ختانة ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح بالجسد والقديس باسيليوس الكبير
1/ 1 غربي(14/1 شرقي)
“وقال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي، أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك. يُختن منكم كل ذكر فتُختتنون في لحم غرلتكم فيكون علامة عهد بيني وبينك. ابن ثمانية أيام يُختن منكم كل ذكر في أجيالكم. وليد البيت والمبتاع بفضة… فيكون عهدي في لحمكم عهداً أبدياً. وأما الذكر الأغلف الذي لا يُختن في لحم غرلته فتُقطع تلك النفس من شعبها. إنه نكث عهدي”.(تكوين 9:17-14)
هذا كان، كتابياً، أصل الختانة ومرماها عند اليهود. فرضها الرب الإله على شعبه لتكون علامة في اللحم لانتمائهم إليه وكذلك سمة للعهد المقطوع بين الله، من جهة، وإبراهيم ونسله من بعده، من جهة أخرى. ولعلها، قبل ذلك، كـانت نوعاً من التطهير لدواعي الصحة. وقد أهملها العبرانيون في أكثر من فترة زمنية من تاريخهم ثم عادوا إليها إلى أن صاروا يُعرفون “بأهل الختان” في مقابل الأمميين الذي أسموهم “أهل الغرلة”.
وقد كان من المفترض أن يُختن الذكر المولود حديثاً في اليوم الثامن لمولده. في ذلك اليوم، أقله في زمن متأخر، كان يُحتفل بتسمية المولود الجديد (لوقا 21:2). ولكن، لم تكن الختانة قصراً على الصغار بل كانت للكبار أيضاً. وفي زمن موسى النبي قُضي بأن لا يأكل الفصح إلا المختونون. والختانة كان يقوم بها، في الأصل، رب البيت أو أحد العبرانيين وأحياناً الأم، ثم أخذت وضعاً مؤسّساتياً فصار يقوم بها رجل يُعرف بـ “سيد العهد”.
في زمن الرب يسوع، كانت عادة الختانة راسخة، وقد قبل السيد، له المجد، ختانة بشرية لأنه ارتضى، من أجلنا، أن يقيم تحت الشريعة. كتبنا الليتورجية تتحدث عن كونه فعل ذلك لينقذنا من “لعنة الشريعة” (الإينوس). وقد فصل بولس الرسول الكلام على ذلك فذكر أن اللعنـة هي على من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتـاب الشريعة ليعمل به. ليس أن الشريعة لعنة ولكن، بها، أي الشريعة، معرفة الخطيئة، وإذ لا طاقة لإنسان على إتمام الشريعة كاملة فإن الجميع صاروا تحت اللعنة (غلاطية 3). الرب يسوع، على ما بيّن الرسول المصطفى، “افتدانا من لعنة الشريعة إذ صار لعنـة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علِّق على خشبة”.
على أن اقتبال السيد لختانة اللحم أبطلها. فالختانة كانت إلهيه. كانت علامة ظلِّية للانتماء إليه فلما اتخذها وضع لها حداً. لذا نردد “أن الختانة قد بطلت مذ اُختتن المسيح باختياره” (السحر-الأودية الرابعة). وكذلك “أن المسيح في اليوم الثامن من ميلاده يتقبل ختانة. فبذلك يزيل اليوم ظلها مطلعاً نور النعمة الجديد”(السحر-الأودية الأولى)
ارتبطت الختانة بالشريعة. فلما أكمل الرب يسوع الشريعة في جسده تخطاها ليجعلها لا تحت النعمة. والانتماء إلى النعمة استوجب علامة من نوع آخر. ختانة جديدة، بمعنى من المعاني. المعمودية صارت البديل لذا تحدث الرسول بولس، في إطار الانتماء الجديد، عن الختانة غير المصنوعة بيد، بخلع جسم خطايا البشرية بختانة المسيح، “مدفونين معه في المعمودية..” (كولوسي12:2) ولكن إذا كانت الختانـة القديمة (العهد القديم) قد اهتمت بقطع اللحم، فالختانة الجديدة، أي المعمودية (العهد الجديد)، تهتم بنبذ الخطيئة، أو بكلام أشمل، كما ورد أعلاه، بخلع جسم خطايا البشرية.
