حكاية القدّيس ايرونيموس مع الأسد الشجاع
(ترجمة: سلام سيّدة)
هذا النص المُمتع مأخوذ من «كتاب الحيوان في العهدين» (1927) وهو من أعمال القاص بول كازان المولود عام 1883. إنّه حكاية الصداقة المؤثرّة لرجلٍ قدّيس وأسدٍ شجاع.
في أحد الأيام بينما كان القدّيس ايرونيموس (من آباء الكنيسة ومدافع قويّ عن الإيمان المسيحيّ، عاش بين سنتي 340- 420). كان يجول في صحراء فلسطين، رأى أسداً مُستلقٍ خلف نخلة. كان إحساسه للوهلة الأولى مزعجاً.
فهو يحبّ الوحدة، وما تجواله في الصحراء إلاّ للهروب من كلّ صحبة. كان يفكّر في حديث عاصف دار بينه وبين روفان أحد الرهبان. ورؤية هذا الأسد قطعت عليه خيط أفكاره. ولكنّه وبسرعة أبعد القلق عن نفسه، وفكرّ في الخطر الّذي يترصّده وبدأ في التضرّع إلى الرّب من كلّ قلبه.لم يتحرّك الأسد والقدّيس ايرونيموس يقترب منه. رأى أنّ الحيوان يلعق قدمه ويبدو عليه الألم؛ وبذنبه
المتصلّب كالحديد كان يضرب جانبيه ضربات خاطفة. وعلى الرمل كانت آثار لطخات من الدم.
رسمَ القديس ايرونيموس إشارة الصليب، ووضعَ إحدى ركبتيه على الأرض ومدّ يده. فمدّ له الأسد قدمه. كان بين المخالب شوكة كبيرة من نبات شوكيّ. إنّها هي إذاً! قال القدّيس ايرونيموس. فأنتَ تركض وراء الظبيان، والغزلان، والقوافل ولا تنتبه أينَ تضع رجلكَ. ألستَ أنتَ الّذي رأيناه يحوم حول ديرنا؟ فلدينا حمار وأخشى كثيراً أن …
ولكنّ الأسد أشار برأسه بالنفي، وأنّه لا يأكلّ الحمير ولم يسلك أبداً إلاّ الطرق الصالحة.
– ليشفِك الله! قال القدّيس، وهو يقتلع الشوكة. إسعَ لكي تكون أسداً طيباً.
ثمّ، نفخ على القدم المصابة ليُبعد عنها الألم، ونهض بعناءٍ، مستنداً على ظهر الحيوان، لأنّه كان شيخاً مسنّاً. وبما أنّ النهار كان قد انقضى أخذ طريق العودة إلى الدير. سار قلقاً وهو يرتّب أفكاره، وكان الأسد يتبعه كما يتبع الكلب صاحبه وهو يعرج. ووفرّ له بعض التسليّة في الطريق. في الدير حدثت البلبلة. تزاحمت الجماعة حول الأب الطيّب وأسده. صرخ راهب عجوز وخرج عن صمته منذ ثمانٍ وسبعين عاماً وقال إنّه يرى هنا شيئاً عجيباً. المبتدئون الصغار بدأوا يتراكضون خلافاً للقاعدة، وبعضهم ضاع منه صندله أثناء ركضه، وبالنسبة لمبتدئ هذا عار لا يُمحى. بما أنّ الأسد يريد البقاء فيجب إيوائه في مكان ما. فكرّوا في الإسطبل أولاً قرب الحمار. ولكنّ القدّيس ايرونيموس وبرغم طباعه المتذمرّة كان يملك قلباً من ذهب ويتبصّر كلّ شيء، رفض هذه الفكرة. سيخاف الحمار كثيراً في الليلة الأولى كونه ليس معتاداً على هذا الرفيق الجديد.
– يا أبانا سيرى جيداً حمارنا أنّ رجل الأسد تؤلمه، قال له الرهبان.
– ولكنّه سيكون أكثر اطمئناناً لو رأى أنّ أسنانه هي التي تؤلمه أجاب القدّيس ايرونيموس. إضافة لذلك فإنّ الديك يسكن في الطرف الآخر من الإسطبل وصياح الديك لا يروق أبداً للأسد. ويجب أن يكون هذا سعيداً عندنا. إذاً فقد تُرك الأسد داخل السياج على الحشيش. وغمروه بالمداعبات والمودّة. أوصوه أن لا ينام على البلاط الحجريّ كي لا يُصاب بداء المفاصل لأنّ الأسود معرّضين لذلك كثيراً. وتمّ منع المبتدئين من وضع أنوفهم على نوافذ حجراتهم للنظر إليه، لأنّ هذا ما كانوا يرغبونه بشدّة.
أحبّ أسدنا حياة الجماعة. وكان على وفاقٍ تام مع الحمار والديك؛ كان راضٍ بالأكل المشترك. يُظهر لطفاً تجاه كلّ واحد، ولكنّه يبدي تعلّقاً خاصاً بالقدّيس ايرونيموس.
