إلى الميلاد
المقصود هو تعليمَنا أنّ هذا الحدث الخلاصيّ الفريد مِن نوعه لم يأتِ كمفاجأة غريبة عن البشريّة، بل كان في الحقيقة مشتهى الأمم.
إنّه انتظار دام قرون، ونبوءات ملأت العالم بأسره وأبرار اشتهوا أن ينظروه ورقدوا على هذا الرجاء.
فقد كتب القدّيس يوستينوس الفليسوف في القرن الثاني ميلادي “المسيح هو بكر الخليقة، وهو كلمة الله الذي اشترك فيه الجنس البشريّ بأسره. فكلّ من عاش عيشة تتّفق والكلمة كان مسيحيًا ولو دُعيَ وثنيًّا، كما جرى بين اليونانيين أمثال سقراط وهيراقليطس وغيرهما”.
وأكمل القدّيس في دفاعه عن المسيحيين قائلًا:
“المسيح كلمة الله ينير العقول البشريّة منذ البدء بزرع إلهيّ، وأخصبت هذه العقول منه عند الناس الطيبين بذورًا Sperma، فعرفت بعض الحقائق ولكنّ اهتداءَها لم يكن كاملًا”. فالإيمان مكمّل للعقل لا نقيضه ولا مُبطِله لأن مصدرهما واحد.
تركّز الكنيسة على الطابع الكوني والشامل لعيد الميلاد.
فالمسيح ليس إله شعب معيّن دون آخر، وليس من اختيار مسبقٍ لأحد، بل هو خالق الكون بأسره وتاليًا هو إله العالم أجمع.
بعد سقوط الإنسان ووعد الله بالخلاص، كشف الله للآباء والأنبياء في العهد القديم تحقيق الوعد وتدبير التجسّد والفداء.
أكثر من ثلاثمئة نبوءة في العهد القديم تخبرنا عن مجيء المخلّص، وكل الشعوب انتظرت الإله الحقيقيّ.
وما مجيء المجوس مِن بلاد فارس إلّا تأكيدٌ لهذا الأمر، وكذلك بالنسبة للفلاسفة المتعطّشين إلى الحكمة والسعادة والفرح. فقد تكلمّوا عليه واشتهوه دون أن يُسمّوه.
فنرى بولس الرسول لا يتردّد وسط آريوس باغوس بكلامه مع شعرائها وفلاسفتها مِن استعمال عبارة مقتبسة من الشاعر أبيمينيدس الذي نصح بإقامة تمثال لإله مجهول ليطبّقها على المسيح: “لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضًا: لأَنَّنَا أَيْضًا ذُرِّيَّتُهُ.” (أع ١٧: ٢٨).
كذلك، نجد عند أثينادوروس الفيلسوف في القرن الأوّل قبل الميلاد عبارات سامية جدًا كما في قوله: “إن روحًا قدّوسًا يقوم في أعماقنا. هو مراقب وحارس لأفكارنا الصالحة والشريرة”.
وفي مكان آخر يقول:
“إعرَف أنّك إذا لم تجسر أن تطلب شيئًا من الله بحضور كلّ الناس فإنّك لم تتحرّر من أهوائك بعد. عِش مع البشر كأنّ الله يراك وتكلّم مع الله كأنّ البشر يسمعونك”.
هذا هو إلهنا، إله الأحياء والأموات وإله كلّ الشعوب والأجيال ومخلّص نفوسنا، فلنذهب للقائه.
من هنا أنّ هدف الصوم الأربعيني الميلادي الذي بدأ في الخامس عشر من تشرين الثاني هو أن يجعلنا نلتقي هذا الإله المتجسّد وجهًا لوجه، وأن يجعل من قلوبنا مذودًا يتقبّل من نزل من السماوات وأراد أن يولد طفلًا ليرفعنا إلى ملكوته.
ولكن هذا يتطلّب تواضعًا وانسحاقًا وإفراغًا للذات وطاعة لمشيئة الله، وطبعًا توبة صادقة لنولَد من جديد.
لقد كان ابراهيم وثنيًا بمفهوم علم الأديان، ولكنّه أضحى معلّمًا كبيرًا بالطاعة والإيمان.
كلّ المعتقدات والأديان من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب نادت بإله يخلّص وينقذ. بحثت عن السلام والأمان والسعادة والطمأنينة حيث “يرعى الذئب مع الحملان”، كما قال إشعيا. اشتهى الناس هذا الفرح الذي يتعدّى الهويّة الأرضية ليوّحدنا بهويّة سماويّة. من هنا قول بولس الرسول: “لأنّ كلّكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح. ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حر. ليس ذكر وانثى. لأنّكم جميعًا واحد في المسيح يسوع” (غلاطية ٣: ٢٧-٢٩).
وإنّ في مباركة ملكيصادق “ملك شليم” -أي ملك السلام- لابراهيم عند رجوعه من معركة خودلوغومر (سفر التكوين ١٤: ١٨) وإعطائه خبزًا وخمرًا تأكيد على وجود الزرع الإلهيّ في المسكونة جمعاء.
ملكيصادق هو ملك مدينة القدس أو شاليم أو أورشاليم، ذُكر في العهد القديم والعهد الجديد. وهو اسم كنعاني معناه “ملك السلام”. شخصيته بقيت غامضة، ” بلا أب بلا أم بلا نسب. لا بداءة ايام له ولا نهاية حياة، بل هو مشبّه بابن الله، هذا يبقى كاهنًا إلى الأبد”. لم يكن يهوديًا، ولكنّه ذُكر أنّه كاهن الله العلي. (عببرانيين٧).
ففي أحد الأجداد تذكر الكنيسة كلّ الذين كانوا قبل الشريعة وبعد الشريعة. وهذا ما يقوله لوقا الإنجيلي في نسب الرّبّ يسوع المسيح إذ يرجع من يوسف لآدم فيشمل المسكونة جمعاء.
خلاصة:
بالإيمان ترك إبراهيم أرض أبيه وسكن في كنعان، وبالإيمان حصل على ابنه اسحق الموعود في شيخوخته والّذي كان مستعدّاً أن يقدّمه ذبيحةً تلبيةً لمشيئة اللّه.
بالإيمان بنى نوح الفلك في عصره وخلّص أسرته من الطوفان العظيم بالإيمان.
بالإيمان قبل موسى دعوة الله له وعبر بشعبه البحر الأحمر وتغلّب على مصاعب الصحراء.
بالإيمان شهدوا الأنبياء وتحدّوا الملوك وقبلوا الإستشهاد.
لم تكن يومًا الظروف في التاريخ مختلفة عمّا هي عليه اليوم، ويبقى دائمًا المسيح هو المرتجى والمخلّص الوحيد.
Copyright Greek Orthodox Patriarchate of Antioch and All the East