عطايا من اللَّه للبشر
قداسة البابا شنوده الثالث
إنَّ العطاء من صفات اللَّه وإحساناته إلينا. فهو باستمرار يعطي. وبعطائه يعطينا أيضاً درساً في العطاء. وهو يعطينا ما نعطيه لغيرنا. ويعطينا أيضاً موهبة العطاء. ولنبدأ حالياً في قصة العطاء بين اللَّه والبشر.
+ أول عطاء لنا هو نعمة الوجود، إذ خلقنا من العدم. خلق التراب أولاً ثم خلقنا من التراب وأعطانا نفساً عاقلة ناطقة … مَن مِنَّا يشكر اللَّه على هذه النعمة كلها؟! قد يقول البعض هذا شيء طبيعي. ونحن نشكر اللَّه الذي أعطانا هذا الوجود وهذه الطبيعة، إنه من كرم اللَّه ومن محبته أنه أنعم على العدم بالوجود.
+ ومن عطاء اللَّه أنه مهَّد للإنسان كل سُبل الراحة قبل خلقه، خلق له أولاً الطبيعة التي تريحه: النور والماء والنبات … رفع له السماء سقفاً، ومهَّد له الأرض لكي يمشي عليها. من أجله ألجم البحر، وأخضع له طبيعة الحيوان، ولم يدعه معوزاً شيئاً بل خلق له الشمس تمنحه النور بالنهار، والقمر والنجوم لإضاءة الليل … خلق له الطعام الذي يأكله، والطيور التي تغني في أذنيه، والطبيعة التي تمتعه بمناظرها. ومنحه أيضاً كل الطاقات التي تساعده على الحياة.
+ وعندما خلق اللَّه الإنسان، خلقه في منتهى الجمال، وفي منتهى النقاء والبساطة والطهارة التي كانت تُضفي عليه جمالاً آخر. وكان جسمه قوياً في صحته. كان خالياً من كل الأمراض الجسدية والأمراض النفسية. كان كاملاً جسداً ونفساً وروحاً. بل أن كلمة المرض لم يكن لها وجود في القاموس اللغوي للبشر ولا في الحياة العملية.
+ ومن كرم اللَّه أيضاً أنه أعطى الإنسان منذ خلقه سلطاناً على كل المخلوقات الحيَّة على الأرض وقتذاك: أعطاه سلطاناً على كل حيوانات الأرض، وكل طيور السماء، وكل أسماك البحر، وهذا السلطان كما كان لأبينا آدم وأمنا حواء، كان لأبينا نوح وأولاده. فإن كان الإنسان قد فقد سلطانه فإن ذلك لم يحدث إلاَّ بعد الخطية. ففي حياة الإنسان الأول ما كان يأكل لحوم الحيوانات، وما كان يصيدها، وما كان يحبسها في أقفاص بقصد الفرجة عليها. لذلك كله لم تكن هناك عداوة بينه وبينها فهي أيضاً ما كانت تفترسه، وما كانت تؤذيه. وكانت الخليقة كلها أسرة واحدة يرأسها آدم.
+ ومن كرم اللَّه ومحبته منح الإنسان البركة: فبارك أبوينا الأولين آدم وحواء، وبارك أبانا نوحاً وبنيه. وبعد ذلك بارك أبرام (إبراهيم) أب الأباء … وفيما بعد أرسل البركة، ومن أفواه الوالدين … وأبونا نوح كان بركة للعالم كله. لولاه لفنى العالم وقت الطوفان … ولكن اللَّه أبقاه لنا بركة وإمتداداً للبشرية.
+ وأعطى الرب للإنسان مواهب كثيرة، وأعطى الرب للإنسان وصايا ترشده كيف يسلك في الحياة، وأول تلك الوصايا كتابةً كانت ما قدَّمه موسى النبي للناس.
وقبل موسى النبي أعطى اللَّه لكل فرد الضمير وبه يعرف الخير والشر، فلمَّا قُتل هابيل البار عاقب اللَّه أخاه على قتله بينما وصية موسى النبي التي وردت في الوصايا العشر ” لا تقتل ” كانت بعد مقتل هابيل بحوالي ألف وربعمائة عام.
