّرة. وتعزّيهما في الشدة، وتُنيرهما في الضياع، وتشدّدهما في الضعف، وتعلّمهما الحقيقة وتقودهما إليها: إنها نعمة فعلية، إنها نعمة الحالة الزوجية.
١٣. الكنيسة في عالم اليوم، ٤٨.
١٤. مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، ق ٧٧٦ وق٧٧٧
١٥. مجموعة قوانين الكنائس الشرقية: الموانع المبطلة، ق ٨٠٠-٨١٢.
١٦. المرجع نفسه، عيوب الرضى، ق ٨١٨-٨٢٦.
١٧. المرجع نفسه، الصيغة القانونية، ٨٢٨.
١٨. الدستور المجمعي: الكنيسة في عالم اليوم، ٤٨.
١٩. في وظائف العائلة المسيحية، ١٣.
٢٠. القرار المجمعي في رسالة العلمانيين، ١١.
٢١. انجيل الحياة، ٩٢ و٩٤.
١١. لقد أبرز الإرشاد الرسولي «في وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم، هوية العائلة المؤسّسة على الزواج، بكونها جماعة حياة وحب زوجي. ليست العائلة نتاج الثقافة، ولا نتيجة التطور، ولا نوعًا من الحياة الجماعية المرتبطة بتنظيم اجتماعي ما، بل هي مؤسسة طبيعية، سابقة لأي منظمة قانونية أو سياسية، أرادها الله مباشرة. ولهذا دعاها البابا يوحنا بولس الثاني في هذا الإرشاد إلى أن تعرف ذاتها وتكون ما هي: «أيتها العائلة، عليك أن تكوني أنتِ بحسب ما أرادك الله» (فقرة ١٧).
ويبيِّن هذا الإرشاد الرسولي أربعة واجبات للعائلة تمكّنها من «أن تكون ما هيء: إنشاء شركة أشخاص؛ خدمة الحياة بنقلها وتربيتها؛ المشاركة في تطوير المجتمع؛ المشاركة في حياة الكنيسة ورسالتها كجماعة تؤمن وتنشر الإنجيل، وجماعة في حوار مع الله وفي خدمة الإنسان٢٢.
١٢. إن الله الذي أراد الزواج والعائلة، عندما أراد الخلق، قد أعدّهما ليدركا كمالهما في المسيح بفضل النعمة الشافية من جرح الخطيئة والتي تعود بهما إلى فهم مقاصد الله، وتحقيقها بشكل كامل٢٣. هكذا أصبحا طريقاً إلى الخلاص الشخصي والقداسة للأزواج والوالدين والأولاد. فالعائلة المسيحية التي تولد من الزواج، كصورة لعهد الحب بين المسيح والكنيسة وكشريكة فيه (أفسس٣٢/٥)، تكشف للجميع حضور المخلص حضورًا فاعلاً في العالم، وتعكس طبيعة الكنيسة في أصالتها، سواء من خلال الحب والأمانة وإنجاب الأولاد وتربيتهم، أم من خلال التعاون المحب من قِبَل أعضاء الأسرة جميعهم٢٤.
يعرف الجميع كم من أزواج ووالدين وأبناء وبنات في بلداننا عاشوا حياتهم الزوجية والعائلية بروح القداسة، كما في بلدان أخرى في العالم. لقد رفعت الكنيسة على المذابح مَن مِن بينهم عاشوا ببطولة الفضائل الإلهية والإنسانية، وظهرت عظمة الله في عجائبهم، فأعلنتهم طوباويين وقديسين، ليكونوا نموذجًا للحياة المسيحية والقداسة في الحياة الزوجية والعائلية. نذكر في ملحق هذه الرسالة بعض الرجال والنساء الذين بلغوا درجة القداسة في حياة الزواج وفي مختلف مجالات العمل في المجتمع.
٢٢. في وظائف العائلة المسيحية، ١٨-٦٢.
٢٣. في وظائف العائلة المسيحية، ٣.
٢٤. الكنيسة في عالم اليوم، ٤٨؛ الدستور العقائدي في الكنيسة، ٤١؟
الفصل الثاني: مصاعب العائلة في بلدان الشرق الأوسط
١٣. قدّم ممثلو كنائسنا الشرقية الكاثوليكية، في أثناء المؤتمر، تقارير خطية عن واقع العائلة في بلداننا، في مصر والعراق وسوريا ولبنان، والأردن والأراضي المقدسة، نستخلص منها الوقائع التالية. تعاني العائلة في بلداننا من أزمة اقتصادية خانقة، ناتجة عن الأوضاع العالمية والمحلية، أدّت إلى ازدياد حالة البطالة، وتكاثر الفقراء، بسبب الحروب الدائرة هنا وهناك، وبخاصة الحرب في فلسطين والحرب على العراق، واتساع شبكات الإرهاب وسوء استثمار ثروات الأرض، والغبن في توزيعها، ما جعل الأغنياء أكثر غنى، والفقراء أكثر فقرًا. فانعكست الضائقة الاقتصادية حرمانًا اجتماعيًّا من العيش الكريم والكافي لمعظم عائلاتنا، ومن حقوق الإنسان الأساسية. وحقوق الإنسان تفرض على الدولة أن تستخدم إمكاناتها في سبيل النمو الاقتصادي والترَقِّي الاجتماعي بتأمين الخدمات العامة لجميع المواطنين وفي جميع المناطق٢٥.
وحملت هذه الأزمة البعض على استباحة الوسائل غير الخلقية لكسب المال كالرشوة والسرقة والدعارة والمتاجرة بالمخدرات. وانتشر الفساد، وقلّت فرص العمل، وانفتحت أبواب الهجرة التي تفرغ أوطاننا من قواها الحية ومن أبنائها. فأدّى هذا الواقع الأليم إلى شرذمة العائلة، التي باتت منقسمة بين الأهل وأولادهم، وإلى إضعاف الشركة بين أفرادها، وغياب الحوار وإهمال تربية الأولاد في البيت، فضلاً عن التوتر في العلاقات من جراء الهموم والهواجس وحالات اليأس.
١٤. وتعاني العائلة في بلداننا من انحرافات خلقية تشوّه وجهها، وتنتهك قدسيتها، وتحطّ من كرامتها. فبالرغم من أن مجتمعاتنا ما زالت منضبطة نسبيًّا، وما زالت الشبيبة محاطة بعناية والدية، وملتزمة بإنتمائها الكنسي، ومنضوية في حركات رسولية، فهناك إباحية جنسية تمارس في المجتمع الخفي، ومساكنة حرة تتكاثر، وزواج عرفي ينتشر في بعض الجامعات في بعض بلداننا. وبسبب أجواء العنف والعبثية وانخطاط القيم والأخلاق وغياب المثل الأعلى في صورة الأب المسؤول وضعف السلطة في البيت، انحرف عدد كبير من شباننا وراء ما هو سهل من دون رادع خلقي أو قانوني، ما أدّى إلى تفشي ظاهرة الإدمان على المخدرات والكحول، ولو بدرجة متباينة بين بلد وآخر. وقد اجتاح هذا الإدمان حرم المدارس والجامعات، وروّجته السياحة والفنادق والعولمة. فخلّف عواقب وخيمة من هدمٍ للصحة، ومنعٍ عن العمل وعن كسب العيش بالطرق المشروعة، وكلّف الأهلين والمجتمع مبالغ طائلة لمكافحة الأضرار ومعالجة
٢٥. إرشاد راعوي: اتحاد وتقدم، ٢
المصابين بها. ومن مظاهر الانحراف الخلقي، الخلل في العلاقات الاجتماعية، وإيثار المصالح الشخصية على العامة، والوصولية واستغلال الغير والمتاجرة في كل شيء. هذه كلها سرَّبت إلى العائلة قناعاتٍ غيرَ سليمة في السلوك اليومي، أصبحت قاعدة بدلاً من أن تكون شذوذًا. كل هذه الانحرافات تسيء إلى كرامة الزواج، وتهدم فكرة العائلة وتشوّه بهاء الحب الزوجي وجمال الأمانة، فضلاً عن مخالفتها للشريعة الأدبية والتعاليم الإنجيلية٢٦.
١٥. تقع العائلة فريسة البرامج الإعلامية الهدامة التي تعرضها بعض وسائل الإعلام والاتصال المكتوبة والمسموعة والمرئية. بالرغم من أنها «عطية من عطايا الله، ٢٧ كما تعتبرها الكنيسة، وقد أصبحت لغةً مشتركةً بين البشر، وثقافةً تشمل جميع جوانب الحياة الفكرية والاجتماعية. فبعضها يسيء إساءة كبيرة إلى العائلة وأفرادها. وإن المكانة الكبيرة التي باتت تحتلها المحطات الفضائية الأجنبية، عبر الصحون اللاقطة والكابلات وشبكات المعلوماتية، مع كونها تشكل غنى ثقافيًّا، فهي أيضًا تنطوي على مخاطر جسيمة تهدد العائلة المسيحية وقِيَمَها٢٨، نظراً إلى ما تسوقه من أفلام إباحية وموسيقى صاخبة وبرامج تروّج للعنف والمتعة المحرَّمة والإلحاد والمعاداة للمسيحية، والبدع والطقوس المشوِّهة لرموز المسيحية وعقائدها. والقول نفسه ينطبق على مواقع الشبكة العالمية للانترنت والبريد الالكتروني والبرامج المختلفة المتصلة بها؛ فهي مع ما تحمله من إمكانات للاتصال والتخاطب والتبادل واختصار المسافات، تشكل خطرًا على الشبيبة في حال سوء استعمالها من دون توعية ورقابة مسؤولة ٢٩.
إن البرامج الإعلامية الهدامة التي تعاني منها العائلة في بلداننا تحط من القيم الخلقية وتفسد النفوس بالترويج للإباحية الجنسية، وتنتزع المحبة والرحمة من القلوب بالتحريض على العنف، وتعمل على انحلال الرابطة الزوجية بما تقدّم من برامج خيانةٍ وطلاق. وقد أثرت إلى حدّ بعيد على العلاقات بين الشبان واختيار شريك الحياة وعلى العيش في الأسرة بسلام ووئام، وعلى علاقة الأزواج بعضهم ببعض، وعلاقة الوالدين بأولادهم.
١٦. ويقع الإنسان في العائلة ضحية علوم الحياة المعروفة بأخلاقيات الحياة (bioethics). وتشمل الجهود التي يبذلها العلم في خدمة تحسين نوعية الحياة البشرية، وهي التدخلات التي اكتشفتها العلوم الطبيعية
٢٦. التعليم المسيحي، ٢٣٩٠.
٢٧. راجع رسالة البابا يوحتا بولس الثاني في اليوم العالمي لوسائل الإعلام (٢٠٠٢): «الانترنت وسيلة إعلامية جديدة لاعلان بشارة الإنجيل،، ٤.
٢٨. راجع المجلس البابوي لوسائل الإعلام: «الاباحية والعنف في وسائل الإعلام،؛ «الكنيسة والانترنت،؛ «اخلاقيات في الانترنت».
٢٩. راجع رسالة البابا يوحتا بولس الثاني في اليوم العالمي لوسائل الإعلام (٢٠٠٢): «الانترنت وسيلة إعلامية جديدة لإعلان بشارة الإنجيل، ٤.
والبيولوجية، وتمارَس على حياة الإنسان، بل على الإنسان بحدّ ذاته، في مدى وجوده، من بدايته حتى نهايته. وقد وصلت هذه الممارسات إلى بعض مجتمعاتنا العربية، وتطال الإنسان من بداية تكوينه كمثل الإخصاب في الأنبوب، وحتى النفس الأخير، كمثل الموت الرحيم والعلاج العنيد وتقنيات متنوعة كالإلغاء (في التعامل مع الأجنة) والتغيير (في التعامل مع الجنس) وزرع الأعضاء وضروب الاختبارات الأخرى. إذا طُبَّقَت هذه الاكتشافات العلمية بشكل مناف للشريعة الإلهية أو الطبيعية، وبالتالي للشريعة الخلقية، بحيث تعتمد الإجهاض ووسائل منع الحمل الصناعية بمختلف أنواعها حتى المجهضة منها، والإخصاب الصناعي بجميع بوسائله، فإنها تلحق بالأسرة أضرارًا أدبية جسيمة.
إن عددًا لا يستهان به من الأزواج وأفراد العائلات عندنا يلجأون إلى بعض هذه الممارسات التي تستغل الجهل العام للحقائق العلمية والأخلاقية لدى الناس، وتمكّن بعض الأطباء من كسب مزيد من المال، في مقابل تقاعسٍ عن مجابهتها والحدّ منها لدى المسؤولين المدنيين والكنسيين. أضف إلى هذه الممارسات ما يشرَّع في الغرب لصالح الإجهاض في مختلف مراحل تطور الجنين والموت الرحيم وزواج المثليِّين، وما يتم من اختبارات على الحياة البشرية وهندسة الأجنّة، واستنتساخ بشري وإنجابي.
