أسرار الكنيسة السبعة
بقلم قداسة البطريرك مار إغناطيوس زكا الأول عيواص
تمـهـيـد
هذا بحث يتضمن شرحًا موجزًا وسهلًا لعقيدة كنيستنا السريانية الأرثوذكسية في أسرار الكنيسة السبعة، التي تعتبر من ضمن عقائد الكنيسة الإيمانية الرئيسية.
يعرّف آباء كنيستنا الميامين السرّ بأنه عمل مقدس، به ينال المؤمنون تحت مادة منظورة، نعمة غير منظورة. ففي كل سر من أسرار الكنيسة السبعة وجهان
وحيث أن الإنسان مركب من نفس وجسد وما يقع تحت حواس الجسد يطبع في النفس بقوة عظيمة، فلأجل هذا اختار اللّه الذي «يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون» (1تي 2: 4)
وقد رسم الرّب يسوع نفسه أسرار الكنيسة السبعة وأودعها كنيسته المقدسة ليوزّعها خدام الكنيسة الروحيون على المؤمنين لنيل نِعَم الخلاص.
إن الإيمان شرط أساس للراشدين من المؤمنين ليستحقوا نيل مفاعيل هذه النعم التي تتضمنها الأسرار المقدسة. أما غير الراشدين فينالون ذلك بناء على إيمان آبائهم أو ولاة أمرهم. ففي سر المعمودية مثلًا يعلن الإشبين (القريب) صورة الإيمان نيابة عن الطفل المعتمد وكأن الطفل ذاته قد أعلن هذا الإيمان
وتستمد هذه الأسرار المقدسة قوتها من ذبيحة الصليب والغاية منها نيل التبرير
إن السرّ ليس بحدّ ذاته علّة النعمة، إنما اللّه تعالى وحده العلّة الرئيسة لها، وهو واهب النعم، وهو يعطي للأسرار قوة النعمة ومفعولها عندما تكمل رتبة السرّ بصورة قانونية صحيحة، وما السرّ إلاّ واسطة لنيلها. وعليه فإن مفعول السرّ صادر عن إيمان من يقتبله ونيته واستعداده، لذا لا فرق إن كان خادم السر الشرعي خاطئاً أو باراً فالمؤمن ينال مفعول السر على كلتا الحالتين وهذا من فيض مراحم اللّه. أما خادم السر غير البار وغير التائب فدينونته صارمة. فعلى المؤمنين أن يتقبّلوا هذه الأسرار بإيمان حي لا تزعزعه الشكوك، ذلك أن النعم التي ينالونها هي غير محسوسة
أجمعت الكنائس الرسولية استنادًا إلى تعاليم الرسل الأطهار وشهادات الآباء الأبرار على أن عدد أسرار الكنيسة هو سبعة وأن الكنيسة المقدسة منذ فجر وجودها قد مارست هذه الأسرار بلغاتها المتنوعة وطقوسها العديدة، وعلى الرغم من اختلاف هذه الكنائس في أمور عقيدية كثيرة، وتباين أساليب ممارسة طقوسها، فقد أجمعت على عدد الأسرار السبعة وجوهرها وما تدلّ عليه، مما يقيم الحجة الدامغة على أنها من وضع إلهي وتسليم رسولي، ولئن لم يأتِ الكتاب المقدس على ذكرها بشكل صريح، وكما لم يرد أيضًا ذكرها جملة في كتابات بعض الآباء الأولين، علمًا بأن بعض الآباء تكلّموا عن سرين أو ثلاثة معًا بحسب المناسبة والحاجة والغاية من ذلك الكلام. وهذه الأسرار السبعة هي: 1 ـ المعمودية، 2 ـ الميرون المقدس، 3 ـ القربان المقدس، 4 ـ التوبة والاعتراف، 5 ـ مسحة المرضى، 6 ـ الكهنوت، 7 ـ الزواج.
