الرسالة الراعوية التاسعة
شباب اليوم كنيسة الغد
«كَتَبُْ إليكُم، أَُيها الشبَانُ: إَنكُم أَقوياءُ، وَكَلمَةُ الله مُقِيَمةٌ فِيكُم» (١يوحنا٢ :٤ا)
ميلاد ٢٠٠٦
مقدمة
إلى الشبّان والشابّات أبناء كنائسنا الشَّرقيّة الأعزّاء. «أنتُم رِسَالَتْنَا كُتِبَتْ فِي قُلُوبِنَا» (٢ ورض٣: ٢).
١. (كَتَبْتُ إلَيكُم، أَيّهَا الشُّبَّانُ: إنَّكُم أَقوِيَاءُ، وَكَلِمَةُ الله مُقِيمَةٌ فِيكُم، (١ يوحنا ٢: ١٤). نتوجّه إليكم بهذه الرسالة، أيّها الأحبّاء، لنعبّرَ لكم عن محبّتنا الأبويّة، ولنقول لكم إنَّنا نرى فيكم، وفي قوّتكم ووفائكم، حياةً كنائسنا ومستقبلَها. إنَّنا نثق بكم ونثق بالدور البنّاء الذي تقومون به برعاية أساقفتكم ورعاتكم الأجلاّء. أنتم شهود لملكوت الله في كنائسنا وبلداننا، في هذه المنطقة التي تحتاج إلى مؤمنين ملتزمين وأقوياء ينادون بالحقّ والمحبّة والعدالة والسلام والمصالحة، ويعملون لها. وفيما نكتب إليكم هذه الرسالة، في لبنان وفلسطين والعراق، يعاني الإنسانُ صورةُ الله وكأتّه لم تَبقَ له أيَّة قيمة، وذلك لتنفيذ مخطّطات سياسيّة مسبقة. نكتب إليكم في هذه الظروف الصعبة التي نعيشها لنقول لكم إنّنا سنواصل معًا شهادتنا للمحبّة وللحقيقة اللتيْن تبدوان شبه أمرٍ مستحيل في منطقتنا في نظر الكثيرين من أقوياء هذه الأرض.
هذه الرسالة التي نوجِّهها إليكم هي دليلُ تصميمِنا على السير معكم في الظروف التي تهزّ الشّرق، لنحمل، في وسط الموت والدمار، وحبِّ التسلّط والانتقام، شهادتنا للمسيح وللحياة الوافرة التي جاء يفيضها على الجميع. نكتب إليكم ونقول لكم مع القديس بولس: «أنتُم رِسَاَلتنَا كُِتبَتْ فِي قُلُوبِنا» (٢ قورنتس٣: ٢).
يسوع والعائلة المقدّسة
إنَّنا نعيش في منطقة تحتاج دائمًا وبصورة مُلِحَّة إلى العمل في سبيل الحقيقة والحبِّ والسلام والفضائل التي جاء يسوع يعلَّمنا إيّاها. وإنّنا نرى في وجوهكم وجهَ يسوع الشاب، ابنِ الناصرة، ووجه مريمَ الشابةِ أُمَّه، ووجهَ يوسف العامل والمناضل والمكافح، ونتوسّم فيكم توقًا إلى البطولَة، ومقدرةً على أن تقتدوا بهم، وتكونوا في إثر يسوع وعلى مثال مريم ويوسف، رُسل الكنيسة وحاملي شعلة بشارة الملكوت. وإنّنا لواثقون أنكم تستطيعون أن تكونوا فعلاً سفراء المسيح الحقيقيّين (ر.٢ قورنتس ٥: ٢٠). الكنيسة هي أنتم ونحن معًا. كلُّنا معًا نكوَّن شعب الله المعمّد، ونؤلّف جسد المسيح الواحد، جماعة واحدة، كلّ بحسب أوضاعه وحالاته وما نال من وزنات ومواهب منحه إيّاها الله لنموّ الجسد كلِّه. نريد أن نكلِّمكم على دعوتكم ورسالتكم التي تبحثون عنها لتحملوها إلى العالم العربي. لقد سلَّمكم الربّ يسوع مسؤوليّة كبيرة يوم ملأكم من روحه القدوس حين قبلتم المعموديّة والتثبيت، لتحملوا بشارة ملكوت الله إلى إخوتكم وأخواتكم، لتحقيق سعادتهم وإعطاء معنى لحياتهم. أنتم شركاؤنا ونحن نثق أنَكم أهل لحمل مسؤوليّتكم في العائلة والوطن والكنيسة والعالم. أنتم أهل ومؤهَّلون لذلك. أنتم الشباب، قادرون، أكثر من غيركم، على الإبداع، والإدراك والعمل، والإنجاز والبذل والعطاء. نوجِّه إليكم رسالتنا لنؤكّد لكم رغبتنا العميقة في التواصل المباشر معكم، لتكونوا شركاء حقيقيّين معنا في حمل الرسالة، فنصغي إليكم لندرك عمل الروح فيكم، وأنتم تصغون إلينا وتزدادون فهما لمضمون رسالتنا ومسؤوليّتنا، فنعمل معًا على استثمار الوزنات التي سلّمَنا إيّاها الربّ.
أنتم طاقة الحبّ القادرة على تحويل مجتمعكم
٣. إنكم، أيَّها الشباب، تختزنون في أعماقكم طاقاتِ حبُّ كبيرة وتطلّعاتِ خيرِ واسعةً، إن أنتم أحسنتم استثمارها. تنتظرون منّا أن نفهمكم، وأن نتفهَّمَ حاجاتكم وتطلّعاتكم، وأن نُولَيَكم ثقتنا ونحترم أدواركم ومسؤوليّاتكم، التي تُعْنُون بها كنيستكم والعالم في مسيرتهما نحو الآب. وكذلك تستجيبون لقول البابا الراحل يوحنا بولس الثاني: «كثيرون هم الشباب المستعدّون للتطوّع في خدمة الكنيسة والعالم، شرط أن تُعرَضَ عليهم مسؤوليّة حقيقيّة أو أن يتَلقّوا تنشئة مسيحيّة متكاملة،١. إنكم تنتظرون بزوغ فجر جديد وقيامَ عالم أفضل، كما قال أيضًا قداسته عندما احتفل باليوبيل الكبير معكم: «مثل رقباء الصبح، إنهم يترقّبون فجر عهد جدید».
العالم جائع إلى خبز روحي وإلى كلمة الله وإلى حبّ ينعش فيه الحياة. وكثيرون هم الشابّات والشبّان الذين يسيرون إلى الهلاك، تقودهم إليه إغراءات هذه الدنيا وحضارة سمّاها يوحنا بولس الثاني «حضارة الموت). لكن، على الرغم من ذلك، فإنَّهم ينتظرون مخلّصين ينقذونهم من الغرق ويقودونهم إلى الحياة. فإليكم، أيّها الشباب، إلى سخائكم في الحبّ والتضحيّة والعطاء نفوّض مهمّة الإنقاذ في أوساط شبابنا ومجتمعاتنا وكنائسنا الشّرقيّة. وإنّنا واثقون أتكم قادرون على ذلك، بنعمة الربّ يسوع المسيح. واحفظوا هذا الشعار: كنيسة بلا شباب كنيسة بلا مستقبل، وشباب بلا كنيسة شباب بلا مستقبل.
مخطّط الرسالة
٤. اعتدنا أن نوجّه رسالة راعوية، في كلِّ سنة، إلى أبنائنا تحمل إليهم، مع محبّتنا وأدعيتنا، توجيهاتنا بشأن مواضيعَ شتىَّ تتناول حياتهم والتحدِّيات التي نواجهها معًا، ومتطلّبات إيمانِنا وبالتالي المواقفَ الواجبَ اتخادُها. ولقد أردنا، هذه السنة، أن نخاطبكم أنتم، أيها الشبّان والشابّات الأعزّاء، مصدرَ سرورنا ورجائنا.
سنكلَّمُكم في الفصل الأوّل على أساس دعوتكم ورسالتكم أي المسيح الذي هو مثالكم، والكنيسة التي أنتم أعضاء حيّة فيها. وفي الفصل الثاني، سنتكلَّم على الشهادة التي عليكم أن تحملوها في الرعية وفي المجتمع في بلدان الشّرق الأوسط. وفي الفصل الثالث، سنتكلَّم على الرسالة المسيحيّة بصورة عامة، والبشارة الجديدة، والحوار مع الكنائس ومع الديانات ومع عالمنا العربي. وسوف نتطرَّقُ أخيرًا إلى بعض المواضيع التي تخصُّ حياتكم ومسؤوليّاتكم الاجتماعيّة، وهي الأسرة، والفقراء، والوطن، والهجرة، والثقافة، والرياضة ووسائل الإعلام والعمل في المجال السياسيّ والاجتماعيّ.
١. رعاة القطيع، ٥٣.
الفصل الأوّل: يسوع المسيح والكنيسة
«كَانَ النُّورَ الحَقّ … أمَّا الَذينَ قبلوهُ فقد مَكَنَهُم أن يَصيرُوا أبناءَ الله» (يوحنا ٩:١ و١٢).
