بشارة العذراء – المطران يروثيوس فلاخوس
عيد بشارة العذراء مريم هو عيد للسيد ولوالدة الإله. إنه عيد للسيد لأن المسيح هو مَن حُبل به في رحم العذراء وهو عيد لوالدة الإله لأنه يشير إلى الشخص الذي ساعد في حمل كلمة الله وتجسده أي مريم العذراء الكلية القداسة.
لمريم والدة الإله قَدر عظيم وموقع مهم في الكنيسة، وذلك بالضبط لأنها كانت الشخص الذي انتظرته كل الأجيال ولأنها أعطت الطبيعة البشرية لكلمة الله. وهكذا يرتبط شخص والدة الإله عن كثب بشخص المسيح. إلى هذا، قَدْر العذراء مريم لا يعود لفضائلها وحده بل أيضاً لثمرة بطنها بشكل أساسي. لهذا السبب، الدراسة اللاهوتية حول والدة الإله (Theotokology) مرتبط جداً بالدراسة اللاهوتية لشخص المسيح (Christology).
عندما نتحدّث عن المسيح لا نستطيع إهمال التي أعطته الجسد. وعندما نتحدّث عن العذراء مريم نشير بنفس الوقت إلى المسيح لأن منه تستدرّ النعمة والقَدْر. هذا يظهر بوضوح في خدمة المديح حيث تُمتَدَح والدة الإله ولكن دوماً في توافق مع حقيقة أنها والدة المسيح “إفرحي يا تاجاً للملك. إفرحي يا حاملة حامل كل الخليقة”. يظهر هذا الارتباط بين الخريستولوجيا والثيوتوكولوجيا في حياة القديسين أيضاً. إن محبة العذراء مريم هي صفة مميزة للقديسين أعضاء جسد المسيح الحقيقيين. من المستحيل أن يصبح قديساً مَن لا يحبها.
بشارة والدة الإله هي بداية كل الأعياد السيدية. في طروبارية العيد ننشد: “اليوم رأس خلاصنا وظهور السر الذي قبل الدهور…” تشير فحوى العيد إلى رئيس الملائكة، وهو الملاك المولَج بكل الأحداث المتعلّقة بتجسّد المسيح، يزور العذراء مريم، بأمر من الله، مخبراً إياها بأنّ أوان تجسّد كلمة الله قد آن، وأنها سوف تكون أمّه (أنظر لوقا 26:1-56).
تتألّف كلمة البشارة (باليونانية) من كلمتين، الحَسَن والرسالة وهي تعني الرسالة الحسنة أو الإعلان الحَسَن. هذا يشير إلى الإعلام الذي أُعطي برئيس الملائكة بأن كلمة الله سوف يتجسّد لخلاص البشر. جوهرياً، هذا هو إتمام وعد الله الذي أُعطي عند سقوط آدم وحواء (أنظر تكوين 15:3)، والمسمّى بالإنجيل الأول (proto-evangelion). لهذا السبب إعلان تجسد كلمة الله هو أعظم بلاغ في التاريخ.
بحسب القديس مكسيموس المعترف، إنجيل الله هو شفاعة الله وتعزية البشر من خلال ابنه المتجسّد. في الوقت نفسه، إنّه مصالحة البشر مع الآب الذي يمنح التألّه (Theosis) غير المولود كمكافأة للذين يطيعون المسيح. يسمّى التألّه غير مولود لأنه ليس مولوداً في الذين يستحقونه بل بالأحرى هو معلَن لهم. بالتالي، التألّه الممنوح من خلال المسيح المتجسّد ليس ولادة بل هو كشف شخصي (enhypostatic) عن الاستنارة للذين يستحقون هذا الكشف.
