ساعة سجود
“مِن الموتِ إلى المجد: دروبُ القيامة في قلبِ الإنسان”
١- “الموتُ مُماتٌ، والقيامةُ انبعاثٌ للمسكونة”
تأمل:
يا مَن لا يموت، كيف ذاق الموت؟ وكيف انحنى الحيّ ليُدفن في حفرة الموتى؟ أحقًا صار مَن لا يُقاس زمنًا، تحت القياس؟ ودُحرج عليه الحجر كما يُدحرج على كل مَن يفسد؟
لكن… هوذا السرُّ ينشقُّ كالصخر: فالمائت بالجسد أحيانا، والمدفون أقام المدفونين، والراقد بين الأموات أيقظ النائمين في ظلال الموت، والقائم من القبر أطلق الساقطين من حبال اليأس،
والممجد بجراحه أدخل الرجاء إلى قلوب الخائفين. ما عادت القبور صامتة، فهي تتكلم كما المذبح،
وتنطق كما الفردوس: منها انبثق الذي وضعوه، وفيها تزلزلت أبواب الهاوية! إنها لم تعد حفرة النسيان، بل بوابة الأبدية، وها هو ملاك النور، جالس على الحجر الملفوظ، يقرأ من كتاب الغفران:
“السَّلامُ لكم! لا تخافوا!”
أيُّها الصليب المرفوع، كيف جُعلتَ عرشًا للملك السماوي؟ كيف صرتَ موضع تهليل؟ لقد بُسط جسده الطاهر على خشبك، فاهتزّت الأرض، وانشقّت الصخور، وأطفأت الشمس ضياءها حياءً،
وصمتت الخليقة كأنها تنتظر الولادة الجديدة. في اللحظة التي ظنّوها سقوطًا، كانت القيامة تُنقش بأصابع الله على صفحات الزمن.
الملائكة لا تقدر أن تصمت، بل تهتف بالرّجاء، وتحلّق على القبر كما النور على المياه، تُعلن بداية جديدة، تقديسًا آخر، وعرسًا لا يُفنى. يا أيها العَروس الحَيّ، ما أبهى جمالكَ في قبرك، وما أبهى حياتكَ في موتكَ!
“سوف يأتي!” ليس وعدًا عابرًا، بل يقين الفداء. سيعود القائم في المجد، لا ليُميت، بل ليُحيي،
لا ليُديننا بالخوف، بل ليُكمّل رجاءنا بالحب. فيا من تكمّلنا بروحك، اجمع شتات أولادك، بارك المجبولين بوسم صليبك، اهدِ كنيستك من الانقسام إلى الوحدة، ومن الخوف إلى التسبيح، ومن الشتات إلى أورشليم العُليا. فمن القبر ارتفعنا، ومن الجراح تبَركنا، ومن قيامتك وُلدنا من جديد.
إليك التسبيح، في هذا اليوم وكل أيام حياتنا، إلى الأبد… آمين!
✦ صلاة:
يا مَن لا يموت، وإنْ ماتَ بالجسدِ لأجلِنا، أيُّها النورُ الّذي سَكنَ في الظلمةِ ليُضيءَ ظُلماتِنا، ها نحنُ نَسجُدُ لكَ، في صَمتِ البُخور، وفي خُشوعِ القلوب، ونَصرُخُ معَ الحَجَرِ المُدَحرَج: المجدُ لِقِيامتِكَ أيُّها الحَيّ!
يا رَبُّ، إنْ كُنّا قد رَقَدنا بالرُّوتين، فَأيقِظنا بِنَفخةِ روحِكَ. وإن كُنّا مَقبورينَ تحتَ أحجارِ خطايانا، فادحرِج عن قلوبِنا الحَجَر، كما عن بابِ قبرِكَ. يا سيِّدَ المجد، مِنك نطلبُ، لا عطايا الزَّمن، بل قيامَةً في القلب، وفرحًا لا يزول، وسَلامًا يَسكنُ الأَعماق كما سَكنَتْ كَلِمَتكَ في القَبرِ فأنبتتْ حَياة.
