
ماذا تريدني أن أفعل بإنجيلك؟
قصة للمنفعة الروحية
روى لنا أحد الرهبان ما جرى له مع أحد الضبّاط قائلاً:
“جلسنا حول مائدة الطعام وبدأ الضابط قصّته، فقال: “أخدم، منذ شبابي، في الجيش، إلاّ أنّي لم أتواجد في الثكنة ولا يوم مع العلم بأنّي كنت عليمًا بدقائق الخدمة، ما جعل رؤسائي يعتبرونني عسكريًّا نموذجيًّا. اعتدت معاقرة الخمرة، وتعاطيتها إلى درجة سبّبت لي المرض، فإذا ما شربت منها، حتّى القليل القليل، كان عليّ ملازمة الفراش مدّة أسابيع. واحتملني رؤسائي طويلاً، غير أنّهم أنزلوا رتبتي آخر الأمر لإهانتي أحد رؤسائي أثناء سكري، وهُدّدت بعقاب صارم إن لم أُقلع عن الشرب.
عبثًا حاولت أن أمتنع عن المسكر، فلم أستطع التخلّص من عادتي الذميمة، فتقرّر إرسالي إلى الفرق التأديبيّة. وبينما كنت، ذات يوم، جالسًا في المهجع إذا براهب قادم، يجمع الهبات والتبرّعات لكنيسة من الكنائس. وكان كلّ من الحاضرين يعطي ما تيسّر، ولمّا وصل قربي سألني: “لماذا أنت حزين؟”. فحكيت له مصيبتي. أشفق الراهب على حالي وقال لي:
– حدث لأخي الأمر نفسه، غير أنّه تخلّص من عادة الشرب، إذ أعطاه مرشده الروحيّ إنجيلاً، وأوصاه بأن يقرأ منه فصلاً كلّما راودته شهوة الشراب، وإن عاودته الرغبة، كان عليه قراءة الفصل التالي. وعمل أخي بهذه النصيحة، فلم يمضِ عليه وقت طويل حتّى تخلّى عن عادته. وها قد انقضى خمسة عشر عامًا دون أن يذوق المسكر البتّة. فافعل أنت ما فعل وسترى ما تجتنيه من فائدة. لديّ إنجيل، وسأعطيك إيّاه إن أردت.
– ماذا تريدني أن أفعل بإنجيلك؟ أتراه أجدى نفعًا ممّا بذلت من جهود وما استعملت من وسائل طبيّة لتمنعني عن الخمرة؟
– لا تتكلّم هكذا. أؤكّد لك أنّك ستجد فيه النفع الجزيل.
ثمّ أعطاني الراهب هذا الإنجيل الذي ترى. فتحته وقرأت منه بضع جمل وقلت للراهب:
لا حاجة بي إلى إنجيلك، فلن أستطيع قراءته وهو مكتوب بلغة الكنيسة الصعبة الفهم. استمرّ الراهب يحضُّني على قراءة الإنجيل قائلاً:
“إنّ في كلماته قوّة عجيبة، فالله نفسه هو الذي نطق بالكلام الذي نراه فيه مطبوعًا. لا بأس ألاّ تفهم الآن. عليك أن تقرأ بانتباه، فلقد قال أحد القدّيسين:
‘إن كنت لا تفهم كلام الله، فالشياطين تفهم ما تقرأ وهم له يرتعدون’ (يعقوب 19:2).
وقال القدّيس يوحنّا فم الذهب: ‘إنّ البيت الذي فيه إنجيل ترهبه قوى الظلام، ويشكّل عقبة تُحبط مساعيهم الشرّيرة’.
أخذت الإنجيل، ودسسته في خزانتي، ثمّ نسيته تمامًا. ومضى بعض الوقت، وعاودتني شهوة المسكر وألحّت عليّ، فألقيت نظري على الإنجيل، وتذكّرت، فجأة، كلّ ما قاله الراهب لي، ففتحت الكتاب وجعلت أقرأ الإصحاح الأوّل من إنجيل القدّيس متّى. قرأته حتّى النهاية دون أن أفقه منه شيئًا، لكنّي تذكّرت ما قاله لي الراهب. فقلت لنفسي:
“لِمَ لا أقرأ فصلاً آخر؟”، فبَدَتْ لي معانيه واضحة. قلت:
“فلنقرأ الفصل الثالث”. وما بدأت بقراءته حتّى تعالى صوت الخفير إشارةً إلى أنّ الليل قد حلّ، فلا يُسمح بعد بمغادرة الثكنة. فبقيت، يومها، دون أن أشرب مسكرًا.
وفي صبيحة الغد، كنت مزمعًا على الخروج لشراء الخمرة، فقلت في نفسي:
“ماذا لو قرأت فصلاً من الإنجيل؟ دعنا نجرّب”. وقرأت فصلاً وبقيت في الثكنة. وفي اليوم الثالث، ثارت فيّ رغبة الشرب أيضًا، غير أنّي أخذت أقرأ فشعرت بالراحة، واطمأنّ بالي لذلك. فكنت كلّما استيقظت نزوتي، أقرأ فصلاً من الإنجيل، وتحسّنت حالي مع مرور الزمن، وما إن أنهيت الأناجيل الأربعة، حتّى عدت لا أميل إلى معاقرة الخمرة أدنى ميل، فصرت تجاهها كأنّي من حجر. وها قد مضى الآن عشرون عامًا لم أذق خلالها طعم شراب مسكر.
ذهل الجميع للتغيّر الذي طرأ عليّ، فأُعدت إلى رتبتي السابقة كضابط بعد مرور ثلاث سنين، ثم رُقّيت فأصبحت رئيسًا. وتزوّجت، ووفّقني الله بامرأة صالحة ادّخرنا سويّة بعض المال ما جعلنا نساعد الفقراء ما بوسعنا. وقد قطعت على نفسي عهدًا منذ شفائي:
أن أقرأ كلّ يوم أحد الأناجيل الأربعة بأكملها على مدى العمر دون أن أقبل التذرّع بأيّ عائق يعيقني عن القراءة، وأنا على العهد مقيم. فحين تتكاثر عليّ المشاغل وأُحسّ بالتعب الشديد، أستلقي في فراشي، وأطلب إلى زوجتي أو إلى ابني قراءة الإنجيل، فلا أحيد، هكذا، عن الخطة التي رسمتها لنفسي. وقد جلّدت هذا الإنجيل بدفّتين من الفضّة، وأنا أحمله، دائمًا، في جيب سترتي عرفانًا بجميل الله عليّ وتمجيدًا لاسمه القدّوس.
No Result
View All Result