الإعلان الحَسَن، الإنجيل، أو البشارة هو تصحيح للأحداث التي جرَت عند بداية خلق الإنسان في فردوس عدن الحسي. هناك بدأ السقوط ونتائجه من امرأة وهنا من امرأة تبدأ كل الأمور الحسنة. وهكذا، العذراء مريم هي حواء الجديدة. هناك كان الفردوس حسياً، وهنا الكنيسة. هناك آدم وهنا المسيح. هناك حواء وهنا مريم. هناك الحيّة وهنا جبرائيل. هناك وشوشة الحية لحواء وهنا سلام الملاك لمريم. بهذه الطريقة تُصحّح خطيئة آدم وحواء.
رئيس الملائكة نادى العذراء مريم بالممتلئة نعمة قائلاً: “افرحي يا ممتلئة نعمة. الرب معك. مباركة أنتِ في النساء” (لوقا 28:1-29). تُدعى مريم ممتلئة نعمة وتُوصَف بالمباركة لأن الله معها.
بحسب القديس غريغوريوس بالاماس وغيره من الآباء، لقد كانت العذراء مريم ممتلئة نعمة من قبل البشارة وليس أنها امتلأت نعمة في هذا اليوم. كونها قد بقيت في قدس أقداس الهيكل فقد بلغت قدس أقداس الحياة الروحية أي التألّه. إذا كان فناء الكنيسة مؤسَّساً للموعوظين والهيكل للكهنة، فإن قدس الأقداس مخصص لرئيس الكهنة. هناك دخلت مريم العذراء، ما يرمز إلى أنها بلغت التأله. معروف أن في الزمن المسيحي، صحن الكنيسة كان مخصصاً للموعوظين والدنسين، الكنيسة للمستنيرين أي أعضاء الكنيسة، وقدس الأقداس أو الهيكل للذين بلغوا التألّه.
وهكذا، بلغت العذراء مريم التأله حتى قبل استقبالها رئيس الملائكة. وكما يفسّر القديس غريغوريوس بالاماس بطريقة رائعة وملهّمة من الله، فإن مريم استعملت طريقة خاصة لمعرفة الله والشركة معه نحو إذ كان هدفها التألّه. هذا يشير إلى السكون أي الطريقة الهدوئية. لقد عرفت العذراء مريم أن لا أحد يستطيع فهم الله بالعقل والحواس والخيال أو المجد البشري.
هكذا أماتت كل قوى النفس التي تأتي من الحواس، ومن خلال الصلاة النوسية فعّلت العقل. بهذه الطريقة بلغَت الاستنارة والتألّه. ولهذا السبب أُعطيت أن تكون والدة المسيح وأن تعطي جسدها للمسيح. هي لم تملك مجرد فضائل بل نعمة الله المؤلِّهة.
لقد حازَت العذراء مريم ملء نعمة الله بالمقارنة مع غيرها من الناس. بالطبع، المسيح، ككلمة الله، حاز كامل النعَم، وقد اكتسبَت العذراء مريم ملء النعمة من كامل ملء نعَم ولدها. لهذا السبب، هي دون المسيح بالمقارنة معه، لأن المسيح حائز على النعمة بالطبيعة، بينما مريم حائزة عليها بالمشاركة. بالمقارنة مع المؤمنين، إنها أعلى منهم.
لقد اكتسبَت العذراء مريم ملء النعمة من كامل ملء نعَم ولدها قبل الحَبَل وفي الحَبَل وبعد الحبل. قبل الحبل، ملء النعمة كان كاملاً، وفي الحبَل ازداد كمالاً، وبعد الحَبَل صار أكثر كمالاً (القديس نقوديموس الأثوسي). هكذا كانت العذراء مريم عذراءَ في الجسد وعذراءَ في النفس. وهذه العذرية الجسدية عندها هي أرفع وأكثر كمالاً من عذرية نفوس القديسين التي تتحقق بقوة الروح القدس.