أولاً: المسيح المثال
٥. يتوق الشباب إلى الحقيقة والسعادة وإلى أن يكون لهم مثالٌ أعلى يقتدون به. فمنهم مَن يخطئ في خياره، ومنهم مَن يكتفي بمثالٍ بشريّ يسير، ومنهم أخيرا مَن يقوم بأعمال عظيمة. وجوهٌ كثيرة قد تخلب عقول الناس، ولا سيّما الشباب. ولكن، على مدى ألفَي سنة وحتى الآن، لم يأتِ أحد بما فعله وعاشه وعلّمه يسوع، المثال الأعلى لكلِّ إنسان، من حقّ ومحبّة وجرأة ومقدرة ووداعة وطهارة وسلام، ومشاركة وتضامن، ولا سيّما مع الضعفاء والخطأة والمتألّمين. مَن التقى يسوعَ وعرفه، رأى فيه وجهَ الله القدوس ورأى فيه الأخ والمعلّم والطبيب، فوقعَ أسير حبّه، إلاّ إذا كان مستعبَدًا لأمور الأرض وممتلِئًا من ذاته. «إنَّ فادي الإنسان يسوع المسيح هو قلب الكون والتاريخ والكنيسة٢ …. إنّه سيِّد الكون والتاريخ وسيِّد الزمن وهو بدؤه وانتهاؤه ٣.
نشأ يسوع، في طفولته وفي شبابه ملتزمًا عائلته الصغيرة في الناصرة، ثمّ العائلة الكبيرة التي في القرية، مع كل ما يحمله هذا الالتزام من أبعاد اجتماعيّة وروحيّة. فنراه «طَائِعًا لِوَالِدَيْهِ، يَتَسَامَى فِي الحِكمَةِ وَالقَامَةِ وَالحُظوَةِ عِندَ اللهِ وَالنَّاسِ، (لوقا ٥٢:٢). وعاش مثل الناس، ماعد الخطيئة، ومثلهم تحمَّل مشاقًّ الحياة وهمومها، منذ الولادة في مغارة بيت لحم إلى التشتُّت في مصر وعناءِ العمل في مهنة متواضعة … (ر. لوقا ٥٢:٢). ولَمَا كبر وأخذ يعظ ويعلِّم كانت حياته مُفعمَة بالتقوى والصدق والمحبّة والرحمة والإصغاء. تحسّس معاناة الناس، في محيطه وبلاده. وعرف حاجاتهم ومدَّ إليهم يد المساعدة، وألقى إليهم تعليمًا ساميًا يقودهم إلى الآب. كان يقول دومًا إنَّه جاء إلى الأرض وإنّ طعامه على الأرض هو أن يعمل بمشيئة أبيه السماويّ. يسوع هو «الطَّرِيقُ وَالحَقُّ وَالحَيَاة» (بوحناء١: ٦). «جَاءَ نُورًا لِلعَالمُ» (ر. يوحنا ٤٦:١٢)، دوُلِدَ وَأَتَى إلَى العَالَمِ لِيَشهَدَ لِلحَقِّ (ر. يوحنا ٣٣:١٨)، وليمنح البشر «الحَيَاةَ الوَافِرَةَ» (يوحناء ١٠:١). وبتجسّده جعل لحياتنا كرامة جديدة، لأنّه انَخذ طبيعتنا البشريّة، فحرّرها وطهّرها ورفعها ومنحها البنوة الإلهيّة الحقيقيّة، وبها قدّس الكون کلَّه.
كلَّمنا على ملكوت الله بأمثلة كثيرة، ووصف المجد المعَدَّ لنا في السماء، ذاك الذي قال فيه الرسول بولس: «مَا لَمْ تَرَهُ عَينٌ وَلا سَمِعَتْ بِهِ أُدُنٌ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلبِ بَشَرٍ» (١ فورنتس ٩:٢). جاءه يومًا شابّ غنيٌّ، حفظ الوصايا منذ صغره، وسأله عن الحياة الأبديّة. فنظر إليه يسوع وأحبَّه.
وأوضح له أنَّ حفظ الوصايا لا يكفي، بل هناك ما هو أعظم لمن يرغب في الكمال: هناك المحبّة إلى درجة التجرّد عن كل شيء، المحبّة التي هي درب الكمال، بل هي الكمال، لأنّ «الله محبّة» (١ يوحنا ٨:٤). لذلك وجّهه إلى محبّة إخوته البشر المحتاجين، وطلب منه أن يُشرِكَهم في ما يملك. لكنَّ الشابَّ انصرف حزينًا، لأنّ قلبه كان متعلّقًا بمال كثير (ر.مرقس ١٠: ١٧-٢٢). محبّة يسوع للشباب ولكلِّ البشر تعبّر عن محبّة الآب لهم. وهو يدعوهم إلى المشاركة في هذه المحبّة، لأنّ سعادتهم تقوم بها. فالله يُشرِك البشرَ أجمعين في حبّه وخيراته، خاصّة الشباب منهم، وهم، كإخوة فيما بينهم وأبناءَ للآب الواحد، يتناولونها ويتقاسمونها معًا بفرح وشكر.
٢. فادي الإنسان، ١.
٣. إطلالة الألف الثالث، ٤ و١٠.
رؤية جديدة للحياة
٦. طلع يسوع على اليهود والعالم بنظرة جديدة إلى الحياة والملكوت. خالف علماء الشريعة في مفاهيمهم الخاطئة لمحبّة الله والإخوة. كانوا يعتبرون الشريعة حرفًا جامدًا، ويتعلّقون بعبادات وتقاليد بشريّة غيرِ جوهريّة، بينما كانوا يُهمِلون «العَدلَ وَالرَّحمَةَ وَالأَمَانَةَ» (متَى ٢٣:٢٣). فكان يذكّرهم بأنَّ الله يُرِيدُ «الرَحمَةَ لا الدَبِيحَة» (متّى ٧:١٢)، وبأنَّ المقدَّسات هي لخدمة البشر، وأنَّ «السَّبتَ جُعِلَ لِلإنسَانِ، وَمَا جُعِلَ الإنسَانُ لِلسَّبتِ» (مرقس ٢٧:٢). ومما قاله في العظة على الجبل: «سَمِعْتُم أَنَّهُ قِيلَ: أَحيبْ قُرِيبَكَ وَأَبغِضْ عَدُوَّكَ. أمَّا أنَا فَأَقُولُ لَكُم: أَحِبُّوا أعدَاءَكُم وَصَلُّوا مِن أَجل مُضطَهِدِيكُم، لِتَصِيرُوا بَنِي أَبَيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لأَنَّهُ يُطلِعُ شَمسَهُ عَلَى الأشرَارِ وَالأخيَارِ، وَيُنزِلُ الَمَطَرَ عَلَّى الأبرَارِ وَالفُجَّارِ» (متّى ٥: ٤٣-٤٥).
نظرته إلى الصغار والمرأة، وإلى المرضى وإلى الخطأة والأغراب والمنبوذين، لم تكن نظرة ازدراء أو دينونة، بل كانت نظرةً تُحرّر الإنسان وتُكسِبُه الشفاء وتعيد إليه صحة النفس والجسد، وترفع من کرامته. كلُّ إنسان في نظر يسوع مدعوَّ إلى أن يكون ابنًا لله، وإلى أن يكون شريكًا في خلاص الإنسانيّة مع الربّ يسوع الفادي.
علّمنا يسوع أيضًا أن نصلّي. كان يحضّ تلاميذه وكلّ الشعب قائلاً: «ر. صلّوا ولا تملّوا، (لوقا ١/١٨ ولوقا ٣٤/٢١) وإذًا صَلَّيْتُم فَلا تَكُونُوا كَالُمرائِين … لا تُكَرِّرُوا الكَلامَ عَبَّنًا مِثلَ الوَئْنِيِّينَ (متّى ٥/٦ و٧). ولمّا دنا إليه تلاميذه وسألوه أن يعلّمهم كيف يصلّون، علَّمهم تلك الصلاة الرائعة التي تصلّيها الكنيسة حتى اليوم، وتدعوها «الصلاة الربّية،: «أبانا الذي في السماوات، ليتقدّس اسمك، ليأت ملكوتك، الخ … ، (ر. لوقا ١/١١-٤ ومتى ٩/٦-١٣). تملأنا هذه الصلاة بالفرح والسرور إذ تؤكِّد لنا أنّ الله أبونا، وأنّه يدعونا إلى ملكوته وإلى العمل من أجله، وإلى تقديس ذواتنا. وإنَّها تقدَّم لنا أيضًا فرح المغفرة: يغفر الله لنا كما نغفر نحن بعضُنا لبعض.
حمل يسوع المسيح خطايا البشر وآلامهم. وقد دفعه حبُّه لأبيه ولنا إلى قبول الموت من أجلنا ليفتدينا من عبوديّة الخطيئة ونتائجها، ويقيمنا إلى الحياة الأبديّة والمجد.
جاء ليشهد للحقّ، وليمنح البشر الحياة الوافرة والمجد، هنا وما بعد هذه الحياة. وقد علّمنا أنَّ حياتنا هي هبة من الله، وهي هبة يجب أن نستحقّها، بجهدنا وبتجاوبنا مع نعمته تعالى. ولذلك بيَّن لنا في مثل الوزنات ضرورة استثمار كلٍّ ما وهبنا إيّاه الله من نِعَم. ومن أجل أن يُبقِيَ حضوره وعمله الخلاصي مستمرَّيِّن وفاعلَيْن فينا إلى آخر الأزمنة، دعا يسوع إليه بعض التلاميذ الذين اختارهم وأقامهم جماعةً محبّة ورسلا لإعلان بشرى الخلاص. أراد أن يكونوا شهودًا له، ونورًا للعالم، وخميرة تغيّر وجه الأرض. والذين رأوهم آمنوا بكلامهم وبمعلِّمهم الإلهي، ومجّدوا الآب السماوي. فأصبحوا على مثاله علامة وسرًّا للآب، كما أنّه هو علامة الآب وسرّه. وكوَّنوا جماعة كنسيّة تستنير بكلمته وتحيا بالأسرار المقدَّسة التي تمنح جميع الذين يقبلونها الحياة الإلهيّة، وتوحّدهم بالمسیح وفي ما بينهم.