إحمِ كنيستَكَ، واجمعْ أبناءَكَ المُشتَّتين، واغسِلْنا من كلِّ انقسامٍ بدمِ العهدِ الجَديد. كُنْ لنا راعيًا في ليالي الشك، ونُورًا في صباحاتِ الإيمانِ المُتجَدِّد. أهِّلْنا، نحنُ وأمواتَنا، أن نَقومَ معَكَ، ونَسجُدَ أمامَ مجدِكَ، في أورشليمَ السَّماويَّة، حيثُ لا موت، ولا دموع، ولا فُرقة، بل تسبيحٌ لا يَنتهي، وحُبٌّ لا يَفنى. آمين.
(صمت…)
٢-“اشْدُدْ ذهنَكَ، واغْتَسِلْ بالمَجْد”
تأمُّل:
يا نفسُ، لا تنامي في جُبِّ الجهالة، بل شُدِّي حِزامَكِ، البسي ذهنَكَ الجديدَ كما تَلبسُ العروسُ نورًا.
إنه وقت الصحو، لا التوهان، وقت الرّجاء الكامل لا الأماني الفارغة. رَجاءٌ يُسكبُ لا مِن ذَهبٍ يَصدأ، بل مِن دمٍ نَزَفَ على خشبةٍ فصارَ حياة.
يا نفسُ، لا تَرجعي إلى ظلالِ الشهوات، تلك التي كانت تُمسِك بكِ في جُحرِ الجهل! لقد ناداكِ القدّوس، فكيف تُصوّرين ذاتكِ بيدين قديمتين؟
هو القائل: “كونوا قدّيسين…” فلا تطفئي نداءَ النار في صدرك. عيشي غُربتكِ بالمخافة، لكنْ لا كغريبةٍ خائفةٍ، بل كحبيبةٍ تنتظر وجهَ الآبِ في نور الديان العادل.
فهل نسيتِ يا نفسي أنكِ افتُديتِ؟ لا بفضّةٍ تُذيبها النيران، ولا بذهبٍ تسكنه الأرض، بل بدمٍ طاهرٍ، لا عيبَ فيه، دَمِ الحَمَلِ… يسوع.
هذا الحَمَلُ، الحيُّ قبل الزمان، صار لكِ طريقًا إلى قلبِ الله.
فيا زهرةً نبتَت من صليب، اغتسلي بطاعةِ الحق، وانمو في محبّةٍ لا تعرف الرياء، واحبّي… أحبّي من قلبٍ يفيضُ شدّةً ودفئًا. لقد وُلِدتِ ثانيةً، لا مِن ترابٍ فاسدٍ، بل من الكلمة التي لا تموت.
كلُّ عشبٍ ييبس، وكلُّ زهرٍ يَسقط، لكنّ الكلمة… تبقى. وما الكلمة إلا يسوع. وما البشارة إلا حبه. وما الرجاء إلا مجده.
صلاة:
يا قدّوس، يا مَن ناديتَني من عمقِ جهلي إلى بهاءِ قُدسك، شُدَّ أحقاء ذهني بروحك النقي، وامنحني أن أكون يقظًا في زمنِ التيهِ. لا تَدَعني أعود إلى شهواتِ ماضٍ دفنته بنعمتك، بل شكّلني على صورة الحَمَل، طاهرًا، مُحبًّا، مُنذوبًا للرجاء. يا من افتديتني لا بفضةٍ ولا بذهب، بل بالدم… بالدم الكريم…
اجعلني أعيش كمن يعرف ثمنه، ويسير في غربته كمن يرى الوطن من بعيد. أحبُّكَ، يا كلمةً لا تذبل.
وأنتظر مجيئك كما تنتظر الأرض أول النور. لتكن حياتي إنجيلًا مفتوحًا، ومحبّتي لُغةً تقرؤها السماء.
آمين.
