كيف نقرأ الكتاب المقدّس؟
صلاتياً وبتوقير لأن في كل كلمة من كلماته نقطةً من الحقيقة الأزلية، ومجموع الكلمات يكوّن المحيط الذي لا حدّ له للحقيقة الأزلية.
· ليس الكتاب المقدّس كتاباً بل حياة لأن كلماته “روح وحياة” (يو 6: 36). لذا لا يمكن لكلماته أن تُفهم إلاّ إذا درسناها بروح من روحها وحياة من حياتها. هو كتاب يُقرأ بطريقة حيّة أي بوضعه موضع التنفيذ. على المرء أن يحيا فيه أولاً ليبلغ إلى فهمه. على هذا تنطبق كلمات المخلّص لمّا قال: “إن شاء أحدٌ أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله” (يو 7: 17). إعملْ بحسب الكتاب المقدّس تفهمْه. هذه هي القاعدة الأساسية للتفسير الكتابي الأرثوذكسي.
· المهم أن يقرأ المرء الكتاب المقدّس ما وجد إلى ذلك سبيلاً. حين لا يفهم العقل ما يُقرأ فإن القلب سيشعر بقوّة الكلمات. وإذا لا العقل استوعب ولا القلب شعر إقرأه، في كل حال، وأعد قراءته لأنك إذ تفعل تبذر كلمات الله في نفسك. وهذه لن تفنى بل ستنفذ إلى طبيعة نفسك. إذ ذاك يحصل لك ما قاله المخلّص في شأن الإنسان الذي “يُلقي البذار على الأرض وينام ويقوم ليلاً ونهاراً والبذار يطلع وينمو وهو لا يعلم كيف” (مر 4: 26 – 27).
نُخطئ إذا كنّا نظنّ أن علم اللاهوت نستمدده، قصراً، من التراث المدوّن، وبخاصة من الكتاب المقدّس. ما سبق أن دُوِّن دوِّن لدواع دعت إليه. ولكن هناك ما هو أرحب وأشمل من المدوّنات مع التنويه، طبعاً، بأهميتها وقيمتها القاعدية الأساسية. هذا الأرحب والأشمل هو حياة الكنيسة وعمل الروح القدس فيها أو قل هو التقليد المقدّس. علينا ألاّ ننسى كما يذكّرنا قدّيسون كالذهبي الفم وثيوفيلاكتوس البلغاري “أن رجال الله، في الأساس، لم يعرفوا الله من خلال الكتب والمدوّنات، ولكنْ لأن أذهانهم كانت نقيّة استناروا بالروح القدس. على هذا النحو حصلت لهم معرفة الله بالحوار المباشر معه. هذه كانت حال نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب وأيّوب وموسى مثلاً. ولكن لمّا فسُد الناس وما عادوا أهلاً لأن ينيرهم الروح القدس ويعلِّمهم، يومذاك أعطاهم الإله المحبّ البشر، رأفة بهم، الكتاب المقدّس ليتمكّنوا به من أن يتذكّروا إرادة الله” (مقدمة تفسير إنجيل متّى). ثم إن أهمية التراث المدوّن والتراث الشفهي في آن باقية إياها، بحسب القدّيس يوستينوس الصربي، لأنه إذا كانت قد طرأت حاجة دعت إلى تدوين جزء من التقليد المقدّس، فيما سُمِّي بـ “كتب العهد الجديد”، بعد الزمن الأول للرسل القدّيسين، فإن القسم الأكبر من هذا التقليد المقدّس جرى نقله، في الكنيسة، بالصوت الحيّ، سواء بواسطة الرسل أنفسهم أو بواسطة تلاميذهم. من هنا أن التقليد المقدّس والكتاب المقدّس في الكنيسة متكاملان، ولا يقوم الواحد من دون الآخر. في ضوء هذا نفسِّر ذاك وفي ضوء ذاك يفسَّر هذا. بكلام القدّيس إيريناوس الليّوني: “مَن يجهلون التقليد لا يمكنهم أن يجدوا الحقيقة في الكتاب المقدّس” (ضد الهرطقات 3: 2 و 4: 6). “والذين يفسِّرون الكتاب المقدّس بخلاف تقليد الكنيسة قد أضاعوا قاعدة الحقّ” (القدّيس كليمنضوس الإسكندري. ستروماتا 1: 7).
على هذا فإن ما تسلّمته الكنيسة من الرسل وما اختبرته بالأمس وتختبره اليوم، في الروح القدس، ما دوّنته وما لم تدوّنه، هو المَعين الذي لا ينضب ولا يُحدّ لعلم اللاهوت على امتداد الأجيال. بالروح القدس الواحد وفكر المسيح الواحد تبقى الكنيسة واحدة جامعة مقدّسة رسولية، أمساً واليوم وغداً، وأبواب الجحيم لا تقوى عليها. الكنيسة الحيّة بالروح القدس لا المدوّنات وحسب هي الأساس والضمانة.
الأرشمندريت توما (بيطار) – رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
محاضرة أُلقيت في معهد البلمند في موسم الصوم الكبير
No Result
View All Result