
دومنيك سافيو … القديس الشاب !
أيها الشاب، أيتها الشابة! كثيراً ما أسمعكم تقولون: ” إن القداسة للنسّاك” … “إن القداسة طريق طويل مؤلم وشائك… إنّها صعبة المنال”… وغيرها من الأقوال التي تعبّر عن اقتناعكم بأن القداسة ليست مشروعاً قابلاً للتحقيق في حياتكم.
لذلك أودّ أن أنقل اليكم ، بطريقة مختصرة جداً، سيرة حياة شاب وصل الى أعلى مراتب القداسة وهم لم يُكمل بعد الخامسة عشرة من عمره. لم يكن ناسكاً، لم يكن منعزلاً عن العالم… لم يكن يمضي كلّ وقته في الصلاة فقط بل كان يعيش حياة شبيهةً بحياتكم. كان شاباً ” في العالم” ولكنه لم يكن ” من العالم” .
كانت حياته القصيرة عبارة عن مغامرة بطولية تستحقّ التقدير والاحترام، استطاع من خلالها أن يؤكّد أن الانسان يستطيع أن يصل الى ملء الفرح بالرب متمّماً واجباته اليومية على أكمل وجه. وأنّه يستطيع أن يتذوّق الحياة الأبدية بعيش الصداقة مع الله اعتباراً من هذه الحياة.
مَن هو هذا الشاب؟ ما هي دعوته؟ على ماذا ترتكز روحانيته؟ ما هي رسالته؟ وكيف توصّل الى القداسة بهذه السرعة؟
وُلد “دومنيك جوزيف” في الثاني من نيسان 1842 في بلدة “ريفا دي كييري” في شمال ايطاليا، من شارل سافيو، وكان يعمل حدّاداً، وبريجيت أغالياتي، امرأة فاضلة وربّة منزل تعتني بتربية أطفالها على التقوى ومحبة الرب. ميلاد دومنيك كان مبعث فرح وتعزية للعائلة التي كانت قد فقدت ولداً قبل ميلاده. إقتبل دومنيك سرّ المعمودية المقدّس في الساعة الخامسة من مساء اليوم عينه.
دومنيك ( ويعني اسمه ” خاصة الرب” ) حقّق في حياته ما يرمز له اسمه، فكان “إسماً على مُسمّى” كما نقول في شرقنا.
ترعرع أولاً في “ريفا” ثم في “موريالدو”. تشرّب التربية الصالحة من والديه التقيين، فكانت عائلته المهد الأول الذي تعلّم فيه كيفية التواصل مع الله. علّمته أمّه الصلاة منذ نعومة أظفاره غارسةً في داخله حب الرب والتوق للحديث معه بشكل متواصل. لم يبلغ الرابعة حتى أخذ يجد لذّته في الله. كانت الصلاة بالنسبة اليه بمثابه ” النفَس” الذي يتنفسّه ليملأ رئتي نفسه من حب الرب. كانت حياته تسير على وتيرة صلاته ( كان يصلّي: عند النهوض، قبل الأكل، قبل الدرس، قبل النوم … الخ). أحبّ دومنيك الكنيسة وتعلّق قلبه بالساكن فيها، أي بالقربان الأقدس. كان لا يزال في الخامسة من عمره حين خدم القدّاس الالهي حيث لم يستطع إضاءة الشموع على المذبح بسبب قصر قامته.
إنّ نضوج دومنيك الروحي وإتقانه التعليم المسيحي وهو بعد في السابعة من عمره دفع بكاهن رعيّته أن يحصل له على الاذن بتناول جسد الرب، مع العلم أن المناولة لم تكن تُمنح في ذاك الوقت قبل سن الثانية عشرة.
