الثقة في الله
وسط ظلمة هذا العالم
(تأملات في نبوَّة حبقوق النبي)
+ كل ما أستطيع أن أعمله، أن أعبدك وأُمجِّدك في هيكلك المقدس، حتى ولو لم أفهم شيئًا مما يحدث لي. كثيرون منا يسيرون في الحياة وهم مضطربون، أو مُتعَبون، أو مُثقَّلون، أو ضائعون، أو ربما خائفون. وقد اختبر النبي حَبَقُّوق كل هذا، فقد كان مضطربًا أيضًا، وكانت له تساؤلات لله يمكننا أن نفهمها لأننا كثيرًا ما نتساءلها. فهو يسأل: «حتى متى، يا ربُّ، أدعو وأنت لا تسمع» (حب 1: 2). فقد كان يحسُّ بأن الله يتأخر جدًا لكي يستجيب له. فهل لك هذا الإحساس؟
فأنت تؤمن بالله حقًا، ولكنك تحس بأنه يُبطئ في المجيء إلى حياتك! ليس ذلك فقط، بل في حالة حبقوق كان تحرُّك الله يُثير اضطرابًا لدى حبقوق. ولكن الله يُجيب على هذا السؤال: «انظروا بين الأمم(1)، وأَبصِروا وتحيَّروا حَيْرَةً. لأني عاملٌ عملًا في أيامكم لا تُصدِّقون به إنْ أُخبِرَ به» (1: 5). حبقوق لا يستطيع أن يفهم ما الذي يعمله الله! لأنه كان مزمعًا أن يعمل عملاً أزعج حبقوق.
ففي هذه النبوَّة الخاصة، والتي أعطاها الله لحبقوق، كان الله مزمعًا أن يُنهضَ شعباً دموياً يُسمى البابليُّون لكي يؤدِّب بهم بني إسرائيل شعب الله القديم. ولم يستطع حبقوق أن يتصور كيف يمكن أن يصنع الله هذا:
«عيناك أطهر من أن تنظرا الشرَّ، ولا تستطيع النظر إلى الجَوْر. فلِمَ تنظر إلى الناهبين وتصمت حين يبلع الشرير مَن هو أبرُّ منه» (1: 13). وبكلمات أخرى، كأن حبقوق يريد أن يقول إنه ليس حسنًا أن يترك الله الشعب الشرير ينتصر على شعب الله! ولكن كان تدبير الله المحيِّر أن يترك البابليين يغزَوْنَ شعب إسرائيل.
ويصف الله في هذه النبوَّة الأُمة المزمعة أن تحارب إسرائيل ما أثار الرعب والحيرة في قلب حبقوق.
فوصفها بأنها الأُمة المُرة القاحمة، هي هائلة ومخوفة، وخَيْلها أسرع من النمور وأحدُّ من ذئاب المساء،يأتون كلهم للظلم،تسخر من الملوك، والرؤساء ضُحكة لها،وتضحك على كل حصن،ثم تتعدَّى روحها فتعبر وتأثم(1: 5-11).
كل هذا تركه الله يحدث كجزء من تدبيره لتأديب إسرائيل بسبب زيغانهم عن البر وبسبب الإثم الذي يأتونه، وبسبب تشامخهم (1: 12).
مشاعر الحيرة وسط الظلمة:
كان حبقوق يفكِّر في أن الله بطيء في الاستجابة، وكان صعبًا عليه أن يفهمه، ونحن كثيرًا ما نُفكِّر هكذا في بعض الأحيان، وإن كنا لا نبوح بذلك لئلا نُعتبر في نظر الآخرين غير روحيين، ولكنها كثيرًا ما تراود أذهاننا. أما الأخبار السارة من الله فهي أننا لسنا وحدنا، وهذا هو ما ينبغي أن نؤمن به في ساعات الظلمة.
وسفر حبقوق يبدأ من هذا الحضيض لكنه في النهاية كما سنرى يختم بالسمو والقمة. فبحسب الطبيعة يقول حبقوق: «سمعتُ فارتَعَدَتْ أحشائي. من الصوت رَجَفَتْ شفتاي. دخل النخرُ في عظامي، وارتعدتُ في مكاني» (3: 16). لقد سقط صريع الخوف والقلق والجهل بمشيئة الله.
هل تحس بهذا وأنت تواجه الخراب في بيتك، أو في العمل، أو في أي موقع في حياتك؟ ربما تكون مستعدّاً لأي تغيير في حياتك، أو لأن تطوي الماضي وتنساه؛ ولكنك متألم لما يُخبِّئه لك المستقبل. هذه كانت مشكلة حبقوق. لذلك فإنه كان عليه أن يستريح في يوم الضيق عند صعود الشعب (الذي سيعتدي علينا)(3: 16). المستقبل يبدو مظلماً ولم يكن ينتظر خيراً من ورائه!