إن «مسألة أخلاقيات، الحياة هي اليوم «المسألة الاجتماعية الراهنة، ٣٠. فالبابا يوحنا بولس الثاني يؤكّد في رسالته العامة «إنجيل الحياة: «كما أن الطبقة العمالية، منذ قرن، كانت حقوقها الأساسية منتَهَكة، فتولّت الكنيسة الدفاع عنها بكثير من الجرأة وجاهرت بما يتمتع به العامل من حقوق مقدّسة، كذلك الآن، ونحن في إزاء فئة أخرى من الناس يُنتهك حقُّها الأساسي على الحياة، تشعر الكنيسة بأنه عليها أن تتسلح بالجرأة نفسها وتعطي صوتًا لمن لا صوت له. إنها تسمع دومًا صرخة الإنجيل في الدفاع عن بؤساء هذا العالم والمهدَّدين والمحتقَرين والمحرومين حقوقَهم الإنسانية … فإن لم يكن من حق الكنيسة، في نهاية القرن السابق، أن تصمت عن المظالم القائمة آنذاك، فاليوم أيضًا لا يحق لها أن تصمت،٣١.
١٧. ونلاحظ أنّ الجهل الديني الذي يعمُّ أعدادًا لا بأس بها من العائلات، يسهم إلى حدّ بعيد في إضعاف القيم التي تُبنى عليها الحياة الزوجية والعائلية: إنه يسهّل تسريبَ مفاهيمَ خاطئةٍ عن الزواج وغاياته وميزاته؛ ويستبيح ممارساتٍ في الحياة الزوجية منافيةً للشريعة الإلهية والخلقية؛ ويبلغ إلى إفراغ الإيمان من مضمونه؛ ويعرّض الأزواج وسائر أفراد العائلة للتأثر السريع بالتيارات والأيديولوجيات التي تبثُّها البدع والشيع المتفشية بأعداد متزايدة؛ ويُضعِفُ ممارسة الأسرار المقدّسة، ولاسيّما سرّي المصالحة
٣٠. الكردينال Dionigi Tettamanzi في: ٩٢ Diozionario Bioetico, p
٣١. إنجيل الحياة، ٥.
والإفخارستيا، اللذين هما في أساس الحياة الزوجية والعائلية، إذ يحميان وحدتها وقدسيتها، وشركة الأشخاص فيها وتقاسُمَ خيراتها المادية والروحية.
بسبب هذا الجهل المضرّ، دعت الكنيسة إلى تنشئة المسيحيين تنشئة روحية تواكبهم من سن الطفولة حتى الخطوبة فالزواج، بحيث يتلقّوْن المبادئ المسيحية اللازمة، ويتدربون على قبول الأسرار، ويتربَّوْن على تهذيب الأخلاق وكبح الأهواء واحترام الآخر، وينشأون على كرامة الزواج وقدسيته، ودور العائلة وأهميتها، وعلى قيمة الجنس والعفة في الزواج وخارجه، وعلى الأبوّة والأمومة المسؤولة فيما يختص بإنجاب الأولاد وتربيتهم٣٢.
١٨. من نتائج هذه الصعاب، التي ذكرناها، تقويض الرابطة الزوجية. فبالرغم من أن العائلات في بلداننا ما زالت محافظة، في معظمها، على ثبات العهد الزوجي، ووحدة أفرادها، نشاهد في هذه الأيام تكاثر الحالات المؤدية إلى انحلال الرابطة الزوجية بافتراق الزوجين وإبطال الزواج بالبطلان والطلاق، ما يخلّف أضرارًا روحية ومعنوية ومادية للزوج البريء، وصدمات عاطفية ونفسية تطبع حياة الأولاد الذين يختبرون حالة اليُتم، وأهلُهُم أحياء. فلا بدَّ من اهتمام راعوي يبدأ بالإعداد للزواج إعداداً روحيًّا وخُلُقيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا، ومواكبة الأزواج الجدد، وإحاطة العائلات المتعثرة بمشاعر المحبة وبمبادرات إنقاذية هادفة. وكون العائلة خلية المجتمع الأولى، فإن العناية بها عناية بالمجتمع نفسه٣٣.
الفصل الثالث: مصاعب العائلة في التشريمات والممارسة القضائية وفي السياسة الاقتصادية
١٩. فيما الزواج مصون والأسرة محافظة على هويتها وتقاليدها، بفضل نظام الأحوال الشخصية المعتمد في بلدان الشرق الأوسط وإفريقيا الشمالية، فإنّ العائلة على وجه عام لا تحظى في كل هذه البلدان بكامل حقوقها وحقوق أفرادها. والأسباب متنوعة في التشريع والممارسة القضائية، نذكر منها: التمييز القائم بين الرجل والمرأة وعدم المساواة بينهما؛ والزواجات المختلطة التي تفقد الشريك المسيحي الكثير من حقوقه؛ وتبديل الدين أو الطائفة من أجل الحصول على الطلاق والتهرُّب من التشريع الكاثوليكي وقضائه. ذلك كله يتسبب بتفكيك روابط العائلة، ويضعها في حالة معاناة وبطالة وحرمان، ويصبح سببا يحمل العائلة كلها أو بعضَ أفرادها على الهجرة.
٣٢. في وظائف العائلة المسيحية، ٦٦؛ المجلس البابوي للعائلة: الاعداد لسرّ الزواج، ٢٢.
٣٣. في وظائف العائلة المسيحية، فقرة ٧٩ وما يليها.
٢٠. نشأ، في الأصل، نظام الأحوال الشخصية في هذه البلدان على أساس «شخصية القانون المطلقة، على صعيدي التشريع والقضاء، التي اعتمدها الإسلام الديني والسياسي، فاعتبر أن لكل شخص دينه وشريعته، وأن الشرائع توجد على الأرض الواحدة بمقدار ما يوجد عليها من أديان، وأن لكل أمّة دينية شرائعها التي بموجبها تفصل في نزاعات أتباعها، ذلك أن الاستقلالية التشريعية تكتمل بالاستقلالية القضائية.
على هذا الأساس كانت للمسيحيين شرائعهم الخاصة في شؤونهم الروحية والزمنية ابتداءً من الجيل السابع، واكتملت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر بقانون موحّد (Nomocanon) داخل كل كنيسة، مثلَ قانون ابن العسّال للكنيسة القبطية، وكتاب الهدى للكنيسة المارونية، وقانون ابن العبري للكنيسة اليعقوبية أو السريانية الأرثوذكسية، وقانون عبديشو للكنيسة النسطورية، ومجموعات تشريعية لكل من الكنيستين الملكية والأرمنية.
٢١. حافظ المسيحيون في مختلف العهود الإسلامية على استقلاليتهم التشريعية والقضائية، في شؤونهم الدينية والمدنية، إنما في أطر تارة واسعة وتارة ضيقة. فكانت هذه الاستقلالية مطلقة في عهد الخلفاء الأوّلين الراشدين (٦٣٢-٦٥٦) والخلفاء الأمويين (٦٥٦-٧٥٠)، وتحدّدت صلاحيات المسيحيين التشريعية وصلاحياتهم القضائية، في عهد العباسيين (٧٥٠-١٢٥٨) في ما سُمّي بالشرع الشخصي والعيني والإرثي والجزائي، مع صلاحياتهم القضائية، حتى إن «قاضي المسلمين، احتفظ لنفسه بصلاحية الفصل في النزاعات القائمة بين غير المسلمين من كنائس مختلفة وبتطبيق الشريعة الإسلامية عليهم، وفي النزاعات القائمة بين مسلمين وذميين، وفي تلك المختصة بالنظام العام. وظلت الحال على هذا المنوال في عهد المماليك (١٢٥٣-١٥١٧). أما في العهد العثماني (١٥١٦-١٩١٨)، فكانت حركة «التنظيمات، التي هدفت إلى ضمّ الجماعاتِ غيرَ الإسلامية داخل الأمّة، وإلى تحديد أحوالها الشخصية بسلسلة من المراسيم الإمبراطورية، توالت من سنة ١٨٣٩ حتى ١٩١٧. وفيما كانت ممارسة العدالة للمسلمين من صلب قوانين الدولة، ظلت العدالة لغير المسلمين محصورة ضمن هيكلية مذهبية، تشريعًا وقضاءً، ولكن تحت رقابة الدولة في ما يختص بالصلاحية والتنفيذ.
٢٢. مع نشوء الدول العربية في الشرق الأوسط وإفريقيا الشمالية، ونيل استقلالها، كانت في كل دولة قوانين رسمية للأحوال الشخصية. وكان للكنائس شرائعها الخاصة ومحاكمها وفقًا للصلاحيات المحدّدة لها من قِبَل السلطة السياسية في كل بلد. وفيما راحت قوانين هذه الدول تتطوّر وتُقلِّصُ شيئًا فشيئًا صلاحياتِ السلطات المسيحية في التشريع وممارسة العدالة على مستوى الأحوال الشخصية، بحيث أن
المسيحيين أصبحوا غيرَ متساوين مع سواهم من المواطنين في الحقوق على هذا الصعيد٣٤، حافظ لبنان ٣٥ وحده إلى اليوم على نظام الأحوال الشخصية كاملاً في كل مضامينه بالمساواة بين المسيحيين والمسلمين في التشريع والقضاء.
٢٣. إن القواعد المتبعة لممارسة العدالة في هذه البلدان، تنتقص من حقوق الأزواج المسيحيين، وتسبب خللاً في المساواة بين المواطنين بداعي التمييز الديني. نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
أ – إذا اعتنق احد الزوجين المسيحيين الدين الإسلامي، أثناء النظر في دعواه لدى محاكمته، يحق له الانضواء تحت أحكام الشريعة الإسلامية مثل سائر المسلمين. وإذا اعتنق الزوج المسيحي الدين الإسلامي، تُطبّق عليه الشريعة الإسلامية في منازعات أحواله الشخصية، سواء حصل التغيير قبل فتح الدعوى أو أثناء التقاضي فيها. ولا تأثير على هذه الممارسة، إذا بقيت الزوجة المسيحية على دينها. أما إذا اعتنقت الزوجة المسيحية الدين الإسلامي، وبقي زوجها على دينه المسيحي، فيحق لها أن تطلب طلاق الخُلْع لدى المحكمة المدنية التي تصبح ذات اختصاص بداعي اختلاف الطائفة أو الملة.
٣٤. في مصر: فضلاً عن الدستور، القانونان ٤٦١ و٤٦٢ الصادران في ٢١ ايلول ١٩٥٥ عن وزارة العدل لحكومة الثورة؛ والقانون المدني الصادر في ١٥ اكتوبر ١٩٤٩ بشأن الوصايا والمواريث؛ والقانون رقم ١٠ الصادر سنة ٢٠٠٠ المعروف عند العامة بقانون الخلع. في سوريا: الدستور الصادر في ١٩٧٣/١/٣١؛ وقانون الأحوال الشخصية الصادر بالمرسوم الاشتراعي عدد٥٦ في ١٩٥٣/٩/١٧؛ والقانون رقم ٩٨ الصادر في ١٩٦١/١١/١٥. في الاردن: الدستور الصادر في ١٩٥٢/١/١؛ وقانون مجالس الطوائف الدينية غير المسلمة الصادر سنة ١٩٣٨؛ وقانون الأحوال الشخصية الصادر في ١٩٧٦/١٢/١ الذي ألغى قانون حقوق العائلة الأردني رقم ٩٧ سنة ١٩٥١ والتشريعات الأخرى؛ وقانون المجلس الوطني لشؤون الأسرة، رقم ٢٧ سنة ٢٠٠١. في العراق: الدستور الصادر في ٤١٩٥٨/٧/٢٧ والقانون رقم ٣٢ الصادر سنة ١٩٤٧ الذي نظم المحاكم الطائفية؛ وقانون الأحوال الشخصية رقم ١٨٨، الصادر في ١٩٥٩/١٢/٣١، والمعدل بالقانون رقم ١١ الصادر في ١٩٦٣/٣/٢١؛ وقانون المحاكمات الصادر في ١٩٥٠/٥/١٣ الذي تتبعه المحاكم المسيحية؛ وقوائين مدنية أخرى تختص بالتوريث وبإدارة أملاك القاصرين. في توس: فضلاً عن الدستور، قانون الأحوال الشخصية المعروف «بالمجلة» الصادر تباعاً، مؤلفاً من ١٢ كتاباً، في ١٩٥٦/٨/١٣، و١٩٥٩/٦/١٩، و١٩٦٤/٥/٢٨. في الجزائر: الدستور؛ وقانون العائلة الصادر في ١٩٨٤/٦/٩ مؤلفاً من أربعة كتب؛ وأنظمة أحوال شخصية أخرى والقانون المدني الفرنسي. في المغرب: الدستور؛ وقانون الأحوال الشخصية المعروف «بالمدوّنة»، الصادر سنة ١٩٥٧ ودخل حيز التنفيذ في ١٩٥٨/١/١. طبق قانون المدونة على المغاربة المسلمين وغير المسلمين والإسرائيليين ابتداءً من صدور قانون الجنسية المغربية في ١٩٥٨/٩/٦.