أخيراً وصل “يوم اللقاء” مع الرب في القربان وكان في أحد الفصح المجيد في 8 نيسان سنة 1849. كان ذلك اليوم واحداً من أهمّ محطّات حياة دومنيك حيث وعد الرب:
– سأعترف وأتناول مراراً
– أريد أن أقدّس أيام الآحاد والأعياد
– صديقاي هما يسوع ومريم
– الموت ولا الخطيئة
نستطيع أن نستلخص ركائز روحانية دومنيك من خلال هذه المقاصد الأربعة:
الدرس والفضيلة كانا توأمين متلازمين عنده، فتقدّمه في السنّ يلازمه تقدّمه في العلم والفضيلة. كان يكبّ على الدرس بكلّ قدراته وهكذا كان التلميذ المتفوّق على جميع أترابه. شخصية دومنيك فريدة في طموحها. وصف معلّموه الكهنة شخصيّته فقالوا فيه: ” روح مليئة بالصلاة، أمين للواجب، يملك ارادة عذبة وصلبة في آن معاً، لديه قلب مرهف الشعور، ميّال الى الصداقة، طبع متوقّد، يملك خفّة روح جميلة، لديه انتباه مُلفت للآخرين، يزرع الفرح من حوله، إنسان تأمّلي”.
كان يتميّز بصفحه المسيحي، حيث غفر مرّات عديدة لرفاقه، مع أنّهم سبّبوا له العديد من المشاكل، بروح إنجيليّة عميقة رامية دائماً الى الإقتداء بيسوع المسيح.
إن فضيلة دومنيك وتوقه للكهنوت بهدف تخليص النفوس، دفعت بالأب كالييرو لمساعدته في تحقيق مرامه، وبما أنّ عائلته الفقيرة كانت غير قادرة على تحقيق حلمه، فكّر بأن يجعله يقابل الأب يوحنا بوسكو الذي كان مشهوراً آنذاك بعنايته بالشبيبة. في الأول من تشرين الأول كان اللقاء بين دون بوسكو ودومنيك سافيو:
– دون بوسكو: مَن أنت ومن أين جئت؟
– دومنيك: اسمي دومنيك سافيو من “موندونيو” وقد حدّثك عني خوري رعيّتنا.
فانفردت به، وبعدما تحدّثنا عن الدروس التي تلقّاها والحياة التي عاشها الى ذلك الحين، سادت الثقة التامة بيننا. وثق بي ووثقت به. ميّزت في هذا الصبي نفساً كما يريدها روح الرب حقاً، ودُهشتُ للنتائج التي حصلت عليها النعمة الالهية من صبي في هذه السنّ من الحداثة. وبعدما تحدّثنا طويلاً، قال لي هذه الكلمات:
– دومنيك: إذاً، ما رأيك؟ أتذهب بي الى “تورينو” لأدرس؟
– دون بوسكو: أجل، يبدو لي اني أجد فيك نسيجاً حسناً
– دومنيك: ولمَ يصلح هذا النسيج؟
– دون بوسكو: لصنع ثوب جميل للرب
– دومنيك: اذاً أنا النسيج وستكون أنت الخيّاط. وسنصنع معاً ثوباً جميلاً للرب.
سيكون هذا الفتى زهرةً عطرة تفوح برائحة المسيح الطيّبة في بستان دون بوسكو.
وصل دومنيك الى “تورينو” في 29 تشرين الأول. استهوته جملة كان دون بوسكو قد اتّخذها شعاراً له ” أعطني النفوس وخذ الباقي”، ومنذ ذلك الحين أكبّ على القيام بواجباته المدرسية على أكمل وجه ، كما اهتمّ بنوعية علاقاته مع الآخرين، فاكتسب احترام معلّميه ومحبة رفاقه وتقديرهم.
في الثامن من كانون الأول سنة 1854 أُعلنت عقيدة الحبل بلا دنس. تعبيراً عن حبّه لأمّه السماوية كرّس دومنيك ذاته بكلّيتها للعذراء، وجدّد وعده ” الموت ولا الخطيئة “ الذي حافظ عليه ببطولة حتى آخر يوم من حياته. وصلّى هكذا: ” يا مريم انّي أعطيكِ قلبي فاجعليه لك دائماً أبداً. يا يسوع ومريم ابقيا صديقيّ دائماً أبداً ولكن أشفقا عليّ فأميتاني، فذلك أفضل من أن أُبتلى بارتكاب ولو خطيئة واحدة”.
اختار دومنيك أن يكون نقيّاً كالزنبق لأنه أدرك أن الحب يتطلّب عطاء الذات للرب ليكون هو السيّد المُطلق عليها.
منذ أن كرّس دومنيك ذاته للعذراء أصبح أكثر تألّقاً روحياً حتى أنّ دون بوسكو قال : “إنّي أؤكّد أن دومنيك ذهب الى السماء بنقاوة المعمودية”.