وقد حاول بعض المؤمنين بالمسيح من اليهود التمسك بختانة الجسد معتبرين إياها ضرورية للخلاص، فتصدى لهم الرسول المصطفى بولس قائلاً: “ان اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئاً” (غلاطية 2:5)
هذا وان نقاط الدم القليلة التي بذلها المسيح يسوع طفلاً في الختانة كانت مقدمة لبذل دمه كاملاً عن البشرية جمعاء على الصليب. وإذ كانت ختانته في اليوم الثامن أعلن لنا، في ذاته، زماناً جديداً يتخطى هذا الزمان! زمان الملكوت. آباؤنا، وكذلك نصوصنا اليتورجية، يشيرون إلى اليوم الثامن هذا باعتباره “رسماً للدهر الآتي” (صلاة السحر-الأودية الأولى). زمان هذا الدهر ممثل بيوم السبت، أي باليوم السابع، أما اليوم الثامن فلا ينتمي إلى هذا الزمان. لذا اتخذه آباؤنا علامة للدهر الآتي. هو الثامن لأنه يتخطى زماننا المحصور في سبعة أيام، وهو الأول لأنه بداية الزمن الجديد ثم أن الرب يسوع اتخذ اسمه في هذا اليوم، الإسم الذي قال بولس الرسول في رسالته إلى أهل فيلبي أن الآب السماوي أعطاه إياه “اسماً فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب” (9:2-11). يسوع معناه المخلص، وهو علامة أو قل إيقونة كلامية لحضور الله معنا وفيما بيننا. لهذا السبب لم ولن تكف الألسنة والأفئدة عن ترداد الاسم المبارك لأنه استدعاء له وعيش فيه إلى أن يجيء في ملء حضوره في مجيئه الثاني. أنه الآتي إلينا أبداً. “أيها الرب يسوع المسيح تعال!”. لذا نحسب اليوم أيضاً عيد اسم الرب يسوع له المجد.
تقيم الكنيسة تذكار ختانة الربّ بالجسد في الأول من كانون الثاني.
القديس باسيليوس الكبير رئيس أساقفة قيصرية الكبادوك
وُلد القدِّيس باسيليوس الكبير في أوائل القرن الرابع سنة 329م. في مدينة قيصرية، لعائلة مسيحية اشتهرت بالفضيلة والقداسة، لها الحياة النسكية فخر واعتزاز. جدّه من جهة أمه شهيد للمسيح وجدّاه من جهة أبيه معترفان. صودرت ممتلكاتهما ولجأا إلى جبال البنطس حيث اسقرا في “أنيسي” سبع سنوات. أقاما هناك كنيسة على اسم الشهداء سبسطيا الأربعين وكانت الأيائل تطعمهما، يذكرهما التقويم الكنسي في 14 كانون ثاني. أما قديسنا فأنشأته جدته ماكارينا الكبرى على الفضيلة لما كان عندها في منزل ريفي في قيصرية الجديدة في البنطس. ماكارينا الكبرى كانت أيضاً قديسة تتلمذت على يد القديس غريغوريوس الصانع العجائب (17 تشرين الثاني). كذلك كان والداه مميزين. والده باسيليوس الأكبر كان فذاً، لا سيما في البيان والخطابة، راقياً في روحه. وصفه القديس غريغوريوس اللاهوتي بـ”معلم الفضيلة في إقليم بنطس”. كانت أملاكه واسعة في ثلاثة أقانيم في آسيا الصغرى. أمه أكاليا كانت ورعة صالحة جميلة بين النساء. وقد أنجب الزوجان عشرة أولاد، خمسة ذكور وخمس أناث. التقويم الكنسي يذكر والدي باسيليوس في 30 أيار. خمشة من أولادهم صاروا قديسين. نكتاريوس، غريغوريوس أسقف نيصص، وبطرس أسقف سبسطيا، وماكارينا المدعوة الحكيمة، وباسليوس الكبير قديسنا. وأما بقية أفراد الأسرة فلم ينقصهم عن إخواتهم في سلامة الطوية والسيرة النقية ولو اختاروا الحياة الزوجية.
كانت ولادة باسيليوس في قيصرية الكبادوك. الكبادوك معناه “ذات المنظر المستدير”. وهي ناحية شاسعة من نواحي آسيا الصغرى. تحيط بها أرمينيا من الشرق وكيليكيا من الجنوب وغلاطية وليكاؤنية من الغرب والبنطس من الشمال. الكابادوك تسمية أطلقها الفرس. قبل ذلك عرف سكانها بـ”السوريين” أو “السوريين البيض”. كانت تعتبر واحدة والبنطس.