ليس من إنسان مولوداً متحرراً من الخطيئة الأصلية. لقد ورث الجنس البشري سقوط آدم وحواء ونتائج هذا السقوط. كلمة الرسول بولس واضحة: “الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله” (روما 23:3). يبرِز هذا المقطع الرسولي أن الخطيئة هي الحرمان من مجد الله وبالتالي ما من أحد متحرر منها. وهكذا، وُلدت العذراء مريم بالخطيئة الأصلية. لكن متى تحرّرت منها؟ ينبغي بالجواب على هذا السؤال إلاّ يُبنى على وجهات النظر السكولاستيكية.
في البداية يجب أن نذكر أن الخطيئة الأصلية هي الحرمان من مجد الله والتغرّب عنه وفقدان الشركة معه. ولهذا الأمر مفاعيل حسّية لأن الفساد والموت دخلا إلى جسدي آدم وحواء. في التقليد، لا يعني الكلام عن ميراث الخطيئة الأصلية ميراث الشعور بالذنب لهذه الخطيئة، بل بالدرجة الأولى يعني ميراث نتيجتيها أي الفساد والموت. تماماً كما تمرض أغصان النباتات وأوراقها عندما يموت جذرها، هكذا حدث مع سقوط آدم. كل الجنس البشري صار مريضاً. الفساد والموت اللذان ورثهما الإنسان هما المناخ المفضّل للأهواء وبهذه الطريقة صار فكر الإنسان معتماً.
لهذا السبب بالتحديد ساعد اتّخاذ المسيح هذا الجسد المائت والمتألّم من خلال تجسده على تصحيح نتائج سقطة آدم. لقد كان هناك تألّه في العهد القديم، كما كان هناك استنارة للفكر، لكن الموت لم يكن قد أبيد بعد. لهذا السبب ذهب كل الأنبياء معايني الله إلى الجحيم. بتجسّد المسيح وقيامته، تألهت الطبيعة البشرية وهكذا أُعطيَت لكل إنسان إمكانية التألّه. ففي المعمودية المقدّسة نصبح أعضاء جسد المسيح المؤلّه والقائم من بين الأموات، لهذا السبب نقول أنّ بالمعمودية المقدسة يتحرّر الإنسان من الخطيئة الأصلية.
إلى هذا، فالسقوط تمّ في اللحظة التي فيها فشل آدم وحواء في جهادهم الشخصي الحر. ولهذا السبب، في لحظة البشارة، بلغت العذراء مريم حالةً أعظمَ من تلك التي كان عليها آدم وحواء قبل السقوط. لقد أُعطيَت أن تتذوّق غاية الخليقة وهدفها، كما سوف نرى في التحليل الآخر.
لهذا السبب، لم يكن من داعٍ للعنصرة لدى العذراء كما لم يكن من ضرورة لمعموديتها. ما اختبره الرسل في يوم العنصرة عندما أصبحوا أعضاء جسد المسيح بالروح القدس، وما يحدث لنا جميعاً خلال سر المعمودية، حدث للعذراء مريم قبل يوم العنصرة.
في هذه الأطر ينبغي تفسير كلام القديس يوحنا الدمشقي بأن العذراء مريم في يوم البشارة تلقّت الروح القدس الذي طهّرها وأعطاها قوة تقبّل ألوهية الكلمة مع قوة الولادة في وقت واحد. أي أن العذراء مريم تلقّت من الروح القدس نعمة مطهِّرة ولكن أيضاً نعمة لتتقبل كلمة الله كإنسان وتكون قادرة على ولادته.
إن رد العذراء مريم على إعلام رئيس الملائكة لها بأنها سوف تُعطى أن تلد المسيح كان معبِّراً: “هئنذا أمة للرب. ليكن لي بحسب قولك” (لوقا 38:1). هنا تظهر طاعة العذراء مريم لقول رئيس الملائكة وأيضاً طاعتها لله أمام حدث غريب وشاذ بحسب المنطق البشري. هكذا أخضعت منطقها لإرادة الله.