ثانياً: الكنيسة والعلمانیون فيها
الكنيسة هي جسد المسيح
٧. المسيح الربّ هو الكاهن، أي الوسيط الوحيد بين الله والناس، لأنّه جمع في ذاته بين الطبيعتين الإلهيّة والإنسانيّة. وهو النبيّ والمعلّم الذي حمل إلى العالم نور الحقيقة الشاملة عن الله والإنسان والكائنات. وهو أيضًا الملك، أي الراعي والمدبّر والخادم الذي أحبَّ خرافه فخدمهم وغسل أرجلهم وشفى مرضاهم وحنا على فقرائهم وغفر خطاياهم … وبذل نفسه حتى الموت من أجلهم. لكنَّ هذا الوسيط الأوحد لم يشأ أن يتفرَّدَ بالعمل وحده. بل أراد أن يُشرِكَ البشر في عمل خلاصهم، فدعا تلاميذ ومعاونين له، وأسّس جماعة المؤمنين ليعملوا معه من أجل خلاص العالم. فالكنيسة، شريكة المسيح وجسدُه السرّيّ، تواصل حضوره وعمله عبر الأزمنة والأمكنة. ولأجل ذلك هي في طبيعتها ومهمَّتها تقوم بأدوار المسيح الثلاثة: أي إنهّا تشاركه في كهنوته ونبوّته وملوكيّته. إنَّها تقوم بهذه الأدوار بنوع خاصّ في شخص الأساقفة والكهنة، لكنّها تحملها أيضًا وتمارسها بنوع عامّ في كلِّ مؤمن وجماعة من أبنائها الرهبان والراهبات والمكرَّسين والمكرَّسات والعلمائيِّن. فالكنيسة تعي جيّدًا ما لكلّ معمّد من حقوق وما عليه من واجبات، وتفرح عندما يقوم العلمانيّون برسالتهم جنبًا إلى جنب مع الرعاة وبرعايتهم.
هوّيّة العلمانيّ ورسالته
٨. وصف المجمع الفاتيكاني الثاني هوّية العلمانّين ورسالتهم في الكنيسة في الدستور العقائديّ في الكنيسة «نور الأمم،، قال: «إنَّهم المسيحيّون الذين ليسوا أعضاء في الدرجات المقدّسة، ولا في الحالة الرهبانيّة التي أقرَّتها الكنيسة، أي المسيحيّون الذين، منذ انضمامهم إلى جسد المسيح بالمعموديّة واندماجهم في شعب الله، جُعلوا شركاء، على طريقتهم، في وظائف المسيح الكهنوتيّة والنبويّة والملوكيّة. وهم يمارسون، في الكنيسة وفي العالم، الرسالة التي هي رسالة الشعب المسيحيّ بأجمعه. إنَّ الطابع الخاصّ الذي يتميّز به العلمانيّون هو الطابع الزمنيّ … فدعوتهم الخاصّة بهم هي أن يطلبوا ملكوت الله من خلال إدارة الشؤون الزمنيّة التي ينظّمونها بحسب مشيئة الله. إنّهم يعيشون في وسط العالم، وهم مرتبطون بمختلف واجبات العالم وأعماله كلّها، وببيئة الحياة العائليّة والمجتمع … ففي موضعهم هذا، دعاهم الله ليعملوا، مثلَ الخميرة في العجين، وبهَدْي الروح الإنجيليّة، لتقديس العالم، وليُظهروا المسيح للآخرين ولا سيّما بشهادة حياتهم … ويوجّهوا جميع الحقائق الزمنيّة … حتى تَّتِمَّ وتنمو باطَراد بحسب روح المسيح، وتكون دائمًا لمجد الخالق والفادي،٤.
ترتكز إذًا دعوة العلمانيّين على انتمائهم الكامل إلى الكنيسة، فهُم شعب الله، وهم يشاركون على طريقتهم في وظائف المسيح الثلاث. وترتكز رسالتهم على الطابع الخاصّ لدعوتهم، أي إحلال ملكوت الله في الأمور الزمنيّة، لتقديس الناس وتطعيم النظام الزمنيّ بروح الإنجيل. وهم مدعوُون بحكم رسالتهم إلى أن يقدّسوا أنفسهم، كما قال لهم معلِّمُهم: «كُوثُوا أنتُم كَامِلِين كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيُّ كَامِل» (متّى ٤٨:٥).
دور العلمانيّ في الكنيسة
٩. للعلمانّين دورهم في الكنيسة منذ نشأتها. والرعاة يقدّرون مكانتهم ورسالتهم في الجسد السرّي الواحد، ويعرفون جيّداً أنهم مدعوّون جميعًا إلى المشاركة في إحياء هذا الجسد بنعمة الروح القدس. صحيح أنَّ هذا الدور قد تقلّص في فترة معيّنة من تاريخ الكنيسة، وانحسر بصورة شبه كلّية في الإكليروس. إلاّ أنّ الكنيسة ظلَّتْ دومًا تعي أهميّته ووجوب وجوده وتنشيطه واستعادة ما فُقِد. وقد تحقّقَ ذلك في المجمع الفاتيكاني الثاني، وقبْلَه أيضًا وبَعده، على أيدي روّادٍ في رسالة العلمانيّين. لا تنحصر الشهادة للمسيح إذًا في الإكليروس أو الأشخاص المكرَّسين. فالعلمانيّون أعضاء حيّة وفاعلة في جسد المسيح السرّيّ، وهم مسؤولون عن العيش بحسب إيمانهم وعن الشهادة له ونشره. موقعهم في الصفوف الأماميّة من المجتمع، في كل مجال، في العمل والتجارة والصناعة والتربية والصحّة والعلم والثقافة والسياسة والإعلام إلخ … إنّهم مسؤولون عن حمل الإنجيل إلى هذه القطاعات وتقديسها، ولو بدا الأمر لهم أحيانًا صعبًا، حتى ولو كان في هذه القطاعات أحيانًا عداء للإيمان والإنجيل. فعلی المؤمن الرسول أن يكون أمينًا لرسالته، مهما كلّفه الأمر من جهد وتضحيات، وأن يكون شجاعًا في جهاده صامدًا في وجه التيّارات المعارِضة. والشهادة للمسيح تحتاج إلى نعمة من الله، يحصل عليها المسيحيّ بالصلاة والليتورجيا والإقبال على الأسرار، وتحتاج أيضًا إلى تثقيف دينيّ مستمرّ ومتكامل.
٤. الكنيسة نور الشعوب، ٣١.
الكهنوت العام لجميع المعمَّدين
١٠. في الكنيسة فئتان تكوِّنان جسدًا واحدًا، هو جسد المسيح السرّيّ وهما: أوّلاً الرسل وكلِّ الرعاة الذين سلّمهم الربُّ كهنوتَ الخدمة، وثانيًا المؤمنين الذين يحقّقون دعوتهم ورسالتهم في المواقع والحالات التي فيها يقيمون ويعملون. والفئتان متكاملتان، ولا توجد الواحدة دون الأخرى. فالرعاة المكرَّسون يختارهم الرب من بين العلمانيّين، وقد أُقيموا لخدمتهم الروحيّة وما تقتضيه هذه من خدمات زمنيّة، وقد قَبِلوا سرَّ الكهنوت. بينما يتمتّع العلمانيّون بالكهنوت العامّ الذي يمنحهم إيّاه سرُّ العماد المقدّس، لتحقيق دعوتهم والشهادة للإنجيل، برعاية الأساقفة والكهنة.
إنَّ رسالة العلمانتّين في الكنيسة والعالم تأخذ مثالها من يسوع المسيح ابن الله وابن الإنسان، وتتأصّل في عمله وتعليمه، أي في إنجيله المقدَّس، وتتمّ في الوحدة مع أعضاء جسده أي الكنيسة.
السعي إلی الکمال یتطلّب جهدًا
١١. أيّها الشباب، اعلموا أن السعي إلى الكمال يتطلَّبُ جهدًا وتخلّيًا عمّا هو دون أو سيّئ، لتتجاوزوه وتحصلوا على ما هو أفضل منه. هناك مع الأسف عددٌ من شباب عصرنا لا يقوى على الجهد والتجرُّد والالتزام. والأسباب كثيرة: إعلامٌ لا يأتي دائمًا بالحقيقيّة وأمثلةٌ غيرُ صالحة من كبارِ ومسؤولين. بل شَّة تيّارات تضع في المرتبة الأولى الربح والسلطة والاستثثار، وتعزّز الإباحيّة والفساد، فتطبع حضارة عصرنا بطابع سلبيّ وتجرف في خضمِّها شبّانًا وشابّات عديدين. لأجل ذلك، لكي لا تنجرفوا ولا تنقسموا على ذواتكم، ولا تمضوا حزانى في مسيرة حياتكم، نناشدكم أن تكونوا أقوياء وألا تخافوا صعوبات هذه الحياة. فالربّ يسوع حاضر بينكم ومن أجلكم، ينظر إليكم بحب كبير ويدعوكم إلى البطولات وإلى القِمم. لا تغرقوا في مياه المستنقعات الراكدة، بل سيروا بحزم إلى ينبوع الماء الحيّ.
