“أيّتها الفائق قُدسها والدة الإله خلصينا”
ما مدى صحّة هذا الابتهال الذي نردّده في كثير من صلواتنا الليتورجيّة وما مدى انسجامه مع الإيمان؟ بكلام آخر، هل يجوز طلب الخلاص من إنسانٍ آخر سوى يسوع الكلمة الإله المتجسّد؟ هل أخطأ الآباء ناظمو التسابيح في صياغة هذا الدعاء الذي نتلوه في عدّة خدم ليتورجيّة؟ هل هذا الدعاء كتابيّ؟
لكي نجد الجواب على هذا السؤال علينا أن نبحث عن مسوغ لغويّ ودليل كتابيّ.
أوّلاً: ماذا يقول العهد الجديد؟
كثيرًا ما يرد فعل “خَلَّص” في الكتاب المقدّس بالمعنى اللاهوتيّ الخلاصيّ. وفي معظم الحالات يكون الفاعل هو الله. ولكنّنا نجد في الكتاب المقدس أيضًا استعمالات عديدة لفعل “خَلَّصَ”، وبالمعنى اللاهوتيّ أيضًا، حيث يكون الفاعل إنسانًا ما لا الله. يندرج ضمن هذه الحالات قول الرسول بولس: “لعلّي أسبب الغيرة لأنسبائي وأخلّص أناسًا منهم” (رو 11: 14). لم يجد الرسول بولس أي إحراج في القول أنّه يريد أن يخلّص عددًا من الشعب اليهوديّ الذي ينتمي إليه. لم يضطر الرسول إلى اعتماد صيغة أخرى تشبه، على سبيل المثال، “أقودهم إلى الخلاص”، أو “أبشّرهم بالخلاص”، مع أنّ هذا هو بالتحديد المعنى الذي قصده.
وفي الإصحاح السابع من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الذي فيه يعطي الرسول بولس توصيات حول الزواج، نقرأ ما يتوجّه به إلى رجلٍ أو امرأةٍ، لا فرق، آمنا بالمسيح بينما لم تقبل المسيحَ امرأةُ الرجل المؤمن أو رجلُ المرأة المؤمنة. يحثّ الرسول الأخ المؤمن والأخت المؤمنة ألاّ يكونا هما سبب انحلال رباط الزواج مع غير المؤمنة أوغير المؤمن، ويعلّل وصيّته هذه بقوله: “فما أدراك أيّتها المرأة إن كنت تخلّصين زوجك؟ وما أدراك أيّها الرجل إن كنت تخلّص امرأتك؟” (1كو 7: 16). نلاحظ مجدّدًا أن الرسول بولس لم يتردّد في قوله أن الرجل أو المرأة يخلّصان الشريك غير المؤمن، وهو يقصد بالطبع أنّهما يقودانه إلى الخلاص الذي في الإنجيل، وذلك بمساعدته على قبول المسيح ورفض الأوثان.
وفي الرسالة عينها، يكتب الرسول بولس عن ذاته قائلاً: “صِرْتُ للضّعفاء كضعيفٍ لأربح الضّعفاء. صِرْتُ للكُلّ كُلّ شيء،لأخلّصَ هؤلاء بكلّ الوسائل” (1كو 9: 22). ولا حاجة هنا لشرح قصد الرسول مجدّدًا من قوله أنّه هو “يخلّص” أناسًا. وأعتقد أنّ القارئ سيدرك ما ذهب إليه الرسول حين كتب لتلميذه تيموثاوس: “لاحظ نفسك والتّعليم وثابر على ذلك، لأنّك إِذا فعلت هذا، تُخلِّصُ نفسك والّذينَ يسمعونكَ أيضًا” (1تيم 4: 16).
ثانيًا: معاني فعل “خلّص” في اللغة اليونانيّة
يُستعمل الفعل اليونانيّ σῴζω، “خلّص”، في الترجمة السبعينيّة لترجمة الفعل العبريّ הוֹשִׁיעַ ]هوشيّع[، على نحو خاص، وأيضًا الأفعال מִלֵּטو נִצֵּלو הִצִּיל ،وأحيانًاעָזַר. وفي العهد الجديد، عندما يرد هذا الفعل بالمعنى العام تكون له عدّة معانٍ، أهمّها الآتية:
يُخلّص من أذى أو من الهلاك، يشفي ويعيد الصحّة (أمثلة على ذلك: مت 9: 22، مر 5: 34، 10: 52، لو 8: 48، 17: 19، 18: 42، يع 5: 15، مبني للمجهول مت 9: 21، مر 5: 23. 28، 6: 56، لو 8: 36. 50، يو 11: 12، أع 4: 9، 14: 9)يحمي من خطر الدمار، ينجّي (أمثلة على ذلك: مت 8: 25، 14: 30، 24: 22، 27: 40. 42. 49، مر 13: 20، 15: 30-31، لو 23: 35. 37. 39، مبني للمجهول أع 27: 20. 31، 1بط 4: 18). يخلّص نفسًا، بمعنى إنقاذ حياة شخصٍ ما (مت 16: 25، مر 3: 4، 8: 35، لو 6: 9، 9: 24).
وعندما يرد الفعل اليوناني “خلّص” كتعبيرٍ تقني لاهوتيّ، فهو يشير إلى النجاة من عقوبات الدينونة الماسيانيّة التي ترافق مجيء المسيح المخلّص المنتظر (يوئيل 3: 5)، وإلى الخلاص من الشر الذي يعيق قبول الفداء من الخطايا (مت 1: 21)، ومن غضب الله في دينونة اليوم الأخير (رو 5: 9). ويحمل هذا الفعل مدلولاً إيجابيًّا بمعنى جعل الإنسان يشترك في الخلاص الذي أتمّه المسيح، وعكس ذلك هو الهلاك (راجع مت ١٩: ٢٤-٢٥، مر ١٠: ٢٥-٢٦، لو ١٨: ٢٥-٢٦، يو ٣: ١٦-١٧.
بناء على ما ورد أعلاه يمكننا الاستنتاج أن استعمال الفعل “خلّص” لا ينحصر بالمعنى التقنيّ الذي يشير إلى الخلاص بتدبير الثالوث القدّوس الإلهيّ. ورأينا أن هناك تنوّعًا في الظروف التي يستعمل فيها فعل خلّص، تمامًا كما يتنوّع استعماله في قانون الباراكليسي. وبما أن الكتاب المقدّس عامّة، والعهد الجديد على وجه خاصّ، غنيّ بالأمثلة التي يستعمل فيها الفعل “خلّص” بمعانيه الكثيرة مع فاعل غير الله القدّوس، نتوصّل إلى الاستنتاج أنّ الابتهال الليتورجيّ الذي توجّهه الكنيسة إلى الأرحب من السموات، والدة الإله الكليّة القداسة، ينسجم تمامًا مع مصادر الإيمان المسيحيّ المقدّسة، وأنّ استعمال فعل خلّص مع فاعل غير الله لم يكن يومًا أمرًا حدثًا غير مألوف في فترة الرسل.
الأرشمندريت يعقوب
من صفحة صوت الكنيسة الأرثوذكسية من القدس