يدّعي البعض بأنه في تلك اللحظة كل أبرار العهد القديم، لا بل كل البشرية، انتظرت بقلق لتسمع جواب العذراء مريم، خوفاً من أن ترفض وألا تطيع إرادة الله. إنهم يتمسّكون بهذا لأن في كل مرة يقع الإنسان في هكذا مأزق، وبالضبط لأنه حر، يستطيع أن يقول نعم أو لا، كما حدث في حالة آدم وحواء، الشيء نفسه كان ممكناً حدوثه مع العذراء مريم. في أي حال، لم يكن ممكناً لها أن ترفض، ليس لأنها كانت بلا حرية بل لأن كان عندها الحرية الحقيقية.
يميّز القديس يوحنا الدمشقي بين الإرادة الطبيعية والإرادة العنيدة. يتشبث المرء بإرادته عندما يتميّز بجهله لأمر ما، بالشك وفي النهاية بعجزه عن الاختيار. هذا يشير إلى التردد حول ما يفعله. يكون المرء ذا إرادة طبيعية عندما ينقاد بطريقة طبيعية من دون تردد ولا جهل إلى تحقيق الحق.
وهكذا يبدو أن الإرادة الطبيعية مرتبطة بالرغبة، بينما العناد مرتبط بكيفية ما نريد، وفوق هذا أن يتحقق ما نريد إنما بشكوك وتردد. بالنتيجة، تتضمن الإرادة الطبيعية كمال الطبيعة بينما الإرادة العنيدة تتضمن نقص الطبيعة، لأنها تفترض مسبقاً شخصاً من دون معرفة للحق وغير واثق مما عليه أن يقرره.
ومع أن للمسيح إرادتان بسبب طبيعتيه الإلهية والبشرية، إلا إن له إرادة طبيعية من وجهة النظر التي ندرسها هنا. لم يكن لديه إرادة معاندة. كإله، هو دائماً يعرف إرادة الله الآب، وليس فيه أي تردد أو شك. يختبر القديسون هذا الأمر بالنعمة أيضاً، وخاصةً العذراء مريم. فلأنها بلغت التألّه كان من المستحيل أن ترفض إرادة الله وألاّ تقبل بالتجسد. لقد كان عندها الحرية الكاملة ولهذا فقد عملت حريتها دوماً طبيعياً وليس بخلاف الطبيعة.
نحن عندنا حرية غير كاملة لأننا لم نبلغ التألّه، إرادتنا العنيدة، ولهذا نحن نتردد في ما نقوم به. سؤالها “كيف لي هذا وأنا لم أعرف رجلاً؟” (لوقا 34:1)، يُظهر الاتضاع وضعف الطبيعة البشرية، لكنّه أيضاً ُظهر غرابة الأمر إذ قد كان في العهد القديم ولادات عجائبية ولكن ليس من دون زرع.
لقد تمّ في يوم البشارة حمل مباشر بالمسيح بقوة وفِعل الروح القدس. في إحدى الثيوطوكيات ننشد: “إن جبرائيل لمّا تفوّه نحوك أيتها العذراء بالسلام، تجسّد الرب فيكِ”. هذا يعني أن الحمل لم يحتَج لساعات وأيام لكنه حدث بالضبط في تلك اللحظة. رئيس الملائكة جبرائيل أخبر يوسف خطيب والدة الإله: “لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس” (متى 20:1). لقد ولدت العذراء مريم المسيح كإنسان لكن الحبل به كان من الروح القدس.
في تفسيره لهذه الآية، وتحديداً عبارة “مولود من الروح القدس”، يقول القديس باسيليوس الكبير أن كل شيء صادر عن شيء غيره يُدَلّ عليه بكلمات ثلاث. الأولى هي “بالخلق”، أي كما خلق الله العالم بقوته. الثانية هي “بالولادة” أي كما وُلد الابن من الآب قبل الدهور. الثالثة هي “طبيعياً” تماماً كما تصدر القوة من كل طبيعة، أي الإشراق من الشمس، وبشكل أكثر تعميماً العمل من فاعله. في ما يتعلّق بالحبل بالمسيح بالروح القدس، فالتعبير الصحيح هو أنه حُبل بالمسيح بقوة الروح القدس بالخلق وليس بالولادة ولا طبيعياً.
