
مقتطفات من عظات (القدّيس يوحنّا الذهبي الفم) على رسالة “القدّيس بولس الرسول إلى أهلِ رومية”
” لأني لست أستحي بإنجيل المسيح ” (16:1).
ماذا تقول يا بولس؟ لأنه كان ينبغي أن تقول ” إني افتخر وأزهو ” لكنه قال ” لست استحي” إذًا لأي سبب تكلم هكذا وما معنى ذلك؟ ومع أنه كان يفرح لأجل الإنجيل، فقد كتب إلى أهل غلاطية قائلاً ” أما من جهتي فحاشا لي أن افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح “. إذًا فلأي سبب هنا يقول ” لست استحي” ولا يقول إني افتخر؟ السبب أن أهل رومية كانوا محصورين في أمور هذا العالم الحاضر، بسبب الغنى الذي كانوا يتمتعون به، وبسبب السلطة والانتصارات الكثيرة، هذا بالإضافة إلى أنهم اعتبروا ملوكهم مساوين للإلهة، ولهذا أيضًا بنوا لهم هياكل ومذابح وقدموا لهم الذبائح. ولأنهم كانوا يفتخرون بوضعهم هذا، ولأن الرسول بولس كان ينوي أن يبشر بيسوع الذي اعتقدوا أنه ابن النجار الذي تربى في اليهودية في منزل بسيط، بلا حراس حوله ولا تبدو عليه علامات الثراء، بل إنه مات وأُدين مع لصوص وصبر على أمور كثيرة مهينة. من أجل هذا كله كان من الطبيعي أن يشعروا نحوه بالخجل، طالما أنهم لم يكونوا قد عرفوا بعد أي شيء عن الأمور السامية والتي لم تُستعلن لهم بعد. ولهذا قال ” لست أستحي” معلّمًا إياهم، خطوة خطوة، ألا يستحوا، لأنه يدرك أنه إذا تحقق هذا، فإنهم سوف يتقدمون سريعًا وسيصلون إلى مرحلة الإفتخار.
وأنت أيضًا إن سمعت أحد يقول لك، هل تسجد للمصلوب؟ لا تخجل ولا تنظر إلى أسفل، بل يجب أن تفتخر وتزهو وتعترف بإيمانك برأس مرفوعة ولا تستحي. ولو قالوا لك هل تسجد للمصلوب؟ أجبهم إنني لا أسجد لشخص زاني ولا قاتل لأبيه ولا قاتل لأبنائه، لأن هذه الأمور تصنعها آلهتهم. لكن المسيح بصليبه أسكت الشياطين وأعوانهم وقضى على أعمالهم المضللة. لأن الصليب بالنسبة لنا هو عمل محبة الله نحو البشر، تلك المحبة التي لا يُعبّر عنه. فالصليب هو رمز العناية الغير محدودة بنا. ولأن أهل رومية افتخروا بصناعة الكلام جدًا، وانتفخوا بالحكمة العالمية، أتى الرسول بولس يبشرهم بالصليب وهو لا يخجل من ذلك.
لأن الإنجيل هو ” قوة الله للخلاص ” كما أنه هو قوة الله للدينونة. لأن الله عندما عاقب المصريين قال “جيشي العظيم الذي أرسلته عليكم”. وأيضًا يقول ” خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم”. ولهذا فالرسول بولس يقول لهم بأنني لم آت لأبشركم بالأمور الخاصة بالدينونة، لكن لأبشركم بالأمور المختصة بالخلاص. ماذا إذًا؟ ألم يبشر الإنجيل بهذه الأمور الخاصة بالدينونة؟ بلا، فالإنجيل يخبرنا أيضًا عن الدينونة. وإن كانت هناك دينونة، فكيف يقول إذًا إن الإنجيل هو ” قوة الله للخلاص”. اسمع ما يقوله فيما بعد ” لكل من يؤمن لليهودي أولاً ثم لليوناني”. إذًا فالإنجيل ليس للجميع بشكل عام، ولكن لكل من يقبله. لأنه لو أنك يوناني، ولو فعلت كل شر، أو أنك سكيثي، أو بربري، ولو أنك مليء بكل جهالة، محمل بخطايا كثيرة، فعندما تقبل البشارة بالصليب والمعمودية، فإن كل هذه الأمور سوف تختفي.
لكن لماذا قال هنا ” لليهودي أولاً ثم بعد ذلك لليوناني؟” ماذا يريد بهذا الترتيب؟ فعلى الرغم من أنه في مواضع كثيرة قال: ” لا الختان ينفع شيئًا ولا الغرلة” فكيف يُميز هنا، واضعًا اليهودي أولاً ثم بعد ذلك اليوناني؟ وماذا يعني هذا؟ الترتيب هنا هو ترتيب شرفي فقط، فهذا لا يعني أن اليهودي حاصل على نعمة أكثر لأنه أولاً، لأن نفس العطية أُعطيت لليهودي واليوناني. كما في حالة المعمدين، فإن الجميع يذهبون للمعمودية، لكن ليس في الوقت نفسه، بل إن واحدًا يذهب أولاً والآخر بعده. لكن الأول لا يأخذ نعمة أكثر من الثاني، بل الجميع يتمتعون بنفس النعمة. إذًا فكلمة (الأول) هنا هي كلمة شرفية وليس المقصود بها نعمة أكثر.
No Result
View All Result