وكذلك الشرور التي بسببها حكم اللَّه بالطوفان على الأشرار. اعتبرت شروراً لأنها كانت ضد الضمير قبل أن يُرسِل اللَّه أية وصية للتوبة … إننا نشكر اللَّه من أجل الضمائر التي وضعها فينا منذ البدء.
+ وأعطانا اللَّه أيضاً نعمة الصلاة لكي تكون لنا صلة به، نتحدث بها إلى جلاله الأقدس. وهذا من فرط تواضعه ومحبته أن يسمح لنا نحن التراب والرماد أن نُحدثه مباشرة. وهذا أيضاً لون من محبته الإلهية للبشر أن يحدِّثوه عن احتياجاتهم لكي يُرسلها إليهم.
+ هناك مواهب خاصة أعطاها اللَّه للبعض. مِثلما أعطى سليمان موهبة الحكمة حتى تلقَّب بسليمان الحكيم. وأعطى شمشون موهبة القوة حتى تلقَّب بشمشون الجبار. وأعطى موسى موهبة النبوة وأصبح لقبه موسى النبي.
وأعطى البعض موهبة القيادة … وأعطى الكثيرين مواهب مُتعدِّدة: وما أكثر الذين وهبهم الرب موهبة الذكاء. فمنهم مَن كان ذكاؤه في العلوم حتى وصلوا بذكائهم إلى علوم الفضاء وصعدوا إلى القمر ومنهم مَن كان ذكاؤه في الطب أو الكيمياء وغير ذلك من العلوم. ومن الناس مَن وهبهم اللَّه سرعة البديهة، ومنهم مَن أعطاهم اللَّه مواهب الفن بكافة تفاصيله. وكل مَن نالوا موهبة من اللَّه، لا يجوز لهم أن يفتخروا بها، بل أن يرجعوها إلى اللَّه الذي منحهم إيَّاها.
+ ومن أعظم المواهب التي أنعم بها اللَّه على البشر عمل النعمة فيه. وبهذه النعمة يمكنهم أن يقودوا الغير إلى فعل الخير. هؤلاء هُم الخدام الأنقياء الأقوياء في إرشاد الناس. وإذا بنعمة اللّه تعمل فيهم، وتعمل معهم، وتعمل بهم. وهذه النعمة تعطيهم الفهم السليم، وتقودهم إليه.
+ النعمة يعيطها اللَّه للإنسان لكي يحيا في حياة البر والفضيلة. فإذا لم يخضع إلى عمل النعمة فيه وأخطأ واستمر في خطئه، فإنَّ النعمة تعمل فيه لكي يتوب، وكثيراً ما يفشل الإنسان في أن يتوب إلاَّ بقوة اللَّه العاملة معه التي تقود ضميره إلى التوبة،
وتقود قلبه إلى كراهية الخطية وإلى الندم على أفعاله السابقة، والرغبة في تغيير أسلوب حياته وسلوكه.
+ ومن أهم عطايا اللَّه للإنسان استمرار حياته بعد الموت. وذلك عن طريق القيامة،
التي يكون لنا بها حياة أخرى هى الحياة الأبدية التي لا موت بعدها. وما أعمق المتعة التي يعيطها اللَّه لنا في الحياة الأخرى، وما قد وعده اللَّه فيها بما لن تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر … هذه بلا شك قمة عطايا اللَّه.
+ أمَّا على الأرض فمن عطايا اللَّه التي نشكره من كل قلوبنا عليها، فإنها الرعاية والحماية التي يحيطنا بها سواء كانت رعايته لنا عن طريق الملائكة القديسين الذين يُرسلهم لحمايتنا
أو عن طريق الأبرار من البشر الذين يُكلِّفهم اللَّه لعمل الخير من أجلنا.
أخيراً إننا لا نستطيع أن نُحصي عطايا اللَّه. وما ذكرناه ما هو إلاَّ مُجرَّد أمثلة.
ويكفي الوعود التي وعدنا اللَّه بها في الأبدية وكل هذا يستدعي مِنَّا الشكر، ولا يصح أن ننكر عطايا اللَّه. فالذين ينكرون فهم لهم عيون ولكنها لا تُبصر.
Discussion about this post