الصليبُ طَريقُ القِيامَة
المطران بطرس مراياتي
في مساء يوم الأحد، أحد قيامته، جاء يسوع ووقف بين تلاميذه “وأراهم يدَيه وجنبه ففرح التلاميذ لمشاهدتهم الرّبّ” (يو 20/19-20).
هكذا يصف لنا يوحنّا الرسول ترائي يسوع. وكأنّي به يجعل من جروحات المسيح دليلًا إلى حقيقة شخصيّته. فهو المسيح المصلوب الذي قام من بين الأموات وليس غيره.
ويذكر يوحنّا أنّ توما أحد الاثني عشر لم يكن معهم حين جاء يسوع. فقال له سائر التلاميذ:
“رأينا الرّبّ”. فقال لهم: “إذا لم أُبصر أثر المسمارَين في يدَيه، وأضع إصبعي في مكان المسمارَين، ويدي في جنبه، لن أؤمن”.
كان توما من أولئك الأشخاص الذين لا يؤمنون من دون أن يروا أو يلمسوا. وقد أصبحت جروحات المسيح، بالنسبة إليه، علامات فارقة.
فإن قام حقًّا، ولم تكن الترائيات ضربًا من الهذيان، فليكن كلام الفصل لآثار المسامير في يدَيه ورجلَيه والحربة في جنبه.
وهكذا كان. فجاء يسوع بعد ثمانية أيّام ووقف بين التلاميذ وقال لتوما:
“هاتِ إصبعك إلى هنا فانظرْ يدَيّ، وهاتِ يدك فضعها في جنبي، ولا تكُنْ غير مؤمن بل كُنْ مؤمنًا”. فأجابه توما: “ربّي وإلهي”.
لقد عرف توما يسوعَ وآمن بقيامته من خلال آثار جروحات الصلب وطعنة الحربة.
ويذكر لوقا الإنجيليّ أنّ يسوع قال للتلاميذ لمّا تراءى لهم: “ما بالكم مضطربين، ولِمَ ثارت الشكوك في قلوبكم؟ انظروا إلى يدَيّ ورجلَيّ. أنا هو بنَفْسي. المسوني وانظروا، فإنّ الروح ليس له لحم ولا عظم كما ترون لي”. قال هذا وأراهم يدَيه ورجلَيه” (لو 24/38-40).
ولم ينسَ يوحنّا الحبيب هذا المشهد. ولذلك نراه قد سجّله في رسالته الأُولى بقوله:
“ذاك الذي كان منذ البدء، ذاك الذي سمعناه، ذاك الذي رأيناه بعينَينا، ذاك الذي تأمّلناه ولمسته يدانا… نبشّركم به..”. (1يو 1/1-3).
من الآلام إلى المجد
لم تلغِ القيامة جروح المسيح، بل بقي جسده موسومًا بها ليؤكّد أنّ “المحبّة أقوى من الموت”.
كما أنّ آثار المسامير، وطعنة الحربة لم تشوّه منظره، بل جعلته أكثر إشراقًا. حتّى إنّ أحد اللاهوتيّين يشبّه هذه السمات “بالأوسمة التي زيّنت جسده بعد انتصاره على الخطيئة والشرّ”.
وسيحمل الفادي جراحه إلى السماء لأنّها هي التي ستكون أبلغ شاهد لشفاعته لدى الله الآب من أجل الخطأة. كما جاء على لسان بطرس الرسول: “هو الذي حَمَل خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن خطايانا فنحيا للبِرّ. وهو الذي بجراحه شفيتم” (1بط 2/24).
ومرّة أُخرى سيحمل السيّد المسيح معه جراحه يوم الدينونة العظيم، الذي فيه يأتي ليدين الأحياء والأموات ويجازي كلّ واحد بحسب أعماله!
وقد أطلق الفنّانون العنان لمخيّلاتهم في رسم صُوَر المسيح الديّان العادل. فنجد في جميع لوحاتهم آثار الجروح في يدَيه وجنبه تأكيداً لهذه الحقيقة اللاهوتيَّة: إنّه لولا العذاب لما كان الفداء، ولولا إكليل الشوك لما كان إكليل المجد.
فبهذه السمات سيُعرف المصلوب القائم عن يمين الآب في السماء، والممجَّد من سائر الملائكة السماويّين. وسماته هذه لن تكون الشاهدة على قسوة الإنسان، بقدر ما تكون الشهادة على أنّ يسوع، من خلال الألم والمعاناة، قد حقّق الخلاص والفداء، وأقام البَشَريَّة إلى حيـاة جديدة.
وهكذا، شرح المسيح نَفْسه حقيقة هذا الأمر لمّا قال لتلميذَي عمّاوس: “يا قليلَي الفَهم وبطيئَي القلب عن الإيمان بكلّ ما تكلّم به الأنبياء. أما كان يجب على المسيح أن يعاني تلك الآلام فيدخل في مجده؟” (لو 24/25-26).