٣٥. حدّدت الدولة اللبنائية صلاحيات الطوائف المسيحية الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستنتية والطائفة الإسرائيلية في قانون ٢ نيسان ١٩٥١، ودعت هذه الطوائف لتقديم قوانين أحوالها الشخصية وأصول المحاكمات لديها، ففعلت سنة ١٩٥٢. وحددت صلاحيات المحاكم المذهبية للدروز في قانون ١٩٤٨/٢/٢٤، وصلاحيات المحاكم الإسلامية الشرعية للسنة والشيعه في قانون ٠١٩٦٢/٧/١٦
وإذا اعتنق أحد الزوجين المسيحيين الدين الإسلامي بعد صدور حكم بالهجر والنفقة من محكمتهما المسيحية المختصة، يصبح من صلاحية المحكمة الشرعية إصدار حكم بالطلاق، تلغى بموجبه النفقة المقررة سابقًا؛ وبالمقابل كل حكم يصدر عن المحكمة المسيحية يكون غير قابل للتنفیذ.
ب- إذا انتمى الزوجان إلى طائفتين أو مِلَتين مختلفتين، تطبق الشريعة الإسلامية على منازعاتهما.
ج- إذا كان أحد الزوجين مسلمًا، رجلاً كان أم امرأة، يكون الاختصاص في دعوى الأحوال الشخصية للمحكمة الشرعية الإسلامية.
د- إذا كان أحد الزوجين مسلمًا، تُحجَبُ الوراثة عن زوجه غير المسلم. والمرأة المسيحية، إذا أسلم زوجها تفقد حق الوراثة منه.
٢٤. أما في لبنان، فالقاعدة هي أن السلطات الدينية المسيحية والإسلامية وسواها من الديانات الأخرى لا تستطيع ممارسة سلطتها القضائية سوى على الأشخاص المنتمين إليها وحاملي الجنسية اللبنانية؛ وإن صلاحية عقد زواج بين لبنانيين من طوائف مختلفة تعود إلى السلطة الدينية التي يخضع لها الرجل، إلا إذا اتفق الزوجان خطيًّا على عقده أمام سلطة الطائفة التي تنتمي إليها المرأة. ويخضع الزواج لمحاكم الطائفة التي عقد أمامها. وفي حال وجود عقد زواج شرعي أو أكثر تكون السلطة المختصة هي تلك التي عُقد أمامها الزواج الأول. أما إذا كان واحد فقط من العقود شرعيًّا، بموجب الأصول القانونية، فتكون الصلاحية للسلطة التي عُقِد أمامها هذا الأخير. وفي حال تبديل الطائفة أو الدين من قبل أحد الزوجين، تبقى الصلاحية للسلطة التي عقد الزواج أمامها. وإذا بدّله كلا الزوجين، فتنتقل الصلاحية إلى السلطة الدينية الجديدة التي يخضعان لها.
إن هذه القواعد اللبنانية التي تكرس المساواة بين المسيحيين والمسلمين في شؤون أحوالهم الشخصية، تشريعًا وقضاءً، ترتكز على صيغة العيش المشترك المنظم دستوريًا في لبنان، وتحديدًا في المادة التاسعة من الدستور التي تنص على أن «حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى، تحترم جميع الأديان والمذاهب، وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها، على ألاّ يكون في ذلك إخلال بالنظام العام، وهي تضمن أيضًا للأهلين، على اختلاف مللهم، احترام نظام أحوالهم الشخصية ومصالحهم الدينية».
٢٥. أما على صعيد الجماعة الدولية، فقد واجهت العائلة وتواجه مصاعب وعقبات منظمة، ظهرت جليًّا في مؤتمر القاهرة الدولي حول السكان والإنماء في مناسبة السنة العالمية للعائلة عام ١٩٩٤. كان السعي إلى إفراغ رسالة العائلة، بالتركيز على «وهم الانفجار السكاني،. فعلى الرغم من سقوط هذا الوهم، في ضوء الأبحاث العلمية الجديدة، ما زالت الجماعة الدولية تغذي حملة عالمية لمراقبة السكان (Population Control)، وصفها البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة «إنجيل الحياة» (الفقرة ١٢) بأنها «مؤامرة المقتدرين ضد الفقراء». وهي كذلك، لأنها تعتمد وسائل لا تحترم الشخص البشري وحقوقه الأساسية، فتعزِّز الإجهاض، ووسائل منع الحمل، والتعقيم وحتى قتل الأبناء وبخاصة البنات. إن منظمة الأمم المتحدة، التي تشكل سلطة دولية لدعم الأعمال والمبادرات الهادفة إلى العيش السلمي والتعاون بين الأمم مع حماية حقوق الشخص البشري الأساسية العامة وتعزيزها، ولخدمة الخير العام الشامل، مدعوة لتدرك أن العائلة تحتل الأولوية بين هذه الحقوق وهذا الخير العام، لكونها «الإرث الأصلي والمقدس للبشرية»، على ما يقول البابا، ولأنها «العنصر الطبيعي والأساسي للمجتمع،٣٦.
٢٦. لقد نبّه الحبر الروماني أكثر من مرة إلى الخطر الذي يهدّد بفقدان المعنى الأصلي للعائلة من جراء ما تتخذ هذه المنظمة الدولية من تدابير وما تروّج من برامج لا تنسجم مع المثل والقيم الخلقية التي تأسّست عليها، ما يزعزع الثقة في واجبها الذي يملي عليها أن تقدم حلولاً أدبية لمعضلات العالم. نذكر من بينها النمو الديموغرافي في العالم، والتقدم في السن لدى سكان بعض البلدان الصناعية، ومكافحة الأمراض، والهجرة القسرية لمجموعات من السكان ٣٧. وأشارت الكنيسة باستمرار إلى المخاطر التي تهدّد، في زمننا الحاضر، العائلة والحياة، وكرامة الشخص البشري، والوضع القانوني للجنين، ودور العائلة في المجتمع دورًا محوريًّا وحاسمًا، وحقيقة الجنس ومدلوله. عن هذه التهديدات وسواها كتب البابا يوحنا بولس الثاني: «وبالرغم من أن الكنيسة ما فتئت تندّد بهذه التهديدات منتهزة مختلف الفرص- كالخطب أمام منظمة الأمم المتحدة، ومؤسسة اليونيسكو، ومؤسسة التغذية والزراعة، وفي غير مكان، – فمن واجبها أن تتفحصها على ضوء الحقيقة التي تلقتها من الله، ٣٨.
٢٧. البرلمان الأوروبي، باتخاذه قرارًا لصالح الممارسة المثلية، مشترعًا نوعًا جديدًا من العائلة قائمًا على اتحاد الأشخاص المثليِّين، إنما يعطي قيمة مؤسساتية لتصرفات شاذة، غير مطابقة لتصميم الله، ولو ادّعى انه فعل ذلك دفاعًا عن أشخاص ضعفاء، ذوي ميول مثلية، ولرفض التمييز العنصري تجاههم. توافق الكنيسة على هذا الدفاع وهذا الرفض، لكنها لا ترضى خلقيًّا بالموافقة القانونية على الممارسة المثليّة. لا أحد ينكر وجود حالات ضعف عند الإنسان، لكن هذا لا يعني أنه يجب أن ندعم هذا الضعف ونشجعه كما فعل البرلمان الأوروبي. هذا ما قاله البابا يوحنا بولس الثاني في مناسبة الاحتفال بالسنة العالمية للعائلة ٣٩.
٣٦. كلمة البابا يوحنا بولس الثاني في صلاة التبشير الملائكي في ١٩٩٤/٤/١٧؛ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة ٣/١٦.
٣٧. خطاب البابا يوحنا بولس الثاني إلى المدراء العامين للمنظمات الدولية التابعة لمنظمة الامم المتحدة في ١٩٨٥/١٠/١٨؛ رسالته الموقعة بخط يده إلى رؤساء الدول في العالم وإلى الامين العام لمنظمة الامم المتحدة في ١٩٩٤/٣/١٩.
٣٨. الرسالة العامة: في الرحمة الاهية، ٢.
٣٩. كلمة البابا يوحنا بولس الثاني في صلاة التبشير الملائكي في ١٩٩٤/٢/٢٠.
فالأسرة، هذا الاتحاد الدائم بين رجل وامرأة يلتزمان تبادل الذات، وينفتحان على إنجاب الحياة، ليست فقط قيمة مسيحية، بل هي قيمة طبيعية متأصلة في الخَلق. وليس ضياع مثل هذه الحقيقة قضية مذهبية، بل يشكل خطرًا يهدد البشرية بأسرها. في الواقع، الشريعة الطبيعية، التي وضعها الله في قلب الإنسان، تسبق كل شريعة يضعها الناس، وهي مقياس لصحتها٤٠.
٢٨. الإرشاد الرسولي «في وظائف العائلة المسيحية» يساند العائلات في «واجب بذل الجهود لكي لا تَمَسَّ شرائعُ الدولة ومؤسساتُها بحقوق العائلة وواجباتها، وللدفاع عنها ولدعمها بصورة حازمة،٤١. وهذا ما حمل البابا يوحنا بولس الثاني على تذكير المشترعين والقادة السياسيين بالأهمية الأساسية لقيم العائلة وواجباتها الاجتماعية، التي يجب أن يؤيدوها في صيغة تدخلات سياسية. ومن حق العائلات أن تطالب بهذا، من دون أن تعتبر مطالبتها تدخلاً في السلطة العامة، أو انتقاصًا من سيادتها؛ فهو بكل بساطة حقُّها في المشاركة في توفير الخير العام الذي يضمن قيم العائلة والحياة٤٢. ولهذا لا تستطيع المنظمات الدولية أن تحصر أهدافَها، في الألفية الثالثة، في المعضلة الاقتصادية فقط، أو في التوازن بين القوى القائم على حالة اللاحرب بين الشعوب.
٢٩. إن «شرعة حقوق العائلة، تلفت النظر في مقدمتها إلى «أن حقوق العائلة وحاجاتها الأساسية وخيرها وقيمها، ولئن كانت محمية في بعض الحالات، فهي في أغلب الأحيان مهددة بشرائع ومؤسسات وبرامج اجتماعية واقتصادية» (المقدمة/ي). وتطالب الشرعة بألا تكون المساعدة الاقتصادية الممنوحة، من أجل إنماء الشعوب، مشروطة بقبول برامج منع الحمل أو التعقيم أو الإجهاض (المادة ٣/ب). وتطالب بحق العائلة في المساعدة من قبل المجتمع لإنجاب الأولاد وتربيتهم. «فيحق للأزواج الذين لهم عائلة كبيرة العدد أن يحصلوا على مساعدة متناسبة، ولا يجوز أن يكونوا ضحية لأي تمييز> (المادة ٣/ج).
الفصل الرابع: توجیهات وحلول
٣٠. أمام هذه الصعاب التي تشكل تحديًا كبيرًا لنا جميعًا، لا يسعنا إلاّ أن نرسم خطة مشتركة لراعوية العائلة في بلداننا، في ضوء ما صدر من توصيات عن مؤتمرنا الثالث عشر في القاهرة، وعلى ضوء مبادئ الكنيسة وتوجيهاتها.
٤٠. كلمة البابا يوحنا بولس الثاني في صلاة التبشير في ١٩٩٤/٦/١٩.
٤١. في وظائف العائلة المسيحية، ٤٤.
٤٢. خطاب البابا في مؤتمر الاتحاد البرلماني المشترك في ١٩٨٢/٩/١٨.
على المستوى الاقتصادي: الاقتصاد هو العصب المادي لإنشاء عائلة، بكرامة، وتحقيق ذاتها بكامل أفرادها، ولاسيّما بأجيالها الطالعة. وإننا ننادي بحق العائلات في أن تنعم بأوضاع اقتصادية تؤمّن لها مستوى حياة ملائمًا لنموها، وفي أن يمتلك أفرادها أموالاً خاصة يحصلون عليها بالتوارث ونقل الملكية، دونما تمييز ديني، فيتمكّنون من تعزيز حياة عائلية مستقرة٤٣.
ومن شأن الحياة الاقتصادية السليمة أن تؤمّن لكل عائلة ما لها من حقوق أساسية طبيعية في مجالات العمل والأجر العادل، والسكن اللائق، والصحة والطبابة، والتعليم والتربية٤٤. فالعمل ينبع من طبيعة الإنسان ويمكّنه من ممارسة نشاطه الخلاّق، وتحقيق ذاته، وكسب سبل عيشه وبقائه. وهو ضرورة اجتماعية لنمو المجتمع وتطويره وترقِيه، ولتعزيز العدالة الاجتماعية والتوزيعية. والمسكن هو الإطار الطبيعي لاستقرار العائلة وأمانها. وفيه تُحتَرم الخصوصية والحياة الحميمة، وإليه يخلد الإنسان ليجد راحته بعد التعب وإرهاق العمل. ومن حق الإنسان المطلق البديهي أن يتمتع بصحة جيدة ويُحمَى من الأمراض والأوبئة وأن تتوفر له وسائل العلاج الصحيح، والعلم والتربية. كل هذه هي الأسس التي تبنى عليها الحياة العائلية والاجتماعية والوطنية.