بالرغم من كل شيء، سوف نبتهج بالرب:
ولكن انظر وتأمل جيدًا في الآيات الثلاث التي بعد ذلك، والتي تُعبِّر بحق عن إيمان حبقوق:
«فمع أنه لا يُزهِر التين، ولا يكون حَمْلٌ (للثمار) في الكروم، ولو حمل الزيتون ثمرًا أو لم يُثمر، ولا أعطت الحقول طعامًا، وينقطع الغنم من الحظيرة، ولا بقرَ في المذاود؛ فإني أبتهج بـالرب وأفرح بـإله خلاصي. الرّب السيد قوتي، ويجعل قدميَّ كالأيائل، ويُمَشِّيني على مرتفعاتي»(2) (3: 17-19).
التوهان في طرق العالم:
كثيرًا ما نرى، ولكن من وجهة نظر طبيعية، أن هناك ثلاث طرق يمكنك أن تنظر بها إلى المواقف السلبية الصعبة:
الطريقة الأولى: أن تستسلم صاغرًا لهذا الموقف مُعتبرًا أن هذه هي الطريقة المُثلَى للمواجهة.
والطريقة الثانية: للتعامل مع المواقف السلبية: الانعزال. فالناس يستريحون أحيانًا بإبعاد أنفسهم عن المشاكل حتى لا يُفكِّروا فيها. ولكن الانعزال لا يحلُّ أية مشكلة، إنه فقط يترك المشكلة تحت السطح كالنار تحت الرماد.
أما الطريقة الثالثة: فهي حينما يتعامل الناس مع الصراعات بالتظاهر بالشجاعة، أي حسب المثل القائل: أعمل جدع! والمشكلة الوحيدة لهذه الطريقة هي أنها لا تدوم، والحماس الكاذب يُبعدك عن لُبِّ المشكلة.
آمن فقط، وابتهج بالرّب:
والسؤال الآن هو: كيف نواجه أيام الظلمة وساعات الظلمة وسلطان الظلمة؛ وعلى الأخص حينما نحس بأن الله يُبطئ في الاستجابة، أو أن المشكلة أعلى من قامتنا، أو أن الأمور تسير بعكس ما في أذهاننا؟
حبقوق يرينا كيف تعامَل مع المحنة التي حلَّت على شعبه بغزو البابليين:
«فإني أبتهج بالرب» (3: 18)، وكأنه يقول: حتى ولو تساءلتُ وتحيَّرتُ وغاب عن رؤيتي الحلُّ، فإني مُصمِّم على أن أبتهج بالرّب، فسأومِن به وأضع كل ثقتي فيه أنه يمكنني الاعتماد عليه، حتى ولو كنت لا أستطيع أن أراه، أو أفهم ما يعمله. لقد آمن حبقوق ووثق في الله، حتى وهو في الظلمة.
وهناك أمران لابد أن نؤمن بهما من جهة الله: نؤمن بشخصه وبحضوره، ونصدِّق كل وعوده وكلامه.
وقد فعل حبقوق هذا. ففي الآيات من 3-15 من الأصحاح الثالث، يتكلَّم عمَّا صنعه الله، ذاكراً ضمن ما ذَكَرَ عبور البحر الأحمر، وسقوط جليات الجبار على يد الفتى داود، وغير ذلك من أعمال الله العجيبة مع شعبه. إن تذكُّر أعمال الله ومعونته في الضيق، تنير لنا الطريق ونحن في الظلمة.
لماذا يجب أن نتذكَّر أعمال الله في حياتنا؟
ولكن، لماذا نحن نحتاج دائمًا أن نعرف ماذا عمله الله في القديم؟ سواء في تاريخ شعب الله القديم، أو في تاريخ كنيسة الله في العهد الجديد، أو في حياة الشهداء والقديسين والمدافعين عن الإيمان والحق. ذلك لأن الله «هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد» (عب 13: 8). إنه لا يتغيَّر، فهو سيظل يعمل كما عمل في الماضي.
وإن كان أسلوب عمله قد يختلف من شخص لآخر، ومن موقف لآخر. لكنه هو هو نفسه «يبقى أميناً لن يقدر أن يُنكر نفسه» (2تي 2: 13). وسيُتمم تدبيره ويُحقِّق أغراضه.
وحينما كان حبقوق يسير في الظلمة لم يكن يحاول أن يفهم المشكلة بنفسه لنفسه، بل ترك ذلك لله. وفي عصره كان البعض يتجهون إلى آلهة الأمم حينما يُصيبهم اليأس، ولكن حبقوق تذكَّر وذكَّر الجميع:
«أما الرب ففي هيكل قدسه. فاسْكُتي قدَّامه يا كل الأرض»(2: 20).