أما قيصرية فكانت العاصمة المدنية والكنسية لكبادوكيا. يكانها، في ذلك الزمان، كانوا في حدود النصف مليون. وهي مهمة فسيحة رخامية الأعمدة، غنية بقصورها، تزداان بالجنائن المعلقة، وتقع على الطريق الروماني الواصل أفسس بالمشرق، في هذا المناخ الطبيعي والإنساني والحضاري ترعرع قدّيسنا.
كان القديس باسيليوس معتل الصحة منذ طفولته. في بداية الأمر اهتمت جدته ماكارينا به ثم أخته الكبرى ماكارينا. ربّاه والده على محبة الكلمة وجمال التعبير وحسن الإداء. فلما رقد أبوه تردد على دور العلم في قيصرية لبعض الوقت ثم انتقل إلى القسطنطينية وتتلمذ على يد ليبانيوس السفسطي المعروف. سنة 351م طلب العلم في أثينا حيث أقام خمس سنوات يدرس على يد كبار معلمي زمانه التاريخ والشعر والهندسة وعلم الفلك والمنطق والبلاغة والبيان والفلسفة والطبابة العلمانية. في أثينا نمت الصداقه بينه وبين القديس غريغوريوس اللاهوتي.
لما غادر القديس باسيليوس إلى أثينا لمتابعة دراسته تحولت أخته الكبرى ماكارينا إلى البيت العائلي في “أنيسي” فحولته ديراً منشئة رهبنة نسائية. كانت قد التزمت العفة بعدمت توفي خطيبها. وقد انضمت إليها والدتها أماليا ورافقها بطرس أصغر أبناءها. فيما اعتزل نكتاريوس برفقة خادم في مكان ما في البنطس وسلك في الفضلية. فلما عاد باسيليوس إلى قيصرية اكتشف تغييرات جمة حصلت في محيطه العائلي: قسم من أحبائه صار رهباناً! صار استاذاً في البيان في جامعة قيصرية حيث راج صيته فانتفخ. فخشيت عليه أخته ماكارينا واتهمته بالاستكبار واحتقار الناس والادعاء. فأثر كلامها فيه ولكن ليس إلى حد تغيير وجهة سيره. كانت الحاجة إلى صدمة أكبر تصيبه فتخرجه من سباته وغروره. وحلّت به الصدمة! فجأة رقد أخوه نكتاريوس الذي كان يصغره بسنة أو اثنتين. وكان أكثر إخوته جمالاً وأشدهم بأساً وأحدّهم ذكاء وأوفرهم مواهب. خرج ليصطاد سمكاً فاُعيد ميتاً. إذ ذاك بان لباسيليوس بطلان ما حصّله في أثينا وما سار عليه. فجلس عند قدمي أخته ماكارينا يتعلم منها سرّ التخلي وحياة الفضيلة. ثم اقتبل سرّ العماد المقدس.
اتصل باسيليوس بإفسطاثيوس السبسطي (هذا فيما بعد سقط فيما بعد بالهرطقة الآريوسية فقطع باسيليوس علاقته معه) المعروف في الأوساط الرهبانية. ثم قام باسيليوس برحلة إلى المراكز البارزة للحياة الرهبانية في العالم المسيحي: مصر وفلسطين وسوريا وبلاد ما بين النهرين. فزار كبار المتوحدين المعروفين في ذلك الزمان. أذهله تقشف النساك وعكوفهم على الصلوات الطويلة. والحق أن رحلته هذه نفعته نفعاً كبيراً. إذ أنه اطّلع على مختلف أنماط الحياة النسكية. كذلك مكنته المعطيات التي اجتمعت لديه من تبين مخاطر العزلة الكاملة وضرورة غيجاد طريقة تجمع، في آن، ما بين المرونة والدقة بحيث تحافظ على خير ما هو موجود وتنميه وتجتنب ما هو مشكوك فيه وتلغيه.
اختار القديس باسيليوس مكاناً اعتبره أكثر الأمكنة التي عرفها ملاءمة للحياة الرهبانية، إيبورا الواقعة على ضفة نهر إيريس مقابل “أنيسي” حيث أنشأت أخته ماكارينا ديرها. لم يُقم باسيليوس في المكان وحيداً. انضم إليه بعض طلاب الحياة الرهبانية وكذلك صديقه القديس غريغوريوس اللاهوتي.
