الأساس المسيحي لعلم الوراثة الحديث واكتشاف سرِّ الـ DNA
|
|
+ بالرغم من مخاوف إساءة استعمال الـ DNA أخلاقياً، إلاَّ أن علم الهندسة الوراثية بدأ في أحضان دير للرهبان.
لو كان يوجد في ذلك الزمان مجال، لنال هذا الراهب النمساوي غريغور مِنْدل Gregor Mendel (1822-1884م) ميدالية الروتاري لخدمة الإنسانية!
وكما يتخيل بعض العلماء، لو كان في الإمكان أن نضع أيدينا على رفات الراهب غريغور مِنْدل لأخذنا خلية أو اثنتين من وجْنته واستنسخنا منها جيشاً من العلماء النابهين مثله!
وإننا نعجب من قصة هذه النفس الخلاَّقة التي لهذا الراهب الأوغسطيني في القرن التاسع عشر، الذي مهَّد الطريق للبشرية نحو رسم الخريطة الوراثية للبشر human genome.
وقد يتعجب البعض أن راهباً يُسهم في عمل علمي وهو لم يكن له علاقة بالعلم science على الإطلاق. فالمعروف عن الرهبان أنهم يقضون وقتهم كله في الصلاة والتسبيح والجهاد النسكي.
ولكن رهبان دير القديس توماس في برنو Brno بالنمسا (أصبح الآن داخل حدود جمهورية التشيك الجديدة)، ليسوا كذلك بالضبط. فحينما دخل غريغور الدير عام 1843م، كان عمره 21 عاماً، وهو الابن الوحيد لأبوين مزارعين. وكان ضعيف البنية، تلقَّى تعليماً أوليّاً ليساعد والديه في اهتمامهما برفع مستوى وكمية المحاصيل التي يزرعونها. لكن ?غريغور? أتى في نهاية المطاف إلى المكان الصحيح، إلى دير القديس توماس.
ودير القديس توماس ينبض بالنشاط، وهو مركز علمي ورهباني بآنٍ واحد. ورهبانه تعلَّموا وأصدروا الأبحاث في الفلسفة، والرياضيات، وعلم المعادن، وعلم النبات botany.
وتضم مكتبة الدير كتباً علمية. ولديهم مجموعة من المعادن، وحديقة للنباتات والأعشاب، ما يوفِّر معامل مثالية لأبحاث هذا الراهب مِنْدل لحياةٍ طويلة، والتي كانت تحوي،
ليس فقط أبحاثه المشهورة على حديقة البازلاء (البسلَّة)، بل وأيضاً على أبحاثه في تربية النحل، والفَلَك، والجيولوجيا (علم طبقات الأرض). بل كان الدير ملتقى للعديد من العلماء البارزين.
ولا يظن أحدٌ أن عمل الراهب مِنْدل كان عقيماً مجدباً، كونه ينخرط في عمل مدني علمي؛ فإنه رُسِمَ كاهناً عام 1847م، ثم اختير أباً ورئيساً للديـر عام 1868م (لأنه كان محبوباً من الكل).
ومنذ ذلك الحين لم يقتصر انشغاله بالمناهج العلمية المعملية فحسب، بل وأيضاً بحياة الإيمان. والرهبان في هذا الدير لا يفصلون بين الحياتين.
لكنه بعد تعيينه رئيساً للدير، انشغل بالأكثر في مسئولياته الجديدة ما قيَّد من فرصة استمراره في المزيد من البحوث العلمية.
وقبل ذلك، لما أخفق الراهب غريغورالذي كان يعمل مدرساً في مدرسة الدير في امتحان التأهيل لشهادة التدريس عام 1849، أرسله رئيس الدير آنئذ إذ تحقَّق من أن هذا الشاب عصامي، يُعلِّم نفسه بنفسه أرسله في بعثة إلى جامعة فيينا بالنمسا.
وهناك قضى الأعوام من 1851-1853 يتعلَّم أصول الدراسة المنهجية methodological knowledge، وتقنيات البحث العلمي، ما أرسى عنده الأرضية التي انبعثت منها اكتشافاته بشكل مفاجئ.
