ولد القدّيس دومينيك (عبد الأحد) سنة 1170 في مدينة كلاهورا من أعمال كستيليا- أسبانيا . وكان أبوه فيلكس دي غزمان من أشراف قومه ومن أبناء ملوك وأمراء أسبانيا وفرنسا والبرتغال. وأمه حنة سيدة كريمة تقية فاضلة، عاشت في القداسة، ودُفنت في كنيسة الآباء الدومنيكيين في بنافييل وكتب على قبرها القديسة حنة أم القدّيس دومينيك.
كان للقدّيس دومينيك أخَوان أكبر منه سناً، زهَدا هما أيضاً في الدنيا، وماتا موت الأبرار. وعندما بلغ الخامسة والعشرين من عمره لبس الثوب الاكليريكي، وعزم على هجر الدنيا، وعلى التفرغ لخدمة الله وخدمة القريب.
فاخذ يسير في حياته الخاصة على مثال ما كان يقرأه في سيرة الرهبان وحياتهم التقشفية والروحية العالية التي كانوا يعيشونها. أخذت العناية الإلهية تُسَيِّر القدّيس دومنيك وقادته إلى إنشاء الرهبانية العظيمة التي دعاه الله إلى تأسيسها ونشرها في الدنيا.
وذلك عندما مكث في جنوب فرنسا لمحاربة بدعة ألبيجيون (Albigenses) التي كانت تنادي بوجود مبدأين: مبدأ الخير ومبدأ الشر. وكان الحبر الأعظم قد آذن له ولرفاقه بتأليف فرقة رسولية تقوم بمهام الوعظ والإرشاد والمحاضرات العلنية، والمجادلات اللاهوتية مع الهرطقة. لكنه تعب دون أن يجني حصاداً وافراً.
التجأ القديس دومينيك إلى الصلاة والسهر ليعلم ما سبب ذلك؟ فأوحى الله إليه أن الخطة الرسولية، ليست تلك التي تعتمد فقط على العلم والكتابة والوعظ والجدال، بل تلك التي تكون أسلحتها الصلاة والأمانة، والمثل الصالح، وحياة الفقر، والقيام بالأعمال والسفر مشياً على الأقدام، والتجرد عن الأموال وعن المصالح الشخصية، وخدمة القريب.
اتّبع القديس دومينيك هذه الخطة الرسولية، فنجح، وأنشأ ملجأً رهبانياً للبنات الفقيرات، وجمعية رهبانية رسولية للقيام بمهمات الوعظ والإرشاد، ووضع لها قانوناً يضمن حياتها ويحفظ كيانها.
محاربة البدع والهرطقات:
كان القدّيس عبد الأحد، شغوفاً منذ صغره في إكرام العذراء مريم. وكان يمتلىء إيماناً وغيرةً ومحبة نحو العذراء. بصلاته المسبحة حارب بدعاً كثيرة وهرطقات ظهرت في العالم على أيامه، وخصوصاً بدعة ” ألألبيجازيين ” التي كانت قد ملأت مدناً، لا بل ممالك عديدة في ذلك الوقت (إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، وغيرها…).
وتفشّى من جرّائها أوبئة مُخِّلة في الآداب، بحيث لم يستطع وحده صدّ هذا التيار الملتوي ممّا سبَّب له الألم، وشعر بأن الكنيسة تضربها عناصر غريبة عنها، بما في ذلك من خطر على الإيمان.
ظهور السيدة العذراء للقدّيس دومينيك:
التجأ القدّيس في سنة 1213 إلى مغارة في غابة على مقربة من مدينة “تولوز” في فرنسا، وبدأ هناك يصلي ويتضرّع إلى الله، وطلب منه بشفاعة العذراء مريم أن يساعده في إيجاد علاج لهذا الوباء، يحارب به هذه البدع التي ظهرت في الكنيسة. وبعد ثلاثة أيام، من الصوم والتقشف والصلاة والإبتهال إلى العذراء الكُلية الطهارة والكاملة القداسة، تلطّفت عليه وتراءت له، وشجّعته وطيَّبت نفسه ثم أشارت إليه أن يتّخذ صلاة الوردية دواءً شافياً لعصره، وسلاحاً كافياً لردّ كل أعداء الكنيسة.
ظهرت مريم العذراء بهيئة سيدة جميلة جداً، ومعها ثلاث سيدات وكل واحدة منهن معها خمسون فتاة وبثياب مختلفة. فسالها القدّيس دومينيك عن هذا الجمع فأشارت العذراء إلى أن:
السيّدة الأولى: ترتدي مع فتياتها ثياباً بيضاء، ترمز إلى أسرار الفرح.
السيّدة الثانية: ترتدي مع فتياتها ثياباً حمراء، ترمز إلى خمسة أسرار الحزن.
والسيّدة الثالثة: ترتدي مع فتياتها ثياباً مذهّبة ترمز إلى أسرار المجد.
وكان بيد السيدة أيقونة مثلثة الشكل، وقالت له “خذ هذه السبحة، فأنها تكون لك سلاحاً ضد الأعداء المنظورين وغير المنظورين، وتكون عربون محبتي للمسيحيين، لأنها تتضمن أسراري وأسرار ابني الوحيد، فتنير العقول وتلين القلوب، وترشد الضالين إلى طريق الملكوت.“ فتناولها القديس دومينيك من يد السيدة. ثم عاد مسرعاً إلى مدينة تولوز واخبر الجميع بما أوصته مريم..