ذكر باسيليوس ما كان يقوم به في الموضع فحصر اهتماماته في أربعة: الإختلاء، الصلاة الممتزجة بالنشيد والتسبيح، قراءة الكتاب المقدس وكتب الآباء القديسين، والتأمل. وكذلك باسيليوس وصديقه غريغوريوس كانا يعملان بأيديهما ويحملان الحطب وينقلان الأثقال وأن آثارها بقيت على أيديهما طويلاً. كذلك الخبز الذي اعتادا تناوله كان جافاً وسيء الصنع وشاق المضغ.
كان القديس باسيليوس في رهبنته، ويمكنك في حياته، عنيفاً حيال نفسه. كان يطيب له أن يستشهد بمتى الرسول القائل: “ملكوت السموات يُغصب والغاصبون يختطفونه” (11: 12). لم يطلب من الآخرين غير ما التزم هو به.
اهتم القديس باسيليوس بالرهبنة المشتركة ووضع لها قواعد تحكمها. ولنا منه القوانين المطوّلة الخمسة والخمسون والقوانين المختصرة الثلاثمائة والثلاثة عشر. موهبته كمشرِّع كانت فذّة. لكنه لم يغفل أهمية المناسك قريباً من الأديرة المشتركة.
قيل عن القديس باسيليوس أنه صار قارئاً في حدود العام 359م وشماساً سنة 390م بيد أسقفه ذيانوس، (على أن ثمة من يذكر أن الذي سامه شماساً كان القديس ملاتيوس الأنطاكي)، ثم صار كاهناً على يد إفسافيوس أسقف قيصرية سنة 362م. ثم صار رئيس أساقفة قيصرية سنة 370م. علاقته بالأساقفة كثيراً ما كانت موجعة، ذيانوس الضعيف وقّع دستور إيمان هرطوقياً فقطع باسيليوس الشركة معه لبعض الوقت. وإفسطاثيوس الذي أسامه كاهناً اصطدم به مرات. فعاد باسيليوس إلى إيبورا. وقد راودته فكرةو الوقوف في وجه الأسقف، وحتى مقاومته، لكن كان لصديقه القديس غريغوريوس اللاهوتي دور المهدئ فسكت ولو على مضض. وما لبث إفسافيوس الأسقف أن استدعى باسيليوس من جديد لحاجته إليه إثر تولي والنس الآريوسي السلطة (365م). القديس غريغوريوس اللاهوتي توسط فكتب لبسيليوس قائلاً: “عجل بالرجوع إلى قيصرية. الأسقف يبدي نحوك العواطف الكريمة المتوسلة.. اعداء الإيمان القويم ينشطون.. الحقيقة في خطر”.
توفي افسافيوس سنة 370م وانطرح موضوع خلافته. حميت المعركة. الآريوسيون كانوا أقوياء، والفريق الأرثوذكسي مشتت، غريغوريوس الشسخ والد غريغوريوس اللاهوتي لعب دوراً بارزاً، رشح باسيليوس. إحدى المآخذ على باسيليوس كانت أنه مريض، لا بل معتل الصحة، فسأل غريغوريوس الشيخ المعارشين: ما المطلوب؟ أسقف أم مصارع! ثم القداسة واعتلال الصحة يسيران يداً بيد! على هذا النحو ربح باسيليوس المعركة، وصار رئيس أسقفة قيصرية الكابادوك، ولكن كانت بانتظاره معارك، معركة الفساد في صفوف الكهنة كانت إحداها.
سنة 368م وباسيليوس كاهن، حلّت بقيصرية الفواجع. ضربتها عواصف البَرَد ثم جاء الطوفان، ثم الهزات الأرضية، فالجفاف. باسيليوس تحدث عن الطوفان الذي تخطى كل الحدود. شحّت المواد الغذائية وانقطع الاتصال بالمقاطعات المجاورة فخصلت المجاعة. كل سكان المدينة كانوا مرضى. انبرى باسيليوس لعمل الرحمة بلا هوادة. باع ما كان يمكن بيعه من أملاك تركها له والداه واشترى بثمنها طعاماً للجائعين. نظّم مخزناً شعبياً جمع فيه ما تيسّر له من أغذية وثياب. أخذ يوزعها بنفسه على البائسين والفقراء والمسنين. كان يطعم الجائعين بيديه ويغسل أقدامهم ويطوف على المرضى والمحتاجين بثيابه السميكة المغبّرة في عزّ حر شهر آب. كذلك رفع صوته في مواعظ ألعبت النفوس أكثر مما ألعبت الشمس الأبدان. وإلى تلك الفترة تعود أهم مواعظه في شأن العناية بالفقراء.