ومثلما دخل يسوع بآلامه إلى المجد، هكذا كان نصيب رُسُله من هذه الآلام التي أصبحت دالّتهم لدخولهم، هم أيضًا، إلى المجد السماويّ.
“فما كان الخادم أعظم من سيّده” (يو 15/20).
ولا يزال نصيب الآلام، حتّى يومنا هذا، طريق المؤمن إلى ملكوت السماوات.
“لأنّنا إذا شاركناه في آلامه، نشاركه في مجده أيضاً” (روم 8/17).
فكم من الجروحات نعاني، الجسديَّة منها والنَفْسيَّة، المادّيَّة منها والمعنويَّة، حتّى من أقرب الأقرباء وأعزّ الأصدقاء؟!..
فهذا يجرحنا في كرامتنا وذاك يؤذينا في عملنا، وهذا يعيبنا في غيابنا وذاك يشوّه سمعتنا، وهذا ينسى معروفنا وذاك يفرّق بيننا،
وهذا يسلب أموالنا وذاك ينكر علينا حقّنا.. فالعين تدمع والقلب يدمى والأعصاب تنهار والجسم يتداعى..
نحن أيضًا سنحمل معنا إلى يوم الدِين جميع هذه الجروحات وسيعرفنا الله من خلالها. “أرني جراحك”، سيقول لنا الربّ الديّان. وسننال المكافأة إذا كنّا حوّلنا ما حلّ بنا إلى ينابيع نُور وصبر ومسامحة وتكفير.
لم يأتِ المسيح لينهي الألم ويزيل الجروح، بل جاء ليعلّمنا كيف نتغلّب على الألم ونجعل منه طريقاً إلى الملكوت. وكيف نداوي الجراح بزيت الغفران وبلسم المحبّة.
كما يقول بطرس الرسول: “فلهذا دُعيتم، فقد تألّم المسيح أيضاً من أجلكم وترك لكم مثالاً لتقتفوا آثاره” (1بط 2/21).
والأثرُ الأكبر الذي تركه لنا محبّتُه الكُبرى التي أوصلته إلى بذل ذاته على الصليب. وقد طلب إلينا أن يحبّ بعضنا بعضًا، كما أحبّنا هو، لننتقل معه من الموت إلى الحياة. يوضح ذلك القدِّيس يوحنّا في رسالته الأُولى قائلًا: “نحن نعلم أنّنا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأنّنا نُحبّ إخوتنا. مَن لا يحبّ بقي رهن الموت” (1يو 3/14).
من الحزن إلى الفرح
ما يشدّ الانتباه في حادثة ظهور يسوع لتلاميذه أنّهم فرحوا لمشاهدته بعد أن أراهم يدَيه وجنبه.
فلم يكن فرحهم بخبر القيامة بقدر ما كان الفرح بشخص القائم من بين الأموات الحامل علامات الصليب.
وهذه إشارة إلى أنّ العذاب ليس طريق المجد وحسب، بل هو أيضاً طريق الفرح إذا ارتضيناه مع المسيح ومن أجله. كما أنّ الرُسُل انصرفوا من المجلس فرحين بأنّهم وُجدوا أهلاً لأن يُهانوا من أجل اسم يسوع (رُسُل 5/41).
يدعو بطرس الرسول إلى فرح الاشتراك في عذابات المسيح:
“افرحوا بقدر ما تشاركون المسيح في آلامه حتّى إذا تجلّىكنتم في فرح وابتهاج” (1بط 4/13).
ويعبّر بولس الرسول عن فرحه بالعذابات التي يتحمّلها: “يسرّني الآن ما أعاني لأجلكم فأتمّ في جسدي ما نقص من شدائد المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة” (قول 1/24)، “قد امتلأت بالعزاء وفاض قلبي فرحًا في شدائدنا كلّها” (2قور 7/4).
ويُشيد بولس أيضاً بكنائس مَقْدونِيَة التي “مع كثرة الشدائد التي امتحنوا بها قد فاض فرحهم العظيم” (2قور 8/2).
وقد أنبأ السيّد المسيح بهذا الفرح الناتج من العذاب لمّا قال لتلاميذه في أثناء العشاء الأخير:
“الحقّ الحقّ أقول لكم: ستبكون وتنتحبون، وأمّا العالَم فيفرح. ستحزنون، ولكنّ حزنكم سينقلب فرحاً. إنّ المرأة تحزن عندما تلِد لأنّ ساعتها حانت. فإذا وضعت الطفل لا تذكر شدّتها بعد ذلك لفرحها بأنْ قد وُلِدَ إنسان في العالَم. فأنتم أيضاً تحزنون الآن ولكنّي سأعود فأراكم فتفرح قلوبكم وما من أحد يسلبكم هذا الفرح” (يو 16/20-22).
عندما يُطلب إلى المؤمن أن يفرح، حتّى في عذاباته، لا يعني ذلك إنكار الإحساس البَشَريّ والشعور الإنسانيّ، أو الاستكانة الراضخة لصروف الدَهر وأنواء القدر، أو التلذّذ المرضيّ بالألم والتعبّد الخاطئ بإذلال الجسد.