(صمت…)
٣- “تدبيرُ المجدِ، وانحدارُ الحُبّ”
تأمُّل:
يا مَن نزلتَ إلينا لا لِتُدين، بل لِتُقيمَنا من الحُكمِ الميت. يا مَن عبرتَ إلينا لا على سُحبِ السماء،
بل على جراحِ يديك، وسجادةِ الطينِ التي خاطتْها خطواتُ الحُبّ. أَنتَ الإلهُ الذي لم يحتجِبْ في العلاء، بل احتجبَ في بطنِ عذراء، وصارَ وجهُكَ لنا وجهًا أخًا، لا نارًا، وصوتُكَ لنا حنانًا لا رُعبًا. يا كلمةَ الله، أخليتَ ذاتكَ… فامتلأَ الزمانُ بحضورِكَ، وصارَ الجحيمُ مزارًا تُمزِّق فيه الأبوابَ وتنادي المسجونين: “قُوموا!” أنزلتَ ذاتكَ إلى الموتِ فانكسرت شوكةُ الحفرة، وحملتَ جسدنا في قبرٍ لكي تُقيمَه إلى عرشِ المجد. فيا شمسَ القيامة، حين نُبخّر لكَ هذا الطيب، لا نُقدّم لكَ عطرًا من تراب، بل نُشعلُ لكَ قلوبَنا. خُذْها… اجعلها بخورًا حيًّا.
فيا من تُقيمُ الموتى بكلمة، أقِمْ رجاءنا حين يَخبو. ويا من بشّرتَ النساء عند القبر، بشّر كنائسَنا التي تنتظرُ الفصحَ في وسطِ الليل.
صلاة:
أيّها الله الكلمة، يا من خَفَضْتَ المجدَ ورفعتَ الصليب، نَعبُر إليك الآن لا بكلمات، بل بأنّاتٍ مغموسةٍ بالبُخور.
أيها الحيّ، تجسّدتَ لأجلنا، ذُقتَ الموتَ كمن يشرب الكأس طوعًا، لا لتُذهل العقول فحسب،
بل لتُبدّل القلبَ، وتجعل من العدم مجدًا. نسبّحك لأنك حرّرتَ الموتى، نشكرُك لأنك قُمتَ ولم تتركنا في الحُزن، نُبخّر لك لأنّك تستحقّ الرائحةَ الطيّبة، فأنتَ وحدكَ، يا مَن وهبتَنا الغَلَبَة،تستحقّ المجدَ… لا في هذا العيد فقط، بل في كلِّ لحظةٍ تُصبحُ فيها الحياةُ قيامة. آمين.
(صمت…)
٤-“أنتَ الكائنُ، وأنا المُتوقِّفُ على حضورك”
تأمل:
أيّها الكائنُ الذي لا يحدّهُ زمان، أيّها الآتي من اللازمنِ إلى التراب، لا تسعُكَ سماءُ السموات،
لكنّكَ ارتضيتَ أن تُقيم في قلبِ المتخشِّع، وفي خِدمةِ الجماعةِ الراكعةِ أمام مجدِك. نرفعُ إليك المجد، لأنك دعوتنا، ولم تكن ملزومًا. أهلتنا للمثول أمامك، ونحن الذين لا نستحقّ أن نرفع وجوهَنا،
لكنكَ نظرتَ إلينا بوجهِ الأب، وأعطيتنا أن نسمّي اسمك قُدوسًا!
يا ابن الله، أيها الأزليّ مع الآب، يا مَن ارتعدتِ الخليقةُ من همسةِ حضورِكَ، وارتعشتِ البحارُ أمامَ خطاك، وسكتتِ العواصفُ حين نطقتَ بكلمةٍ.
يا مَن تعزّي المنحنين، وتربط الجراحَ بيدٍ لا تجرح، وتحرّر القابعين في سجُونِ الحزنِ والخوف،
وتُبهجُ التائهين بنورِ وجهِك. يا سيّدَ الزمانِ والعزلة، يا رفيقَ التُعب، يا رجاءَ المستَضعَفين…
منكَ وحدَكَ نطلبُ أن نُفهِمَ إرادتَك، أن نسيرَ على خُطى شريعتِك، أن نعيشَ كما أحببتَنا… لا كما نُريد.
صلاة:
يا إلهَنا الثالوث، يا نورًا لا يغيب، نسجد لك، ونُقَدّمُ إليك هذا النهار، مع نَفَسِنا وكلِّ مَن نحبّ،
أنتَ وحدَكَ الراحة، وأنتَ الأمان. أفتقِدْنا بالرأفة، زر مَن لا يزورُه أحد، احمل مَن سَقَطَ في طريقِه،
وشدِّدْ قلبَ مَن ضعُف أمامَ الظلمة. أُنزل سَكينتكَ في بلادٍ تمزّقها الحروب، وأشرق نوركَ في كنائسٍ تُصلّي تحت القصف، وفي قلوبٍ أنهكَها الليل. علّمنا، يا ربّ، أن نخدمك في السرّاء والضرّاء، وأن نرى في كلّ إنسانٍ وجهَكَ، وفي كلّ وجعٍ علامةَ حضورِك، وفي كلّ ضلالٍ فرصةَ رجوعٍ إليك.
