السفر الرابع
في سرّ القربان الأقدس
” عظيمةٌ هي مهمة الكهنة، وعظيمة رتبتهم! فقد أعطي لهم ما لم يعط للملائك”. ( 4 اقتداء 5: 1 )
تحريض تقوي على التناول المقدس
صوت المسيح
” تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والمثقلين، وأنا أُريحكم1“، يقول الرب. (1) متى 11: 28
” الخبز الذي سأُعطيه أنا، هو جسدي، لأجل حياةى العالم2“. (1) يوحنا 6: 51
” خذوا، كلوا، هذا هو جسدي، الذي يبذل لأجلكم، إصنعوا هذا لذكري3“. (3) متى 26: 26، 1كورنثيين 11: 24.
” من يأكل جسدي ويشرب دمي، يثبت فيَّ وأنا فيه4“. (4) يوحنا 6: 57
” الكلام الذي كلمتكم به، هو روحٌ وحياة5“. (5) يوحنا 6: 64
الفصل الأول
بأي احترام يجب أن نتناول المسيح
صوت التلميذ
1 – ذلك هو كلامك أيها المسيح الحق الأزلي، وإن لم يقل في وقتٍ واحد، ولا كتب في موضعٍ واحد.
فمن حيث هو كلامك، ومن حيث هو حقّ، فعليَّ أن أقبله كله بإيمانٍ شاكراً.
إنه لك، لأنك أنت قد نطقت به، وهو لي أنا أيضاً، لأنك من أجل خلاصي قد فهت به.
إني أرتاح إلى قبوله من فمك، لكي يكون أعمق انطباعاً في قلبي.
إنها لتستحثني هذه الكلمات الجزيلة الرقة، المملوءة عذوبة ومحبة، لكن آثامي ترعبني، ودنس ضميري يصدني عن تناول هذه الأسرار العظيمة.
تستدعيني عذوبة أقوالك، لكن كثرة رذائلي تثقلني.
2 – تأمرني أن أدنو إليك بثقة، إن أردت أن “يكون لي نصيبٌ معك1“؛ وأن أتناول قوت الخلود، إن رغبت في نيل الحياة والمجد الأبدي! (1) يوحنا 13: 8
تقول:” تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والمثقلي، وأنا أُريحكم2“! (2) متى11: 28
يا لها من كلمةٍ عذبة، مستحبةٍ أُذن الخاطئ! إذ إنك أنت، أيها الرب إلهي، تدعوني، أنا البائس المسكين، إلى تناول جسدك الأقدس!
فمن أنا، يا رب، حتى أجرؤ على الدنو منك؟
“ها إن سماوات السماوات لا تسعك3“، وأنت تقول:” تعالوا إليَّ جميعكم2“!
(2) متى11: 28 (3) 3 ملوك 8: 27.
3 – فما هذا التنازل والعطف الجزيل؟ وما هذه الدعوة المفعمة حباً؟
كيف أجسر علىالمجيء إليك، وأنا لا أشعر في نفسي بشيءٍ من الصلاح، يسوغ لي مثل هذه الجرأة؟
كيف أُدخلك بيتي، وقد طالما أسخطت وجهك العطوف؟
إن الملائكة ورؤساء الملائكة يهابونك، والقديسين والصديقين يخافون منك، وأنت تقول:” تعالوا إليَّ جميعكم1“! (1) متى 11: 28.
لو لم تكن أنت نفسك، يا رب، قد قلت هذا الكلام، فمن كان يصدقه؟
ولو لم تكن أنت نفسك الآمر بالدنو إليك، فمن كان يحاول ذلك؟
4 – هوذا نوحٌ الرجل الصديق، قد اشتغل مئة سنةٍ في صنع التابوت، ليخلص به مع نفرٍ قليلين؛ وأنا كيف أستطيع أن أستعد في ساعةٍ واحدة، لأن أقبل باحترامٍ صانع العالم؟
إن موسى عبدك العظيم، وخليلك الخاص، قد صنع التابوت من خشبٍ لا يفسد، وغشاه بأخلص الذهب، ليجعل فيه لوحي الشريعة؛ وأنا الخليقة الفاسدة، أجسر على تناولك بمثل هذه السهولة، أنت واضع الشريعة ومعطي الحياة!