إن الكنيسة والدولة مدعوتان، كل واحدة من جانبها وبوسائلها الخاصة، للعمل على التخفيف من الضائقة الاقتصادية وتحرير العائلة من نتائجها الاجتماعية البائسة. وإننا نناشد أبناءنا ومؤسساتنا لتكثيف الجهود، وتثمير الأموال والإمكانات في سبيل تأمين فرص عمل جديدة، وإحياء مبادرات تضامن وتعاضد لمواجهة المعضلات الحياتية على مستوى التعليم والطبابة والاستشفاء.
ولكنّ واجب الدولة يبقى الأساس للحدّ من الأزمة الاقتصادية، ولاسيّما بالحدّ من إهدار أموال الدولة وضبط الفساد، ورفع الظلم الاجتماعي ومواجهة حالة الفقر. إن الذين تعهّدوا الخدمة العامة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ينبغي عليهم، من باب الواجب الآمر، أن يُخضِعوا مصالحهم الخاصة أو الفئوية لصالح أُمّتهم، وأن يقودوا الشعب بكامله إلى السعادة بحسن إدارة الشأن العام، وأن يعملوا جاهدين على بناء نظام سياسي واجتماعي عادل ومنصف يحترم الأشخاص وجميع الاتجاهات، ليبنوا معًا بيتهم المشترك ٤٥.
٣١. على المستوى الروحي الخلقي، تشكّل العائلة ضمانة أساسية لحفظ القِيم الإنسانية والاجتماعية وللتربية عليها؛ ولا قيام لمجتمع بشري سليم من دون هذه القِيم. يعلّم آباء المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني أن «العائلة هي المهد والوسيلة الفعّالة لجعل المجتمع أكثر إنسانية، ولإضفاء الصفة الشخصية عليه.
٤٣. شرعة حقوق العائلة، المادة ٩/أ.
٤٤. المصدر نفسه، المادة ١٠ و١١.
٤٥. الإرشاد الرسولي: رجاء جديد للبنان، ٩٤.
وبهذا تسهم إسهامًا فريدًا وعميقًا في بناء العالم، إذ تمكّنه من أن يعيش الحياة بطريقة إنسانية حقيقية، وتساعد على نقل الفضائل والقِيّم من جيل إلى جيل،٤٦.
فلكي تنجو العائلة من الانحرافات الخلقية التي تتهدّدها، يقع على رعاة النفوس واجب العناية عنايةً خاصة بتنشيط الروحانية الزوجية والعائلية، التي تطبع الحياة اليومية وأعمالها كلها بطابع الحب الطاهر وهبة الذات السخية، حتى لا تنفصل عن القيم الأخلاقية للحياة العائلية. تتأصل هذه الروحانية في سرَّي المعمودية والميرون، وتتشدّد بسرّ التوبة، وتتغدّى بالإفخارستيا، وتكتمل بالصلاة العائلية ٤٧.
إن ممارسة سرّ المصالحة تمكّن الأزواج وجميع أعضاء العائلة من أن يدركوا بالإيمان كيف أن الخطيئة تنقض، لا العهدَ المبرم مع الله وحسب، بل أيضًا عهدَهم واتحاد العائلة، فينقادون به إلى ملاقاة الله «الغني بالرحمة، الذي يعيد، بإفاضة حبه الأقوى من الخطيئة، بناء العهد الزوجي والاتحاد العائلي ویکملهما٤٨.
وفي سرّ الإفخارسيا، ذبيحة عهد محبة المسيح للكنيسة المختوم بدمه على الصليب، يجد الأزواج المسيحيون الينبوع الذي يتفجر منه عهدهم الزوجي ويحيا باستمرار. وفي المحبة النابعة من الإفخارستيا تجد العائلة المسيحية أساسَها وروحَ اتحادها ورسالتِها، ذلك أن خبز الإفخارستيا يجعل من مختلف أعضاء الجماعة العائلية جسدًا واحدًا تتجلى فيه وحدة الكنيسة. ويصبح بالتالي تناولُ جسدِ الرب ودمِه ينبوعًا لا ينضب لنشاط العائلة المسيحية الرسولي والإرسالي٤٩.
نرجو أن تكون سنة الإفخارستيا التي نعيش ثمارها مناسبة لتمتين أسس الزواج والعائلة عليها، آملين أن تشكّل رسالتا الطيب الذكر البابا يوحنا بولس الثاني «الكنيسة من الافخارستيا تولد (١٧ نيسان ٢٠٠٣) ودامكث معنا يا رب» (٧ تشرين الأول ٢٠٠٤) المعين الذي لا ينضب للروحانية الزوجية والعائلية. أما الصلاة العائلية فإنها تمكّن حياة الأزواج والعائلة من تحويل أعمالهم إلى قرابين روحية مقبولة لدى الله بيسوع المسيح، بفضل مشاركتهم في كهنوت المسيح بالمعمودية وسرّ الزواج. فالصلاة العائلية صلاة جماعية يتلوها الزوجان معًا والأهل والأبناء، وتشمل حياة العائلة في كل ظروفها: الأفراح والأحزان، والآمال والهواجس، والولادات وذكراها السنوية، ويوبيل زواج الوالدين، والغيابات والعودات، والاختبارات الخطيرة الحاسمة، ووفاة الأحباء. كل هذه الأحداث تشكل مناسبات لتأدية أفعال
٤٦. الدستور الرعوي: الكنيسة في عالم اليوم، ٥٢؛ في وظائف العائلة المسيحية، ٤٣.
٤٧. المجلس البابوي للعائلة: الاعداد لسرّ الزواج، ٤١.
٤٨. في وظائف العائلة المسيحية، ٥٨.
٤٩. المرجع نفسه، ٥٧.
الشكر والابتهال وتسليم العائلة ذاتها للآب الذي في السماء، وتُظهِرُ محبةَ الله التي تواكب مجرى أحوال العائلة٠°.
٣٢. على مستوى وسائل الإعلام والاتصال، التي لها تأثير كبير على ثقافة اليوم، ولا مجال للاستغناء عنها، من الضرورة بمكان التربية على حسن استعمالها، بقدراتها المذهلة، لخير الأشخاص والعائلات، بعيدًا عن المصالح التي غالبًا ما تُنسي وتضحَّي بالخير الأدبي وخيرِ الأطفال والشبان والعائلات. وبالرغم مما لهذه الوسائل من تأثير ايجابي بفضل قدراتها الهائلة، فإن خطورتها تكمن في إمكانية تلاعبها بالضمائر وبالحياة العائلية. فمن هنا واجب الدولة والكنيسة والمسؤولين عن وسائل الإعلام والاتصال والعاملين فيها أن يتعاونوا في البحث عن استراتيجيات أفضل لكي تنصبَّ القُدُرات الإيجابية في صالح العائلات. فمن حق هذه الأخيرة حقًّا أساسيًّا، أن تستعمل هذه الوسائل وأن تكون هي حرّة ومحمية، وأن تكون بيوتُها أيضًا محميةً من اجتياح صور العنف والجنس والإباحية، من خلال برامجَ مخلةٍ بالآداب وإعلاناتٍ غيرِ محتشمة٥١.
لا يحق للعائلات أن تتخلّى عن مسؤوليتها التربوية، أو أن ترى في فرص الهروب السهلة، التي يقدمها جهاز التلفزة والإنترنت وبعضُ النشرات المبتذلة، سبيلاً تشغل به وقت أطفالها وأولادها، بل يقع على الأهل واجب السهر على توفير تسليات أخرى لأولادهم تكون أسلم وأنفع وأفيد تربويًّا للجسد وللأخلاق وللروح، وعلى استعمال الوسائل الإعلامية استعمالاً معتدلاً وناقدًا وفطنًا، من شأنه أن يهذب ضميرهم، ويرشدهم إلى ما يجب أن يختاروه أو ينبذوه من المشاهد أو البرامج المعروضة٢°.
ولهذا على الوالدين أن يقيموا علاقات مع المسؤولين عن الإنتاج الإعلامي، ويعرّفوهم مطالب العائلات التي تضمن استقرارها واتزانها وسعادتها، لأن كل انتهاك لقِيَم العائلة الأساسية سواء على مستوى الإباحية أم العنف، أم الدفاع عن الطلاق، إنما هو في الحقيقة مسّ بخير الإنسان الصحيح٣°.
ومن واجب رعاة الكنيسة أن يحيطوا ببالغ العناية المسؤولين عن وسائل الإعلام والاتصال بهم، من ناشرين ومؤلفين ومخرجين ومديرين ومسرحيين ومذيعين ومعلقين وممثلين، ويسهروا على أن تتوفر لهم، إلى جانب التنشئة المهنية، ثقافة مسيحية، تمكِّنُهم من جعل وسائل الإعلام أدواتٍ ايجابيةً لبناء المجتمع، ونقل
٥٠. المرجع نفسه، ٥٩,
٥١. مؤتمر «حقوق العائلة ووسائل الاتصال>، الفاتيكان (٢-٤ حزيران ١٩٩٢).
٥٢. في وظائف العائلة المسيحية، ٧٦.
٥٣. المرجع نفسه.
قِيَم العائلة الأساسية وحماية أفرادها من اعتداءات بعض هذه الوسائل٤°. ويبقى على الجميع أن يدعموا ماليًّا ومعنويًّا وسائل الإعلام والاتصال المسيحية، وأن يستفيدوا من برامجها، ولاسيّما منها إذاعة «صوت المحبة، وتلفزيون «تليلوميار» و«نورسات» الفضائية، التي تسهم إسهامًا كبيرًا في نشر بشرى الخلاص والقيم الإنجيلية في كل بقاع الأرض. وبما أن وسائل الإعلام منبر هام للتبشير الجديد بالإنجيل، فقد بات من الضرورة بمكان أن يتخصص في هذا المجال الإكليريكيون والعلمانيون الملتزمون بالعمل الرسولي.
٣٣. على مستوى أخلاقيات الحياة، فخطورة الاختبارات العلمية على الحياة البشرية والإنسان، المتأتية من عزل الاكتشافات العلمية عن الوحي الإلهي والشريعة الأدبية، تقتضي من الكنيسة أن تنشر المبادئ اللاهوتية والأدبية المتعلقة بالزواج والأسرة والحياة، كما تفرض على الكهنة وسائر رعاة الكنيسة والمرشدين أن يعملوا على تنشئة ضمائر الأطباء والمؤمنين. إن الوثائق الكنسية العديدة بشأن أخلاقيات الحياة (كالإخصاب في الأنبوب، ووسائل منع الحمل، والتعقيم، والتشخيص السابق للولادة، والإجهاض، والموت الرحيم، وسواها)، ينبغي أن تنقل إلى اللغة العربية، وتدرج في برنامج مراكز التحضير للزواج ومراكز الإصغاء للأزواج والعائلات. ومن الأهمية بمكان العمل على إنشاء مراكز تنشئة لتعليم أخلاقيات الحياة، تقدم لمحترفي الطب والتمريض، أساسًا علميًّا وخلقيًّا للقيام برسالتهم. ولا بدّ أيضًا من التنسيق مع إرشادات الكرسي الرسولي والدوائر المختصة لديه لإعداد وثائق ومراجع بهذا الشأن توفر مشورات وآراء للمشترعين المعنيين بتهيئة مشاريع القوانین.
٣٤. لقد اختصرت الكنيسة موقفها من أخلاقيات الحياة في شرعة حقوق العائلة بما يلي:
أ- للأزواج حق لا يُنتزع منهم في تأسيس عائلة وفي قرار تنظيم المسافة بين الولادات وعدد الأولاد المنوي إنجابُهم، وفقًا للنظام المرتكز على الشريعتين الإلهية والطبيعية، والذي ينفي اللجوء إلى وسائل منع الحمل والتعقيم والإجهاض، منطلقين من واجباتهم تجاه ذواتهم وأولادهم والأسرة والمجتمع. فكل تدخل من قبل السلطات العامة أو المنظمات الخاصة يحد من حريّة الأزواج وقراراتهم الضميرية، يُعتبر إساءة خطيرة للكرامة الإنسانية وللعدالة (المادة ٣/أ).
ب- احترام الحياة البشرية منذ اللحظة الأولى للحبل بها واجب مطلق. وعليه، فإن الإجهاض انتهاك مباشر للحق الأساسي لكل كائن بشري في الحياة؛ واحترام كرامة هذا الكائن تنفي كل تلاعب مخبري أو استغلال للجنين البشري؛ والتدخّل في الإرث الوراثي للشخص البشري، لا يهدف إلى تصحيح انحرافات، يشكّل انتهاكًا للحق في السلامة الحسية، ويتنافى وخير العائلة (المادة ٤/أ، ب، ج).