وقد وضع آباء الكنيسة الميامين شروطًا ثلاثة لإتمام كل سرّ من هذه الأسرار بصورة صحيحة وهي: 1 ـ المادة: كالماء في سرّ المعمودية والخبز والخمر في سرّ القربان المقدس. 2 ـ الصورة: وهي الألفاظ التي تتلى أثناء إتمام رتبة السرّ الطقسية كقول الكاهن في سرّ المعمودية عمد عبدؤ دمشيحا… ليعمد عبد المسيح (فلان)… على رجاء الحياة… باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين. وينبغي أن تكون المادة والصورة مما فيه قوة الدلالة على الغاية من السر وعمل القداسة والبر 3 ـ الخادم الذي قد نال الشرطونية القانونية ووهب السلطة الروحية الشرعية أي الرتبة والدرجة اللتين تؤهّلانه للقيام بإتمام رتبة ذلك السر الطقسية. وذلك باسم الرب يسوع وسلطانه الإلهي.وللأسرار السبعة قوة ثلاثية الدلالة فهي تشير:
1 ـ إلى الماضي، وبخاصة إلى آلام السيد المسيح وموته لأجلنا وقيامته.
2 ـ إلى ما هو حاضر، كنعمة التبرير والتقديس والتبني التي ننالها بالمسيح في سر المعمودية.
3 ـ وإلى المستقبل حيث سنستحق بالمسيح أن نرث الحياة الأبدية والسعادة في السماء.
فسر المعمودية مثلاً الذي يعتبر الباب الذي منه ندخل إلى حظيرة المسيح، هو علامة تشير إلى النعمة الإلهية التي ننالها بموت المسيح عنا وقيامته من بين الأموات وبهذا يقول الرسول بولس: «أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضًا في جدة الحياة» (رو 6: 3و4). هذا هو الأساس للسر أي الماضي، أما الحاضر فهو ولادتنا ثانية من السماء عندما ننال هذا السر، أما المستقبل فهو إذ نصير بولادتنا من السماء أبناء للآب السماوي ونسلك على الأرض كما يوصينا الرسول بولس بقوله: «فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح» (في 1: 27)، نستحق في اليوم الأخير أن نرث ملكوته السماوي.
فعلى كل مسيحي أن يقتبل ما يحق له من هذه الأسرار المقدسة، فالأسرار السبعة جميعها، ضرورية للخلاص، لبنيان جسد المسيح السرّي الذي هو الكنيسة التي هي هيئة دينية عامة. أما بالنسبة إلى المؤمنين كأفراد فبعض هذه الأسرار ضروري على الإطلاق أن يتقبله المؤمنون لينالوا الخلاص بالمسيح يسوع ربنا وهي كسرّي المعمودية والميرون المقدس اللذين يُمنحان كلاهما معًا. فبعد أن يعتمد المؤمن يمسح بالميرون المقدس مباشرة. وسرّ القربان المقدس الذي يُمنح للمؤمنين بعد تقـبُّـلهم سرّي العماد والميرون المقدس مباشرة. ويتقبّلونه باستمرار ما داموا أحياء لأنه قوت روحي ضروري لتقديس النفس والجسد وللنمو الروحي بالمسيح والثبات فيه ولنيل الحياة الأبدية، ولقدسيته يجب أن يكون المؤمنون في حالة البر أي التوبة عندما يتناولونه لذلك يمارسون استعدادًا لنيله، سرّ التوبة والاعتراف.
إن بعض الأسرار غير ضروري أن يناله المؤمنون كأفراد ليحصلوا على الخلاص، وهذه الأسرار هي سرّ الكهنوت الذي لا يلتزم الجميع بالارتسام به ولا يناله إلا المدعو من اللّه والمنتخب منه تعالى، وسرّ الزواج وسرّا مسحة المرضى والتوبة والاعتراف، السران اللذان يعتبران ضروريين حينما يسقط المؤمنون في الخطية أو يصيبهم مرض جسدي. وهذه الأسرار ضرورية جدًا للكنيسة ككل، فسرّ الزواج مثلاً ضروري جدًا للكنيسة ككل لحفظ الجنس البشري، ولكنه غير ضروري للخلاص للمؤمنين كأفراد مثل الذين ينذرون البتولية ويتحمّلونها، والأرامل الذين يتحملون ذلك وتعتبر لدى هؤلاء جميعًا البتولية أفضل من الزواج وأقدس (1كو 7: 33و34و38).