إن سليمان، أحكم ملوك إسرائيل، قد قضى سبع سنين، في تشييد هيكلٍ فخمٍ لتسبيح اسمك؛ واحتفل ثمانية أيامٍ بعيد تدشينه، وقرب ألف ذبيحة سلامة، وبين التهليل وهتاف البوق، وضع تابوت العهد، باحتفال، في الموضع المهيإ له؛
وأنا الشقيَّ، أفقر جميع الناس، كيف أُدخلك بيتي، وأنا لا أكاد أقضي في العبادة نصف ساعة – وحبذا لو استطعت أن أقضي، ولو مرةً واحدة، زهاء نصف ساعة، في عبادةٍ لائقة!
5 – إلهي، ما أعظم ما كان اجتهاد أُولئك في عمل ما يرضيك!
أما أنا، فواأسفاه! ما أقل ما أعمل، وما أقصر الوقت الذي أقضيه في إعداد نفسي للتناول!
إني في النادر أكون جامعاً حواسي وخواطري؛ وفي النادر جداً أكون خالياً من كل تشتت.
والحال أنه، في حضرتك، يا إلهي ومخلصي، قد كان من الواجب أن لا يخطر على بالي فكرٌ غير لائق، بل ولا أن تشغلني خليقةٌ البتة، لأني مزمعٌ أن أُضيف لا ملاكاً، بل ربَّ الملائك.
6 – وفضلاً عن ذلك، فالفرق عظيمٌ جداً، بين تابوت العهد مع ذخائره، وجسدك الأطهر مع مفاعيله المعجزة البيان، بين تلك الذبائح الناموسية، التي كانت رمز المستقبلات، وذبيحة جسدك الحقيقية، المتممة جميع الذبائح القديمة.
7 – فلم إذن لا أزداد اضطراماً في حضرتك المهيبة؟
لم لا أستعد، باهتمامٍ أوفر، لتناول أقداسك، فيما أُولئك القديسون الأقدمون، من آباءٍ وأنبياء، وملوكٍ وأُمراء، مع الشعب كله، قد أظهروا مثل هذه الغيرة والتقوى في عبادة الله؟
8 – إن داود، الملك الجزيل الورع، قد رقص بكل قواه أمام تابوت الله، ذاكراً ما سلف من إحساناتك إلى آبائه، وقد صنع آلات عزفٍ من أنواعٍ مختلفة، وصنف المزامير ورسم أن يرنم بها بفرح، وكثيراً ما رنم بها، هو نفسه، على القيثار، بإلهامٍ من نعمة الروح القدس، وقد علم شعب إسرائل، أن يسبحوا الله بكل قلوبهم، ويباركوه ويشيدوا له، كل يومٍ، باتفاق الأصوات.
فإن كان تابوت العهد قد أذكى حينئذٍ، بمنظره، مثل هذه التقوى، وذكر بمثل هذه الإشادة لله، فأي احترامٍ وتقوى، يجب عليَّ وعلى جميع الشعب المسيحي، أن نبدي الآن في حضرة هذا السر الأقدس، عند تناولنا جسد المسيح الجزيل الكرامة؟
9 – كثيرون يخفون إلى أماكن مختلفة، لزيارة ذخائر القديسين، فيدهشون لسماع أخبارهم، ومشاهدة ما شيد لإكرامهم من هياكل فسيحة؛ ويقبلون عظامهم المقدسة، الملفوفة بالحرير والذهب؛
وها أنت يا إلهي حاضرٌ هنا بقربي، على الهيكل، أنت قدوس القديسين، وخالق البشر، ورب الملائكة!