عالمنا اليوم ضائع وهائم يبحث عن خلاصه وسعادته. والعالم والكنيسة ينتظران شبابًا أسخياء أقوياء شجعانًا ومحبّين يندفعون للمساعدة. فلا تتردّدوا، ولا تتقوقعوا ولا تتهرّبوا من مسؤوليْتكم، ولا تكُنْ الشدائد أو الخجل أو المكاسب الرخيصة عائقًا دون سعيكم. أنتم أمل الكنيسة والعالم.
ويعرف المسيحيّ جيّدًاً أنَّ «الطَّرِيقَ المؤَدِّيَ إلَى الحَيَاةِ ضَيِّقٌ، (ر.متى ١٤:٧)، وأنَّ من أراد مجد القيامة عليه أولاً أن يحمل صليبه كما حمله يسوع قبْلَه (ر. لوقا ٢٦:٢٤). أليس أنَّ الشباب هم الأجدر في تحدّي الصعوبات وحمل الصليب والمثابرة حتى الوصول إلى القمّة؟ نعم، أيّها الأعزّاء، إنكم قادرون على حمل الصليب لتقدِّموا يسوع، المخلّص الوحيد، للشبيبة وللعالم، وللمؤمنين وغير المؤمنين على السواء. أيّها الشباب، أنتم الرُسل. فكونوا أقوياء وابذلوا نفوسكم في سبيل غيركم.
الفصل الثاني: الشهادة المسيحية
فليُضِئْ ثُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أعمَالكُم الصَّالِحَة، فَيُمَجِّدُوا أَبَاكُم الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (مثى ١٦:٥).
أولاً: كيف وعمَّاذا نشهد؟
کلام الله
١٢. أيّها الشباب، قَبلتم المسيح وآمنتم به. بالمعموديّة لبستموه، وفيه هو الابن الوحيد صرتم أبناء الله. فيجب عليكم أن تجدِّدوا باستمرار معرفتكم لإيمانكم ومقتضياته، لتعيشوا وفقًا لكرامة دعوتكم وتشهدوا في كل ظرف وحال للرب القائم من بين الأموات. المعموديّة ولادة جديدة، فيها نلبس الابن، وفيها نصير أبناء الآب وهياكل للروح القدس. تضع المعموديّة فينا بذار النِعْمَة، بها نحيا وننمو ونعطي شمارًا. إلاّ أنَّ هذه البذار تحتاج إلى غذاء وعناية. وقد هيّأ الله لنا، في كنيسته، الوسائل الكفيلة بذلك. أوّل هذه الوسائل هو كلام الله المحبي الذي تحفظه الكنيسة وتقدّمه لنا. إنّه قصة خبرةٍ عاشها الإنسان مع الله، وهو بُشرى الخلاص والمصير المجيد. إنه رسالة حبُ كتبها الله للإنسان. وهو كما قال الربّ: «نور وحقّ وحياة، به يحيا الإنسان، وليس فقط بالطعام (ر.متّى ٤:٤)، به نعرف الله وتدبيرَه الخلاصيّ عبرَ الأجيال، وتجسُّدَ ابنه وفداءَه، وطبيعةَ الإنسان ودعوتَه ومصيره، ووصايا الله التي أعطاها للناس لينتصروا بها على الشرّ، في الخارج وفي داخل الذات، فيقوموا للمجد والحياة الأبديّة.
وكم من أبنائنا الشابّات والشبّان خلبت عقولهم وقلوبهم مبادئُ ونظرياتٌ وفلسفات براقة وخدّاعة، لا تستطيع أن تعطيهم الحياة الحقيقيّة، فساروا وراء مظهر حياة يقودهم إلى الموت، لأنّهم بعيدون عن كلام يسوع المسيح ومثاله، هو وحده القادر على إعطاء الحياة، لأنه هو الحياة.
إنّ الذين قبلوا النور يبقون في جهلهم إن لم يسعوا كل يوم إلى النور ليزدادوا معرفة لسرّ المسيح وحبًا له واتحادًا به. كلام الله مثل حبّة القمح، التي تحيا وتثمر عندما تقع في أرض جيّدة على شرط أن تتلقّى العناية اللازمة بالإضافة إلى نور الشمس وماء المطر. لذلك وجب على المسيحيّ، الساعي إلى الحياة، أن يتناول الكتاب المقدّس من يد كنيسته، فيتأمّل فيه ويلازمه ويتعرّف على سرّ الله وإرادته، وعلى أسرار الكون والإنسان والحياة. وعليه أيضًا أن يسعى بأمانة لأن يعيش بحسب الكتاب لأنَّه كلام الله.
الأسرار المقدّسة والطقوس
١٣. إنّ الله يعرف الإنسان وحاجاته. فكما أعطاه وسائل طبيعيّة لحياة جسده، كذلك أراد أن يوفّر له الوسائل لحياته الروحيّة. لذلك أنشأ يسوع المسيح في كنيسته الأسرار المقدّسة وسائلَ تنطلق من الطبيعة، فتصير بالتقديس وسائل فائقة الطبيعة من أجل حياة فائقة الطبيعة. فالماء والزيت والخمر والخبز وسوى ذلك مما نستخدمه في منح الأسرار المقدَّسة، هي أصلاً لحياة الجسد، ولكنَّها تتحوَّل بإرادة يسوع المسيح وتصير وسائلَ لحياة الروح.
إننا نجد مع الأسف مسيحيين كثيرين من أبنائنا يجهلون معنى الطقوس وطبيعة الأسرار وضرورة تناولها وكيفيّة ممارستها. ونجد أيضًا من يستخفُّ بها. مع أنَّ الربّ يسوع المسيح تكلَّم بوضوح على ضرورة الأسرار لَّا قال في المعموديّة: «فَمَنِ آمَنَ وَاعتَمَدَ يَخلُصْ، وَمَن لَم يُؤمِنْ يُحكمُ عَلَيهِ» (مرقس ١٦:١٦)، وقال في الإفخارستيا: إذًا لَم تَأكُلُوا جَسَدَ ابنِ الإنسَانِ وَتَشرَّبُوا دَمَهُ فَلَن تَكُونَ فِيكُمُ الحَيَاةُ، (يوحنا ٥٢:٦).
تَكمُن قيمة الطقوس والأسرار المقدَّسة في معناها ومفاعيلها. فهي تجعل حاضرًا الحدث الأساس الذي قام به المسيح لخلاص العالم. إنّها تجديد لسرّ التجسّد والفداء في كل مراحله، تجعله حاضرًا الآن وهنا، بحيث يعيشه المؤمنون اليوم كما لو كانوا يعيشونه في حينه. بذلك تصبح الأسرار وسائل فائقةً الطبيعة فاعلةٌ ومقدِّسة.
في الطقوس والأسرار نأخذ أشياء الدنيا ونقدّسها، فتقدّسنا بدورها وترتفع بنا إلى قداسة الله ومجده. ولهذا لا يليق بنا اتخادُ هذه المقدَّسات والانحدارُ بها إلى المستوى الأرضي، كما يفعل بعضنا في مناسبة الأعياد وقبول الأسرار، فبدلاً من أن يجعلوا الأعياد والأسرار ينابيعَ نِعَم، فإنَّهم يحوّلونها إلى تقاليدَ ومناسبات دنيویة.
الإيمان والعقل
١٤. البشر على العموم، والشباب بنوع خاص، هم في سعي شبه دائم إلى معرفة الحقيقة، حقيقة وجود الإنسان وأصله ومصيره. لأنّ لدى الإنسان رغبة ملحّة في معرفة الله والاتّحاد به. عقله هو الموهبة العظمى التي تميّزه عن سائر المخلوقات، به يعرف الكون ونفسه والله. حاول الإنسان منذ بدء وجوده أن يكتشف هذا السرّ. والفلسفاتُ والأديان والفنون كلّها تعبّر عن هذا الشوق العميق إلى معرفة الله والاتَّحاد به.
غير أنَّ عقل الإنسان، بسبب الخطيئة المعطِّلة، ليس قادرًا وحده على إدراك الحقيقة بكلّ تألّقاتها. فدنت الحقيقة منه، وأتت للقائه وتجلّت أمامه، وهذا ما نسمّيه بالوحي، به أظهر الله ذاته للإنسان من خلال مخاطبته بعض المختارين الذين صاروا ملهَمين وشهودًا. «وَلَمَّا تَمَّ الزَّمَانُ» (غلاطيه ٤:٤) ظهر في ابنه، الكلمة المتجسّد.