فالله ما يزال هو الرب، يملك ويحكم، ولا يمكن مقارنته بأي وثن. ونحن محتاجون أن نكون في سلام وهدوء، عالمين أن عمانوئيل الله معنا في وسطنا الآن بمجد أبيه والروح القدس، وهو يعمل دائماً من أجل خلاصنا. وحينما يريد الله، فسيُعرِّفنا بأسرار عمله. ونحن نحتاج أن نكفَّ عن القلق، والأنين، والتذمُّر، بل نُهدِّئ «ونُسكِّن قلوبنا قدَّامه» (1يو 3: 19)، ونترك الله يعمل عمله وسط الدهور. إن القلق من بطء الاستجابة، والإلحاح على الله ليستجيب سريعاً حسب فكرنا، يُعتِّم الظلمة أكثر علينا!
ليكن الله هو الله:
«الله في هيكله المقدس». وماذا نعمل في هيكله؟ إننا نعبد الله. ففي اضطرابنا وعتمة رؤيتنا، وفي إفلاسنا ويأسنا، علينا أن نعبد الله قائلين له: يا رب، كل ما أستطيع أن أعمله أن أعبدك وأُمجِّدك في هيكلك المقدس، حتى ولو لم أفهم شيئًا مما يحدث لي.
مثل هذه الصلاة هي عمل من أعمال الإيمان. ونحن بهذه الصلاة نعترف بأن الله حقًا هو ضابط كل شيء، وأننا بهذه الثقة ندخل إلى حضرته المقدسة ونحن عالمون ومتيقنون أن الله هو الذي يمسك دفة حياتنا.
وكما يقول حبقوق: «حتى ولو حمل الزيتون ثمرًا أو لم يُثم». وهذا نترجمه في حياتنا: حتى ولو كنتُ مريضًا أو سليمًا، حتى ولو فقدتُ مصدر رزقي، حتى ولو ولو… إلخ؛ فسأقول مع حبقوق: «فإني أبتهج بالرّب، وأفرح بإله خلاصي»، مُعلنًا مَن هو الله. إنه الله ضابط ومدبِّر كل شيء لحياتنا.
بهذا الفرح بالرّب سننال قوة للمسير والجهاد، كما يقول حبقوق: «الرب السيِّد قوتي، ويجعل قدميَّ كالأيائل، ويُمشِّيني على مرتفعاتي».
وهو بهذا يُشير إلى أنه بعد أن كان خائفًا متحيرًا خائر القوى: «حتى متى، يارب، أدعو وأنت لا تسمع»؛ الآن أصبح ينال قوة بها يستطيع أن يتخطَّى الصعاب، ويجتاز الجبال التي لا يمكن تسلُّقها.
من الإيمان وسط الظلمة تخرج الاستعلانات والرؤى:
ومن إيمان حبقوق وثقته في الله، وهو سائر في الظلمة، ولا يفهم شيئًا مما يجري حوله، خرجت أعظم استعلانات الله التي لم يتسنَّ لأحد أن يستعلنها ويُعلنها للآخرين. وهذه بعضها:
+ «فأجابني الرّب وقال: اكْتُب الرؤيا وانقشها على الألواح لكي يركض قارئها. لأن الرؤيا بعد إلى الميعاد، وفي النهاية تتكلَّم ولا تكذب. إن توانت فانتظِرْها، لأنها ستأتي إتياناً ولا تتأخَّر» (2: 3،2).
هذه رؤيا عن مجيء الرب يسوع حامل بشارة البر بالإيمان:
+ «والبارُّ بإيمانه يحيا» (2: 4).
+ «لأن الأرض تمتلئ من معرفة مجد الرّب كما تُغطي المياهُ البحرَ» (2: 14).
صلاة لحبقوق النبي (الأصحاح الثالث كله). هذه بعض فقراتها المعزِّية:
+ «يا ربُّ عَمَلَك في وسط السنين أَحْيِهِ. في وسط السنين عَرِّفْ. في الغضب اذكُر الرحمة».
+ «الله جاء من تِيمَان، والقدوس مـن جبل فاران. جلاله غطَّى السموات، والأرض امتلأتْ من تسبيحه».
+ «خَرَجْتَ لخلاص شعبك، لخلاص مسيحك. سحقتَ رأس بيت الشرير (الجحيم)، مُعرِّياً الأساس حتى العُنُق».
وكلها نبوَّات عن مجيء المسيح واستعلان خلاصه ومجده وسلطانه على السموات والأرض، وتحطيمه بيت الشيطان الذي هو الجحيم!
Discussion about this post