وإن بعض هذه الأسرار ذو صبغة ثابتة فلا يمكن أن يتكرر قبوله كالمعمودية والميرون، ونفس الدرجة من رتب الكهنوت، وبعض الأسرار يمكن أن يتكرر قبوله وممارسته كالقربان المقدس، والتوبة والاعتراف، ومسحة المرضى.
سر المعمودية
سر مقدس، به يُولد المؤمنون ميلادًا ثانيًا من الماء والروح وقد أسس الرب يسوع هذا السر بقوله لتلاميذه: «دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (مت 28: 18و19).
وسر المعمودية يمحو جوهر الخطية الجدية التي هي جريمة آدم المتصلة بذريته فقد عمّت الخطية الجدية جميع الجنس البشري المولود من آدم وحواء لأنهما لم يلدا أحدًا إلاّ وهما في حالة الخطية، لذلك فالإنسان يولد بشيء من الفساد كما يذكر ذلك داود صاحب المزامير بقوله للّه: «وبالخطية حبلت بي أمي» (مز51) ولا يستثنى منه أحد ممن لبس الجسد البشري سوى ربنا يسوع المسيح المولود من الروح القدس ومن مريم العذراء بدون زرع رجل، وهو منزّه عن الخطية الجدية والخطايا الفعلية على الإطلاق. أما النزعة إلى الشر لدى البشر كافة فهي نتيجة تلك الخطية ويمكن أن يتغلب عليها المعمّد باسم الثالوث الأقدس، بالتدريج بوساطة تجديده روحيًا. وحيث أن المعمودية ضرورية للخلاص بناء على قول الرّب يسوع القائل: «إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله» (يو 3: 5) لذلك أمر الرسل الأطهار والآباء الأبرار أن يُعمّد الأطفال الصغار خوفاً من أن يموتوا وهم في سن الطفولة فيحرموا من دخول ملكوت اللّه لأنهم مشتركون في الخطية الجدية فلا بد من تطهيرهم منها بالمعمودية. وحيث أن إيمان المتقدم للعماد يسبق عماده بناء على قول الرّب يسوع: «من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يُدَنْ» (مر 16: 16) لذلك أوصت الكنيسة أن يعتمد الأطفال بناء على إيمان آبائهم كما كان شعب العهد القديم يختنون الأطفال في اليوم الثامن لميلادهم بناء على إيمان آبائهم، لأن الختان في العهد القديم كان علامة العهد الذي قطع بين اللّه وبين ذلك الشعب، ورمزًا إلى المعمودية التي هي علامة العهد بين المسيحيين والرب يسوع كما حددت الكنيسة أن يكون للمعتمد اشبين (عرّاب) يتعهد بأن يعلّمه مبادئ الإيمان ويهتم بتربيته الروحية. ومما يبرهن على عماد الأطفال أن الرسل لم يستثنوا من العائلات التي عمّدوها أحداً ولم يفرزوا الأطفال من بينها بل عمّدوهم معها (1كو 1: 16 وأع 16: 15). وقد تضمّن قانون 113 لمجمع قرطاجنة أن معمودية الأطفال ضرورية لهم كما هي ضرورية لسواهم وذلك لكي يخلصوا من خطية آدم التي ولدوا بها وإذا ماتوا ملوّثين بأدرانها يُحرمون من السعادة الأبدية وميراث المسيح الذي أعده للمؤمنين المعمّدين.
وتتمسّك كنيستنا بتغطيس المعتمد ثلاث مرّات في جرن المعمودية أثناء ممارسة طقس العماد المقدس، وقد مارس الرسل الأطهار طقس المعمودية بالتغطيس، ويخبر البشير لوقا عن كيفية عماد الخصي الحبشي على يد الشماس فيليبس حيث نزلا معًا في قلب غدير (أع 8: 36) وكان ممكنًا لهما أن يجدا ماءً قليلاً في العربة التي كانا يقلاّنها ويكتفيا به لو كان ذلك جائزًا بدون أن ينتظرا ورودهما على غدير. وبولس يعلّمنا أن المعمودية تمثّل موت المسيح ودفنه وقيامته بقوله: «فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضًا في جدة الحياة» (رو 6: 4) ويستحيل أن يراد بالدفن إلا التغطيس فلا يجوز الاكتفاء بالرش على جبهة المعتمد وبعض أعضاء من جسمه.