العقل إذاً هو الوسيلة التي بها يدرك الإنسان الله، وهو لا يدركه كما يليق إلاّ إذا أتى الإيمان إلى نجدته. فلا تَناقُضَ بين العقل والإيمان كما يدَّعي البعض، بل هما متعاونان متكاملان في مسيرة بلوغ الإنسان إلى غايته التي هي الله سبحانه وتعالى. لا يمكن للعلم البشري أن يتخطّى حدود المادة والمكان والزمان والمقاييس … بينما الإيمان، يتناول، انطلاقًا من المحسوس، ما هو بعده وفوق المادة والزمان والمكان. في العِلم، يسأل العقل عن «كيفيّة الأمور، كيف تجري أمور الكون والبشر. أما في الفلسفة والإيمان فالسؤال هو لماذا، ما الهدف من وجود الكائنات؟
في العالم نظريّات فلسفيّة تروّج لفكرةِ تناقُضِ العلمِ والعقلِ مع مقتضيات الإيمان، أو تعمل للفصل بينهما. وإنّنا لنرى شبّانًا وشابّات يبحثون بإخلاص عن الحقيقة، يقعون ضحيّة هذا المبدأ الذي يرفض الإيمان كطريق يؤدّي بالإنسان إلى نموّه وكماله وبلوغ غايته الأخيرة.
يقول البابا يوحنا بولس الثاني: «من بين الخدمات التي تؤدّيها الكنيسة للبشريّة خدمة تُلزِمُها بطريقة خاصة جدًّا: وهي خدمة الحقيقة°. من أُولى واجبات الكنيسة أن تسعى لتكشف للعالم عن حقيقته وحقيقة الله وأن تقدّم له مُخلِّصَه، الذي قال عن نفسه إنه «الطَّرِيقُ وَالحَقُّ وَالحَيَاة» (يوحنا ٦:١٤).
«فالمسيح، نور الأمم»، ينير العالم وينير وجهَ كنيسته التي يرسلها «إلَى الخَلقِ أجمَعِينَ، (مرقس ١٥:١٦). «والكنيسة، شعب الله بين الأمم، والتي تعرف تحدّيات التاريخ الجديدة والجهود التي يبذلها البشر في البحث عن معنى الحياة، تعرض على الجميع الجواب النابع من حقيقة يسوع المسيح وإنجيله،٦.
العقائد وتعليم الكنيسة
١٥. سَلَّمَ يسوع المسيح كنيستَه مسؤوليّةَ تعليمِ حقائقِ الإيمان وشرحِها للناس، وتوضيحِ القواعد للتصرّفات والعلاقاتِ البشريّة التي يجبُ أن تستنير بهذه الحقائق، فتَصِلُ بالإنسان وبالمجموعات البشريّة إلى السعادة الحقّة وإلى الكمال. وتحدَّد الكنيسة العقائد المسيحيّة بدقّة ووضوح، لكي تكون للمؤمنين وسواهم دليلاً ونورًا لما يؤمنون به ويفعلونه، وضمانة لعدم انحرافهم في الضلال. تعليم الكنيسة الاجتماعي والخلقي هو بمثابة تفسير صادق وشرعيّ للكتاب المقدّس، وقاعدة تطبيق عملىّ له في الحياة الحاضرة، في مواجهة المتغيّرات البشريّة والاجتماعيّة.
فتقدَّمُ العلوم المختلفة وتأثيرُها على حياة الإنسان وطبيعته وعمله وعلاقاته يضع الإنسان اليوم أمام تحدّيات جديدة في ما يتعلّق بإيمانه ومعرفته لأُسس وجوده وحقيقة مصيره. فالنظريّات متعدّدة والانحرافات كثيرة، وهناك خلط كبير في مفهوم الحضارة نفسها يُفضي بالإنسان إلى حضارة الموت وحضارة الجهل والاستغلال والظلم.
لذلك فإنَّ الكنيسة، وهي الأمّ والمعلّمة، تحرص على إيمان أبنائها ومصيرهم، وعلى مسيرة الحقِّ والمحبّة والفضائل عند البشر. الكنيسة «تميّز علامات الأزمنة، وتقدّم للبشر النور الحقيقيّ لحياتهم ولمصيرهم الأبديّ، استنادًا إلى كلام الربّ الذي لا يَغشّ ولا يُغشّ، وهو «الَّذِي جَاءَ لِيَشهَدَ لِلحَقِّ، (يوحنا ٣٧:١٨).
ولدى الكنيسة أساليب متنوّعة لتنشئة المؤمنين تنشئةً مسيحيّة صالحة. فبالإضافة إلى التربية الدينيّة من خلال الليتورجيا والأسرار المقدّسة، هناك كلمة الله في الكنائس والمدارس، في الوعظ والإرشاد. وتستخدم الكنيسة وسائل الإعلام والإعلان الحديثة، واللقاءات المصغَّرة لشرح الإنجيل المقدس. وتساعد العائلات في تربية أبنائها وبناتها، لتسلّم لهم حقائق الإيمان وترتّيهم على الالتزام في الكنيسة. وتولي اهتمامها للحركات الرسوليّة والأخويات والجماعات الكنسيّة التي ترافق المؤمنين، ولا سيّما الشباب والأولاد، والتي تعوّض عمًا ينقصهم من تنشئة مسيحيّة واسعة.
٥. الإيمان والعقل، ٢.
٦. تألق الحقيقة، ١. راجع أيضًا الكنيسة نور الشعوب، ١.
ثانيًا: عيش الإيمان والشهادة له
ملح ونور وخميرة
١٦. الأرض معرّضة على الدوام للانحلال والدمار، عجينتها وملحها عرضة للفساد، ونورها للانطفاء. وتعليم الكنيسة عرضة للتشويه أو العداء. وعدد كبير من الناس يتشكّى ويتذمّر من الفقر والفساد في الأرض واضعًا الملامة على سواه، دون أن يفعل أحيانًا كثيرة ما عليه هو من واجب لتغيير ذاته أولاً من أجل تغيير العالم بعد ذلك. فمن يبدأ بالعمل؟
لقد حمّلنا الربّ يسوع، نحن تلاميذَه، والمعمّدين جميعًا، مسؤوليّة الحفاظ على سلامة العالم والعمل دومًا ومن غير أن نستسلم لليأس لنسير بالعالم إلى الأفضل، عندما قال لنا: «أَنتُم نُورُ العَالَم، أَنتُم الخَمِيرةُ فِي العَجِين، وأَنتُم مِلحُ الأَرض … (ر. متّى ١٣:٥-١٤ و٣٣:١٣).
على كلّ معمّد أن يكون أمينًا ليسوع المسيح وللشهادة له. وإنّنا نعرف أنَّ نقل البشارة يتمّ بالكلام والسماع، وهذا لا يتوفّر في كل الأحوال والأحيان. ولكنه يتمُّ أيضًا بشهادة الحياة، وهذا واجب في كل الأوقات والحالات. فالمسيحيّ لا يعيش إيمانه في الطقوس والأسرار فقط، بل يعيش إيمانه في عالمه، وفي وطنه، وفي مجتمعه، وفي عمله، وفي بيته ورعيّته. وأمّا الطقوس والأسرار المقدّسة فإنَّها تؤهّله وتدفعه إلى عيش الإيمان بكلِّ موجِباته في العالم.
الفساد في الأرض كبير. والله بحاجة إلى كلٍّ إنسان ليفيض نعمته على الأرض. كما أنَّ الإنسان بحاجة إلى الله ليتحمَّل مسؤولياته. المسيحيّ المؤمن صاحب عقيدة وملتزم بها، وهو مطيع لله وشجاع ومحبّ يحمل صليبه بفرح، متشبهًا بمعلّمه، قائمًا مقامه وعاملاً معه لخلاص العالم.
المسيحيّ يعيش في سلام وفرح لأنَّ فيه رجاء القيامة، ولأنّه لم يعد منقسمًا على ذاته، ولا منفصلا عن الله والآخرين، ولأنَّ حضور الربّ يملأ كيانه ويرفعه إلى قداسة الله ومجده.
لقد نعتَ نيتشه، الفيلسوف الألماني، المسيحيّين بأنهم أناس لا يبدو عليهم فرح الخلاص. قد يكون على حقّ بالنسبة إلى بعض المسيحيّين الذين عرفهم. أمّا المسيحيّ الذي يعيش فداء المسيح وخلاصه وقيامته، في جسده وروحه، فلا يسعه إلاّ أن يعيش بفرح وسلام إلهيَّيْن.
شباب مناضل من أجل حياة مسيحيّة لائقة
١٧. للشبّان والشابّات المؤمنين رؤَى وطموحاتٌ ومُثُلٌ وقِيَم، ولديهم الشجاعة والطاقة ليواجهوا شتّى الصعوبات بعزم وثبات، ويعرفون كيف يتضامنون ويتعاونون من أجل الخير العام الأسمى. أبناءنا الشبّان والشابّات، نحن نعرف وندرك جيّدًا جهادكم أنتم ورفقاءَكم، في بلداننا، في مواجهة التحدِّيات والصعوبات المعيشيّة والاجتماعيّة، من أجل حياة لائقة وكريمة. نعرف الضغوط الهائلة التي تتعرّضون لها في حياتكم الفرديّة والعائليّة والدينيّة، في المدن وفي الأرياف، بسبب البطالة والفقر والتهميش، والحروب والخوف من المستقبل … والتي ربّما أضعفت إيمان البعض منكم، فسعى إلى الهجرة أو إلى الانسحاب من الحياة العامة، أو إلى اليأس والحقد. إنَّنا نقدّر صمودكم في عيش إيمانكم ورجائكم بربّكم، وفي إخلاصكم لأوطانكم ومحبَّتكم لإخوتكم وأخواتكم، وفي مواظبتكم على العمل من أجل مجتمع أفضل، حتى ولو كلّفكم ذلك أن تقعوا مثل حبَّة الحنطة في الأرض لتأتوا بثمر كثير. في جهادكم لا تتخلّوا عن الصلاة وقبول الأسرار، ولا سيّما الاشتراك الواعي في القداس وتناول جسد الربّ الذي هو غذاء المؤمن وقوّته. فالصلاة والأسرار المقدَّسة هي سلاحكم وطريقكم إلى الله والبشر. لستم وحدكم في جهادكم. إنَّ الربَّ يسوع حاضر بينكم وهو سندكم. ومن دونه لن تقدروا على الخير وعلى النتائج التي ترجونها من خلال جهادكم لصالح بلادكم وكنائسكم.