يا مَن لك المجد في كلّ حين، قبل الدهور، ومع الدهور، وإلى أبد الآبدين. آمين.
(صمت…)
٥-“مدفونون معك، قائمون فيك”
تأمل:
يا ربّي،
حين نزلتَ إلى الموتِ، كنتَ تأخذني معكَ دون أن أعي، وحين انفتحَ قبرُكَ، كنتَ تُطلُّ على قلبي أنا، وتدعوني باسمِك… نحن الذين تعمّدنا فيكَ، لم نُغسَل فقط بالماء، بل غُسلنا بالجرحِ المفتوح في جنبِك، ودُفِنّا في ظُلمةِ قبرِكَ، حتى لا تعودَ فينا ظلمةٌ أخرى. كنا نُفكّر أن المعمودية لحظة، لكنها حياةٌ كاملة فيك:
نحن، يا رب، صرنا بقيامتِك مخلوقين من جديد. انتهى زمن الإنسان العتيق، وصار لنا جسدُك نورًا ومسيرتُك خلاصًا.
صلاة:
يا يسوع، كثيرًا ما أتناسى أنني تعمّدت فيك، أنني متُّ معك، أنني لم أعد أملك حياتي بل هي لك.
فذكّرني، يا رب، أني لا أنتمي للخطيئة، أنها لم تعد سيدةً عليّ، أنك متَّ مرّة واحدة، لكي لا أموت أنا ألف مرّة بسبب الخوف. امنحني أن أُحسَب، لا في دفاتِرِ الأرض، بل في كتابِ الحياة، كابنٍ حيٍّ فيك، أن أرى في كلّ لحظةٍ فرصةً لأقوم، وفي كلّ ضعفٍ نعمةً تُقوّيني.
اجعلني أُبغض الإنسان العتيق فيّ، وأشتاقَ دومًا إلى حياةِ النعمة، حيث لا سلطان للخطيئة، وحيثُ أنتَ وحدكَ السيّدُ المُحبُّ المُقيمُ إلى الأبد. آمين.
(صمت…)
٦-“وعند الفجر، كان هو هناك”
تأمل:
في ظلمة الليل، رجعوا إلى البحر… وما كان معهم سوى التعب. هم الصيّادون الأقوياء، لكن الشباك بقيت فارغة كقلوبهم بعد الصليب. وربما، فينا شيء من بطرس حين قال: «أنا ذاهب لأصطاد»،
كمن يقول: “أعود إلى ما أفهمه، فقد عجزت عن فهم الألم، عن فهم الغياب…” لكن الفجر جاء.
ومعه، على الشاطئ، الرب كان واقفًا، ينتظرهم لا ليعاتب، بل ليُعدّ فطور المحبة. ألقى الكلمة، فأثمرت الشباك، نادى القلوب، فانتفض الحبّ، وقال: «هلمّوا تغدّوا»… كم هو بسيط إلهنا! لا ينادي بعجائب، بل بخبزٍ وسمكٍ وجمرةٍ دافئة.
صلاة:
يا ربّي يسوع، كثيرًا ما اصطدت الليل ولم أجد شيئًا، كثيرًا ما حملت شباكي الفارغة لأخبّئ فشلي،
لكنّك كنتَ واقفًا هناك، لا على كرسيّ العرش، بل على شاطئ حياتي، تنتظرني.
علّمني أن أميّزك حين أقف في العتمة، أن أسمع نداءك في همسات الفجر، أن أُطيعَ كلمتك حين تقول: “ألقِ الشبكة”، رغم أنّي جرّبتَ كثيرًا.
أشعل جمرتك في داخلي، وطهّرني بنارك اللطيفة، واكسُر لي الخبز كما كسرتَه لهم، واجعل قلبي يعرفك، في كلّ لقمة حبّ، وفي كلّ شبكةٍ تمتلئ حين أعمل باسمك. آمين.