مفاعيل سر المعمودية وثمارها:
تجدد المعمودية خلقة الإنسان روحيًا فينال نعمة التبرير أي تطهير النفس من الخطية الجدية والخطايا الفعلية السابقة لنيله سر المعمودية، كما ينال نِعَم التجديد والتقديس والتبني أي يصير ابنًا للّه بالنعمة، وعضوًا حيًا في جسد المسيح السرّي أي الكنيسة المقدسة، ويحصل على الحق بوراثة الحياة الأبدية، فالمعمودية إذن ضرورية للخلاص وعلى كل مؤمن بالمسيح يسوع أن ينالها. وقد وضّح ذلك الرسول بطرس في خطبته يوم الخمسين التي بعد أن سمعها اليهود «نخسوا في قلوبهم و قالوا لبطرس ولسائر الرسل ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة، فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس… فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضمّ في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس» (أع 2: 37و38و41). ولا تكرر المعمودية لأنها كالولادة الجسدية تحدث مرة واحدة بالحياة.
سر الميرون المقدس
هو مسحة مقدسة بها يختم الكاهن ويمسح أعضاء جسد المعمّد بالمسيح ظاهريًا حال خروجه من جرن المعمودية ليكتسي بالنعمة باطنياً أي ينال نعمة الروح القدس. وكان هذا السر يتمّ في بدء المسيحية بوضع الرسل أيديهم على المعمدين فينالون الروح القدس (أع 8: 17 و19: 6) كما يتّضح ذلك مما جاء في سفر أعمال الرسل عن إيمان أهل السامرة وعمادهم على يد فيلبس الشماس ولم يحلّ عليهم الروح القدس لذلك أرسل الرسل إليهم بطرس ويوحنا «اللذين لما نزلا صلّيا لأجلهم لكي يقبلوا الروح القدس»(أع 8: 15) ولما كثر عدد الداخلين إلى الدين المسيحي وتعذّر على الرسل أن يوجدوا في الأماكن النائية ويقوموا بهذا العمل الروحي المقدس، فبإلهام الروح القدس استعاضت الكنيسة المقدسة عن وضع اليد بالميرون المقدس الذي قدّسه الرسل الأطهار، وقد ركّبوه من زيت الزيتون النقي والحنوط والطيوب التي كانت على جسد الرب في القبر وأضافوا إليها البلسم وقدّسوه وسلّموه إلى تلاميذهم الأساقفة وأمروهم ليدهنوا هم والكهنة جميع المعمدين استعاضًا عن وضع اليد، وقد اقتبسوا استعمال دهن الميرون المقدس من العهد القديم (خر 30: 25). وإن تركيبه من العطور يرمز إلى عددية المواهب الروحية واختلاف أنواعها.
ولهذه المسحة قوة سماوية فهي تعلّم المؤمنين كل شيء وعلى المؤمنين أن يتمسّكوا بكل ما علّمتهم هذه المسحة على حد قول الرسول يوحنا القائل: «وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يعلّمكم أحد بل كما تعلّمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء وهي حق وليست كذباً كما علّمتكم تثبتون فيه»(1يو 2: 27). وعندما نعقد المقارنة بين هذا الكلام عن المسحة المقدسة وبين كلام الرب يسوع عن العماد بالروح القدس بقوله:«لأن يوحنا عمّد بالماء وأما أنتم فستتعمّدون بالروح القدس» (أع 1: 5) نكتشف الربط الموجود بين عمل المسحة ومفاعيلها وعمل الروح القدس، فالمسحة هي العلامة الظاهرة المنظورة لسر مفاعيل الروح القدس الذي لا يرى ولا يحسّ به ولكن تأثيره يظهر في المؤمنين. قال الرب يسوع لنيقوديموس: «لا تتعجب أني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق، الريح تهبّ حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب هكذا كل من وُلد من الروح»(يو 3: 7و8). وقد كشف الرب يسوع النقاب عن رسالة الروح القدس في العالم في تعليم الرسل وإرشادهم وتذكيرهم بما علّمهم الرب يسوع إياه قائلًا: «أما المعزّي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلّمكم كل شيء ويذكّركم بكل ما قلته لكم» (يو 14: 26) «ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضًا لأنكم معي من الابتداء» (يو 15: 26و27). فعمل المسحة هو عمل الروح القدس ذاته.