٣٥. على مستوى الجهل الديني، توجب راعوية العائلة على الرعاة في الكنيسة أن ينمّوا حسّ الإيمان لدى جميع المؤمنين، وينشئوهم على فهم الحقيقة الإنجيلية فهمًا ينضج يومًا بعد يوم، وينقلوا الإنجيل إلى العائلات المتقلبة في ظروف العالم الحاضر، فتقبل ما رسم الله لها من قصد وتعيش بمقتضاه. ومن واجب الأزواج والوالدين المسيحيين أن يلتزموا بتثقيف أنفسهم الروحي، الشخصي والجماعي، سواء بمسعى ذاتي أم بمبادرة من الكنيسة، لكي يتمكنوا من تكوين حكم إنجيلي أصيل في مختلف الحالات والأوضاع الثقافية التي يعيشون فيها حياتهم الزوجية والعائلية، بفضل ما أوتوا من هبة خاصة ونعمة من سرّ الزواج°°. وفيما الكنيسة تعمل على تربية أبنائها تربية دينية وخلقية، فإنها ترغب في أن تربيهم خاصة بواسطة العائلة، المؤهّلة لهذه المهمة بفضل «نعمة الحال، «والموهبة الخاصة، التي يوليها إياهما سرّ الزواج. إن مسؤولية الأبوة والأمومة تجعل التربية الدينية للأولاد واجبًا أوّليًّا يقع على عائق الوالدين قبل غيرهم٦°.
تقوم راعوية العائلة على التثقيف الديني، الذي يشمل الأطفال والشبان والكبار والمسنين. ومن أولويات هذه الراعوية الإعداد للزواج في مراحله الثلاث: البعيدة والقريبة والمباشرة٥٧. كما ينبغي أن تتوفر عناية راعوية متخصصة بالأزواج والعائلات في حالاتهم الصعبة أو الشاذة٥٨، كما يبينها الإرشاد الرسولي «في وظائف العائلة المسيحية، ٩°.
من أجل تعزيز التثقيف الديني، لا بدّ من أن يلتزم الكهنة والمكرسون والمكرسات بتأمين التثقيف للحركات والمنظمات الرسولية، ولاسيّما تلك المعنية بالعائلة والحياة. ويقضي الواجب من الأساقفة أن يُعنَوا بتنشئة العاملين في راعوية العائلة، تنشئةً خُلُقية وأنتروبولجية ونفسية، مع التنشئة الكتابية (في الكتاب المقدس) والأسرارية. وإننا نعني بالعاملين في هذه الراعوية الكهنة والرهبان والراهبات والعلمانيين والإكليريكيين.
وتهدف راعوية العائلة بنوع خاص إلى إعداد الوالدين لمهمة تربية أولادهم التي تندرج في إطار «حضارة المحبة)، فيربونهم على أن يعيشوا في الحقيقة والمحبة، وأن يحقّقوا ذواتهم ببذل الذات. إن مهمّة
٥٥. في وظائف العائلة المسيحية، ٤ و٥.
٥٦. رسالة إلى العائلات، ١٦؛ الكنيسة في عالم اليوم، ٤٨.
٥٧. راجع: في وظائف العائلة المسيحية، ٦٦؛ المجلس البابوي للعائلة: الاعداد لسرّ الزواج، ٢١-٥٩.
٥٨. راجع وظائف العائلة المسيحية، الفقرات ٧٧-٨٥.
٥٩. راجع وظائف العائلة المسيحية، الفقرات ٧٧-٨٥.
التربية واجب على الوالدين يتميّز بأنه جوهري، لعلاقته بنقل الحياة البشرية بواسطتهم، وأساسي بالنسبة إلى واجب الآخرين التربوي، وأوّلي لارتباط الوالدين والأبناء برباط الحب الفريد من نوعه، ولا بديل أو غنى عنه إذ لا يجوز أن يفوَّض إلى غيرهم بشكل مطلق، أو أن ينتزعه منهم احد .٦. إنهم المربون الأوّلون والأساسيون لأولادهم لأنهم والدوهم، ومن حقّهم أن يربوهم حسب قناعاتهم الأدبية والدينية، وتقاليد عائلتهم الثقافية. وبهذه الصفة، من حقّهم أن يختاروا بحرية المدرسة والوسائل التربوية الأخرى، وان يطالبوا بألاً يُرغَمَ أولادهم على اتّباع تعاليمَ لا تتفق وقناعاتهم، ولاسيّما فيما يختص بالتربية الجنسية التي من واجبهم مراقبتُها في المدرسة والمراكز التربوية التي يختارونها. في مقابل مسؤولية الوالدين التربوية، على السلطات العامة أن تشركهم في المساعدات المالية، بحيث لا يضطرون إلى تحمل أعباء إضافية مباشرة أو غير مباشرة، تحِدُّ من ممارسة حريتهم٦١.
٣٦. على مسوى انحلال الرابطة الزوجية، تقتضي راعوية العائلة العمل على ثلاثة أصعدة: أولاً، دعم مراكز التحضير للزواج، وجعل هذا التحضير في مرحلتيه القريبة والمباشرة إلزاميًّا على طالبي الزواج. ثانيًا، إنشاء مراكز الإصغاء والإرشاد العائلي لمواكبة الأزواج والعائلات في مصاعبهم، والتعاون مع المحاكم الكنسية لمصالحة الأزواج وأفراد عائلاتهم. ثالثًا، إعادة النظر في قوانين الأحوال الشخصية في الأمور المختصة بالنفقة وحراسة الأولاد ومشاهدتهم وحضائتهم، فضلاً عما يطلب من القضاة أن يتصفوا به من روح راعوي ونزاهة كاملة وغيرة على العدل والإنصاف الملطفين بالمحبة٦٢.
الفصل الخامس وسائل عملية لراعوية العائلة
٣٧. تشكّل راعوية العائلة أولوية في رسالة الكنيسة. ففي الأسرة يحاك النسيج الاجتماعي الأول، وتتحقق تربية الشبيبة المسؤولة غدًا عن الوطن، ويتربى الأولاد منذ الصغر على حضور الله والثقة بحنوه الأبوي، وينتقل الإيمان المسيحي من جيل إلى جيل، وتنضج الدعوات إلى الزواج والكهنوت والحياة المكرّسة، ويشهد الأهل بنمط حياتهم لجمال الحياة الجماعية وبذل الذات، ويقدمون قدوة في الصلاة المسيحية والتأمل في كلام الله٦٣. فلا بدّ من أن تتضافر الجهود وتنسّق من أجل راعوية أنجح للعائلة،
٦٠. المصدر نفسه، ٣٦.
٦١. شرعة حقوق العائلة، المادة ١/٥، ب،ج.
٦٢. رجاء جديد للبنان، ٤٧-٠٤٨
٦٣. المصدر نفسه، ٤٦.
انطلاقاً من الأطر الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تعيش فيها العائلة، في محيطنا الشرق أوسطي. وهذه مسؤولية تقع على القوى الحية في كنائسنا: على الأبرشية والرعية، وعلى الجماعات الرهبانية ومؤسساتها، وعلى المدارس والجامعات، وعلى المنظمات والحركات المعنية بالعائلة والحياة.
٣٨. على صعيد الأبرشية، يعتني الأسقف عناية خاصَّة بإنشاء لجنة العائلة في الأبرشية تؤازره في التخطيط لراعوية العائلة، وتفعيل اللجان الفرعية في الرعايا، وتكون صلة الوصل بين الأبرشية واللجنة المركزية للعائلة والحياة في کل بلد.
ومن أولى اهتماماته إنشاء مركز أبرشي لتحضير الزواج. وقد دلّ الاختبار، في مختلف الأبرشیات، أن هذا المركز يشكّل محطة روحية بالغة الأهمية في حياة الخطيبين، تساعدهما على تكوين شخصيتهما الإيمانية عن طريق عرض الحقائق المسيحية المختصة بالزواج والحب والعائلة والحياة، وترسيخ المبادئ الأخلاقية في حياتهما الزوجية والعائلية، ووعي المسؤولية تجاه بعضهما وتجاه الأسرة والكنيسة والمجتمع، فضلاً عن اكتشاف ما في دعوتهما إلى خدمة الحب والحياة من جمال وعظمة.
وتبيَّنَ أيضًا أن مركز التحضير للزواج هو مكان التلاقي والحوار مع الذات والله والكنيسة. اللقاء مع الذات يمكّن الخطيبين من اتخاذ القرار بالزواج عن وعي وتفكير، بعيدًا عن الارتجال والخيار المتسرّع. واللقاء مع الله يوقظ فيهما إدراك الدعوة إلى الزواج وخدمة الحب والحياة. واللقاء مع الكنيسة يجعلهما يشعران بأنها «الأم والمعلمة، التي تساندهما في حياتهما الزوجية والعائلية العتيدة، وتواكبهما، وتحمل معهما همومهما، وترسم أمامهما طريق المستقبل.
ولا يقتصر إعداد الزواج على الأزواج وحدهم بل يَطال الجماعة المسيحية والمجتمع. ذلك أن إعداد الخطيبين يهيئ عائلة تغتني بالقيم الإنسانية والروحية والاجتماعية والوطنية، فيغتني بها المجتمع. وإذ تتعلم كيف تواجه صعوبات الحياة الزوجية والعائلية، وكيف تجد لها الحلول، فإنها توفّر على المجتمع مآسي ومشكلات تنتج عن النزاعات بين الأزواج أو عن انحلال الرابطة الزوجية. إن العائلة ينبوع لا ينضب لأنسنة المجتمع. «فالوالدون يجودون على وليدهم الجديد بإنسانيتهم الناضجة، وهو بدوره يَهَبُهم طراوة الإنسانية وجِدَّتها التي يحملها معه إلى العالم،٦٤.
٣٩. أما برنامج الإعداد للزواج، المستقى من الإرشاد الرسولي «في وظائف العائلة المسيحية، ٦٥، فينبغي أن يشمل، في دورات أسبوعية متتالية، الزواجَ المسيحي بمفهومه اللاهوتي كعهد وسرّ؛ وأخلاقيةَ الحياة
٦٤. رسالة إلى العائلات، ١٦.
٦٥. في وظائف العائلة المسيحية، ٦٦.
الجنسية في الزواج؛ والأبوّةَ والأمومة المسؤولة فيما يختص بإنجاب الأولاد وتربيتهم، وتنظيمَ المسافة بين الولادات باعتماد الوسيلة الطبيعية، المعروفة اليوم بطريقة بيلينغز؛ والعفةَ الزوجية، وكرامةً الحب، والعلاقةَ الزوجية، وموقفَ الكنيسة من وسائل منع الحمل، والإخصاب الصناعي، والإجهاض؛ والأوضاعَ النفسية التي يمرّ بها الزوجان والعائلة وكيفيةً معالجتها؛ ومسؤوليةَ الأهل في تربية الأولاد داخل البيت وبالتعاون مع المدرسة والكنيسة والمجتمع ووسائل الإعلام والاتصال؛ والحياةَ العائلية اليومية بوجهها الإنساني والاجتماعي، وإدارةَ البيت المالية والاقتصادية، والتوفيقَ بين العمل والحضور الزوجي والعائلي لخير الزوجين والأولاد، وأخيرًا رتبةَ الاحتفال بسرّ الزواج، بالاستعداد الروحي له، وفهمِ رموزه، وحسنِ المشاركة في ليتورجيته.
٤٠. ويعتني الأسقف بإنشاء مركز أبرشي للإصغاء والإرشاد العائلي، يهدف إلى المواكبة الروحية والإنسانية للعائلات التي تعاني من صعوبات، بغية استعادة سلامها الداخلي وحياتها الطبيعية في البيت والمجتمع والكنيسة. فيستقبل الزوجين اللذين يعانيان سواء من صعوبة في علاقتهما الزوجية، تنعكس على حياتهما وسعادتهما، وتعكّر جوَّ العائلة وسلامها، أم من مشكلة نفسية تعيق التواصل بينهما، أم من مشاكل عنف زوجي أو ضيق مادي، أم من معضلات صحية أو نزاعات حقوقية تجعل الحياة صعبة ومهدّدة بالتفكك. يسعى «مركز الإصغاء والإرشاد، إلى تفهم الحاجة والمشكلة، وإلى مؤآزرة الزوجين والأولاد في إيجاد الحلول الفضلى، بالتعاون مع كهنة، وأخصائيين، وأزواج ذوي خبرة وغيرة رسولية، ومساعِداتٍ اجتماعیات.
ويعمل هذا المركز على إنشاء شبكة علاقات وتعاون مع المؤسسات الاجتماعية والمنظمات المعنية بالعائلة ومع أطباء وخبراء نفسانيين متطوعين، يلجأ إليهم لتوفير علاج أو وساطة أو مساعدة مادية. وتجدر الإشارة إلى ما لهذا المركز من دور في مصالحة الأزواج المتخاصمين وتجنب المحاكمات المُفضِيةِ إلى هجر أو إبطالٍ للزواج وبالتالي إلى مآسٍ إنسانية وأضرارٍ روحية وخُلُقية تهدَّد حياة الزوجين والأولاد. وإننا نشجع التعاون الوثيق بين هذه المراكز والمحاكم الكنسية.