تفانى دومنيك في القيام بواجباته، فكان ذا تأثير إيجابي على رفاقه الذين كانوا يطيعونه حتى أضحى الحَكَم المسموع والمُطاع. كما أن دون بوسكو قد تأثّر بصلاته وفضائله فأعلنه قدوة للآخرين وكلّفه بإعطاء دروس تربية دينية لرفاقه الأصغر سنّاً في المُصلّى.
البابا بيوس الحادي عشر، أثناء إعلانه مكرّماً قال: ” دومنيك هو شهيد الواجب اليومي”.
كانت كلمات دون بوسكو وعظاته تنزل كالندى على نفس دومنيك العطشى الى الله فتُشعل بداخله الرغبة في القداسة. في الرابع والعشرون من حزيران، وبناءً على دعوة من دون بوسكو لصبيانه بكتابة ما يرغبون به على ورقة صغيرة ليهديهم إياه، كتب دومنيك: ” ساعدني على أن أصير قديساً”.
أخذ دون بوسكو كلمات دومنيك على محمل الجدّ وأعطاه برنامجاً حياتياً ليساعده في الوصول الى غايته:
أولاً: الفرح، فما يجعلك تضطرب، ويسلبك الفرح، لا يأتي من الله.
ثانياً: واجباتك المدرسيّة والتقويّة، أصغ اصغاء حسناً في الصف. ثابر على الدرس وثابر على التقوى. لا تفعل ذلك كلّه لإرضاء الطموح بل حبّاً بالرب.
ثالثاً: عمل الخير للآخرين. ساعد دائماً أترابك ولو فرض ذلك عليك البذل. “القداسة كلّها هي في هذه الأمور”.
جنّد دومنيك كلّ طاقاته للوصول الى هدفه (القداسة) مستعملاً كلّ الوسائل. من خلال عيش الأسرار وخاصة سرّي (التوبة والافخارستيا). مارس الاماتات والتقشّفات الى حدّ منعه دون بوسكو من الافراط بها مُرشداً نفسه الفتيّة الى أهميّة الطاعة وهي إماتة الذات والارادة ، العمل المستمرّ وتقبّل أوجاع الحياة اليومية دون تذمّر. “أطع وهذا كافٍ لك”.
غيرة دومنيك الرسولية دفعته الى العمل بكدّ من أجل أن يقوّم أصغر إعوجاج في سلوكه لكي تصبح حياته شهادة حيّة عن الرب. كما اعتمد اسلوب الفرح، فكان بهجة رفاقه بحيث كان الجميع يتراكض الى صُحبته. من أقواله : ” نحن هنا نجعل قداستنا ممكنة بأن نكون دائماً فرحين”.
لم يبلغ دومنيك الكمال دون جهد ومثابرة وإرادة منتصرة حتى أن دون بوسكو كتب عنه: ” إنّ مَن ينظر اليه يظنّ حياته بسيطة كمظهره الخارجي، ولكن الذين عرفوه عن قُرب وتولّوا تهذيبه لمسوا فيه حقيقة كم كان يبذل من الجهد والعزم لإصلاح ذاته”.
جعل دومنيك من الملعب حيث يعيش الفرح ، وكرسي الاعتراف حيث يحافظ على نقاء نفسه من شوائب الخطيئة، المضماران الرئيسيان في دائرة حياته، يعتني بهما ليسير صوب القداسة.
عاش روحانية التجسّد بشكل جذري، فجسّد في حياته القصيرة محبة يسوع للآخرين بعيش الايمان بطريقة ملموسة في حياته اليومية. كان يجد سعادته بتلقين أولاد المُصلّى التعليم المسيحي، كما أنّه كان يحاول تصحيح سلوكياتهم فكان أحياناً يُسمع وأحياناً كثيرة يٌقابل بالرفض لا بل بالضرب والإهانة فيصفح ببطولة.
في الثامن من حزيران دشّن قديسنا مع زمرة من رفاقه أخوية ” الحبل بلا دنس ” وكان برنامج عملها يتركّز حول ثلاث نقاط:
1- يتوجّب على الأعضاء أن يكونوا طائعين لرؤسائهم.
2- يتوجّب عليهم إعطاء المثل الصالح لرفاقهم.