بقي الصراع بين باسيليوس ووالنس الإمبراطور الآريوسي خفياً لبعض الوقت. ثم في السنة 371م أصدر الإمبراطور مرسوماً بتجزئة قيصرية إلى قيصرية ألأولى وقيصرية الثانية. همّه كان إضعاف باسيليوس، لا بل سحقه. لهذا فقد قديسنا العديد من أسقفياته بعد أن كانت قيصرية تعد خمسين أسقفاً وتمتد ولايتها على إحدى عشرة مقاطعة. وقد ردّ باسيليوس بأن رفّع عدداً من كنائس القرى إلى أسقفيات وجعل عليها بعضاً من المقربين إليه أمثال صديقه القديس غريغوريوس اللاهوتي، وأخيه القديس غريغوريوس النيصصي. وقد كانت المعركة على أشدها ضدّه إذ كان عليلاً طريح الفراش شهرين من الزمن يشكو الغثيان والأوجاع المبرحة في الكبد والأرق والوهن.
ثم العام التالي 372م أوفد والنس عامله موذستوس، حامل لقب كونت المشرق، ليعرض على باسيليوس إما الإذعان للهرطقة الآريوسية أو التخلي عن الإدارة الكنسية. وقائع الحوار بين الرجلين حفظها القديس غريغوريوس اللاهوتي في مقالته 43 وفي مقالة القديس غريغوريوس النيصصي الأولى ضد أفنوميوس. مما جاء فيه:
– موذستوس: كيف تجرؤ يا باسيليوس على تحدّي سلطاننا العظيم؟ كيف تجرؤ على الوقوف في وجهنا وحيداً؟
+ قديس باسيليوس: ماذا تعني؟
– موذستوس: تعرف تمام المعرفة ماذا أعني. الجميع رضخوا، إلا أنت، للديانة التي يأمر الإمبراطور باتباعها.
+ قديس باسيليوس: إمبراطوري أن يمنعني من اتباعها. لا أستطيع أن أعبد الخليقة. وأنا خليقة الله ومدعو إلى الاشتراك في حياته!
– موذستوس: من تظننا نكون، إذن؟ لا شيء؟!
+ قديس باسيليوس: أنت حاكم وأحد البارزين، لكني لا أكرمك أكثر مما أكرم الله.
– موذستوس: أتعلم ماذا بإمكاني أن أفعل بك؟ أما تخاف من سلطاني؟
+ قديس باسيليوس: ماذا بإمكانك ألأن تفعل؟
– موذستوس: بإمكاني أن أصادر ممتلكاتك وأنفيك وأحيلك على التعذيب وأنزل بك عقاب الموت!
+ قديس باسيليوس: أهذا كل شيء؟ لست أبالي به! لا يمكنك أن تصادر مقتنياتي لأني لا أملك شيئاً. إلا إذا كنت تريد ثوبي العتيق هذا أو الكتب القليلة التي في مكتبتي. والنفي، ماذا يضرني؟ حيثما حللت في أرض الله هناك يكون منزلي! لا يمكنك أن تنفيني من نعمة الله. والتعذيب لا ينال منّي لأنه ليس لي بعد جسد يحتمل التعذيب. ضربة واحدة ويأتيني الموت. أما الموت فمرحى به لأنه يأتي بي سريعاً إلى حضرة الله المباركة. وإنني لأحسب نفسي ميتاً واتعجل الوصول إلى القبر.
– فتعجب موذستوس وتحير جداً وأجاب: لم يجسر أحد قبل اليوم على مخاطبتي بهذه اللهجة!
+ قديس باسيليوس: ربما لأنك لم تلتقِ أسقفاً قط. وإلا لكلمك بالطريقة التي كلمتك بها. نحن الأساقفة قوم ودعاء مسالمون لأن شريعتنا تأمرنا بذلك. ونحن كذلك لا مع الرؤساء وحسب بل مع كل الناس بلا استثناء. ولكن في سبيل الله لا نحسب حساباً لشيء، لا للتعذيب ولا للموت. فالتعذيب يقوّي عزيمتنا. أهِنّا، هدّدنا، افعل ما يحلو لك. مارس سلطانك علينا! ولكن ليسمع الإمبراطور كلامي جيداً! لن تقنعنا أبداً بالانضمام إلى قوى الإثم مهما بلغ تهديدك لنا!