٤١. وفي الرعية، يضطلع الكاهن بمهمّة إرشاد الأزواج والعائلات وأفراد العائلة بمختلف أعمارهم وحالاتهم، ومن الضرورة أن ينشىء لجنة لشؤون العائلة، مرتبطة بمجلس الرعية، تعمل على تنفيذ المخطط الراعوي بشأن العائلة والحياة، الذي يضعه الأسقف بالتعاون مع لجنة العائلة في الأبرشية، وتنقل إلى الأسقف واقع العائلة في الرعية، الروحي والاجتماعي، ليتمكن من متابعة مخططه الراعوي. وتسعى مع كاهن الرعية إلى إنشاء شبكة من العائلات الملتزمة تتضامن معًا في سبيل الرسالة الروحية والاجتماعية لدى العائلات الأخری. تنتعش العائلات المسيحية في الرعية «بالجماعات العائلية الرعائية». إنها جماعات من الرعية تصغي معًا
ويُعنَى كاهنُ الرعية بتعزيز «صلاة العائلة، التي تساعد عائلاتنا المسيحية على أن تتوطد وتنمو وتصمد، ككنيسةٍ بيتية، وخليةٍ في المجتمع، ومدرسةٍ طبيعية للاغتناء بالقيم الروحية والإنسانية والاجتماعية. إن الصلاة في الأسرة تقليد عريق في بلداننا. فهي التي حفظت الإيمان في العائلات ونمته في أفرادها، وربّت الأبناء على الحوارِ الشخصي مع الله واكتشافِ سره ومحبة القريب والاندماج في حياة الكنيسة ورسالتها، وساعدت على تحمل المحن والصعوبات التي كان يسمح الله بها، وعلى قراءة علامات حضوره في أحداث الحياة الزوجية والعائلية، الحلوةِ منها والمرة. وهكذا تتقدَّس العائلة بالصلاة العائلية في نشاطها وآمالها، وفي أفراحها وأحزانها، وفي همومها وتطلعاتها٦٦.
ومن الضرورة أن يضع الكاهن «صلاة العائلة، في إطار الحياة الليتورجية في الرعية. فيوجه العائلات إلى موقع الصلاة في البيت، على أنها استعداد للمشاركة في الحياة الليتورجية وما تشتمل عليه من أسرارٍ ورُئَبٍ وزياحات، وتَواصُلٍ مع الصلاة الجماعية في بيت الله، الكنيسةِ الرعائية. ولينبّه العائلات إلى أن الصلاة في العائلة لا تحلّ محل صلاة الجماعة الرعائية المتحلقة حول الإفخارستيا، بل ترتبط بها ارتباطًا عضویًّا.
إلى نداء الرب لها لعيش هويتها ورسالتها في المجتمع، حسب مشروع الله الخلاصي في الزواج والعائلة. تهدف هذه الجماعات العائلية إلى خلق إطار كنسي وراعوي يمدها بما تحتاج إليه من تنشئة عميقة، لتنمو في معرفة المسيح ومحبته والشهادة له والمشاركة في حياة الكنيسة ورسالتها، فتحقق دعوتها إلى القداسة في قلب العالم.
تتمحور حياة هذه الجماعات حول المواظبة على التعليم والصلاة وممارسة الأسرار وخدمة المحبة. ولها هيكليتها المنظمة ونشاطاتها المحدّدة، الروحية والرسولية، في الرعية والأبرشية، تحت قيادة الكاهن والأسقف. وتعتني بتوحيد الجهود والمواهب في سبيل راعوية العائلة.
٤٢. تغتني راعوية العائلة والحياة «بالمنظمات والحركات المختصة بالعائلة والحياة». وهي مبادرات أثارها الروح القدس في الأبرشيات والرعايا. إنها تساهم إلى حدّ بعيد في تنشيط روحانية الزواج والعائلة، وتساعد مطران الأبرشية وكاهن الرعية في تحقيق رسالتهما بهذا الشأن. فمن الضروري للغاية السهر على هذه المنظمات والحركات بالإرشاد والتوجيه والتثقيف، والاعتناء بتمييز الأرواح. وإنّا نشجع الجهود الحميدة التي يبذلها العلمانيون في هذا العمل الرعوي لخير العائلة، ونثني على روح الوحدة والشركة الكنسية التي يعملون بها. غير أن الضرورة تقضي بخلق شبكة تنسيق وتعاون مع مختلف هذه المنظمات
٦٦. المصدر نفسه، ٥٩.
والحركات على مستوى الأبرشية والمنطقة، بحيث تتكامل الغايات والنشاطات وتنتظم في إطار المخطط الراعوي المرسوم على صعيد الأبرشية والبلاد.
ومن أهم هذه الحركات العاملة في بعض أبرشياتنا، نذكر حركة العائلات الجديدة، المنبثقة من حركة الفوكولاري، وحركة فرق السيدة أو أخوية عائلات مريم، و«أخوّة قانا، حركة كنسية تتبع «الطريق الجديد> (Chemin Neuf)، «حركة التجدد بالروح القدس، وهي حركة رسولية مسكونية، و«حركة نعم للحياة»، و«أزواج من أجل المسيح، (Couples for Christ)، و«أنت أخي، و«إيمان ونور، للمعاقين جسدياً وعقلياً وعائلاتهم. جميع هذه العائلات لها دور هام في راعوية العائلة.
٤٣. ولا يخفى ما للجمعيات الرهبانية من نشاطات ومبادرات ومؤسسات لصالح العائلة وأفرادها، تستحق كل تقدير وتشجيع وشكر. وإننا نحمد الله على الدور الذي تؤدّيه المدارس الكاثوليكية في التربية الأساسية الشاملة لأجيالنا الطالعة. وهي تربية على قيم العائلة: الإيمان والصلاة والحب والجنس والعلاقة الاجتماعية والتضامن والتعاون وإنماء الشخص والمجتمع. ولا بدّ من نداء إلى هذه المدارس للتعاون تعاونًا مستمرًا مع العائلة من أجل تأمين تربية متكاملة لأولادها. إن الكنيسة تتطلع إلى مزيد من التعاون مع الجامعات الكاثوليكية والمعاهد الأكاديمية العليا، حيث وُحِدَتْ، من أجل أبحاث علمية تختص بالعائلة والحياة، ومن أجل إعداد متخصّصين فيها، يساعدون الكنيسة في مختلف قطاعات راعوية العائلة.
خاتمة
٤٤. خلص مؤتمر مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك في القاهرة إلى اتخاذ توصية بإنشاء فرع للشرق الأوسط في لبنان لمعهد يوحنا بولس الثاني للدراسات حول الزواج والعائلة، الموجود في روما. أُنشىء هذا المعهد في أعقاب سينودس الأساقفة الخاص بالعائلة، الذي انعقد في روما من ٢٦ أيلول حتى ٢٥ تشرين الأول ١٩٨٠، وقد أشار إليه الإرشاد الرسولي «في وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم»، الذي أصدره البابا يوحنا بولس الثاني في ٢٢ تشرين الثاني ١٩٨١. الغاية من هذا المعهد توفير تنشئة لاهوتية وفلسفية وعلمية في حقل الزواج والعائلة وأخلاقيات الحياة، على مستوى جامعي. ويتخرّج منه اختصاصيون، من كهنة ورهبان وراهبات وعلمانيين، يعملون في حقل التعليم والنشاط الراعوي لصالح الزواج والعائلة والحياة.
يعمل المعهد الحبري الروماني، التابع مباشرة إلى الكرسي الرسولي، على إنشاء فروع له خارج مدينة روما، في مختلف القارات.
٤٥. وأوصى المؤتمر بتأسيس لجنة تنسيق بين لجان العائلة في الأبرشيات، تابعة لمجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، هدفها أن تتابع وتنسّق المبادرات التي تتخذ في مجال العائلة في بلدان الشرق الأوسط، وتنظّم مؤتمرات للعائلات المسيحية كل ثلاث سنوات، وسواها من النشاطات المشتركة.
صلاة
٤٦. ونختم رسالتنا هذه بصلاة:
اللهمّ يا من منك كل أبوّة في السماء وعلى الأرض. أيها الآب السماوي، أنت الحب والحياة بالذات. اجعل، بابنك يسوع المسيح «المولود من امرأة، وبروحك القدوس ينبوع المحبة الإلهية، من كل عائلة بشرية على هذه الأرض، معبدًا حقًّا للحياة والحب. أيّها المسيح، املِك على عائلاتنا وكن حاضرًا فيها، كما كنت في قانا الجليل، وجد عليها بالنور والفرح والقوة. أفض بركتك عليها، لتسهم في بنيان ملكوتك، ملكوت القداسة والعدالة والمحبة والسلام. أيتها العذراء مريم أمّ الكنيسة، كوني أمَّا لكل عائلاتنا، لتصبح بمعونتك الدائمة كنائس منزلية، يشع فيها الإيمان ويسودها الحب وينعشها الرجاء. أيها القديس يوسف، الحارس والمدبّر للبيت الذي فيه نشأ الرب يسوع وترعرع، أيها العامل الذي ما عرف الكلل، وحفظ بمنتهى الأمانة ما عهد به الله إليه، احم عائلاتنا ونوّرها وادفع عنها الشرور.
يا عائلة الناصرة المقدسة التي عشت عيشة صامتة، وعانيت من فقر واضطهاد وتهجير، ساعدي عائلاتنا لتقوم بأمانة بمسؤولياتها اليومية، وتتحمّل متاعب الحياة ومشقاتها بإيمان وصبر، وتهتم بحاجات الآخرين بسخاء، وتتمّم إرادة الله بفرح. اعضُدي عائلاتنا في مسيرة القداسة لتكون خميرة حب ووحدة وأمانة في قلب العالم.
نسألك، أيها الآب الرحيم، بشفاعة العائلة المقدسة، هَب الكنيسة أن تقوم في كل أمم الأرض برسالتها في العائلة وبواسطة العائلة، وهبها أن تجني ثار رسالتها، أنت الطريق والحق والحياة في وحدة الابن والروح القدس. آمين.
+ اسطفانوس الثاني غطاس، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك.
+ نصر الله بطرس الكردينال صفير، بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للموارنة.
+ غريغوريوس الثالث، بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم للروم الملكيين الكاثوليك.
+ أغناطيوس بطرس الثامن عبد الأحد، بطريرك السريان الأنطاكي.
+ نرسیس بدروس التاسع عشر، كاثوليكوس بطريرك كيليكيا للأرمن الكاثوليك.
+ عمانونيل الأول دلّي، بطريرك بابل للكلدان.
+ میشیل صباح، بطریرك اورشایم للاتين.
صدر عن مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك
في عيد انتقال سيدتنا مريم العذراء بالمجد إلى السماء.
في الخامس عشر من آب/أوغسطوس ٢٠٠٥
ملحق١
رجال ونساء بلغوا القداسة في حياة الزواج وفي مختلف المجالات الاجتماعية
١. القديسة الايطالية جنًّا بريثًا مُولاً (Gianna Beretta Molla) (١٩٢٢-١٩٦٢) الزوجة والأم وطبيبة الأطفال التي أعلن قداستها البابا يوحنا بولس الثاني في ١٤ أيار ٢٠٠٤. هي العاشرة بين ١٣ ولداً، تزوجت سنة ١٩٥٥ المهندس بياترو مُولاً (Pietro Molla) الذي ما زال حيًّا وقد حضر الاحتفالين بإعلانها طوباوية سنة ١٩٩٤ وقديسة سنة ٢٠٠٤. أنجبت ابنًا وابنتين ما بين سنة ١٩٥٦ و١٩٥٩. في الحبل الرابع بالابنة إمنويلا جنًّا (Emanuela Gianna) سنة ١٩٦١ بدأ الخطر يهدد حياتها، فطلبت من الطبيب الجراح أن يخلّص الحياة التي تحملها في بطنها، وسلمت أمرها للعناية الإلهية وللصلاة. قالت للأطباء: «إذا كان لا بدّ من اتخاذ القرار بيني وبين الطفلة، فلا تتردّدوا: اختاروا، وهذا ما أريد، الطفلة، خلّصوها). ولدت الطفلة في ٢١ نيسان ١٩٦٢، وبعد أسبوع ماتت الأم وهي تردّد: «يا يسوع أنا أحبك، وكان عمرها ٣٩ سنة. لكن القديسة جنًّا (Gianna) عاشت في القداسة منذ طفولتها، عندما قبلت المناولة الأولى بعمر خمس سنوات، وتربّت في عائلتها تربية مسيحية عميقة، والتزمت في صباها بمنظمة العمل الكاثوليكي، واستمرت في حياتها الجامعية والطبية والزوجية تمارس سرّي التوبة والإفخارستيا، وأعطت الكثير من وقتها للخدمة الرسولية والطبية المجانية في المستوصفات والمستشفيات.