وإذا حصل أن داس أحد الرهبان الطيبين على ذنبه بدون انتباه منه وهو يسير وعيونه منخفضة ويداه داخل أكمامه، فلم يكن يغضب أبداً.
صار مثالاً لكلّ من يحيط به. ولكنّ البطالة غير نافعة. وبدأ القدّيس ايرونيموس يقلق من رؤية هذا الأسد بلا عمل. فأوكل إليه مهمة مراقبة الحمار وهو يرعى في مرجٍ على أطراف الصحراء، حيث يمرّ باستمرار بدو رُحل لهم سحنة متجهمّة. من شدة مراقبة حماره أصيب الأسد بعادة سيئة مشتركة بين كلّ الحرّاس والمراقبين والبوّابين وكلّ الناس الآخرين الّذين يمارسون مهنة ساكنة. فكان يسمح لنفسه بين الحين والآخر أن يغفو قليلاً. كان يقول لنفسه: «أنا لا أنام، عندي عين ترى جيداً، كلّ شيء على ما يرام». كلّ شيء سار جيداً إلى أنّه وفي أحد الأيام الجميلة جاء بدو من الصحراء، أناس سيئون، يضمرون شرّاً ولا يحترمون شيئاً وخطفوا الحمار.
بحث عنه الأسد حتى المساء، وهو يُصدر زئيراً مؤلماً، وعاهد نفسه أن لا يعود إلى أن يعثر عليه. ولكنّه نسيَ عادة النوم تحت سماء مملوءة بالنجوم. وسبّب له الرعب ضوء البدر الشاحب وهو ينعكس على ذروة شجرة النخيل.
عاد وحيداً ويائساً.
حاول الأسد المسكين وبشتّى الوسائل القادر عليها أن يؤكّد أنّه لم يأكل الحمار. كنّا واثقين أنّه كان مذنباً بسوء ائتمان فظيع لم يسبق أن ورد ذكره في سجلات أحداث الأديرة. لقد أكلتَ الحمار! اعترف أيها البائس، لقد أكلتَ الحمار، قال له الرهبان.
اجتمع مجلس الرهبان وقرّر معاقبته بأكل الخبز وشرب الماء فقط لمدة خمسة عشر يوماً. لم يعد أحد يداعبه. القدّيس ايرونيموس كان يتجنّب النظر إليه وهذا ما كان يسبّب حزناً كبيراً للأسد المسكين.
تحمّل صيامه بتواضع مثاليّ، وعند نهاية مدة العقاب، اختفى .
كان يجب أن نتوقع هذا! صاح الرهبان. لقد أكلّ الحمار والآن ها هو يرتّد. هذا أمر في غاية البساطة.
ولكنّ القدّيس ايرونيموس لم يكن يتفوّه بشيء. لقد أثرّ به اختفاء الأسد أكثر من موت الحمار. كان يُلاحظ عليه الحزن الكبير والتفكير العميق. لم يبدُ له هذا الشيء بسيطاً.
بحث الأسد عن الحمار. لم يكن يريد أن يموت قبل أن يسترجع مكانته عند الرجل القدّيس ايرونيموس. لقد بحث في كلّ مكان ودخلت في قدميه أكثر من شوكة. اجتاز سوريا وبلاد العرب، كبادوكيا وهي بلاد بعيدة.
ومن المؤرخين مَن زعم أنّه رآه في بلاد بعيدة جداً ولكنّ أقوالهم مشكوك فيها. ومهما يكن فالحيوان المسكين لم يوفّر أتعابه. لقد بحث عدة سنوات ولم يجد شيئاً.
أخيراً، شعر أنّ قواه بدأت تضعف وأنّه لن يعيش طويلاً فقرّر العودة إلى الدير.
وبينما هو واقف على قمة تلّة، قلبه محطّم من الحب واليأس، ينظر من بعيد إلى نافذة الرجل القدّيس ايرونيموس وإلى بئر الرهبان والإسطبل، فجأة يرى شيئاً يسير على الطريق، ماذا يرى؟ قافلة بدو.
وفي أول القافلة ماذا يرى؟ حماره! حماره وهو يتعثّر من جراء حمل كبير على ظهره والبدو الأشرار يوسعوه ضرباً.
وأطلق زمجرة مرعبة جعلت القافلة تفرّ ولكن الأسد الّذي كان يعرف ما يريد وبحركة دائريّة بارعة منه جعل وجهتها نحو الدير.
عرف الحمار بسرعة الأماكن الّتي وُلد وكبر فيها، وأصدر نغماً موسيقياً فُتح الباب على إثره.
– حمارنا! صاح الرهبان. حمارنا ما زال حيّاً. إذاً لم يأكله الأسد. أين هو الآن هذا الأسد المسكين؟ إنّه بلا شك مات حزناً، هذا إذا لم يمت من اليأس. آه كم ظلمناه!
ورفع القدّيس ايرونيموس يديه نحو السماء وسالت على لحيته دمعتان كبيرتان، فبعد مرور آخر بدوي. قفز الأسد في وسط الباحة وتمدّد عند قدمي صديقه الشيخ، الذي انحنى ليقبلّه.
Discussion about this post