حُبٍّ أم أنانيّة؟
١٨. الحبّ، كلَّ يتكلّم عنه ويصفه ويبحث عنه ويترئَمُ به. وليس الكلّ يفهمه ويعيشه كما أراد الخالق. ننطلق في المسيحيّة، في مفاهيمنا وعقائدنا وتصرّفاتنا وعلاقاتنا، من محبّة الله للإنسان. هذا هو الحبّ الذي يجب أن يكون مرجعيَّتنا لندرك حقيقة الحبّ وعظمته عند البشر، ولا سيّما حبَّ المرأة والرجل.
كم من حبّ يجعله البعض مزيَّفًا في الأرض، وكم من حبّ مناقض للحبّ، لأنه حبٌ أنانيّ للذات على حساب الآخرين. إنه لأمرٌ طبيعيّ وواجب أن يحبّ الإنسان نفسه ويؤكّد هويته ويحافظ عليها وينمِّيها. لكنَّ هذا الحبّ للذات يسيء إلى الإنسان وإلى علاقاته بالآخرين إذا كان منغلقًا على نفسه ولم يُفضِ إلى محبّة الآخرين. المحبّة الحقيقيّة المنفتحة على الآخرين تبني البشريّة والكون، بينما المحبّة المنغلقة تدمرهما.
بين محبّة الآخرين ومحبّة الذات فرق دقيق وغير واضح لكثير من الشباب الذين لا يعرفون الحبّ معرفة كافية، لذلك كثر المخطئون وتعدّدت الضحايا. إنّنا نأخذ في الحياة لنعطي، فتنمو حياتنا وتَسعَدُ وتثمر. وعندما نأخذ ولا نعطي تختنق حياتنا وتموت. هذه سنّة الحياة والطبيعة: الأرض تعطي والشمس تعطي، والشجر يثمر، والمطر يُنمي وحبَّة القمح تتكاثر … والإنسان يجد في عطائه وحبّه سعادته وسعادة الآخرین.
إنَّ الله، الذي هو في جوهره محبّة، هو عطاء وبذلٌ للذات: ففي قلب الله، الآب يعطي ذاته كلّها للابن، والابن يعطي ذاته كلّها للآب، والروح هو هذا العطاء المتبادل. ولّا خلق الله الكون والإنسان خلقهما بهذا الحبّ.
من الله نتعلَّم المحبّة
١٩. في البدء، عندما خلق الله الإنسان رجلاً وامرأةً، كانت العلاقة بينهما نقيّة وعادية. ولما خطِئا، أفسدت الخطيئة هذه العلاقة وفسد الحبّ وفسد ما في الكون. لكنّ الله، بعد الخطيئة، عاد فعلّم البشر المحبّة بواسطة أنبيائه ورسله وقدّيسيه، إلى أن ظهر الابن الوحيد. فعاش بين الناس، وبحياته وبتعاليمه، علَّمَهم الحبّ، في أسمى تجلّياته، حتى بلغَ الحبَّ الأعظم، فبذل نفسه مطيعًا حتى الموت والموت على الصليب:
الكنيسة تعوِّلُ على الشباب
لَيسِ لأحَدٍ حُبَّ أَعظَمُ مِن أَن يَبذِلَ الإنسَانُ نَفسَهُ فِي سَبِيلِ أَحِبَّائِهِ (يوحنا ١٣:١٥). الحبّ إرادة وعمل من أجل خلاص الآخرين وإسعادهم، ولو كلّف ذلك تحمُّلَ التضحيات من أجلهم. بل التضحية في سبيل الغير هي العلامة الحقيقيّة للعطاء والحبّ. يكفي أن ننظر إلى والدِين محبّين كيف يبذلون ما عندهم وأنفسهم في سبيل حياة أولادهم وسعادتهم. ونتعلّم الحبّ أولاً في العائلة، فيها نولد ونعيش، وننمو ونكبر. والحبّ هو الذي يحيي الإنسان ويُنمِيه النمُوَّ الصحيح. وبهذا المعنى أيضًا قال الربّ يسوع: دلَيسَ بِالخُبزِ وَحدَهُ يَحيَا الإنسَانُ، بَل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ اللهه (متَى ٤:٤)، وكلمة الله هي أولاً الحبّ المطلق.
ثالثاً: المشاركة في الحياة الراعويّة
٢٠. يقول البابا يوحنا بولس الثاني في الإرشاد الرسولي «رجاء جديد للبنان: «إن الكنيسة تُعوّل على الشباب لإعطاء الحياة الكنسيّة والحياة الاجتماعيّة انطلاقة جديدة. ومن ثمّ فالجماعات المسيحيّة مدعوّة إلى أن تقدّم لهم مجالاً أوسع للاندماج في كل نشاطاتها، فيغدون بذلك حاملي «البشارة الجديدة»، وزارعي الكلمة في نفوس غيرهم من الشباب، مجنِّدين حيويَّتَهم الخاصّة للتجدّدِ الكنسي. وهم مدعوّون أيضًا ليكونوا مشاركين، مشاركة كاملة، في بناء المجتمع. ولذا ينبغي أن يتلقّوا تنشئة فكريّة وروحيّة متينة،
تَروي عطشهم إلى المطلق والحقيقة؛ وحيثما يسلكون يجب أن يجدوا ما يحتاجون إليه من مواكبة روحية،٧.
ويقول البابا في مكان آخر: «إنّ للكنيسة أشياء كثيرة تقولها للشباب، كما أنَّ لهؤلاء أشياء كثيرة يقولونها للكنيسة. ومن شأن هذا الحوار المتبادل، الذي يجب أن يجري بمودّة كبرى وبصراحة وجرأة، أن يعزِّزَ اللقاء والعلاقات المتبادلة بين الأجيال، وأن يصبح مصدر ثروة وفتوّة للكنيسة وللمجتمع المدنيّ أیضا،٨.
الالتزام في خدمة الكنيسة
٢١. أمّا الشباب والتزامهم في الرسالة الكنسيّة، فمنهم المتوانون، وأنصار المجهود الأقل. ومنهم الساعون إلى المادّة واللدّة فلا يقيمون وزنًا لأمور الروح. ومنهم أصحاب هوايات رياضيّة أو فنّية أو غير ذلك يرتاحون إليها أكثر ممّا يرتاحون إلى العمل في الكنيسة. وهناك الملتزمون في جماعات وأحزاب متعدّدة، والذين يعتبرون أنَّه لم يعد لديهم وقت يوظّفونه في قطاعات والتزامات أقلَّ فائدة وأهمّية في المجتمع. وهناك الخائفون من القيام بأيّ التزام يحرمهم بعض أوقاتهم ويحدّ من «حرَيتهم». وهناك أخيرًا الذين لا يحبّون رجال الدين ينعتونهم بالتسلّط فيبتعدون عنهم وعن الكنيسة.
٧. رجاء جديد للبنان، ٥١.
٨. العلمانيّون المؤمنون بالمسبح، ٤٦.
لكنَّ عددًا لا يُستهان به من الشبّان والشابّات، وهو في نموّ وازدياد، يقوم اليوم بدور فاعل في كنائسنا وفي نشاطاتها ومؤسّساتها. يقومون بذلك بدافع من إيمانهم بالله ومحبّتهم للكنيسة ولخدمة البشر. هؤلاء الشباب هم ربيع الكنيسة ورجاؤها وفخرها.
مقابل ما يقوم به الشباب في الكنيسة، يظنّ بعض الكهنة الرعاة، أو بعض الرهبان أو الراهبات الذين يعملون في الحقل الرعوي، وهم قلّة، أنّ المسؤوليّة والقيادة في الكنيسة هي مسؤوليّة الإكليروس فقط، وأنَّ أيَّ دور رسميّ يقوم به علمانيّون في الشؤون الرعويّة قد يقلّل من مسؤوليّتهم هم. فهم يعتبرون العلمانيّين قاصرين وغير مؤهَّلين. لكنَّ العددَ الأكبر من كهنة كنائسنا يولون دور العلمانيّ ومشاركته في جسد المسيح الواحد أهميّة كبيرة، كما يُشير إلى ذلك بولس الرسول (ر.١ قورنتس فصل ١٢). ويعرفون كيف يتقرّبون من الشباب، فُيُصغون إليهم، ويتعرَّفون على قضاياهم، ويشاركونهم أفراحهم وأحزانهم والصعوبات التي يواجهونها. ويساعدونهم على تنشئة أنفسهم في لقاءات صداقة وتضامن وفي أجواء من الاحترام والفرح والإفادة الروحيّة والإنسانيّة. وبفضل هذا التفهُم وهذه الرعاية، يتوصَّل الشباب إلى معرفة دعوتهم ورسالتهم في الكنيسة.
يدرك الرعاة جيّدًا أنّ لدى الشباب طاقات مميَّزة، وأنَّ عندهم قدرة كبيرة على العمل والعطاء، وأن هناك أمورًا يجيدون القيام بها في خدمة الملكوت، أفضل مما يتوقّعون، وربما أفضل ممّا هم عليه قادرون.