٢. الطوباويان الايطاليان: لويجي بلترامي كواترو كي Luigi (Beltrami Quattrocchi) (١٨٨٠-١٩٥١) وزوجته ماريًّا كورسيني (Maria Corsini) (١٨٨٤-١٩٦٥)، أعلن تطويبهما البابا يوحنا بولس الثاني في ٢١ تشرين الأول ٢٠٠١. هما أول زوجين يُرفعان معًا في الكنيسة للتكريم على المذابح. عاشا بشكل خارق كزوجين ووالدين، وقد ارتبطا ارتباطًا وثيقًا (بمعبد سيدة الحب الإلهيء في روما. أثناء الحرب الكونية الثانية زارت ماريًا (Maria) معبد السيدة وسلّمت العذراء أولادها الأربعة، فنجوا بأعجوبة من حادثة في أثناء الحرب. كان لويجي (Luigi) محاميًا وزوجته ماريًّا (Maria) مثقفة وكاتبة. تزوجا في روما سنة ١٩٠٥، وأنجبا أربعة أولاد: ابنين وابنتين ما بين سنة ١٩٠٦ و١٩١٤، اعتنقوا كلّهم الحياة الرهبانية والكهنوت بسبب جو العائلة المقدّس، المفعم بالصلاة وعبادة قلب يسوع، والمشاركة اليومية بالقداس الإلهي في بازيليك مريم الكبرى في روما، وبالنشاط الرسولي في حركة النهضة المسيحية، وحركة
من أجل عالم أفضل. كانت الزوجة ممرضة متطوعة في الصليب الأحمر، ومعلّمة تعليم مسيحي للسيدات في الرعية، ومنظمة دورات إعدادية للزواج، ومساهمة في إنشاء جامعة قلب يسوع الكاثوليكية، وعضواً في المجلس المركزي للاتحاد النسائي الكاثوليكي الإيطالي. كانت الحياة الزوجية والعائلية لهذين الزوجين طريقًا إلى القداسة، وسيراً إلى الله بعيش الحب. فالقداسة هي أن تحب، والحب ممكن للجميع، ولذلك الجميع مدعوون إلى القداسة ٦٧.
٣. الطوباوي فريدريك أوزانام (Frederic Ozanam) (١٨١٣-١٨٥٣) أعلنه طوباويًا البابا يوحنا بولس الثاني في مناسبة أيام الشبيبة العالمية في باريس (٢١-٢٤ آب ١٩٩٨)، قائلاً إنه «رسول المحبة، زوج وأب مثالي، وجه كبير من العلمانيين الكاثوليك في القرن التاسع عشر. إنه مؤسس جمعية مار منصور دي بول (١٨٣٣) وقد أرادها مع خمسة زملاء آخرين «صيغة جديدة لرسالة العلمانيين» ذلك أن «للمسيحية دوراً في بناء مجتمع عادل وإنساني بعيش المحبة الاجتماعية تجاه الفقراء». اختصاصي في الحقوق والآداب من جامعة سوربون (Sorbonne)، ناطق باسم الشباب الكاثوليكي، كانت له محاضرات في كاتدرائية نوتردام – باريس في عهد الواعظ الشهير لاكوردير (Lacordaire). مات بعمر ٤٠ سنة تحيط به زوجته وأولاده.
٤. الطوباوي شارل النمساوي (Charles d’Autriche) (١٨٨٠-١٩٢٢) آخر إمبراطور وملك على النمسا أعلنه البابا يوحنا بولس الثاني طوباويًا في ٣ تشرين الأول ٢٠٠٤. إنه ملك ورب عائلة أراد أن يضع ذاته في خدمة إرادة الله، فكان الإيمان بالله المقياس لمسؤولياته والموجّه لحیاته.
٥. القديس الشهيد توماس مور (Thomas More) (١٤٧٨-١٥٣٥) أعلنه البابا يوحنا بولس الثاني «شفيعًا سماويًا للمسؤولين عن الحكومات ورجال السياسة، في ٣١ تشرين الأول ٢٠٠٠، بسبب حياته المسيحية كزوج وأب وممارسته السياسة بشكل مثالي، وبخاصة بسبب حماية حقوق الضمير الأدبي والانسجام الكامل بين النظامين الطبيعي والفائق الطبيعة، وبين الإيمان والأعمال. كان المستشار الأساسي للملك هنري الثامن والصديق الأكبر ورئيسًا لوزراء بريطانيا عندما حوكم بالخيانة العظمى وأمر الملك بإعدامه بقطع الرأس في ٦ تموز ١٥٣٧ بسبب رفضه جعل كنيسة انكلترا خاضعة لسلطان الملك، منفصلة عن سلطة ولاية روما، وبسبب عدم موافقته على إبطال زواجه من الملكة ماري داراغون Marie (d’Aragon) وعلى عقد زواجه على ملكة جديدة آن بولاين (Anne Boleyne). كان توماس مور متزوجًا وله أربعة أولاد: ثلاث بنات وصبي، بالإضافة إلى صبية يتيمة تبناها. تزوج مرتين لأن زوجته الأولى ماتت باكرًا وكان الأولاد في سن الطفولة. تميّز بخضوعه الكامل لله، وللحقيقة، ولصوت الضمير، مع السعي إلى العيش بإنسانية كاملة. قبل أن يحني رأسه أمام السيّاف، قال أمام الجمهور الحاضر والملك: «كنت خادمًا أمينًا للملك، لكني كنت أولاً خادمًا لله.
٦٧. الدستور العقائدي في الكنيسة، الفصل الخامس: الدعوة الشاملة الى القداسة.
٦. تنظر الكنيسة حاليًا في دعوى تطويب رَجُلَين من رجال الدولة متزوجَيْن وربَّيْ عائلة: هما رئيس وزراء ايطاليا ألتشيدي دي غاسبري (Alcide de Gasperi) (١٨٨١-١٩٥٤)، الذي قيل فيه إنه مسيحي متواضع، مخلص، وملتزم، أعطى الشهادة الكاملة لإيمانه في حياته الخاصة والعامة، وعرف كيف يجمع معًا بين الفضائل الدينية والفضائل المدنية، ويضعها في خدمة الالتزام السياسي. كتب مرة إلى زوجته فرنسيسكا (Francesca): «يوجد رجال غنيمة، ورجال سلطة، ورجال إيمان. أودّ أن أُذكر بين هؤلاء الأخيرين. والثاني الفرنسي روبير شومان (Robert Schuman) (١٨٨٦-١٩٦٣) رئيس وزراء ووزير المالية وأخيرًا رئيس البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ الملقّب «بأبي أوروبا، وبالمسيحي الملتزم من أجل أوروبا مسيحية جديدة. جمع مع زميله دي غاسبري (De Gasperi) بين الالتزام المسيحي والعمل السياسي المتفاني.
٧. ومن بين القديسين الذين أعلنتهم الكنيسة نساء متزوجات ثكالى وأرامل اعتنقن الحياة الرهبانية فيما بعد:
– الطوباوية بولا إليزبيتا شيريولي (Paola Elisabetta Cerioli) (١٨١٦-١٨٦٥) من شمال إيطاليا، متزوجة وأم لأربعة أولاد. أعلنها البابا يوحنا بولس الثاني طوباوية في ١٦ أيار ٢٠٠٤. ترمّلت ولها من العمر ٣٩ سنة، وفقدت ثلاثة من أولادها بعمر الطفولة الأولى، والرابع كارلو (Carlo) بعمر ١٦ سنة. على فراش النزاع قال لها كلمة نبوية: «ماما، لا تبكي بسبب موتي القريب، لأن الله سيعطيكِ أولاداً آخرين كثيرين. بعد الصلاة والاسترشاد وشرب كأس المرارة كاملاً، فتحت بيتها الكبير الذي ورثته من زوجها، وراحت تتفانى في خدمة المحتاجين والمرضى في محيطها. وفيما كانت تتأمّل يومًا وهي تنظر إلى صورة العذراء المتألمة، أدركت أن لكلمات ابنها النبوية تحقيقًا في العائلة المقدسة، عائلة الناصرة، حيث ساهمت مريم ويوسف بشكل عجيب في تصميم الآب الخلاصي، بالأمومة والأبوّة الروحية الشاملة. فانصرفت إلى الاعتناء بالأطفال المهملين، بهدف تأمين مستقبل للذين هم بدون مستقبل، بسبب حرمانهم من عائلة كريمة. فأسّست مع زميلاتها الخمس جمعية راهبات العائلة المقدسة، وأنشأت دورًا للأيتام
والأولاد المهملين ومدارس ومستشفيات، ودورات تعليم مسيحي ورياضات روحية ومخيمات صيفية.
ماتت ليلة ميلاد سنة ١٨٦٥ بعمر ٤٩ سنة.
– القديسة ريتا من كاشيا (Rita da Cascia) (١٣٨١-١٤٥٧) أعلنت قديسة سنة ١٩٠٠. يكرّمها الشعب المسيحي في كل أنحاء العالم. تقدّست في حياتها الزوجية والعائلية كزوجة وأم، وكأرملة وثكلى، ثم في حياتها الرهبانية. مشهورة بصنع العجائب، وتُسمّى «قديسة الأمور المستحيلة». ترمّلت بمقتل زوجها وهي بعمر ٢٠ سنة ولها ولدان توأمان ماتا في مطلع شبابهما. وقد صلّت إلى الله لكي يلهمها الغفران والصفح، مثلما غفر الرب يسوع لصالبيه من على الصليب.
٨. وكم من أبناء وبنات لعائلات مسيحية عاشوا في الألفية الثانية وتقدّسوا في عائلاتهم بفضل تربيتهم المسيحية الرفيعة، وماتوا بالقداسة في سن الفتوة والشباب والرشد، نذكر منهم:
– الطوباوي ألبرتو مارفيلّي (Alberto Marvelli) (١٩١٨-١٩٤٦)، أعلنه البابا يوحنا بولس الثاني طوباويًا في ٥ أيلول ٢٠٠٤. تربى في عائلة من ستة أولاد، وانتمى إلى منظمة العمل الكاثوليكي فإلى الحزب الديموقراطي المسيحي في ايطاليا وانتخب عضوًا في مجلس بلدية مدينة ريميني (Rimini). خدم المحبة أثناء الحرب الكونية الثانية واتخذ مواقف إيمانية وجعل من القداس اليومي ينبوع نشاطه الكنسي والاجتماعي والسياسي مقتنعًا بضرورة العيش بشكل كامل كإين لله في التاريخ. توفي بحادث سير وهو بعمر ٢٨ سنة.
– الطوباوية بينا سوريانو (Pina Suriano) (١٩١٥-١٩٥٠) أعلنها البابا يوحنا بولس الثاني طوباوية في ٥ أيلول ٢٠٠٤، نالت من أهلها التربية الدينية والخلقية الأولى، ونمت فيها بإنتمائها إلى منظمة العمل الكاثوليكي، وفي قلبها حب متقد وأمين للرب يسوع، فكتبت يوماً: «لا أصنع شيئًا سوى أن أعيش ليسوع. يا يسوع، اجعلني أكون خاصتك أكثر فأكثر. يا يسوع، أريد أن أعيش وأموت معك ومن أجلك. ثم بلغت إلى القصد الثابت بتقدمة حياتها الفتية لله، وبخاصة من أجل تقديس الكهنة وثباتهم. ماتت على أثر نوبة قلبية وهي بعمر ٣٥ سنة.
– القديس جوزيتي موسكاتي (Giuseppe Moscati) (١٨٨٠-١٩٢٧) أعلنه قديسًا البابا يوحنا بولس الثاني. هو طبيب ورئيس قسم في مستشفى مدينة نابولي. تربّى في عائلة مسيحية حقة، اختبر الألم الخلاصي بوفاة الوالد عندما كان طالبًا جامعيًا، وبوفاة شقيق بعمر ٣٢ سنة بداعي المرض، عاش الدعوة إلى القداسة في حياته العلمانية، وقال عنه البابا يوحنا بولس الثاني إن هذا القديس يدعو العلمانيين إلى اعتبار دعوتهم إلى القداسة كأبناء للكنيسة.
– الطوباوي بيارجورجيو فراساتي (Piergiorgio Frassati) (١٩٠١-١٩٢٥) مهندس ومسيحي ملتزم ورجل سياسة مناضل. أعلنه البابا يوحنا بولس الثاني طوباويًا في ٢٠ أيار ١٩٩٠. والده عضو في مجلس شيوخ ايطاليا ومؤسس جريدة لا ستامبا (La Stampa) وسفير لبلاده في برلين. منذ عمر ١٣ سنة بدأ بيارجورجيو (Piergiorgio) يتناول القربان يوميًّا، وراح مدى حياته يجد غذاءه اليومي في قراءة الإنجيل وفي الإفخارستيا. فجمع بين الصلاة والعمل. انتسب إلى الحزب الشعبي الايطالي وأصبح فيه مناضلاً، وكرس أوقاته الحرّة لخدمة البؤساء والفقراء، كعضو في جمعية مار منصور دي بول. مات بعمر٢٤ سنة. ورسالته هي نداء إلى توطيد العلاقة بين الإيمان والأعمال على جميع المستويات، وإلى إعلان الحقيقة والدفاع عنها.
– القديسة ماريًّا غوريتي (Maria Goretti) (١٨٩٠- ١٩٠٢) التي أعلنها قديسة البابا بيوس الثاني عشر في ٢٤ حزيران ١٩٥٠ في ساحة القديس بطرس بحضور خمسماية ألف شخص، وكان من بينهم رجل عمره ٦٧ سنة اليسَّندرو (Alessandro) الذي قتلها وكان في سن العشرين، وهي بعمر ١٢ سنة، من بعد أن حاول اغتصابها، وهي ترفض قائلة: «إنها خطيئة لا يريدها الله، وتذهب بك إلى جهنم . هذه القديسة هي شهيدة الطهارة التي قدمت الله ذاتها بكاملها ذبيحة مرضية، فأحبها الله وجعلها نموذجًا للكنيسة جمعاء.