وقد تكلَّلت هذه الاكتشافات بالبحث الحاسم الذي قدَّمه مِنْدل عام 1865 باسم: ?التجارب العلمية على تهجين النباتات?، الذي وُصِفَ بأنه ?نموذج للتجريب العلمي والقدرة على التحليل العلمي للبيانات?، وأنه ?واحد من أعظم الانتصارات للعقل البشري?.
ونُشرت نتائج بحوث الراهب مِنْدل وخلاصة تجاربه في علوم الوراثة عام 1866. إلاَّ أنه لم ينتبه أحد إلى هذه الأبحاث، بسبب اهتمام العلماء بنظرية داروين (في النشوء والارتقاء) آنذاك. وظلت أبحاث الراهب مِنْدل 34 عاماً حبيسة الأدراج إلى أن عثر علماء على التقرير عام 1900م. وهنا عُرف فضل أبحاثه على علم الوراثة، حيث صارت هي الأساس لعلم الوراثة الحديث.
وقد صارت أبحاث الراهب مِنْدل وتجاربه على البازلاء، والتي استغرقت منه 8 أعوام كاملة، صارت محل الانتباه والاهتمام الدراسي والبحثي أكثر من أي أبحاث أخرى في علم الأحياء biology.
والآن، ماذا كان عمل الراهب مِنْدل بالتحديد، الذي أسهم في علم الوراثة حتى اليوم؟
+ لقد كان اهتمام هذا الراهب النابه في كيف تنتقل الصفات المميِّزة لهذا النظام الطبيعي للنباتات من الأب إلى النسل؟
+ طبعاً ومنذ بدأ البشر يربُّون الحيوانات ويزرعون الأرض ويحصدون المحاصيل، منذ آلاف السنين، كان هذا الاهتمام موضوعاً حيّاً لدى المزارعين.
ولكن الراهب مِنْدل كان أول مَن ركَّز على صفة واحدة في زمانه، ووصف عمليات التكاثُر بالمصطلحات الحسابية.
+ لقد كان يقوم بالتلقيح الطبيعي. فقد زرع عدداً من بذور البازلاء ذات الأزهار أرجوانية اللون، وترك كُلاًّ منها تتلقَّح ذاتياً للحصول على سلالة نقية الصفة. ثم قام بإجراء تلقيح خلْطي، حيث نقل حبوب اللقاح من مِتْك نبات أرجواني الأزهار إلى مباسم نبات أبيض الأزهار، ثم عَكَسَ العملية. ثم زرع البذور الناتجة من النباتات السابقة، فنمت هذه البذور وأنتجت نباتات كانت جميعها أرجوانية الأزهار. وكان هذا هو الجيل الأول.
+ ثم زرع بذور نباتات الجيل الأول، وسمح لها بالتلقيح الذاتي، لكنه حصل فقط من 4 نباتات على 3 نباتات أرجوانية، وواحدة بيضاء؛ وسُمِّيت هذه النباتات بالجيل الثاني.
+ وأعاد مِنْدل الخطوات السابقة على الصفات الست الأخرى، مثللون القرون، وطول الساق، ولون البذور… إلخ. وكان يحصل على نتائج مماثلة في كل حالة بالنسبة لأفراد الجيل الأول ثم الجيل الثاني.
+ إن رسالة هذا العمل الذي قام به على النبات أمكن عمله على تهجين الحيوانات، ثم تعدَّدت مجالات دراسة الوراثة واتسعت.
ميلاد علم الوراثة، وكيمياء المورِّثات:
لقد أتى علماء منذ أوائل القرن العشرين وإلى نهايته، يُطبِّقون مبادئ علم الوراثة كما اكتشفه مِنْدل على مجالات كثيرة. وهكذا صمَّموا أول خريطة وراثية.
ومنذ عام 1940، أصبحت كيمياء المورِّثات محط اهتمام أبحاث كثيرة.
وبحلول أوائل خمسينيات القرن العشرين، اكتشفوا أن المورِّثات تتحكَّم في التفاعلات الكيميائية في أية خلية، وحدَّدوا لأول مرة أنَّ DNA (الحامض النووي) هو المادة الوراثية.