إنهم يعون أهميّة مشاركتهم في أيَّ عمل رسوليّ أو رعائيّ أو اجتماعيّ. والشباب من جهتهم، عندما يعرفون أنهم محترَمون ومقدَّرون في كنيستهم فإنَّهم يلبُّون مختلف الحاجات فيها ويقومون بواجبهم في خدمة ملكوت الله، بمجّانيّة وفرحٍ ٩. ومع ذلك، إن لم يجد الشباب التفهُّمَ الكافي أو الرعاية اللازمة، فعليهم أن يدركوا أنَّهم يخدمون أولاً وآخرًا سيّدًا واحدًا هو الربّ يسوع المسيح الذي يرى ما في القلوب ويجازي كلَّ امرِئٍ حسب أعماله. ومن ثمّ يجب ألاّ يبتعدوا عن الكنيسة أو عن التزاماتهم فيها مهما حصل أو مهما كان سوء الفهم الذي قد يتعرَّضون له. المجالس الرعويّة في الرعايا والمجالس الرعويّة على صعيد الأبرشيّة
٢٢. أمّا المجالات التي يمارس فيها الشابّات والشبّان رسالتهم ومشاركتهم في الحياة الرعويّة فهي تتوزّع على المحاور الآتية: مجالس الرعايا والمجالس الرعويّة الأبرشيّة، والحركات الرسوليّة. هذه المشاركة بين الرعاة والعلمانيّين في الكنيسة تحتاج إلى تنظيم يحافظ على حسن سيرها وإلى أجهزة تنمّيها وتفعّلها. لذلك توصي الكنيسة بإقامة مجالس في الرعايا، ومجالس رعويّة عامة على صعيد الأبرشيّة. والهدف من إنشاء هذه المجالس هو النظر في القضايا والأنشطة الرعويّة، وإيجاد الحلول لها، وإنعاش حياة الرعيّة والأبرشيّة بتعاون الجميع، تحت رعاية الكاهن والأسقف١٠.
يصعب على بعض الكهنة إنشاء مثل هذه المجالس لأنّهم يعتبرون أن التعاون مع العلمانيّين أمر شاقٌ، وأنّ الهيئات الرعويّة عرضة للانقسامات والتحزّبات والسعي إلى المصالح الخاصّة والفئويّة، مما يسبَّبُ في الرعيّة شللاً في العمل وفقدانًا للمحبّة. فيفضّلون التعاون معهم بطريقة لا تقيّدهم بنظام أو التزام.
٩. سرّ الكنيسة، ٥٩.
١٠. ر.مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة، ق ٢٧٢ و٢٩٥، والعلمانيّون المؤمنون بالمسيح، ٢٧.
قد يحدث أيضًا أنّ الحركات والجماعات الرسوليّة تعمل في بعض الرعايا أو الأبرشيّات بدون أيّة علاقة مع الرعيّة والأبرشيّة، وأنّ الرعيّة نفسها تفضَّل البقاء بعيدة عنها. ولا عجب إداك في أن ينتج عن هذا الوضع نشوء أخويات وجمعيّات بطريقة عشوائيّة وبدون مرجعيّة.
إنّنا نوصي أبناءنا العلمانتّين، ولا سيّما الشباب من بينهم، ونشجّعهم على التحلّي بالتجرّد والمحبّة اللازمة في عملهم الرعويّ لتقوية الوحدة في الرعيّة وفي الأبرشيّة بإشراف السلطات المسؤولة. لأنّ هذا هو الهدف من كل رسالة ومن إنشاء المجالس الرعويّة، وهنا نوصي أن يكون في هذه المجالس ممثّلون عن جيل الشباب.
أهمية الرعيّة
٢٣. الرعيّة هي جماعة من المؤمنين في كنيسة خاصّة وفي مكان محدود برعاية كاهن رعية وبإشراف الأسقف في الأبرشية١١، تجتمع حول الإفخارستيا وكلمة الله. ويحُثُّ المجمع الفاتيكاني الثاني المؤمنين العلمانيين على أن يُظهروا من جهة انتماءَهم إلى الكنيسة المحليّة بالمشاركة في النشاطات الرسوليّة فيها، وأن يُنَمُّوا في أنفسهم من جهة أخرى روحًا جامعة شاملة. وقد أوصى المجمع، كما ذكرنا، بإنشاء مجالس رعويّة على صعيد الرعيّة والأبرشيّة، وبمشاركة المؤمنين العلمانيّين فيها. ويضيف البابا يوحنا بولس الثاني: إنَّ الشركة الكنسيّة، وإن كانت ذات بُعد كونيّ، فإنها تتجسّد في الرعيّة بطريقة مباشرة ومنظورة، لا
تضاهى، لأنَّ الرعيّة هي الموقع الأخير لتمركز الكنيسة، ١٢.
ويقول البابا بولس السادس: «إنَّنا نعتقد أنَّ بنيَةَ الرعيّة القديمة، والجديرة بالإجلال، تحمل رسالة تتلاءم جدًّا مع واقعنا الحاليّ، ولا غنى عنها، فهي التي يجب أن تُنشئَ الجماعة الأساسيّة للشعب المسيحي، وهي التي يجب أن تدرّبها على ممارسة الحياة الليتورجيّة، ممارسة طبيعيّة، وتوحّدها في الاحتفال بالليتورجيا، وإليها يعود الحقّ في الحفاظ على الإيمان وإنعاشه، لدى جماهير هذا العصر، وهي المكلّفة بأن تنقل إلى المؤمنين عقيدة المسيح الخلاصيّة، وعليها أن تمارس المحبّة بحرارة وتفان، عن طريق النشاطات الخيريّة والأخويّة،١٣.
فمن الضروري إيجاد أماكن للقاءات، وصيَغ حضور وعمل مختلفة، لإيصال كلمة الله ونعمته إلى مختلف الأوضاع الحياتيّة التي يعيشها البشر اليوم. فهناك، في شتَّى المجالات الثقافيّة والاجتماعيّة والتربويّة والمهنيّة وغيرها، إشعاع روحيّ ورسالة خاصّة بالبيئة، لا يمكنها أن تتمركز في الرعيّة أو أن تنطلق منها. ومع ذلك فالرعيّة نفسها الیوم تمرُّ بعهد جدید مليء بالوعود، ١٤.
١١. تعليم الكنيسة الكاثولیكيّة، رقم ٢١٧٩.
١٢. العلمانيّون المؤمنون بالمسيح، ٢٥ و٢٦.
١٣. بولس السادس، خطاب للإكليروس الروماني (٢٤ حزيران ١٩٦٣): .AAS. ٥٥/١٩٦٣/٦٧٤
١٤. العلمانيّون المؤمنون بالمسيح، ٢٦.
التزام الحركات الرسوليّة بالعمل الرعويّ
٢٤. المسيحيّون كلّهم فَعَلَةٌ في الكرم الواحد، وأعضاء في الجسد الواحد، وأزهار في حقل الربّ الواحد، وعازفون ومنشدون في الجوقة الواحدة. تتنوّع مواهبهم وأدوارهم وخدماتهم، وتتّسم روحانيَّتهم بميزات خاصة، تختلف باختلاف طبيعتهم وأوضاعهم، كأفراد وكجماعات، غير أنّها تتشارك وتتكامل في رسالة واحدة هي رسالة الخلاص١٥.
هناك بعض الحركات، بدلاً من أن ترسِّحَ التزام أعضائها في الرعايا وبدلاً من أن تشارك المؤمنين دعوتَهم ورسالتهم في بيئتهم الرعويّة، تدفع بأعضائها إلى نوع من الاستقلاليّة، فيصبحون وكأنَّهم كنيسة منفصلة عن الرعيّة. فتؤدّي الحركة في هذه الحال إلى نتائج مناقضة لأهدافها نفسها، إذ تصبح سبب فصل وانقسام في الرعيّة، بينما الدعوة الأساسيّة لجميع المسيحيّين، ولجميع الحركات أيضًا، هي العمل على تقوية حياة الشركة في الرعيّة في جميع مظاهرها، ولا سيّما في الإفخارستيا. رعيّة واحدة وإفخارستيا واحدة: هذا هو الأساس الذي تبنى عليه جميع الحركات في الرعيّة. لذلك فليحرص المسؤولون عن الحركات الرسوليّة، مع أمانتهم لما تتميّز به حركاتهم، على المحافظة على توجيهات الكرسي الرسوليّ وتوجيهات أساقفتِهم للانسجام مع عمل الرعيّة ومسيرتها. وليتنبَّهوا لضرورة التعاون مع كاهن الرعيّة ومع المؤمنين من أجل إنماء الرعيّة إنماءً صحيحًا ومتكاملاً. لأنّ الجميع مدعوّون إلى إغناء الحياة الرسوليّة والرعويّة لدى الجميع من خلال المواهب الخاصة بهم ومن خلال تعاونهم مع الجماعة المسيحيّة.
تهتمُّ الكنيسة بهذه الحركات، على اختلاف مواهبها، وترى فيها وسيلة صالحة وناجعة في خدمة رسالة الكنيسة. ولهذا فهي ترافقها وتزوِّدُها بالإرشادات اللازمة كي تحقّق رسالتها. ولكنّها ترى أنَّ رسالتها لا تتمّ إلاّ بروح التعاون فيما بينها ومع السلطات الكنسيّة المسؤولة. فلكي تكون الحركات الرسوليّة حركات كنسيَّة، يجب أن تعترفِ السلطة بوجودها وتُقِرّ أنظمتها وتقبل بروحانيّتها وأهدافها وتبارك نشاطاتها، وتبقى على اطّلاع مستمِرَ على أوضاعها وحسن مسيرتها.