يعلّم القديس يوحنا الدمشقي أن ابن الله وكلمته ضمّ إلى نفسه، بدماء والدته النقية والطاهرة، الجسد الحي إلى نفس عقلية ونوسية، ليست من زرع بل مخلوقة بالروح القدس. بالطبع، عندما نتحدّث عن الحبل بالمسيح في رحم والدة الإله بقوة الروح القدس وفعله المُبدِع يجب ألاّ نفصل الروح القدس عن الثالوث القدوس. معلوم من التعليم الآبائي أن قوة الإله الثالوثي مشتركة.
خلق العالم وإعادة خلق الإنسان والعالم تمّت وتتم بقوة الإله الثالوثي المشتركة. بالتالي، لم يخلق الروح القدس جسد المسيح وحده بل الآب أيضاً والابن، أي كل الثالوث القدوس. التعبير عن هذه الحقيقة هو أن الآب أيّد تجسد ابنه، وابن الله وكلمته بذاته اجترح تجسده والروح القدس أنجزه.
لقد تم الحبل بالمسيح في رحم مريم بصمت وسريّة وليس بجلبة وضجيج. لم يكن أحد لا من الناس ولا الملائكة ليفهم هذه الأمور العظيمة التي كانت تجري. لقد تنبأ النبي العظيم داود بهذا الحدث قائلاً: “ينزل مثل المطر على الجزاز ومثل الغيوث الذارفة على الأرض” (مزمور 6:71). تماماً كما أن المطر الذي ينحدر على الجزة لا يسبب أي صوت أو أي فساد، الشيء نفسه تمّ خلال البشارة والحبَل. لم يسبب المسيح بالحبل به أي تشويش أو فساد لعذرية العذراء مريم.
لهذا السبب بقيت العذراء مريم عذراء قبل الولادة وفي الولادة وبعدها. هذه هي النجمات الثلاث التي يضعها رسّامو الأيقونات دائماً على جبين العذراء مريم وعلى كتفيها.
إن اتحاد الطبيعة الإلهية والبشرية في أقنوم الكلمة، في رحم العذراء، يشمل تألّه الطبيعة البشرية المباشَر. هذا يعني أنه منذ اللحظة الأولى، عندما اتحد الإلهي يالطبيعة البشرية، بدأ تألّهها. قول القديس يوحنا الدمشقي مميز: “في لحظة البشارة، في تلك اللحظة تجسّد الله الكلمة”. هذا يعني أنه لم يكن هناك فارق زمني بين الحمل بالطبيعة البشرية وتألّهها، بل هذا تمّ فوراً عند الحمل.
نتيجة لهذا الحَدَث ينبغي تسمية العذراء مريم والدة الإله لأنها بالفعل ولدت الإله الذي حملته لتسعة أشهر في رحمها، وليس إنساناً حاملاً نعمة الله. لهذا السبب تُسمّى العذراء مريم والدة الله، وبالتحديد لأنها حملت المسيح بالروح القدس. ينبغي التشديد على هذا لأن في الماضي جرت مشادة لاهوتية كبيرة حول ما إذا كان ينبغي تسمية العذراء مريم والدة الإله أو والدة المسيح.
للمناقشة الخريستولوجة نتيجة في المناقشة المريمية (theotokological). فالمناقشة اللاهوتية الكبيرة التي جرت في الماضي سببها وجود تعاليم هرطوقية. إلى هذا، إن التثبيت النهائي للتعليم القائل بأن العذراء مريم ولدت الإله، وأنه مباشرة مع اتّخاذ الطبيعة البشرية كان تألّه هذه الطبيعة، تمّ في المجمع المسكوني الثالث.