فعاد موذستوس إلى والنس الإمبراطور وقدّم له تقريراً بشأن القديس باسيليوس: “لقد دحرنا هذا القائد الكنسي. إنه فوق التهديد وأثبت من كل حجة وأقوى من كل إقناع.
ولم يستسلم والنس. عاد بعد حين فأرسل أحد أبرز جنرالاته، تيرنتيوس، عساه بالإطراء والمديح والكياسة والكلام المليح يستميله إليه فباءت محاولته بالفشل.
ذيموستينوس الخصي، مهجعي الملك وأمين مطبخه كان له، هو أيضاً، دور في محاولة إقناع القديس باسيليوس. هذا كانت له شهرة إيجاد الحلول السريعة للمسائل الشائكة. حاول ان يكلم القديس باللاهوت فبدى مضحكاً. شهر سيفاً في وجهه وهدّده بانتزاع كبده، فأجابه القديس بابتسامة: ليتك تفعل، إذن لخلّصتني من الألم الذي أشعر به في كبدي!
ثم أن والنس في أوائل العام 373م جاء بنفسه إلى كنيسة القديس باسيليوس فقابله قديسنا. وكان مع الملك ذيموستينوس الآنف الذكر. لم يسع ذيموستينوس أن يحفظ الصمت ولا بدا كأنه تعلم درساً من محاولته الأخثيرة، فأخذ يجادل في مسائل اللاهوت. كان القديس هادئاً وذيموستينوس محتداً. فجأة التفت القديس ناحية الإمبراطور وقال له: يبدو أن لدينا ذيموستيوس آخر لا يعرف أن يتكلم اليونانية! فخير له، والحال هذه، أن يهتم بصلصاته!
بعذ ذلك عزم الإمبراطور على نفي القديس. ولكن، ثلاث مراحل حاول أن يوقع أمر نفيه وثلاث مرات انكسر قلمه. في المرة الثالثة جاءه خبر أن ولده غلاتيوس، البالغ من العمر ست سنوات، يحتضر. وقد أرسلت إليه زوجته تقول له: أتعلم لماذا يحتضر ولدنا؟ لأن إيمانك بالله غير مستقيم ولأنك تضطهد رجل الله! فأرسل والنس في طلب باسيليوس وقال له: إذا كان إيمانك مرضياً لله فاسف ولدي بصلواتك! فأجاب القديس: إذا كنت تنضم إلى جماعة الرأي القويم (الأرثوذكسيين) يحيا ولدك. فوافق الملك. وكان أن رفع باسيليوس يديه وصلّى فمن عليه الرب الإله بشفاء ابن الملك. فسُر الملك سروراً عظيماً لكن قلبه لم يكن نقياً. ولما جاء الآريوسيين ليعمدوا الصبي، بعد حين، مات بين أيديهم. فقط في السنوات الأخيرة من عمر القديس باسيليوس لم يعد والنس يزعجه.
من الأعمال الملفتة التي أطلقها القديس باسيليوس، أسقفاً، المدينة الباسيلية التي أقامها عند مدخل مدينة قيصرية، والتي يبدو أن عجلتها بدأت في الدوران ابتداء من منتصف السبعينات من القرن الرابع الميلادي. المشروع كان مجمعاً ضخماً ضمّ مستشفى ومدارس مهنية ودوراً للأيتام وملاجئ للبرص وفنادق وكنائس، عدا بيوت الأطباء والعاملين. كانت الباسيلية مدينة للفقراء والمرضى والحتاجين. القديس باسيليوس وظّف، في المكان، معلوماته الطبية التي سبق له أن حصلها في أثينا وغير مكان. وقد ورد أنه كان يضمّ البرص إلى صدره.
ورد عن القديس باسيليوس أأنه كان طويل االقامة، نحيف الجسم، ناشف القسمات، أصفر اللون، نظراته تأملية، أصلع الرأس تقريباً، ذا لحية طويلة. كان بطيئاً في الكلام. كثير التفكير، خجولاً يتحاشى الجدل العلني، جرئياً، شجاعاً عندما يلتزم الدفاع عن قضية عادلة، محباً للعزلة والصمت. يتمتع بالقدرة على ضبط النفس. يحافظ على هدوئه وبروده أعصابه. ذو أدب جم ومتوازن في التصرف. يبتسم عندما يرضى بالأمر ويسكت عندما يرفض.