إنّما الفرح في العذاب عند المؤمن يأتي من التسامي فوق الألم، فلا يرزح تحت وطأته، بل يجعله بابًا للدخول في المجد السماويّ فإنّ
“آلام الزمن الحاضر لا تعادل المجد الذي سيتجلّى فينا” (روم 8/18).
ويفرح المسيحيّ في عذاباته لأنّه يتمثّل بالمسيح الذي تحمّل الآلام والصليب.
فمَن لا يحمل صليبه كلّ يوم ويتبعه ليس أهلًا له (متّى 10/38). ومَن يتشبّه به لا بدّ من أن يقوم معه لحياة خالدة، كما يقول بولس الرسول: “فأتمثّل به في موته، لعلّي أبلغ القيامة من بين الأموات” (فل 3/10-11).
كما أنّ الفرح في العذاب ينتج من قناعة المؤمن بأنّ الله يمتحن إيمانه كما يُمتحن الذهب في النار. فيظلّ على يقين بالفوز بالخلاص، ممّا يجلب له فرحًا لا يوصف هو مقدّمة فرح المجد الأبديّ (1بط 1/3-9)
“فأنتم تعلمون أنّ امتحان إيمانكم يلد الثبات، وليكن الثبات فعّالًا على وجه كامل، لتكونوا كاملين سالمين لا نقصَ فيكم” (يع 1/3 و4).
من الخوف إلى السلام
أمّا الأمر اللافت الثاني في ظهورات يسوع لتلاميذه بعد قيامته أنّه يُبادرهم بالسلام: “السلام عليكم”.
ثلاث مرّات منح يسوع سلامه.
وإذا أمعنّا في الدراسة في إنجيل يوحنّا نجد أنّ حضور يسوع، في حدّ ذاته، ينبوع السلام وجوهره. فعندما يخيّم الحزن على التلاميذ في أثناء العشاء السرّيّ بسبب قرب فراق معلَّمهم، يسكّن يسوع روعَهم بقوله:
“السلام أستودعكم وسلامي أمنحكم” (يو 14/27). وبعد موته ودفنه، عندما يسيطر عليهم الخوف ويختبئون في دار ويغلقون الأبواب خشيةً من اليهود.. ها هو يحضر بينهم ليهدّأ اضطرابهم، وينفخ فيهم روحه القُدّوس، ويعطيهم السلطان على غفران الخطايا.
“السلام عليكم”.
تحيَّة ردّدها يسوع أكثر من مرّة ليعلّمنا أنّنا بالسلام نستطيع أن نقهر الشرّ ونمحو الخوف ونـزرع الوفاق.
قولوا: “السلام عليكم”.. قولوها لكلّ قريب وبعيد…..
قولوها مع المسيح القائم من بين الأموات. “وأيّ بيت دخلتم، فقولوا أوّلًا: السلام على هذا البيت. فإن كان فيه ابن سلام، فسلامكم يحلّ به، وإلاّ عاد إليكم” (لو 10/5 و6)، كما أرشدنا السيّد المسيح.
خاتمة ودعاء
قد يتساءل بعضكم: كيف نتداول معاني الفرح والسلام.. ونحن نعيش في ظروف لا فرحَ فيها ولا سلام؟!..
كيف نفرح.. وأطفالٌ في العراق وفلسطين لا يعرفون في هذه الأيّام طعم العيد؟!
كيف نتحدّث عن السلام.. ولا تزال أبواب كنائسنا في العراق وفلسطين موصدةً يحاصرها الغزاة والمحتلّون؟!
مَن لا يشعر بالأسى العميق، لدى مشاهدته مظاهر القتل والتهجير والتدمير، التي توقعها الأسلحة الفتّاكة بالناس الذين خلقهم الله لينعموا، في دنياهم، بالعيش الكريم والطمأنينة والسلام؟!
ومَن لا يتألّم عندما يرى، عبر وسائل الإعلام المرئيَّة، أولادًا وشبّانًا بترت القنابل المُحرِقة بعضًا من أعضائهم، فحُكم عليهم بأن يعيشوا معاقين ما امتدّت أعمارهم؟!
ومَن لا يتأثّر لبكاء الأُمّهات ونحيب الأرامل، وقد فقدنَ أطفالاً ورجالاً، ودُمّرت منازلهنّ فوق رؤوسهنّ.. والعـالَم ينظر وما من مكترث، ودعاة السلام يستنكرون وما من مجيب؟!
لن تكون للحقد ولا للعنف ولا للدماء والموت الكلمة الأخيرة..
إنّنا نريد في هذه الأوضاع الخاصّة أن نـزفّ إلى كلّ مَن يعيش في المحنة رسالة القيامة.
فالفرح يولد في الشدّة، والسلام يحلّ في أوقات المِحن، مثلما أنّ النُور وُلِدَ من جوف القبر، والحياة انتصرت على الموت، والأمل غلب الألم.
Discussion about this post