– القديس دومينيك سافيو (Domenico Savio) (١٨٢٤-١٨٥٧) الذي أعلن قداسته البابا بيوس الثاني عشر في سنة ١٩٥٤. تقدّس بفضل أمانته لوعده الذي قطعه مع المسيح عندما قبل المناولة الأولى بعمر ٧ سنوات: <الموت ولا الخطيئة». في تشرين الأول ١٨٥٤ تتلمذ لدون بوسكو وصارحه بمطلبه: «أريد أن أكون قديسًا وبسرعة»، فأعطاه سرّها: «الفرح والدرس والتقوى. كل ذلك حبًّا للمسيح لكي تصبح رجلاً. اصنع الخير، ساعد رفاقك، مهما كلّفك ذلك من تضحيات. القداسة هي كل هذاء. نزلت هذه الكلمات في قلب دومينيك (Domenico) وهو بعمر ١٢ سنة. بعد شهرين في عيد إعلان عقيدة الحبل بلا دنس (٨ كانون الأول ١٨٥٤) صلى أمام مريم العذراء قائلا: «يا مريم أعطيكِ قلبي، اجعليه دومًا لكِ. يا يسوع ويا مريم كونا دائمًا صديقيَّ. اجعلاني أموت ولا تسمحا بأن أرتكب خطيئة». في الواقع مات دومينيك (Domenico) بعمر ١٥ سنة، متمتمًا لوالده بعد قبول مسحة المرضى: «وداعًا يا بابا! ما أجمل ما أراه الآن !.
ملحق ٢
بعض الحركات الرسولية المهتمة برعاية العائلة
١. حركة العائلات الجديدة حركة منبثقة من حركة الفوكولاري. تتعمّق بروحانية هذه الأخيرة التي هي روحانية الوحدة وتعمل على عيشها في قلب العائلة لتشهد لها في المحيط الذي تعيش فيه وتساهم في تحقيق صلاة الرب يسوع: «ليكونوا بأجمعهم واحدا» (يو ٢١/١٧).
ولذلك تحاول عيشَ كلمات الإنجيل على أصولها وتطبيقَها عمليًا في الحياة اليومية، فينمو أعضاؤها في المحبة، ويختبروا المحبة المتبادلة التي تجتذب نعمة حضور المسيح القائل: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أکون بینهم، (متى ٢٠/١٨).
يشارك عدد من عائلات الحركة مشاركة فعّالة في مختلف لجان العائلة في الأبرشيات، وفي إحياء دورات التحضير للزواج، فيما تضع عائلات أخرى نفسها في تصرف الخُطَّاب لتنشئتهم على طريقة بيليغنز للإنجاب المسؤول والمنظّم، ويُساهم غيرها في العمل مع حركة «الإنسانية الجديدة» في عملية التبنّي عن بُعد.
٢. حركة فرق السيدة أو أخوية عائلات مريم هي حركة أزواج ومدرسة صلاة تهدف إلى عيش الحب الزوجي في ضوء الإنجيل، بحيث تصبح شاهدة له، ومبشّرة به في محيطها. وتسعى لعيش الروحانية الزوجية إذ ترى في الزواج طريق قداسة ومكان حب وسعادة. أعضاؤها أزواج يرغبون في عيش زواجهم كسرّ مقدس ويستثمرون كنوزه ليجيبوا معًا على نداء الرب يسوع دتعال اتبعني، (متى١٩/٢١) بروحانية زوجية من أجل «نعم، يتجدّد كل يوم. يتعمقون في حبِّهم، الذي يحوّله سرّ الزواج فيصبح طريقًا إلى الله، ويشهدون بشكل ملموس لحب المسيح، ويلتزمون العمل والخدمة في الكنيسة والمجتمع، كل حسب مواهبه. وعلى هذا الأساس يربّون أولادهم.
إن التوجّه الأكبر في هذه الحركة هو توجّه الحب الذي جاء به السيد المسيح: أحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك وكل قوتك … وأحبب قريبك حبك لنفسك، (مر٣٠/١٢-٣١). لأجل النموّ في محبة الله والقريب، تقترح الحركة على أعضائها القراءة اليومية لكلمة الله، والصلاة الشخصية، والصلاة الزوجية والعائلية اليومية إن أمكن، والحوار الزوجي تحت نظر الرب، واتخاذ قاعدة حياة يُعاد النظر فيها كل شهر، والقيام برياضة روحية مرة في السنة. أرادت «فرق السيدة، أو «عائلات مريم، أن تكون تحت حماية السيدة العذراء مریم ورعايتها، لتؤكّد عزمها على اتخاذ العذراء الكلّية القداسة حامية لها ومثالاً وشفيعة.
٣. ((أُخُوّة قانا، حركة كنسية تتّبع «الطريق الجديد» (Chemin Neuf)، وهي جماعة كاثوليكية ذات روح مسكونية، وفيها رجال ونساء متبتلون أو متزوجون، يجمعهم إيمانهم المشترك بيسوع المسيح، ورغبة فيّاضة في خدمة الإنجيل والكنيسة والمجتمع. تنظّم «أخوة قانا، دورات للأزواج والعائلات معروفة «بدورة قانا، تهدف إلى إحياء حياة الإنجيل، القائمة على الصلاة والمشاركة الحقيقية والحياة الأخوية. وتعمل على إنشاء مجموعات محلية من الأخوة، يتلقَّوْن تنشئةً مسيحيَّةً متينةً تؤهَّل الأزواج للعمل في رعاياهم وأبرشياتهم. وتجتهد بأن تكون على صلة وطيدة مع السلطات الكنسية المحلية.
دورة قانا، هي للتوقّف والمراجعة، وهي وقت ملائم للزوجين يعيدان فيه اكتشاف نفسيهما ويعمقان ارتباطهما بالعهد الزوجي. إنهما يتأمّلان في معنى الزواج والأسرة من خلال مناقشة مواضيع أساسية كالحوار والجنس والالتزام وسواها، ويتشاركان الحياة بأفراحها وأحزانها، بغناها وعوزها، وبالتساؤلات المطروحة عليهما كل يوم؛ ويضعان أنفسهما أمام الخالق الذي خلق الزوجين ذكرًا وأنثى، وهو يُعيد خلقهما في كل لحظة ويرعاهما بعنايته المستمرة.
٤. حركة التجدّد بالروح القدس، هي حركة رسولية مسكونية، هدفها العيش بموجب القِيم المسيحية والتعاليم الإنجيلية، وتقوم بنشاطات روحية دورية، وتؤدّي رسالة توعية لفهم الإنجيل والعيش بموجبه، من خلال لقاءات ورياضات روحية جماعية.
تهتمّ اهتمامًا بالغًا بالحياة العائلية للأزواج المنتسبين إليها، فضلاً عن التواصل المستمر بين المسؤولين والأزواج في عملية تشاور دائمة في الشؤون والشجون. وتنظّم للأزواج نشاطات تعليمية وتثقيفية واجتماعية وتربوية، مستلهمة القِيّم المسيحية وتعاليم الكنيسة. كما تنظّم دورات تحضيرية للزواج وتعمل على مرافقة المتزوجين في صعوباتهم اليومية من خلال فرق مشاركة تعقد اجتماعات دورية.
وتولي هذه الحركة اهتمامًا خاصًّا بالأولاد والمراهقين، فتقوم بتأمين أفضل الأجواء لنموّهم المسيحي السليم في مجتمعنا وما ينتابه من مشاكل وصعوبات. فتنظّم للأولاد لقاءات دورية بحسب مراحل العمر تعالج فيها الأمور التي يتعرضون لها في حياتهم اليومية بحسب أعمارهم وبيئاتهم، وتحاول أن تملأ أوقات فراغهم بما يتناسب وسنَّهم في نشاطات جماعية ثقافية واجتماعية وترفيهية، بالإضافة إلى تنشئة مسيحية صحيحة. وتشجع هذه الحركة أعضاءها على الخدمة في الرعايا والمشاركة في لجان العائلة في الأبرشيات.
٥. «حركة نعم للحياة، هي حركة مسيحية، تعمل، تحت رعاية وإشراف لجنة العائلة في الأبرشية، على تحقيق الأهداف التالية: الدفاع عن كرامة الحياة البشرية وحمايتها وقيمتِها المطلقة، لأنها هبة الله في جميع مراحلها منذ اللحظة الأولى لتكوينها حتى النفَس الأخير. وذلك بتطبيق مبادىء إنجيل الحياة، والتقيّد بتوجيهات المجلس البابوي للعائلة المختصّة بالحياة البشرية. تنظّم هذه الحركة محاضرات في المدارس والجامعات والرعايا في المواضيع التي تختص بالحياة كالإجهاض والموت الرحيم، ووسائل منع الحمل وسواها من مواضيع أخلاقيات الحياة. وتؤمّن تنشئة العلمانيين، البالغين والشباب، في دورات مخصّصة لهذه المواضيع. وتعمل بدورها على نشر تعاليم الكنيسة بشأن الحياة في أمكنة تواجدها. وتشارك في دورات التحضير القريب والبعيد للزواج في الأبرشية، ضمن إطار اختصاصها.
٦. (أنت أخي)، مؤسسة اجتماعية تُعنَى بتأمين مستقبل كريم للشخص المصاب بإعاقة جسدية أو عقلية، أو المتعدّد الإعاقات. تُعنى هذه المؤسسة بتأمين متطلبات الحياة اليومية للشبيبة المصابة بشكل يحفظ لهم كرامتهم ويليق بهم كأبناء وبنات الله. وتنظّم برامج ترفيهية واجتماعية وروحية لتنمية شخصية المصاب. وتتعاون لهذه الغايات مع فريق متعدّد الاختصاصات، وفريق آخر من المتطوعين. وتضع نفسها في خدمة الأبرشيات والرعايا، كي يتمكّن كل شخص مصاب بإعاقة مِن أن يعيش، في الكنيسة ومعها، فرحَ المسيح وسلامَه، وأن يتغدّى من جسده الحي ودمه المحيي، ويكونَ عضوًا فاعلاً في قلب الكنيسة.
٧. ولا ننسى المنظمات والحركات الأخرى المعنية بالعائلة والحياة، الموجودة هنا وهناك، ولا مجال للتبسط فيها كلّها. فنكتفي بأن نذكر منها «طريق الموعوظين الجدد، و«أزواج من أجل المسيح، (Couples for Christ)، و«إيمان ونور، للمعاقين جسديًا وعقليًا وعائلاتهم.
هذه وسواها تؤدّي دورًا كبيِّرا في راعوية العائلة، فضلاً عن الدور الروحي والراعوي والاجتماعي الذي تقوم به الأخويات والمنظمات والحركات الرسولية للعلمانيين، المنتشرة في العديد من الرعايا، والشاملة مختلف الأعمار. إنها تعمل كلّها على إدخال تعليم الإنجيل وروح الصلاة والإيمان في العائلات، وعلى روحنة الحياة العائلية في مجالاتها وظروفها المتنوعة.
Références (Bibliographie)
o Dives in Misericordia, r., 11,1AA., Jean-Paul II (Encyclique)
o Humanae Vitae, Ya,v, 141A, Paul VI (Encyclique)
Evangelium Vitae, Ya,r,14e, Jean-Paul II (Encyclique)
o Pacem in Terris, 11,1,141r, Jean XXIII (Encyclique)
o Centesimus Annus, 1,9,1441, Jean-Paul II (Encyclique)
o Familiaris Consortio, YY,11,1441, Jean-Paul II (Exhortation Apostolique)
o Une Esperance Nouvelle Pour le Liban, 1.,2,144v, Jean-Paul II (Exhortation
Apostolique)
o Lettre du pape Jean-Paul II aux familles – Y fevrier 1441
o Charte des Droits de la Famille du Saint-Siège, YY octobre 14Ar (suite au Synode des
Eveques de 14A.)
o Discours du Pape Jean-Paul II aux participants a la 14e Conference de l’Union
Interparlementaire, 1A,4, 14AT
o Message du Pape Jean-Paul II pour la re Journée Mondiale des Communications
Sociales, ١٢,٥,٢٠٠٢
o Conseil Pontifical pour les Communications Sociales: Pornographie et Violence
dans les Media, Une réponse pastorale, v,2, 1444
o Conseil Pontifical pour les Communications Sociales, l’Eglise et l’Internet, TY,Y,Y. . Y
o Conseil Pontifical pour les Communications Sociales. Ethique en Publicité, YY, 1, 144Y
o Conseil Pontifical pour les Communications Sociales, Communio et Progressio, Y4
١,١٩٧١,
o Declaration universelle des droits de l’homme, ONU, 1., 1,141A (resolution de
l’Assemblee Generale, T1vA (III) du 1.,1,14EA)
مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك
عيد انتقال سيدتنا مريم العذراء ١٥ آب ٢٠٠٥
No Result
View All Result