كانت حياته قاسية فكان يرقد على الأرض ويلبس قميصاً خشناً ويتمنطق فوقه بمنطقة من جلد ويقضى الكثير من لياليه ساهراً في الصلاة والتأمل، كان يحتمل البرد القارس ، ولا يُوقد ناراً إماتة لجسده، ولا يأكل الاَّ مرة واحدة في النهار، ويكتفي بالخبز والماء، ولا يأكل البقول الاّ في أيام الأعياد.
هذا وقد ورد أنه فقد أسنانه في حدود السادسة والأربعين. وكانت أوجاع بدنه عارمة لدرجة أنه من سن الثلاثة والأربعين كان أعجز عن الإتيان بأية حركة من دون وجع.
على أن نفسه كانت قوية. لذلك كان يعمل بشكل شبه متواصل. يكتب ويملي ويزور الكنائس ويقارع أعداء الإيمان ويدافع عن الأرثوذكسية.
بعض ما كتب: عندنا منه شروحات على “ستة أيام الخلق”. وله شرح للمزامير، ومواعظ إيمانية، ومواعظ عن عدد من القديسين كالأربعين شهيداً. وثمة مقالة له عن الروح القدس ورسائل تبلغ الثلاثمائة والخمساً والستين عدداً. وله أيضاً إصلاحاته الليتورجية وقوانينه الرهبانية. وكذلك تنسب له خدمة الليتورجية الإلهية “قداس باسيليوس” التي تخدجم عشرة مرات في السنة.
بعض أخباره: جاءت إلى القديس مرة امرأة فقيرة ظلمها موظف حكومي عساه ان يتوسط لديه لأنها حسبت أن الموظف كان يكن له احتراماً كبيراً. فأخذ القديس ورقه وكتب إلى الرجل الرسالة التالية: هذه المرأة الفقيرة حضرت أمامي قائلة أن رسالة مني تعني لك الكثير. فإذا كان الأمر كذلك فهات على ذلك برهاناً وارأف بهذه المرأة الفقيرة”. أخذت المرأة الرسالة وسلّمتها للموظف. فلما قرأها أجاب عليها بالكلمات التالية: تصديقاً لما ورد في رسالتك، أيها القديس، فإني أرغب في إظهار الرحمة في شأن هذه المرأة لكني لا أستطيع لأنها ملزمة بدفع الضريبة العامة. فكتب إليه القديس من جديد: حسن إنك ترغب في إظهار الرحمة حيال هذه المرأة ولا تقدر. ولكن إن قدرت ولم ترغب في ذلك فإن الله سوف يحصيك مع المعوزين حتى لا تقوى على فعل ما ترغب أنت فيه. ولم يمضِ وقت طويل على الرسالة حتى بلغ الإمبراطور ظلمة للناس فغضب عليه وأخذ وظيفته منه وسجنه.
باسيليوس وإفرام: سمع القديس أفرام السرياني، وهو في الصحراء، عن القديس باسيليوس فأخذ يصلي إلى الله أن يريه أي نوع من الرجال يكون. وإن هي سوى أيام قلائل حتى رأى، في انخطاف، عموداً من نار رأسه في السماوات، وسمع صوتاً يقول له: أفرام، أفرام كما ترى هذا العمود الناري كذلك باسيليوس. فقام أفرام لتوّه إلى قيصرية آخذاً معه مترجماً ينقل الكلام إلى السريانية لأنه كان لا يعرف اليونانية. فلما وصل هناك، وكان عيد الظهور الإلهي، دخل الكنيسة فعاين باسيليوس في أبهة عظيمة فقال في نفسه: أتُرى تعبنا في المجيء عبثاً؟! كيف يمك لهذا المتجلبب بالمجد والكرامة أن يكون عموداً نارياً؟!
في تلك الأثناء، عرف باسيليوس بالروح بحضور أفرام فبعث إليه برئيس شمامسته قائلاً: أخرج إلى باب الكنيسة الغربي فتجد راهباً قصير اللحية، قصير القامة، فقل له رئيس الأساقفة يدعوك. ففعل رئيس الشمامسة كما أمره باسيليوس. فلما وصل إليه، بعد لأي، قال له رئيس الأساقفة يدعوه. فأجاب أفرام: لا شك أنك تقصد أحداً آخر لأننا نحن غير معروفين عند رئيس الأساقفة وقد وصلنا لتوّنا. فعاد رئيس الشمامسة إلى باسيليوس وكان حينذاك يعظ. فإذا بأفرام يرى ناراً تخرج من فم باسيليوس متكلماً. ثم قال باسيليوس لرئيس شمامسته: عد إلى الراهب الذي رأيته وقل له: يا سيدي أفرام، أتوسل إليك أن تأتي إلى الهيكل فإن رئيس الأساقفة يدعوك! فعاد رئيس الشمامسة وقال له ذلك الكلام بعينه. فتعجب أفرام ومجد الله وسجد إلى الأرض قائلاً: حقاً أن باسيليوس كبير هو عمود من نار والروح القدس يتكلم فيه.