الهرطوقي نسطوريوس، مستعملاً عبارات فلسفية ومتأمّلاً بشرياً قال بأن العذراء مريم هي من البشر ولهذا يستحيل أن تلد الإله. الطفل الذي كان في داخلها لم يكن إلهاً بل بشرياً. الإله فقط “مرّ عبرها” أو “عبر” من خلال والدة الإله. بالطبع، كان هناك مشكلة في لاهوته حول العلاقة بين طبيعتي المسيح. لقد آمن نسطوريوس بأن جسد المسيح كان ضمنياً متّحداً بطبيعة الله. الكلمة لم يكن الإله، بل كان متحداً بالإنسان وسكن فيه. وعلى أساس هذه الافتراضات سمّى العذراء مريم والدة المسيح وليس والدة الإله.
في أي حال، فالمسيح هو إله-إنسان، إله كامل وإنسان كامل، وكل طبيعة تصرفت “في شركة” في أقنوم الكلمة. سوف نتطرّق إلى هذا الموضوع عندما نتحدّث عن ولادة المسيح. مع أن هنا يجب أن نشدد على أن الطبيعة البشرية تألّهت مباشرة مع اتحادها بالطبيعة الإلهية في الكلمة في رحم والدة الإله. لهذا السبب سُميت العذراء مريم والدة الإله لأنها ولدت الإله بشرياً.
إن تأله الطبيعة البشرية المباشَر بالطبيعة الإلهية للكلمة لا يعني أن صفات الطبيعة البشرية أُلغيَت. هذا يُظهر أن التكوّن والحمل في الرحم وأيضاً ولادة المسيح تمّت كلّها بالطبيعة وفوق الطبيعة. فوق الطبيعة لأنها الروح الكلي قدسه أتمّها بشكل خلاّق وليس بالزرع طبيعياً، لأن الحمل في الرحم تمّ بالطريقة التي يُحمل فيها الأطفال بالرحم.
في أي حال، هناك نقطة نبغي التشديد عليها. في كل حمل هناك مراحل إلى أن تتم الولادة. التكوّن هو البداية، ثم بعد بعض الوقت تُرسَم أعضاء الجسد، من ثمّ شيئاً فشيئاً تنمو وبحسب درجة نموه تأتي الحركة. بالنهاية، عندما تكتمل يخرج من رحم أمه.
أمّا في الطفل الإلهي فعندنا ازدياد شيئاً فشيئاً ومع ذلك لم يكن هناك فترة زمنية بين التكوّن ورسم الأعضاء. يقول باسيليوس الكبير: “مباشرة ما تكوّن كان كاملاً في الجسد، لم يتكوّن الشكل تدريجياً”. علينا أن ننظر إلى هذا من وجهة نظر أن أعضاء جسده رُسمَت مباشرة فقد خُلق إنساناً تاماً ولكن برغم ذلك لم يوجد في صيغة الأشهر التسعة. لقد تمّا تدريجياً مع أن جسده كان مشكَّلاً منذ البداية.
إن الحمل بالمسيح تمّ في رحم والدة الإله بالروح القدس بطريقة مبدعة وليس بالزرع، لأنه كان ينبغي بالمسيح أن يأخذ طبيعة آدم النقية التي كانت له قبل السقوط. بالطبع، تبنّى المسيح جسداً متيسّراً وقابلاً للموت، كالذي صار لآدم بعد السقوط، لكي يغلب الفساد والموت، لكنه في كل الأحوال نقياً تماماً وبلا عيب كما كان قبل السقوط. وهكذا، كان جسد المسيح من جهة الطهارة كما كان جسد آدم قبل السقوط، بينما من جهة قابلية الموت والفساد فهو كما كان جسد آدم الساقط.