وظل العلماء أعوام 1958، 1961، 1967، يُزيدون أبحاثهم على هـذه المادة الوراثية إلى أن تعرَّفوا على الكلمة الأولى في الشفرة الوراثيـة ، ثم بعد ذلك حُلَّت ألغاز الشفرة كلها.
عصر الهندسة الوراثية:
ثم قامت العديد من الدراسات منذ سبعينيات القرن العشرين، حيث استخدم العلماء ما يُسمَّى بـ الهندسة الوراثية أو الـ DNA المولَّف (المُعدَّل)، أي يمكن تغيير مورثات الكائن الحيِّ بجزيئات جديدة، يمكن إدخالها إلى الخلايا لتتناسخ، حيث يزرع العلماء DNA مُعدَّل، أي تم تغيير خواصه في خلية أخرى تتكاثر ويحصل منها العلماء على خلايا متشابهة.
+ وقد كان لهذه التقنية الجديدة استخدامات طبية. فأصبح هناك دواء الأنسولين تمَّت هندسته وراثياً في علاج مرضى السُّكَّري. وتبعته عقاقير أخرى مثل تلك التي تُستخدم في تفتيت الجلطات الدموية.
+ وبحلول التسعينيات من القرن الماضي، كانت فرق من علماء الوراثة قد تعرَّفت على المورِّثات التي تتحكَّم في عدد من الاضطرابات الوراثية الخطيرة في الإنسان.
+ كما تمَّت كذلك تجارب لاستخدام تقنيات الهندسة الوراثية لتحسين بعض خصائص المحاصيل، بما في ذلك مقدرة النباتات على مقاومة الأمراض والآفات.
أخطر تطبيق لعلم الوراثة تطبيقه على البشر:
+ ففي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بدأ علماء الولايات المتحدة ودول أخرى، بتصميم خريطة وراثية لمجمل الموروثات (الجينات) البشرية المكوِّنة للجنين البشري، ويبلغ عددها ما بين 50 ألف و100 ألف موروث بشري.
بالإضافة إلى تحديد تسلسل أزواج القواعد وعددها 3 بليون (= 3 آلاف مليون) من أزواج القواعد في كل جزيئات DNA في الخلية البشرية، ما سيُساعدهم في التعرُّف على المزيد من الموروثات المرتبطة بالأمراض، وعلاجها.
+ وكلنا سمعنا عن استنساخ شاة من شاة أخرى أسموها دوللي، ما أثار جدلاً حول جدوى الاستنساخ الآدمي. ويدور الجدل الآن حول أخلاقيات هذا الاكتشاف فيما لو تمَّ.
+ وفي مطلع عام 2000، أُعلن عن فكِّ شفرة الخارطة الجينية، وقالوا إنه إنجاز علمي لا يقل عن الإنجاز العلمي الذي حقَّقه الإنسان عندما حطَّ بقدميه على سطح القمر عام 1969.
+ هل كان يتوقَّع الراهب غريغور مِنْدل أن تتطوَّر أبحاثه حول البازلاء إلى مثل هذا التقدُّم العلمي في اكتشاف علاجات الأمراض واستنباط أدوية، وإيقاف أمراض، باستنساخ خلايا بشرية تُوقِف امتداد المرض، ما كان يمكن أن يقضي على حياة المريض، لولا هذا الاكتشاف؟
+ لا شكَّ أنه بإنجازات الراهب مِنْدل الأولية في ترسيخ مبادئ علم الوراثة لخدمة البشرية، كان يحسُّ بأنه يُنفِّذ الأمر الإلهي للإنسان الأول في سفر التكوين قديماً: «وباركهم الله وقال لهم: … املأوا الأرض،وأخضِعوها» (تك 1: 28). وقد كان نظام الرهبنة في ديره يُسهِّل له ذلك.
وهكذا يُخضِع البشر الأرضَ بكل ما فيها لخير البشرية.
+ لقد وجد الراهب غريغور مِنْدل، كما وجد مَن جاء قبله، ومَن سيأتي بعده من الآباء العاملين والعلماء المُخلِصين؛ وجدوا جميعهم في العلم دعوتهم المسيحية الجديرة بالاتِّباع لخدمة البشر. +
لمجده تعالى.
Discussion about this post