
القديس المريمي العظيم
قبل شهرين من وفاته، وبعد أن طلب المرض والموت كي لا يهين الله بأصغر خطيئة، كتب القديس “غبريال لسيّدة الأوجاع” هذه الرسالة الرائعة بعنوان “حبّ مريم”، وهو في ذورة الألم جرّاء مرض السلّ، إلى أخيه ميشال، وكانت آخر رسالةٍ له:
«تذكّر دائمًا أنّ الإنسان لا يستطيع أن يخدُم سيّديَن. فالله والعالم لا يجتمعان في قلبٍ واحدٍ. يخطَأ الذين يعتقدون أنّهم سيخلُصون لمجرّد قيامهم ببعض الممارسات التقويّة والأعمال الصّالحة، في حين أنّ قلوبهم متعلّقةٌ في الوقت عينه، بالخلائق والأفراح العالميّة والإلهاءات.فقد قال يسوع المسيح: «طريق السّماء ضيّقٌ»؛ ويُضيف أنّه يتوجّب على الذي يريد أن يتبعَه، أن ينكر ذاتَه، ويحملَ صليبَه كلّ يوم.
أودُّ لو أسمَع أنّك نسيتَ كليًّا أمر المسارح وحفلات الرقص والولائم.. وأنّك أصبحتَ حكيمًا بما فيه الكفاية، لتبتعِد عن تلك المخاطر، ولو لم تكُن راهبًا. تأكَّد أنّك تُعرّضُ نفسكَ لخطرٍ عظيمٍ، عندما تتردَّد إلى تلك الأمكنة، إن لم يكن هناك حاجةٌ حقيقيّةٌ لذلك، وأنّها قمّة الوقاحة أن يترجّى المرءُ نعمة تجنّب الخطيئة، في الوقت الذي يلازمُ ظُروفها!
هل تريد شخصًا لتحبّه؟ وتحبّه بكافّة الطرق؟ ولكن من عليكَ أن تحبّ؟ إنّها مريم!
أيّة خليقةٍ أجمَل، ومحبوبةٌ أكثر، وأقدرُ من مريم؟
لا تعتقدنَّ أنَّ حبّك لمريم والتحدّث إليها والعَيش معها أمرٌ مملٌّ، خاوٍ من كلّ عذوبةٍ، لمجرّد أنّكَ لا تراها بعينَيَ الجسد. آه، كلا! فتعزيات ذاك الحبّ ولذّاتُه هي الأكثر قدرةً على إرواء القلب، حتّى أنّها تَنصُر الروح على الجسد.
وفَوق ذلك، تأكّد جيّدًا أنّك لن تجِدَ أحدًا في هذا العالم يقدرُ إعطاءَك السّعادة. فمحبّة البشر إمّا أن تكون مُتزعزعةً، وإمّا خاطئة. وإن صدُفَ أَن وجدنا شخصًا واحدًا لا تنطبقُ على مَحبّته هاتَان الصِّفتان، يمتلئُ قلبُنا مرارةً ويتمّزّق ألمًا، لمجرّد التفكير أنّنا سننفصلُ عنه يومًا ما. ولكنّ الأمر يختلفُ مع مَن يحبّ مريم! فهي مُحِبَّة وأمينةٌ وثابتةٌ، ولا تَدعُ أحدًا ينافسها بمحبّتها:
إن كنّا في خطر، تُسرع إلى نَجدتنا، وإن أصابنا مرضٌ، تسكّنُ آلامنا. وإن كنّا في ضيقٍ تعزّينا، أو في عوزٍ تأتي لمُساعدتِنا، من غير أن تفكّر في آثامنا الماضية.
بل إذا رأَت قلبًا يرغبُ في أن يحبّها، تحضُر سريعًا وتكشف له عن أسرار رحمتها، وتعانقه بشدّة إلى صَدرها، وتحصّنه وتعزّيه، حتّى أنّها تَنحَني لتخدُمه، وتتنازل لتُرافِقه في رحلته نحو الأبديّة.
وبعد ذلك، عندما تحين لحظة الموت… آه، يا أخي الحبيب! جميع الذين أحبّوا المخلوقات سيَرون كلَّ شيءٍ يزولُ من حولهم، ويجِدون أنفسهم مُجبَرين على الانفصال عن الجميع، والدخول في البيت الأبديّ الذي بَنوه بأنفسهم، وسيصرخُ أولائك البائِسون بألمٍ لا يوصَف، وبِضروبٍ من اليأس: «آه! يا أيّها الموت القاسي والمرير! هل هكذا تفصلني عن مَن لا يزالُ قلبي مُتعلّقًا بهم حتّى الآن؟» ولكن أولئك الذين أحبّوا مريم حقّ محبّةٍ فسيَبتهجون؛ سيُنادون الموت، ويتركون أهلَهم والعالمَ بلا وجعٍ، مُتيقّنين أنهّم سيمتلِكون حبّهم المقدّس، وأنّ هذا الامتلاك سيجعلُهم سُعداءَ إلى الأبد!
حاول أن تُطبّق ما أقوله لكَ، وإن لم تجِد أنّني محقّ، فلا تتردّد في إثبات ذلك. إذهبْ كلّ يوم، في الصباح والمساء إن استطعت، وزُر مزار مريم. ولكن اختَر الكنيسة التي لا يزورها الكثيرون، فيُبهجها هكذا حضورك أكثر. ضحِّ لديها ببعض أمورك الخطيرة أو الباطلة، والقِها عند قدمَيها، واحرُم نفسك، محبّةً بها، من رفقةٍ أو تسليةٍ خطرةٍ، أو من سَببِ خطيئة.
أتوسّل إليكَ، أن تتلو الورديّة كلّ يومٍ لإكرامها، وإن ألهمتكَ بأن تقوم بتضحيةٍ ما، قُم بذلك بقلبٍ مِقدامٍ، ولا تشكّ لحظةً، في أنَّ مريم ستفوقك كرمًا!».
(كتاب: هذا هو ابنكِ؛ سيرة حياة القديس غابريال لسيدة الأوجاع)
No Result
View All Result