بالنتيجة لقد تمّ الحمل بالروح القدس لأن الطريقة التي يولَد بها الإنسان اليوم، أي بالزرع، هي بعد السقوط. بحسب القديس غريغوريوس بالاماس، حركة الجسد نحو الولادة ليست متحررة من الخطيئة، لأنه فيما الله قد حدد العقل ليحكم الإنسان، فهو تصرّف بلا خضوع خلال حركة الجسد. وهكذا، فإن طبيعة المسيح النقية مرتبطة بالخَلق وليس بالحمل من خلال الزرع.
هذا الحدث بالتحديد مرتبط بشدة بحقيقة أن الحمل بالمسيح وحمله في الرحم وولادته هي كلها بلا جهد ولا ألم ولا لذة. إذاً المسيح حُبل به، وحُمل في الرحم كطفل ووُلد من دون لذة، من دون كدح ومن دون ألم. لقد حُبل به من غير زرع لسببين أساسيين. الأول ليحمل طبيعة البشر الصافية، والثاني ليولد من دون فساد وبطريقة لا ألم فيها.
بنفس الطريقة التي ولدت العذراء مريم بيسوع من دون لذة، كذلك حفظته في رحمها طوال تسعة أشهر من دون جهد ولا وزن. لم تحس بوزن بالرغم من أن الطفل الإلهي كان ينمو بشكل طبيعي وله وزن الجنين. وهكذا تحققت نبوءة النبي أشعياء: “هوذا الرب راكب على سحابة سريعة” (أشعياء 1:19). عبارة “سحابة سريعة” تعني الجسد البشري الذي كان خفيفاً لدرجة أنه لم يسبب أي وزن أو جهد للعذراء مريم خلال فترة حمله لتسعة أشهر في رحمها.
إن حمل العذراء مريم بلا زرع ولا لذة والحمل في الرحم من دون جهد شبيه بميلاد المسيح الخالي من الخطأ والألم. بحسب القديس غريغوريوس النيصي، يوجد علاقة قوية بين اللذة والألم، لأن كل لذة ترتبط بألم ما. اللذة والألم اللذين أحس بهما آدم انتقلا إلى الجنس البشري. وهكذا أيضاً اليوم من خلال التحرر من اللذة يأتي الفرح للجنس البشري. إن ميلاد المسيح لم يؤذِ عذرية والدة الإله، بالضبط لأن الحمل لم يتم بلذة، والحمل في الرحم لم يتم مع جهد ووزن. حيث يعمل الروح القدس “يُغلَب نظام الطبيعة”.
إن طول فترة الحمل في رحم العذراء مريم هي إنذار مسبَق للشركة غير المنقطعة التي للقديسين في الملكوت. معروف أن بين الأم والطفل الذي تحمله في رحمها علاقة عضوية. لقد برهن الباحثون المعاصرون أن الطفل يتأثر كثيراً ليس فقط بوضع أمه الجسدي، بل أيضاً ببنيتها النفسية. وبما أن الطفل الإلهي قد حبِل به بالروح القدس لكنه نما بطريقة طبيعية فهو كان في شركة مع جسد العذراء مريم، ولهذا السبب يوجد علاقة حميمة بين المسيح ووالدة الإله.
طبيعياً، نرى من وجهة النظر هذه أن العذراء مريم تعطي دمها للمسيح، لكنه هو أيضاً يعطيها نعمته وبركته. إلى هذا، فالمسيح مع كونه محمولاً في الرحم لم ينقطع عن كونه في الوقت نفسه جالساً على عرش الآب متحداً بأبيه وبالروح القدس.
