هل مخاطبة المسيح لوالدته العذراء مريم “يا امرأة” فيه تقليلٌ من شأنها واحترامها؟!
ينبغي لنا أن نفهم عبارة “يا امرأة” في إطار الخلفيّة العامة للكتاب المقدس، والبيئة الحضارية والثقافية السائدة في ذلك الوقت، والتي تُعبِّر عن الإحترام والتبجيل، وليس فيها أي إهانة أو إساءة أو تحقير.
كما ولا بد أيضاً من التذكير بقول الكتاب: “كَلِمَتُكَ مُمَحَّصَةٌ جِدًّا، وَعَبْدُكَ أَحَبَّهَا.” (مز 140:118) ما يعني أنّ كل كلمة خارجة من فم الرب، لا تخرج عبثاً، بل كلمات الرب مُمَحّصٌةٌ جداً، تحمل في طيّاتها دلالات ومعاني عميقة، وتنطوي على قصدٍ وحكمة.
✝️ بدايةً، لدينا الدليل من الإنجيل المقدس نفسه على أن لقب “يا امرأة” هو لقب تكريمي للمرأة، وذلك عندما مدح الرب يسوع المسيح عظمة إيمان المرأة الكنعانية قال لها: “يا امرأة عظيمٌ إيمانكِ! ليكن لك كما تُريدين فشُفِيَت ابنتُها من تلكَ الساعة.” (متى 28:25).
كذلك عندما شفى المرأة المُنحنية الظهر (الحَدباء) وأطلقها من مرضها قال لها: «يا امرأة، إنَّكِ مَحلولَةٌ مِنْ ضَعفِكِ!» (لوقا 12:13).
وأيضاً في حواره مع المرأة السامرية عند بئر يعقوب خاطبها بعبارة “يا امرأة” (يوحنا 21:4). وخاطب مريم المجدلية عند ظهوره لها فجر أحد القيامة “يا امرأة لماذا تبكين من تطلبين” (يوحنا 20 : 15)، وهي ظنّت للوهلة الأولى أنه البُستاني، وأنّ الذي يكلّمها رجلٌ غريب بسبب أسلوبه الراقي في الكلام معها.
وعلى الرغم من أهمية كون العبارة لفظاً تكريميّاً يعكس إحترام المسيح للمرأة التي يُخاطبها، لكن ما يهمّنا بالأكثر هو المقاربة الكتابيّة واللاهوتية لهذا اللفظ، الذي وردَ على لسان الرب يسوع المسيح، بالذات، في مخاطبته لأُمَّه مريم.
✝️ أول ما قِيلت كلمة “إمرأة” قِيلت عن حواء الأُمّ الأولى في الفردوس، قبل الخطيئة والسقوط، وكان آدم نفسه من سمّاها إمرأة “فقال آدم: ها هذه المرَّة عظمٌ من عظامي ولحمٌ من لحمي. هذه تسمّى امرأةً لأنها من امرئٍ أُخِذَت” (تكوين 23:2).
✝️ هذا كان في بداية الخلق والتكوين، ثم نأتي إلى العهد الجديد، حيث مريم العذراء هي “حوّاء الجديدة” كما يُسميها الآباء القديسون، لذلك خاطبها المسيح “آدم الجديد” وقال لها: “يا امرأة”، مثلما خاطب آدم، رأس البشرية، حوّاء الأُمّ الأولى وقال عنها “إمرأة”. وكأني بالمسيح يقول: هذه هي المرأة الحقيقية، والمثال الأكمل والأسمى للمرأة.
ومن الملاحَظ أنّ المسيح خاطب والدته بعبارة “يا امرأة” مرّتين فقط، الأولى، في عرس قانا الجليل، عندما قدّم للناس ماءً متحوِّلاً إلى خمر، والثانية في الجُلجُلة، عندما قدَّم على الصليب دمه الكريم للبشرية.
✝️ ونلاحظ أيضاً أنه في عرس قانا الجليل يغيب ذِكر إسم العريس والعروس المُحتَفل بعُرسِهما، ولكن الشخصَين اللامعين والبارزين في هذه العرس كانا المسيح ومريم. المسيح بصفته عريس الكنيسة، ومريم بصفتها رمز ومثال الكنيسة، عروسة المسيح. فالمسيح هو العريس السماوي، الذي يُهيمن حضوره على حضور العريس الأرضي، ومريم هي نموذج وصورة الكنيسة “العروس”، التي يهيمن ويطغى حضورها على حضور العروس الأرضية.
✝️ على الصليب في الجُلجُلة، صار المسيح للكنيسة “عريس دم” كما قالت صفّورة عن زوجها موسى في العهد القديم (خروج 25:4) ومريم الواقفة عند الصليب تُمثّل كنيسة العهد الجديد، حيث الخمر يتحوّل إلى دم المسيح يسوع المسفوك على الصليب لفداء الإنسان.
✝️ عندما خرجت حواء من جنب آدم، كان آدم عرياناً، وقد أوقع الربُّ عليه سُباتاً فنام، فأخذَ إحدى أضلاعه وبنى منها “المرأة” حوّاء، وكذلك كان المسيح “آدم الجديد” على الصليب عُرياناً، ولمّا فُتحَ جَنبُه بالحربة، خرج منه “الماء والدم” اللّذان هما رمز المعمودية والافخارستيّا، اللّذين تُبنَى منهما الكنيسة، كمثلِ حوّاء جديدة، خارجة من جنب المسيح “آدم الجديد”.
✝️ فمثلما إنبثقت حواء وتكوّنت من ضلع آدم المفتوح وهو نائم، كذلك بُنِيَت الكنيسة من الجَنب المطعون للمسيح المائت على الصليب، ومن الماء والدم المتدفّقين منه تأسّست الكنيسة. هناك في الفردوس خاطب آدم حوّاء العذراء وسمّاها “إمرأة”، وفي الجُلجُلة خاطب المسيح والدته العذراء وناداها “يا امرأة”، وبذلك جعل من مريم “حوّاء الجديدة” والأُمّ لكلّ البشرية.
✝️ بعد سقوط الإنسان، أُعطِيَ الوعد لحوّاء، قديماً في الفردوس، أنَّ نسل “المرأة” سَيَسحقُ رأس الحيّة (تكوين 15:3) أي الرب يسوع المسيح المولود بحسب الجسد، من “المرأة” مريم، إبنة حواء المرأة. هكذا أشار الرسول بولس إلى هذه الحقيقة، على خلفيّة هذا الوعد الإلهي، الذي تحقق في شخص “المرأة” مريم. “لَمَّا بَلَغَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ [امْرَأَةٍ] مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ” (غلاطية 4: 4).
✝️ ولما أراد الرب أن يكشف في الرؤيا لرسوله يوحنا عن مجد وعظمة الكنيسة، التي تمثّلها مريم، أظهرها بصورة “إمرأة” مُمَجَّدة “وَظَهَرَتْ آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّماء [امرأة] متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبا. ( رؤيا ١:١٢)
بقلم الأب رومانوس الكريتي
No Result
View All Result