أيقونة الميلاد المجيد في الفن المسيحي وتطورها عبر التاريخ
ليست الأيقونة مجرد لوحة فنية ملونة, بل هي التاريخ الحىّ الشارح لإيمان الكنيسة, كدليل اكيد وواضح وضوح الشمس لا يحتاج إلى مجهود بحثي مدقق, بل هو يحتاج فقط إلى التأمل والصلاة وإدراك واعي بحقيقة التاريخ الحيّ فينا
إن الأيقونة هي نافذة اللاهوت المُسَلْمْ لنا من القديسين على أساس الواقع التاريخي الحيّ ليومنا الحاضر, الذي لا يمكن لأحد إعادة صياغته مجدداً بحسب أفكاره , فبالرغم من جمال الأيقونة وبساطتها, إلا إنها تقف بقوة وحزم وبكل جراءة أمام كل من تسول له نفسه أن يعبث بأحداث التاريخ, لذا فالأيقونة هي حافظة اللاهوت التاريخي كحدث زمني وكإيمان لاهوتي قائم باستمرار كشاهد صادق في غاية الوضوح والبساطة أمام أعين الجميع في كل يوم وكل ساعة ومن هذة الايقونات ايقونات الميلاد عبر العصور.
وتقول الدكتورة سلفانا جورج عطالله دكتوراه فى الآثار والفنون القبطية من معهد البحوث القبطية جامعة الإسكندرية
يحتفل العالم المسيحى فى تلك الفترة بأعياد الميلاد المجيد وعيد الابيفانيا ( أى عيد الظهور الإلهى) حيث ولد السيد المسيح وتم عماده بنهر الأردن على يد القديس يوحنا المعمدان ، فكان العالم المسيحى الشرقى فى القرون الميلادية الأولى يحتفل بعيد الابيفانيا قبل أن يعرف عيد الميلاد كعيد مستقل بذاته، وكان أول إشارة فى مصر للاحتفال بعيد الظهور الإلهى من القرن الثالث الميلادى حيث ذكر العلامة كليمندس السكندرى ( 150-215م) ،أن واحدة من الشيع الغنوسية قد احتفلت بعماد الرب، ومنذ القرن الرابع الميلادى كانت الكنيسة المصرية تعد هذا العيد من أهم ثلاث أعياد مسيحية وهم : الفصح والعنصرة و الابيفانيا.
أما الكنيسة فى الغرب فكان عيد الميلاد من أهم الأعياد المسيحية التى تحتفل بها منذ القرون المبكرة ، ويعد من أكبر الاحتفالات للأطفال بشكل خاص حيث تكثر العطايا والهدايا لهم ، لأن ميلاد الطفل يسوع المسيح في المزود هو عطية ومحبة الله لنا، ولأهمية هذا العيد يقول يوحنا ذهبى الفم ” بدون هذا العيد سوف لا تكون معمودية أو قيامة أو صعود ولا حلول الروح القدس، لذلك يعتبره أصل جميع الأعياد”.