3- عدم إضاعة الوقت والاجتهاد في عمل الخير نحو التلاميذ الغير مرضيين بسلوكهم.
كان دومنيك يهدف من خلال هذه الجمعية نشر محبة الرب وأمه العذراء وجعل الشبيبة رُسُلاً لرفاقهم. إتّبع إرشادات مرشده دون بوسكو ولكنّه أراد أن يكون له صديقاً من أتربه يُنبّهه الى نقائصه فيسير وإياه بفرح على طريق القداسة، فاتّخذ له صديقين، كميل سافيو ومسّاليا، ولكن الموت خطفهما بسرعة إثر المرض الذي ألمّ بهما. على إثر تلك التجربتين أصبحت غاية دومنيك القصوى حياة السماء برفقة الله.
تعلّق قلب دومنيك بيسوع في سرّ القربان الأقدس، فكان لمناولاته إمتداداً يؤثّر على كلّ تصرّفاته. كان يُخصّص لكلّ يوم نيّة لمناولته:
الأحد: إكراماً للثالوث الأقدس
الاثنين: لأجل المُحسنين الروحيين والزمنيين
الثلاثاء: إكراماً لشفيعه القديس دومنيك ولملاكه الحارس
الأربعاء: لأجل هداية الخاطئين
الجمعة : إكراماً لآلام السيد المسيح واشتراكاً فيها
السبت: إكراماً لوالدة الاله مريم البتول
ساءت صحّة دومنيك كثيراً فاضطرّ دون بوسكو أن يُرسله الى ذويه للاستراحة ثم العودة الى المُصلّى. أطاع دومنيك مرشده بهدف تقديم ذاته ذبيحة للرب بالإنسلاخ عن كلّ ما يحبّ محبّةً به، مؤكّداً لدون بوسكو بأنها ستكون المرة الأخيرة التي يتقابلان فيها.
في مطلع شهر شباط 1857 عاش دومنيك “رياضة الميتة الصالحة” مع رفاقه في المُصلّى بعمق كبير متيقّناً من أنّه سيكون الأول بينهم الذي سينتقل الى السماء. غادر برفقة والده يوم الأحد في الأول من شهر آذار. وصل الى ضيعته وتحسّنت حالته ظاهرياً قليلاً فكان يقضي الساعات والسهرات الطويلة ينشر ما تعلّمه عن القديسين والعذراء، وكان الجيران والمعارف يتوافدون لسماع ” الواعظ الصغير”.
خضع دومنيك لعلاجات مؤلمة كثيرة قائلاً: ” الهي أعطيتك حرّيتي وجسمي وقواي وكلّ شيء، فلتكن مشيئتك”.
بالرغم من التحسّن الصغير طلب دومنيك “الطبيب السماوي” وتناول جسد الرب بخشوع. عند إحساسه باقتراب أجَلِه طلب من أبيه أن يصلّي له ” طلبة الميتة الصالحة” وكان يردّ عليها بهدوء وصفاء ذهن. في لحظة الوداع استنار وجهه، فتح ذراعيه، ودّع أهله وصرخ: آه ما أجمل ما أراه ! كان ذلك في الساعة العاشرة من مساء التاسع من آذار.
نستطيع أن نردّد مع سفر الحكمة: ” قد بُلّغ الكمال في أيام قليلة فكان مُستوفياً سنين كثيرة” حك 4/13
ظهر دومنيك لأبيه بعد موته مؤكّداً له دخوله السماء. روى دون بوسكو حلماً قال فيه وكأنه حقيقة أنه رأى دومنيك صحبة كثيرٍ من الشبيبة الذين وصلوا الى فرح السماء بفضل ارشاد دون بوسكو.كما اعطاه لائحة بأسماء أولئك الذين يرتادون المصلّى ولكنّهم متمسّكين بالشرّ. تحقّق دون بوسكو فيما بعد عن الأمر واتّضح له أن ذلك صحيحاً فعمد الى مساعدتهم على التوبة وتغيير حياتهم. قام الله بشفاعة القديس دومنيك بعظائم كثيرة أوّلها كان شفاء أمّه ، الاعجوبة التي قام بها قبل مماته.
أعلنته الكنيسة قديساً على لسان البابا بيوس الثاني عشر في 13 حزيران 1954. يُحتفل بعيده في السادس من أيار.
No Result
View All Result