وبعد أن تلقى القديس من العذراء مريم رسم عبادتها هذه، رجع حالاً إلى مدينة تولوز وعندما اقترب من مدخل الكنيسة قرعت أجراسها من ذاتها قرعاً قوياً وغريباً.
فتراكض الناس إلى الكنيسة ليروا ما الأمر. فوجدوا القدّيس دومينيك واقفاً على المنبر، وطفق يقصّ عليهم ما رآه في خلوته بعد صومه وتقشّفه، وما أعطته العذراء من أجلهم. وأمرهم للحال بتلاوة المسبحة الوردية رداً لغضب الله وطلباً لعفوه عنهم. وبوقته كان الجو قد تعتم بالغمام متلبداً، وأخذ الرعد يزمجر والبرق يقصف.
وكان في الكنيسة تمثال العذراء، فأخذ يرفع يديه إلى السماء ثم يلقيها نحو الشعب، كأنه يتهدّده بالويلات. ولكن القدّيس دومينيك جثا أمامه طالباً من العذراء أن تقبل توبتهم مع تلاوتهم لورديّتها، وكفّ يد العدل الإلهي عن الاقتصاص منهم.
رهبنة الأخوة الوعّاظ – الدومينيكان
في سنة 1216 أنشأ الرهبانية الرسولية التي دعاها باسم الأخوة الوعّاظ وهي التي يدعوها العامة بالرهبانية الدومينيكية وأول عمل قامت به هو محاربة الهرطقات من خلال شرح أسرار الوردية المقدسة ونشر العبادة لوالدة الإله، فعمل هذا القدّيس بقلب طاهر وبروح حماسية لحث الناس على تلاوة الوردية.
كان من بين الأباء الدومينيكان أب اسمه آلان دي لاروش، عمل مع القدّيس دومينيك بحماس من أجل تنسيق الوردية وإدخال الأسرار إليها، قاصدين بهذا التنسيق التأمل بحياة الأُمّ القديسة وابنها على الأرض، ودورهما الفعال بعد صعودهم إلى أمجاد السماء.
في سنة 1217 أطلق على هذه السبحة اسم “مسبحة الوردية” وذلك لأنها تشبه باقة ورد نضعها أمام العذراء مريم. كانت الأسرار التي نظمت هذه الوردية هي: أسرار الفرح، أسرار الحزن، وأسرار المجد. وانعم الله عليه قبل وفاته بأنه رأى رؤيا عن رهبنته كيف ستنتشر في كل أوروبا.
وفي المجمع العام الذي عقده في أواخر أيامه كانت الأديرة التابعة له تعد 55 ديراً مقسمة إلى 8 أقاليم. كان لكل دير كاهن يدير شؤونه ويرسل رهباناً إلى العالم لدعوة الناس إلى التوبة والرجوع إلى حظيرة أمّنا الكنيسة الكاثوليكية. وكانت عبادة الوردية المقدسة في كل مكان أمضى سلاح بيدهم.
أوحى له الرب بقرب أجله، فرقد بالرب في 6 آب 1221. وأعلنت الكنيسة قداسته سنة 1234. بعد أن كان ينشر عبادة الوردية ويدعو الناس إلى إكرام البتول مريم، لأن إكرام البتول أساس التقوى والبرّ. هكذا أصبح هذا القدّيس رسول عبادة الوردية المقدّسة والمكلّف بنشرها. فانتشرت هذه العبادة بفضله في أسبانيا أولاً ثم فرنسا ومن هناك انتشرت إلى العالم كله وأضحت للمؤمنين ينبوع نِعم ومواهب وعجائب كثيرة.
بماذا شبّه البعض المسبحة الورديّة؟
وذكر البابا اكليمنضوس الثامن أن أول من ألّف أخوية للوردية في روما عاصمة الكثلكة هو القدّيس دومينيك. ولم تكن عبادة الوردية في أول نشأتها تدعى بهذا الاسم، دعيت مسبحة عبارة عن عقد أو إكليل منظوم على مثال الإكليل الذي وضعه موسى على تابوت العهد.
وكانت المسبحة في أول أمرها كناية عن سلسلة معقودة عقداً بعدد الأبانا والسلام فيها، كما شهد ألانوس بقوله: “إن القدّيس دومينيك كان يوزع من تلك السلاسل المعقودة منه عقداً عقداً كمية وافرة، وكأني به يوزع مقاليع يرمي بها إبليس”.
وقد شبهها بعضهم بالحبلة القرمزية التي دلتها راحاب على جدار مدينة أريحا، وبها تخلصت مع كامل عائلتها من خراب أريحا ودمارها. وقد قال القديس ايرونيموس: “تلك الحبلة كانت عقداً منضداً بالأسرار، وما أشبهها بسلسلة الوردية التي بها ينجو الخطأة من تنكيل النقمة الإلهية “.
وقال بعضهم أن سلسلة الوردية يربطها كل حبة من حبات المسبحة بأختها، تشير إلى ارتباط الأخوة الذين يشتركون بها مع بعضهم.
يا سلطانة الوردية المقدّسة – صلّي لأجلنا