وتضيف الدكتورة سلفانا جورج من هنا بدأ الفنان المسيحى فى الغرب بتصوير الميلاد ولكن ليس بشكل مباشر، ففى البداية وجدوا فى تقدمة المجوس للطفل يسوع من الهدايا والعطايا بداية تجسيد هذا الحدث وهو ما عكسه أيضًا الطقس الغربى فى الاحتفال بعيد الميلاد حيث احتلت زيارة المجوس فى قداس هذا العيد المركز الرئيسى فى الاحتفال. لذا نجد أقدم تصوير للمجوس على تابوت الرخامى موجود حاليًا بمتحف الفاتيكان بروما من القرن الثالث الميلادى يقدمون الهدايا للطفل يسوع الذى يجلس على رجل أمه ويمد يده ليمسك بأولى الهدايا الثلاثة
ويأتى المشهد الثانى من سراديب روما من كتاكومب بريسكلا حيث نجد جدارية تعود إلى أواخر القرن الثالث الميلادى – أوائل الرابع الميلادى تصور فيها المجوس الثلاثة حاملين الهدايا يقدموها للطفل الجالس على رجل أمه
وطبقًا للكتاب المقدس فإن زيارة المجوس تمت بعدما ولد الطفل كما جاء فى إنجيل متى الإصحاح الثانى :
” ولما ولد يسوع فى بيت لحم اليهودية فى أيام الملك هيردوس ، إذا مجوس قدموا أورشليم من المشرق” ( مت 2: 1)، وعندما علم هيرودس الملك بمجيئهم طلبهم سرا وسألهم عن أى ملك يبحثون عنه فقصوا عليه أنهم رأوا نجمًا عظيما فى المشرق فعرفنا أنه ولد ملك اليهود ، فطلب منهم هيرودس أن يبحثوا عن الطفل في بيت لحم لكى يأتى معهم ويسجد له أيضًا ، فذهبوا المجوس وتبعوا النجم حتى وصلوا إلى مذود البقر حيث ولد السيد المسيح وقدموا له هداياهم فيقول الكتاب: ” ودخلوا البيت فرأوا الطفل مع أمه مريم فجثوا له ساجدين، ثم فتحوا حقائبهم و أهدوا إليه ذهبًا وبخورًا ومرًا” ( مت 2: 11).
على أية حال، كان تصوير المجوس مرتبطًا بميلاد السيد المسيح وله دلالة مهمة حيث يعد هؤلاء المجوس شهود على هذا الميلاد الإعجازى وتحقيق لنبوات أنبياء العهد القديم وأنهم كانوا على علم بتلك النبوات .
وتؤكد الدكتورة سلفانا جورج على أنه منذ أوائل القرن الرابع الميلادى بدأ الفنان المسيحى فى تجسيد ميلاد الطفل يسوع وقد اتخذ عدة مراحل للوصول إلى مشهد الميلاد الكامل، ففى بادئ الأمر اهتم الفنان بتجسيد الطفل المولود دون وجود أى بشر معه حتى السيدة العذراء ويوسف النجار ، ويرافقه فقط الثور والحمار ولأول مرة يظهر المزود الذى ولد فيه ويتضح ذلك من حجر رخامى موجود بالمتحف البيزنطى بروما من أوائل القرن الرابع
حيث أراد الفنان تسليط الضوء على ولادة ابن الله المتجسد فى الصورة البشرية – حسب المعتقد المسيحى- فى المزود وحوله الثور والحمار والطبيعة ليطبق ما جاء بنبوءة إشعياء النبى ” عرف الثور قانيه والحمار معلف صاحبه ، أما شعبى فلم يعرف إسرائيل ولم يفهم” ( أشع 1 : 3) .