فلما التقى الرجلان قبّل باسيليوس أفرام وقال له: أهلاً بك يا أبنا الذي ضاعف عدد تلاميذ المسيح في البرية، وبقوة المسيح طرد منها الشياطين. لمَ تحملت كل هذه المشاق لتأتي وتنظر رجلاً خاطئاً؟ جازاك الله خيراً عن تعبك! فأفضى له أفرام بكل ما في قلبه وتناول القدسات من يده.
وكان لما جلس الاثنان إلى المائدة ليأكلا شيئاً أن سأل أفرامُ باسيليوسَ منّه قائلاً: لقد علمت أيها الأب القديس أن الله يعطيك ما تطلب. لذا أسألك أن تصلي من أجلي ليهبني المولى القدرة على التكلم باللسان اليوناني. فأجابه باسيليوس قائلاً: طلبك أكبر من طاقتي، ولكن لنصلي إلى الله عسى أن يعطيك منية قلبك لأنه قال أنه “يتمم بغية خائفيه ويسمع تضرعهم ويخلصهم” (مزمور 144: 19). فبعدما صليا طويلاً راكعين، قال له باسيليوس: مر، أيها الأب المكرم، أن نقف على أقدامنا. في تلك اللحظة بالذات أخذ أفرام يفهم اليونانية وقال هو نفسه فيها: أعضد وخلص وارحم وأقمنا واحفظنا يا الله بنعمتك. فمجد الله كل الذين كانوا حاضرين.
وبقي أفرام عند باسيليوس ثلاثة أيام. ولم يغادره إلا بعدما سامه باسيليوس شماساً وصاحبه المترجم كاهناً.
رقاد باسيليوس
رقد القديس باسيليوس الكبير في أول كانون الثاني من العام 379م عن عمر يناهز التاسعة والأربعين أو الخمسين. وقد ذكر معاصروه، أنه عندما كان ممدداً على فراش الاحتضار وضَؤلت النسمة في منخاريه، إذ بالحياة تدب فيه من جديد وكإنما قد ترك أمراً لم ينجزه ورغب في نجازه. وبالفعل فإنه امتلأ حيوية ووضع يده على بعض معاونيه وسامهم كهنة وشمامسة. ثم عاد فتمدد من جديد وأسلم الروح. كل المدينة كانت حوله. وبعدما جُعل على الكُرسي ومشى به المشيعون في موكب مهيب. أخذ الناس يدوسون بعضهم بعضاَ، وسقط عدد منهم صرعى. وقد التقى في مأتمه اليونانيون واليهود والغرباء. ولعل قوماً ظنوا أن مجيء المسيح الثانية كان على الأبواب. وقد جرت برفاته عجائب جمّة، كما قيل أن نفسه استقرت قريبة من العرش الإلهي تحقيقاً لاسمه الذي معناه الملكي.
وزعت رفات القديس باسيليوس إلى كثير من أقطار العالم، أما راحة يده فمجودة في كنيسة القيامة في القدس. أما جمجمته فموجودة في دير اللافرا الكبير في جبل آثوس المقدس.
هذا النموذج الأول للأسقف القديس في كنيسة المسيح. كان معلماً للمسكونة وقمراً للإيمان المسيحي وأباً للرهبان ومشرعاً ومعيلاً للفقراء وعناية لكل الذين وضعوا رجاءهم على الل، ومعزياً للمضنوكين وسنداً للضعفاء ومؤدباً للملوك.
لقبَّه المؤرخ ثيوذوريتس بـ”الكبير”، أمّا المجمع المسكوني الرابع فقال عنه: “باسيليوس الكبير، خادم النعمة ومعلّم المسكونة”.
تعيّد له الكنيسة في الأول من شهر كانون الثاني.
مطرانية الروم الملكيين الكاثوليك – الجليل
الموقع الرسمي الإعلامي