
حياتنا الجديدة والمتجدِّدة بالروح القدس
“إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ. مَنْ آمَنَ بِي، كَمَا قَالَ الْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ” (يو 7: 37 و38)
الروح القدس هو الخفيّ في حياتنا والمجهول وهو الفاعل كلّ شيء فينا بالمسيح، لأنّه حيث المسيح فهناك روحه القدّوس وحيث الروح القدس فهناك المسيح، وحيث المسيح والروح فهناك الآب القدُّوس.
من يعش مع المسيح، أي يحفظ وصاياه، يعرف الروح القدس، ومن يعرف الروح القدس يعرف المسيح، لكن العالم لا يعرف لا المسيح ولا روحه ولا أباه، لذلك قال لنا الربّ يسوع: “إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ، وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ، رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ.” (يو 14: 15 – 17).
الروح القدس يسكن فينا وهو يمنحنا نعمة الاتّحاد بالمسيح، أيّ أنّنا بنعمته نصير مسحاء للربّ وأبناء وورثة لملكوته السماويّ. نعرف الروح فينا وفي عمله القدّوس إذ هو يرشدنا إلى الحقّ ويمنحنا القوّة لعيش وصيّة الربّ وهو عربون الميراث الآتي ونعمة التبنّي والمطهِّر كياننا وقلوبنا ومخلِّضنا بالمسيح أي هو الَّذي يمنحنا ثمرة قيامة المسيح فينا حياة جديدة بموتنا عن العالم القديم الَّذي فينا وولادتنا في العالم الجديد الَّذي بالمسيح وفيه…
خبرة الكنيسة تكشف لنا عمل الروح القدس في حياتنا، فبدونه لا نستطيع أن نتوب وأن نعرف خطايانا وأن نتغلَّب عليها. في هذا الإطار يقول القديس كيرللس الإسكندري: “لمَّا حدَّدَ اللهُ مُبدعُ الكُلِّ أَن يُصلِحَ كُلَّ شيءٍ في المسيحِ في نظامٍ سوِيٍّ جميل، وأن يُعِيدَ الطبيعةَ الإنسانيّةَ إلى حالتِها القديمة، وعدَها بأن يمنحَها المواهبَ الكثيرةَ وروحَه القدُّوسَ نفسَه. لأنَّه لم يكُنْ من الممكنِ، بدونِ ذلك، أن تستعيدَ الطبيعةُ البشريّةُ نعمتَها بصورةٍ مستقرَّةٍ ودائمة”.
إذ إنّ من دون الروح القدس لا يستطيع الإنسان أن يعود إلى صورة الله الكاملة فيه ولا أن يحقّق المثال الإلهيّ. طبعًا، في هذا العالم النعمة الإلهيّة الّتي للروح القدس تحرّكنا نحو الكمال والتشبّه بالمسيح وهي تمنحنا إيّاهما بالتعاون والانسجام مع قوانا الخاصّة ومشيئتنا.
ليست مسألة التغيير الكيانيّ سِحْرًا أي كنْ فيكون، إنّها صيرورة وسيرورة ترتبط بمدى تجاوبنا مع فِعل الروح القدس فينا عبر اختيارنا طاعة الوصيّة الإلهيَّة، فالربّ يسوع يقولها لنا صراحة: “اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي (…) إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلًا” (يو 14: 21 و23). بطاعة الوصيّة نصير هيكلًا للربّ أي نتّحد به ويسكن فينا الثالوث القدّوس بالنعمة الإلهيّة التي بالروح القدس.
يا أحبّة، عيد العنصرة هو ميلادنا جميعًا في المسيح بالروح القدس الَّذي يجعلنا أعضاء في جسد الربّ – الكنيسة، ففي الكنيسة نصير أبناء الله ومشاركين حياته الأبديّة وورثة ملكوته السماويّ. الكنيسة هي بقعة السماء في الأرض وهي ارتقاء الأرض إلى السماء في الَّذين هم لله، وهي تجديد الخليقة في المسيح، هي الخليقة الجديدة.
لكن، في هذا العالم، الكنيسة هي بيت التائبين الإلهيّ ومسكن الله بين البشر وحضوره الشافي والمُعزِّي، لأنّ روح الربّ يسكن ويستقرّ في الكنيسة – جسد المسيح، وهو يَهُبُّ منها إلى حيث يشاء ليجتذب الخليقة كلّها إلى يسوع المسيح الَّذي هو ملكوت الله وإلى الحياة الأبديَّة والخلاص من الموت وعبوديّة الأهواء والخطيئة.
في الحقيقة، إنّ الروح القدس هو الَّذي يهبنا التشبّه بالربّ، وثماره واضحة ومعروفة في الَّذين غلبوا العالم وهي: “مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ، لُطْفٌ، صَلاَحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ، تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ. وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ” (غل 5: 22 – 24).
الطريق لنحصل على هذه الصفات الإلهيّة هو أن نحيا بحسب الروح القدس أي أن نصلب فينا كلّ مشيئة مخالفة لمشيئة المسيح ونميت كلّ هوًى وكلّ شهوة تتحكّم بنا، وهذه هي خبرة العنصرة المتجدِّدة فينا بالتوبة التي تخرجنا من حياتنا القديمة الخاضعة بالخوف من الموت للشهوات والأهواء والخطايا وتمنحنا القوّة الإلهيّة الّتي تحرِّرنا من سلطان الموت وإبليس بمحبّة المسيح أوَّلًا وطاعته… هكذا في كلّ مرّة نتوب يُفيض علينا الربّ نعمة روحه القدّوس التي تفيض فينا طالما نحن تائبون على العالم حنانًا وتعزيّة ولطفًا وسلامًا وفرحا ومحبة بلا غايات.
ومن له أذنان للسمع فليسمع…..
أنطونيوس متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما
No Result
View All Result