ثم بدأ الفنان يضيف إلى المشهد أحد الرعاة كما فى التابوت الحجرى الذى يعود إلى منتصف القرن الرابع (330-335م) بروما
وكذلك السيدة العذراء كما ظهر فى تابوت آخر من القرن الرابع ومحفوظ بمتحف الفاتيكان
وتضيف الدكتورة سلفانا جورج منذ أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع بعد استقرار عيد الميلاد فى كل العالم المسيحى ، بدأ الاهتمام بتفاصيل أيقونة الميلاد من خلال إضافة عدة أحداث ارتبطت بميلاد السيد المسيح من خلال تجسيد لآيات واحداث الكتاب المقدس حول الميلاد، بالإضافة إلى الإبكريفا المسيحية، فاحتل مشهد البشارة مكانًا مهمًا في أيقونة الميلاد حيث بشارة الملاك غبريال للسيدة العذراء بالحبل وميلاد السيد المسيح ، ثم مشهد الميلاد فى المزود ومرافقة يوسف النجار والسيدة العذراء للطفل مع وجود الثور والحمار، وزيارة كلا من المجوس والرعاة لطفل المزود ، وفى النهاية أضاف الفنان من خلال الأبكريفا مشهد سالومى القابلة وهى تحمم الطفل الصغير ويمكننا متابعة ذلك من عدة جداريات وأيقونات سنتناول بعضها لنقف على أهم معالم ورموز أيقونة الميلاد، ومنها جدارية البشارة للسيدة العذراء وسط نبؤات أربعة من أنبياء العهد القديم بدير السريان بوادى النطرون وهى تعود للقرن السابع الميلادى
حيث صُوِّر أربعة من الأنبياء فى جدارية السريان، وهم بالترتيب من اليمين إلى الشمال: دانيال وحزقيال وإشعياء وموسى وهم حاملين نبؤاتهم عن حبل السيدة العذراء وميلاد الطفل يسوع، وفى منتصف هؤلاء الأنبياء السيدة العذراء وملاك البشارة غبريال بجوارها. وقد استطاع الفنان أن يقدم رسالة معقدة عن فكرة الفداء من خلال تلك الجدارية، عن طريق تجسد السيد المسيح من السيدة العذراء وتحقق نبوءات أنبياء العهد القديم بولادة المخلص، ويتضح التأثير البيزنطى جليًا فى ذلك التصوير، من حيث استطالة الأجسام وأشكال اللحى والشعر، بل يرى Ground أن فكرة هذه الجدارية تعود إلى الفكر البيزنطى؛ لتأكيد تجسد السيد المسيح من ” الثيؤطوكوس” من أجل الفداء
وقد كان أحداث إيقونة البشارة مسجلة من إنجيلى متى ولوقا البشيرين بالإضافة إلى الإبكريفا خاصة ما يعرف بإنجيل الطفولة وإنجيل متى ويعقوب المزيفين والذى كان لهم تأثيرهم القوى على تفاصيل الأيقونة البيزنطية خاصة والإيقونة المسيحية عامة، وتعد أقدم جدارية للبشارة فى كتاكومب بريسكلا بروما من القرن الثانى الميلادى
وهى تجسد الملاك غبريال يبشر السيدة العذراء بحبلها وميلادها للطفل يسوع. وظل تجسيد مشهد البشارة حتى يومنا هذا بذلك المشهد الملاك أمام السيدة العذراء مع أضافة بعض التفاصيل من الإبكريفغا حيث نجد فى بعض المشاهد على سبيل المثال أن البشارة تمت والسيدة العذراء حاملة أبريق ماء فى طريقها لجلب المياه من الينبوع طبقًا لإنجيل يعقوب المزيف وصورها الفنان فى موزييك بازيليكا سان ماركو بفانيس
فريسكو بمتحف الرهبنة الفرنسسكانية- سان ماركوس فلورنسيا – إيطاليا
وتشير الدكتورة سلفانا لجدارية دير السريان وهى كما تقول من أهم جداريات الميلاد المجيد، وهى نصف القبة الغربية تنقسم إلى جزأين الأولى بشارة الملاك للسيدة العذراء والثانية تمثل مشهد ميلاد السيد المسيح وهى تعود إلى القرن العاشر الميلادى، ويظهر مشهد البشارة الملاك غبرال يرسل سلامه إلى السيدة العذراء الجالسة وهى مرتدية ملابس زرقاء وفوقها عباءة باللون الأحمر وحول رأسها الهالة ، بينما نشهد فى الجزء الثانى السيدة العذراء مضطجعة وبجوارها الطفل مقمط وحدد الفنان باللون الأسود حو الطفل والسيدة العذراء وحولهما يوسف النجار والرعاة الثلاثة والمجوس