لنتتبع عمل الروح القدس منذ البدء «فروح اللّه كان يرف على وجه المياه» (تك 1: 2) وروح الرب حلّ على الأنبياء والأتقياء في العهد القديم، والمسحة صنعها موسى بناء على أوامر اللّه لمسح هرون والكهنة والمذابح والأواني المقدسة.
كما استعملت هذه المسحة لمسح الملوك فعندما أرسل النبي صموئيل إلى يسى وطلب من هذا أن يأتي بأبنائه لم يُبدِ قرن الزيت أي علامة حتى جاء الفتى داود ففاض الزيت الذي يمثّل الروح القدس وبذلك أعطى علامة للنبي أن اللّه قد اختار داود ملكًا ونبيًا فسكب النبي الزيت على رأس داود وكرّسه. فقد كان في الزيت قوة روحية وتأثير واضح فهو الذي يرشد ويعلّم ويقدّس. وفي العهد الجديد نزل الروح القدس من السماء بهيئة جسمية مثل حمامة على الرب يسوع على أثر خروجه من الماء بعد أن اعتمد من يوحنا ولذلك عندما دخل مجمع الناصرة وفتح السفر ليقرأ وجد الآية المقدسة التي قالها النبي إشعياء قبل الميلاد بثمانية قرون على لسانه له المجد فتلا نصها وهو «روح الرب عليّ لأنه مسحني لأبشّر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق و للعمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية» (لو 4: 18).
قال مجمع اللاذقية: «يجب على المستنيرين بأن يمسحوا بعد المعمودية بالمسحة السماوية ويصيروا مساهمين لملكوت اللّه» (قانون 48) لذلك يمسح الأطفال أيضًا بعد عمادهم مباشرة. ويجب ألاّ نحرم الأطفال من موهبة سرّ الميرون المقدس كما لم نحرمهم من المعمودية وإن اللّه تعالى لم يمنع نعمته عن الأطفال بل انه أنعم على بعض مختاريه أنه اختارهم وهم بعد في بطون أمهاتهم، كما أجزل نعمته لصموئيل الصغير إذ قيل «وكان صموئيل يخدم أمام الرّب وهو صبي وعملت له أمه جبة صغيرة» (1صم 2: 18) كما أنّ اللّه تعالى قدّس إرميا قبل أن يخرج من الرحم (ار 1: 5) وكما فرز بولس من بطن أمه (غل 1: 5) أما يوحنا المعمدان فقد امتلأمن الروح القدس وهو في بطن أمه (لو 1: 15) وقد أحبّ الرب يسوع الأطفال الصغار وقال لتلاميذه: «دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات»(مت 19: 14).
تهيئة مادة الميرون:
يطبخ البطريرك نفسه المزيج الذي تتكون منه مادة الميرون ويكرّسه ويقدّسه بحسب الطقس السرياني العريق ويعاونه في القيام بهذا الطقس اثنان من المطارنة على الأقل، وقبل أن يختم الطقس الخاص بالتقديس يضيف إليه البطريرك البلسمَ ثم شيئًا من الميرون القديم الذي تحتفظ به الكنيسة وابتدأت تستعمله منذ عهد الرسل وتضيفه إلى الميرون الجديد كلما احتفلت بتقديس ميرون جديد.
أما صورة سر الميرون فهي العبارات التي تتلى أثناء مسح المعمد به: الميرون المقدس، ختم موهبة الروح القدس وإكمال سرّ المعمودية، ليختم فلان بالميرون المقدس باسم الآب والابن والروح القدس. وخادم السر هو أحد رجال الاكليروس الشرعيين.