وما يحمل الناس على تلك الزيارات، إنما هو، في الغالب، فضول بشري، ورغبة التفرج على أشياء جديدةٍ لم يروها، ولذلك قلما يجنون منها ثمراً لإصلاح أنفسهم، ولا سيما إذا قاموا بتلك التجولات عن خفة، ومن غير ندامةٍ حقيقية؛
أما هنا، في سر الهيكل، فإنك حاضرٌ كاملاً، أيها الإله “والإنسان يسوع المسيح1“، وكلما قبلناك فيه بأهليةٍ وعبادة، جنينا بوفرةٍ ثمار الخلاص الأبدي؛ (1)1تيموتاوس 2: 5
ولكن ما يجذبنا إليه، ليس الخفة، ولا الفضول، ولا ميل الحواس، بل الإيمان الوطيد، والرجاء الحق، والمحبة الخالصة.
10 – أيها الإله خالق العالم غير المنظور، ما أعجب معاملتك لنا! ما أعذب وما ألطف تصرفك مع مختاريك! فإنك تقدم لهم ذاتك، ليتناولوك في سر محبتك!
إن ذلك لمما يفوق كل إدراك، وإنه، هو خصوصاً، ما يجذب قلوب العباد ويضرم محبتهم.
فإن مؤمنيك الحقيقيين، الذين يوجهون حياتهم كلها إلى إصلاح ذواتهم، كثيراً ما ينالون بوفرةٍ، من هذا السر الأسمى، نعمة العبادة وحب الفضيلة.
11 – يا لنعمة هذا السر، العجيبة الخفية، التي لا يعرفها سوى المؤمنين بالمسيح! أما غير المؤمنين والمستعبدون للخطيئة، فلا يستطيعون أن يختبروها.
في هذا السر تمنح النعمة الروحية، فتسترجع النفس ما فقدته من الفضيلة، وتسترد جمالها الذي شوهته الخطيئة.
ولقد تعظم أحياناً هذه النعمة، فتفيض في الإنسان، من العبادة، ما يجعله يشعر بتزايد قواه، لا في الروح فحسب، بل في الجسد الضعيف أيضاً.
12 – أما نحن، فعلينا أن نبكي ونرثي جداً لفتورنا وتهاوننا، لأننا لا نقبل، بشوقِ أعظم، على تناول المسيح، الذي فيه كل رجاء المعدين للخلاص وكل استحقاقهم.
فإنه هو “قداستنا وفداؤنا1“؛ هو تعزية المسافرين على الأرض، ونعيم القديسين الأبدي. (1) 1كورنثيين 1: 3.
فمن دواعي الأسف الشديد، أن الكثيرين قلما يأبهون لهذا السر الخلاصي، الذي يفرح السماء ويحفظ العالم بأسره.
يا لعمى القلب البشري وصلابته! فالناس لا لا يعيرون انتباهاً أعظم لهذه العطية المعجزة البيان، بل إنهم، باستعمالهم لها كل يوم، يستدرجهم الأمر إلى عدم المبالاة!
13 – فلو كان هذا السر الأقدس، لا يحتفل بإقامته إلا في مكانٍ واحد، ولا يقدسه إلا كاهنٌ واحدٌ في العالم، فبأي شوقٍ يا ترى، كان الناس يهرعون إلى ذلك المكان، وإلى كاهن اله ذاك، لكي يشهدوا إقامة الأسرار الإلهية!
أما الآن، فالكهنة كثيرون، والمسيح يقرب في أماكن كثيرة، لكي تزداد تجلياً نعمة الله ومحبته للبشر، بقدر ما يزداد التناول انتشاراً في العالم.
فشكراً لك يا يسوع الصالح، الراعي الأزلي، الذي ارتضى أن يغذينا بجسده ودمه الكريمين، نحن البائسين المنفيين، وأن يدعونا، هو نفسه بكلام فيه، إلى تناول هذه الأسرار، قائلاً:” تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والمثقلين، وأنا أُريحكم!1” (1) متى 11: 28
Discussion about this post