كذلك من أجمل أيقونات الميلاد إيقونة أندريه روبلبيف من القرن الخامس عشر؛ لتجسيدها أحداث الميلاد بمنتهى الدقة والعمق اللاهوتى والروحى ، فتظهر الإيقونة باللون الذهبى للدلالة على المجد والقداسة والألوهية لميلاد القدوس الذى فرح الشعوب وكل الأرض وأضاء المسكونه بنوره والإيقونة كأنها على صخر متدرجة لأعلى حتى تلامس السماء حيث أراد الفنان تجسيد فرح الأرض بميلاد المخلص من خلال تشقق صخورها فرحًا بميلاد خالقها، وتظهر السيدة العذراء فى منتصف الإيقونة بلباس أحمر قاتم وبغطاء رأسا ثلاث نجوم لبتوليتها الدائمة مضطجعة على وشاح باللون الأحمر وحول رأسها الهالة الذهبية ويظهر الوشاح على شكل حبة الحنطة ويرمز لونه إلى المجد والقداسة لأنها حبلت بالقدوس وتنظر إلى يوسف بنظرات حزينة لإدراكها ما يعصف به من أفكار ، وبجوارها الطفل حول رأسه الهالة المصلبة مقمط بقماش أبيض موضوع فى مزود ويبدو أنه خارجًا من الكهف الأسود، وكأن الفنان يريد القول هذا الطفل المولود الذى يبدو أنه خارجًا من جوف الأرض يدرك أنه جاء لخلاص البشرية وسيقمط بالأكفان ويوضع جسده فى القبر ثم يقوم من الأموات، ويظهر بجوار الطفل مغارة مظلمة ترمز إلى الجحيم حيث أن منذ الأزل مخطط لخلاص العالم بموت اليد المسيح ونزوله إلى الجحيم لخلاص المؤمنين ونصرته على الشر بقيامته فالميلاد جزء لا يتجزأ من خطة الخلاص فى العقيدة المسيحية، ويطل من المغارة الثور الذى هو فى عقيدة العهد القديم ” حيوان طاهر” وهو أراد بذلك يرمز إلى بنى إسرائيل والحمار وهو ” حيوان دنس” ليرمز به إلى الأمم ، فالسيد المسيح جاء لخلاص البشرية بأكملها وميلاده تهلل به جميع الأمم ولم يقتصر على بنى إسرائيل فقط ، بل وقوف ذلك الحيوانين بجانب بعضهما البعض لدليل على اختلاط اليهود بالأمم، أو الطاهر بغير الطاهر وهو فر رمزيته يرمز إلى التجسد فقد أخذ السيد المسيح بميلاده الطبيعة الإنسانية واتحدت مع الطبيعة الإلهية بدون اختلاط أو امتزاج او تغيير فى شخصه على حسب المعتقد المسيحى.
ثم نجد على يسار الطفل المجوس أو الحكماء الثلاث بملابس ملوكية حاملين الهدايا وهم يعبرون بملامحهم عن أطوار حياة الإنسان ويقدمون الهدايا للطفل الذهب الذى يرمز إلى انه ملك الملوك ، والبخور يرمز إلى ألوهيته، والمر يرمز إلى إنسانيته، وعلى الجانب الأيمن راع ينفخ مزماره وفى أعلى الإيقونة نجد الملائكة مهللين وفى المنتصف نصف دائرة ترمز إلى السماء مرسلة شعاع الروح القدس فى شكل شعاع ثلاثى ليرمز إلى الثالوث القدوس ، أما أسفل الإيقونة نجد مشهدين الأول القابلة سالومى وهى تحمم الطفل ومساعديها وذلك يرمز إلى معمودية الطفل ومعموديتنا أيضًا ، والجانب الآخر يوسف النجار مضطرب الملامح جالسًا مفكرًا وأمامه الشيطان متجسدًا فى شكل إنسان يوسوس له حول ميلاد العذراء لطفل دون زواجها
ويوجد بالمتحف القبطى إيقونة بيزنطية مشابهة لإيقونة روبليف تحت رقم 3848 لتجسد الميلاد بأحداثه المتعددة
وتجسد الفرح الذى ملئ الكون بميلاد الطفل يسوع المسيح ليتحقق قول الكتاب: “المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة” لو 2: 14