كلُّ أسقف يقوم بهذه المهمّة في أبرشيّته. فهو المسؤول المباشر عن كل رسالة ونشاط في أبرشيّته. أما على صعيد الكنائس في بلداننا كافَّة، فهناك مجامع البطاركة والأساقفة، يضمّ الرعاة المسؤولين في مختلف الكنائس الكاثوليكيّة، وهو الذي يرعى أمور هذه الحركات والرعويّات، بشكل عامّ، ويعهد بها إلى لجان أسقفيّة مختصّة.
تقع أحيانًا في بعض الرعايا خلافات بين الحركات العاملة في الرعيّة. فليعلم المسؤولون عن هذه الحركات أنّهم يعملون في جسد واحد ومن أجل خير واحد. ومن واجبهم أن يتكاتفوا وأن يتكاملوا في خدمة الرعيّة والخير العامّ. فلا أحد يلغي أحدًا ولا أحد يحدث انقسامات في الرعيّة. وكاهن الرعيّة هو المرجع الذي يضمن تنسيق العمل الرعويِّ المشترك. ونأمل أن يكون كهنة الرعايا غير منحازين لهذه الفئة أو تلك، فهم الأب والراعي للجميع بالتساوي.
١٥. العلمانیّون المؤمنون بالمسیح، ٥٥ و٥٦.
المرشدون
٢٥. إنَّ عددًا من الحركات والأخويّات والجماعات الرسوليّة في بلداننا تفتقر إلى مرشدين كنسيِّين يرافقونها. وإنّها تطلب من المسؤولين أن يجدوا لها المرشدين وأن يكلّفوهم بمرافقتِها. لأنَّ وجود المرشد في الحركات أمر ضروريّ، فهو يساعد في تنشئة الأعضاء التنشئة المسيحيّة والرسوليّة اللازمة. ويزوّدهم بكلمة الله وبتعليم الكنيسة. ويرافقهم في قراراتهم ونشاطاتهم، ويساعدهم على الاندماج في عمل الكنيسة الرعويّ، ويضمن التنسيق بين جميع الحركات في الرعيّة الواحدة أو المنطقة الواحدة. وإنّنا ندعو إخوتنا الأساقفة وكهنة الرعايا إلى أن يولوا هذا الأمر الاهتمام اللازم، كما ندعو اللجان الأسقفيّة لرسالة العلمانيّين إلى الاهتمام الجدّيّ بهذه القضيّة والاستجابة لطلب الحركات. «إنَّ دور المرشدين الروحيّين، في الحركات وفي الجامعات، سواء أكانوا كهنة أم شمامسة أم رهبانًا أم راهبات أم علمانيّين، هو على جانب كبير من الأهمّية لتحقيق نموّهم ونضجهم الإنسانيّ والروحيّ، ولمساعدتهم على تبيُّنِ دعوتهم واكتشاف مكانتهم في المجتمع،١٦. ونحثُّ على تعزيز وضع المرشدين وتحضيرهم بالشكل الجيِّد لَلقيام بمهمَّتهم على أكمل وجه وذلك عن طريق دورات تدريبيّة في المجالات الروحيّة والرعويّة والإنسانيّة العامة. العمل الرعويّ في كنائس الشّرق الأوسط
٢٦. تكلَّمنا على الشركة الكنسيّة بين الرعيّة والأبرشيّة، وبين الكنيسة المحليّة والكنيسة الجامعة. وفي منطقتنا في الشَّرق الأوسط، ونظرًا إلى تعدُّد كنائسِنا المحليّة، يجب أن نؤكَّد أيضًا على ضرورة الشركة بين مختلف كنائسنا المحليّة.
ففي أثناء انعقاد الجمعيّة السينودسيّة لكنيسة لبنان، عام ١٩٩٥، «لفتت عدّة مداخلات الانتباه إلى دعوة الكنيسة الكاثوليكيّة وإلى رسالتها، وإلى ضرورة إقامة روابط أخويّة مع المسيحيّين وتعزيزها في الشّرق الأدنى والأوسط وتقويتها، وخاصّة مع الذين هم أحيانًا عرضة للإهمال … فبدافع من هذه الروح، دُعي مجلس بطاركة الشّرق الكاثوليك إلى تقوية بُنياتِهِ، لِيُظهرَ بالفعل كاثوليكيّة الكنيسة في المنطقة ورسالتها الخلاصیة لجمیع سگانها،١٧.
ولهذا أنشأنا في إطار مجلس بطاركة الشّرق الكاثوليك، أمانة عامة للشباب على مستوى الشّرق الأوسط، تتألَّف من شبّان وشابّات مع مرشديهم ورعاتهم، من كلّ الكنائس الكاثوليكيّة في بلدان المنطقة.
الدعوات الكهنوتيّة والرهبانيّة
٢٧. تكلّمنا على دعوة العلمانتّين في الكنيسة ودورهم في بنيان ملكوت الله على الأرض، وذلك في شركة كاملة ومتكاملة مع جميع أعضاء الجسد السرّي. ونوَدُّ أن ننهي كلامنا في نهاية هذا الفصل على الدعوات الكهنوتيّة والرهبائيّة المنبثقة من الحركات الرسوليّة من بين العلمانيّين. لكلِّ إنسان دعوة في الحياة، يدعوه الله إليها، ليكون عضوًا مُسهمًا في بناء المجتمع. فعلى كلِّ شابٌ وشابّة أن يتعرَّف على الدعوة التي يدعوهما الله إليها سواء في العائلة أم في الحياة المكرَّسة للكهنوت أو الحياة الرهبنة. ويدعوه الله إلى إتمام مهمّة خاصّة في الكنيسة والمجتمع. فإذا عرف الشباب دعوتهم، وجب عليهم أن يتزوَّدوا بالمؤهَّلات اللازمة في جميع المجالات، الصلاة والعلوم والمواقف الحياتيّة، ليتمكّنوا من إتمام واجبهم في البنيان العامّ.
وغنيٌّ عن القول إنَّ المجتمع بحاجة إلى جميع أبنائه ليَتِمَّ بناؤه. وإنّه بحاجة بصورة خاصّة إلى من يكرِّس نفسه لله، ولخدمة الناس جميعًا من غير تفرقة، في حياة زهد وصلاة وعلم ومحبّة. المجتمع بحاجة إلى الكهنة وإلى الرهبان والراهبات والمكرَّسين والمكرَّسات يأخذون مكانهم في التضحيات اللازمة لاستقامته واستقراره.
وهناك الكثيرون من بين أبنائنا الكهنة والرهبان والراهبات والمكرَّسين والمكرَّسات، شبّانًا وشابّات، الذين عاشوا دعوتهم من قبل، ومارسوا رسالتهم المسيحيّة في حركات أو أخويّات أو جماعات روحيّة أخرى قبل أن يُقدِموا على تكريس أنفسهم في كهنوت الخدمة أو في تكريس الحياة الرهبانيّة. فجاءت دعوتهم نتيجة تبصّر وصلاة ونضج، وكانت، في معظمها، دعوات قويّة وفاعلة وثابتة، إذ جعلهم عطاؤهم كعلمائيّين يتذوّقون فرح الرسالة، وولّد فيهم الرغبةَ في الكمال في الالتزام الرسميّ والتكريس الشامل.
وبمثل هذه الدعوات، تجدِّدُ الكنيسة شبابها وتحافظ على نضارتها. إنَّها، على الرغم من خطايا أبنائها، كنيسة شابَّة بروح المسيح الذي يحبيها. وإنَّ الربَّ يسوع دعانا جميعًا إلى القداسة عندما قال لنا: «كُونُوا أَنتُم كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ كَامِلٌ، (متَّى ٤٨:٥). ولماذا الخوف من بلوغ القداسة؟ إن القدّيسين العلمائيِين الشباب في الكنيسة كثيرون. وقد أنجبت كنائسنا الشّرقيّة عددًا كبيرًا من القدّيسين تقدِّمُهم الكنيسة الجامعة اليوم مثالاً وبركة للعالم كلِّه.
ظهر يسوع ومريم العذراء في أرضنا والرسلُ الأوّلون والتلاميذ القدّيسون. وهذا الشّرق هو مهد المسيحيّة ولا بدّ من أن يستعيد إشعاعَه ودعوتَه إلى القداسة، ودورَه في الشهادة والرسالة. وعليكم أنتم الشباب أن تسهموا بسخائكم وببذلكم في هذه العودة إلى القداسة والإيمان في مختلف بلداننا، فتتأمّلون في مثال القدّيسين الذين عاشوا في هذا الشّرق سواء في العصور الغابرة مثل آباء الكنيسة أم في عصرنا الحديث، مثل القديس شربل، والقديسة رفقا، والقديس نعمة الله الحرديني من لبنان، والقديسة باخيتا في السودان، والطوباوية مريم ليسوع المصلوب في فلسطين، والطوباوي أغناطيوس مالويان في الكنيسة الأرمنيّة وغيرهم.
١٦. رجاء جديد للبنان، ٥١.
١٧. رجاء جديد للبنان، ٨٢.