لقد اتحدت الطبيعة البشرية بالإلهية تلقائياً عند لحظة الحمل من دون تغير أو تشوش أو انقسام أو انفصال. هذا يعني قبل كل شيء أن العذراء مريم تذوقت خيرات التجسد الإلهي أي التأله. لقد عاشت العذراء مريم، منذ اللحظة الأولى للحمل ووجود الجنين في الرحم، كلَّ ما تذوقه تلاميذ المسيح في العنصرة، وما نحياه نحن خلال المعمودية، وفي سر الإفخارستيا الإلهية عند اشتراكنا بجسد المسيح ودمه وما سوف يحياه القديسون في الملكوت.
بالنتيجة لقد غذّى المسيح العذراء مريم بدمه المقدس لمدة تسعة أشهر كاملة، ليلاً ونهاراً. إن هذا إعلان مسبَق عن الشركة الإلهية غير المنقطعة والعلاقة المتواصلة بين القديسين والمسيح والتي سوف تتمّ في الحياة الثانية بشكل أساسي. لهذا السبب، العذراء مريم هي إعلان مسبَق عن الزمن الآتي. ومن هذا المنظار هي الفردوس.
في كلامه عن بشارة والدة الإله، يتقدم القديس نيقوديموس الأثوسي إلى مقاربة شخصية ووجودية لهذا الحدث. إذ لا يكفينا أن نحتفل بأحداث التجسد الإلهي خارجياً بل علينا مقاربتها وجودياً وروحياً. لهذا السبب لقد جمع الكثير من المقاطع من أقوال القديسين حيث الكلام هو بشكل أساسي ضمن هذه المقاربة الوجودية.
إن قول النبي إشعياء مميّز: “حبلنا تلوينا كأنّا ولدنا ريحاً.” (18:26). بحسب تفسير الآباء فإن النسل هو كلمة الله والعقل هو رحم الإنسان وقلبه. بالإيمان يُزرع كلمة الله في قلب الإنسان فيحمَل بخوف الله. هذا الخوف هو من أن يبقى الإنسان بعيداً عن الله. بهذا الخوف يبدأ الجهاد لتطهير القلب وامتلاك الفضائل، وهو جهاد مشابه للألم وخاصةً لألم الحمل. بهذه الطريقة يولَد روح الخلاص الذي هو تألّه وتقديس.
إن تكوّن المسيح فينا لا يتمّ من دون آلام روحية. يقول الرسول بولس: “يا أولادي الذين أتمخّض بكم أيضاً إلى أن يتصوّر المسيح فيكم” (غلاطية 19:4). المخاضات هي الجهادات الروحية والتكوّن هو التألّه والتقديس.
بحسب الآباء القديسين (غريغوريوس النيصّي، مكسيموس المعترف، سمعان اللاهوتي الحديث، نيكيتا ستيثاتوس وغيرهم) ما حدث جسدياً في العذراء مريم، يحدث روحياً لكل صاحب روح بتولية، أي المتطهّر من الأهواء. المسيح، الذي ولد مرة بالجسد يريد أن يولد، دائماً بالروح، من الذين يبتغونه، وبهذا يصبح طفلاً مكوِّناً نفسه فيهم من خلال الفضائل.
يُفهم الحمل والولادة الروحيان من حقيقة توقف جريان الدم، أي أن الرغبات في ارتكاب الخطيئة تتوقف، وتفقد الأهواء نشاطها في الإنسان، فيكره الخطيئة بشكل ثابت ويرغب في عمل إرادة الله. يُكتَسَب هذا الحمل وهذه الولادة بتحقيق الوصايا الإلهية، بشكل أساسي بعودة العقل إلى القلب وبالصلاة الفردية غير المنقطعة. عندها يصبح الإنسان هيكلاً للروح الكلي قدسه.
بشارة والدة الإله هي بشارة للجنس البشري، إعلام بأن ابن الله وكلمته تجسّد. إن العيد الكوني يجب أن يساعد على أن يكون عيداً شخصياً، في بشارة شخصية. علينا أن نقبل مقدمة خلاصنا، التي هي أعظم إشعار في حياتنا.
المتروبوليت ايروثيوس (فلاخوس)
No Result
View All Result