
المعمودية المقدّسة وإيمـاننــا
في يوم من أيّام الآحاد وبعد نهاية القدّاس الإلهيّ إذا بسيّدة فقيرة تقدّمت وهي تحمل طفلاً صغيرًا، وطلبت منّي أن أعمّد لها الطفل لأنّه مريض وهي تخشى أن يموت دون أن ينال بركة المعموديّة. كنت يومها حديث العهد بالكهنوت، فوجّهت المرأة إلى الكاهن الآخر، وكان يعمل معي في نفس الكنيسة، علّه يخلّصني من هذا الموقف إذ لم يسبق لي أن عمدت. نظر إليّ الكاهن نظرة استغراب وقال لي: “عمّده. حتّى متى ستبقى خائفًا؟”.
نظرت إلى الطفل فإذا هو شبه ميت شاحب اللون، وعيناه مغمّضتان متورّمتان، ويتنفّس بصعوبة بالغة. والحقّ يقال إنّني خفت وخشيت أن أعمّده، فإن كان الآن يتنفّس هكذا بصعوبة، فماذا يكون حاله عندما يُغطَّس في ماء المعموديّة؟ وتخيّلت أنّه سيموت بين يديّ. فقلت للكاهن: “أنا لا أستطيع، فالطفل لا يحتمل، وأنا خائف”. فردّ عليّ الكاهن بتعجّب:
“وهل ممكن أن يموت طفل أثناء المعموديّة؟ عمّده يا أخي ولا تخف فنعمة الله هي الفاعلة”.
صلّيت على الطفل مرغَمًا، وكنت بين الحين والآخر أنظر إليه لأرى إن كان لم يزل حيًّا. انتهيت من الصلوات، وكنت في داخلي أصلّي لكي يمدّني الربّ بالقوّة والإيمان ويطرد عنّي الخوف.
بعد جحد الشيطان، ثمّ الإقرار بالمسيح، دهنت الطفل بالزيت وأتممت الصلوات المعروفة. ثمّ أخذت الطفل من يد أمّه بحرص شديد، وأنزلته جرن المعموديّة وأنا أقول يعمّد عبد الله فلان… ثمّ غطّسته بسرعة في الماء المقدّس وانتشلته وأنا أقول لنفسي هل ما زال حيًّا؟ وإذ رأيته يشهق ويتنفّس شكرت الله وتقوّيت أكثر.
دهنته بالميرون المقدّس، ثمّ ناولته الأسرار الطاهرة بعد أن ألبسته ثياب المعموديّة، وأنا أنظر إلى هذا الطفل الذي بدا بعد المعموديّة منيرًا وقد زال الاصفرار عنه، وعاد طبيعيًّا.
ما إن انتهيت من المعموديّة حتّى وافاني الكاهن وهو يبتسم وسألني:
– هل عمّدت الطفل؟
– نعم، إنّها أوّل خبرة لي في مثل هذه الحالات. سامحني أيّها الأبّ، فإنّ قلّة إيماني جعلتني أعتقد بأنّ الطفل لن يتحمّل التغطيس وهو على هذه الحالة من صعوبة التنفّس.
– لا بدّ أن يكون لنا، نحن الكهنة، إيمان عميق وقويّ بفاعليّة الأسرار المقدّسة. أليست المعموديّة قيامة؟ فنحن نُدفن للموت حتّى كما أقيم المسيح من الأموات نقوم نحن في الحياة الجديدة. اسمع ما جرى معي ذات يوم: جاءني والدان غنيّان يحملان طفلة حديثة الولادة يريدان أن يعمّداها، وفي هذه الأثناء، وبينما كنت أصلّي على المياه، وافت أرملة فقيرة تحمل طفلها، وطلبت منّي أن أعمّده، فقبلت طلبها. ولمّا خلعت المرأة الفقيرة ملابس ابنها إذا بجسمه مملوء دمامل، فتأفّفت الأمّ الغنيّة من المنظر، وقالت لي: “لا يمكن أن أعمّد ابنتي مع هذا الطفل، لئلا يصيبها هذا المرض”. حاولت إقناعها أنّ للأسرار المقدّسة قوّة إلهيّة فائقة، فلم تقتنع، وأصرّت أن تُغطَّس ابنتها أوّلاً في جرن المعموديّة. وهكذا كان إذ عمّدت البنت أوّلاً ثمّ الولد الفقير، وأنا أتأسّف في داخلي على قلّة الإيمان والنظرة المادّيّة للأسرار. وفي الأسبوع التالي حضرت الأرملة مع طفلها وقد تعافى تمامًا، بينما جاءتني المرأة الغنيّة تشتكي من أنّ صحّة ابنتها ليست على ما يرام. فأريتها الطفل الفقير وقلت لها: “بسبب قلّة إيماننا لا نحصل على كثير من النعم. انتبهي، يا سيّدتي، فالربّ بنعمته الإلهيّة الكائنة في الأسرار يشفي ويبرئ، ويقيم حتّى من الأموات”.
تأثّرت جدّاً من كلام الكاهن، وتمنّيت لو أرى الطفل الذي عمّدته. ولقد حقّق لي الربّ أمنيتي إذ بعد أسابيع إذا بالسيّدة الفقيرة أمامي، فأسرعت إليها أسألها عن حال طفلها. لم تردّ جوابًا، بل أشارت بإصبعها إلى طفل يحبو على أرض الكنيسة، ووجهه طافح بالصحّة والبِشْرِ. حملته بين ذراعيّ، ورحت أقبّله وكأنّه ابني وأنا أكاد أطير من الفرح. لقد تبدّل الإنسان الميت، وصارت فيه قوّة حياةٍ جديدة.
No Result
View All Result