ثمار سر الميرون ومفاعيله:
يمنح سر الميرون المقدس المؤمن المعمَّد مواهب الروح القدس من ذلك: إنارة العقل والمعرفة وقوة الإرادة في العبادة والثبات على الإيمان، وبهذا الصدد يقول الرسول يوحنا: «وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء» (1يو 2: 20) ويقول الرسول بولس: «ولكن الذي يثبّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو اللّه» (2كو 1: 21و22).
سر القربان المقدس
هو سر مقدّس به يتناول المؤمن جسد الرّب يسوع المسيح المقدس ويشرب دمه الأقدس تحت أعراض الخبز والخمر ليتّحد بالمسيح ويثبت فيه ويرث الحياة الأبدية إتمامًا لوعد الرب يسوع القائل: «الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم» (يو 6: 53).
وقد أسّسه الرّب يسوع نفسه ليلة آلامه وسلّمه إلى تلاميذه ويضيف الرسول متى على ذلك بقوله: «وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسّر وأعطى التلاميذ وقال: خذوا كلّوا هذا هو جسدي وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (مت 26: 26و27و28). وبناء علىذلك مارس الرسل هذه الذبيحة الإلهية غير الدموية. فالرسول بولس يقول لأهل كورنثوس: «لأنني تسلّمت من الرب ما سلّمتكم أيضًا أن الرّب يسوع في الليلة التي أُسْلِم فيها أخذ خبزًا وشكر فكسر وقال: خذوا كلّوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم اصنعوا هذا لذكري، كذلك الكأس أيضًا بعدما تعشوا قائلًا: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء» (1كو 11: 23 ـ 27).
الاستعداد لتناول القربان المقدس:
يحرّض الرسول بولس المؤمنين على الاستعداد الروحي والجسدي الكاملَين قبل التقدم إلى تناول القربان المقدس فيقول: «إذًا أي من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق يكون مجرمًا في جسد الرّب ودمه ولكن ليمتحن الإنسان نفسه وهكذا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميّز جسد الرّب» (1كو 11: 27 ـ 29) فعلى المؤمنين أن يميزوا جسد الرب ودمه وأن يعرفوا جيدًا أنهما شركة المؤمنين بالمسيح وبالكنيسة وببعضهم بعضاً ويشرح الرسول بولس ذلك بقوله:
«كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة دم المسيح الخبز الذي نكسره اليس هو شركة جسد المسيح» (1كو 10: 16). هكذا تسلّمنا من الرسل والآباء القديسين بأننا بالإيمان نتناول جسد المسيح ودمه تحت أعراض الخبز والخمر بعد تقديسهما وليس ذلك مُجازًا ولا رمزًا بل حقيقة واضحة وعقيدة سمحة.لذلك فقبل أن يتقدم المؤمن لتناول القربان المقدس عليه أن يقدم التوبة النصوح والندامة التامة والتصميم على عدم العودة إلى الخطايا، وأن يؤمن بأن هذا السر هو جسد المسيح ودمه الأقدسان فيتقدّم لتناولهما بإيمان واحترام ونقاوة الضمير وأن ينقّي جسده ليكون طاهرًا ومتمسّكاً بالصوم القرباني فإذا كان التناول صباحاً فبدء الصوم القرباني يكون من الساعة الثانية عشرة نصف الليل ويسمح للمرضى الذين عليهم أن يتناولوا أدوية صباحاً أن يصوموا فقط ثلاث ساعات قبل البدء بالقداس الإلهي. وإذا أُقيم القداس الإلهي بعد الظهر يسمح للجميع الصوم ثلاث ساعات فقط قبل البدء به. أما بعد التناول فيجب على المؤمن أن يقدم الشكر للّه الذي أنعم عليه بهذه النعمة العظيمة. ويجتهد في سبيل الثبات على حالة النعمة بالمسيح ليثبت فيه المسيح وليستحق أن يرث مع المسيح الحياة الأبدية إتماماً لوعده الإلهي القائل: «إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان و تشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم، من يأكل جسدي و يشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يو 6: 53و54) فبناء على كلام الرّب نحن نؤمن بأن القربان المقدس سرّ إلهيّ يحوي حقيقة جسد المسيح ودمه وإن هذه الذبيحة هي حقيقة استغفارية تقدّم من أجل جميع المؤمنين الأحياء منهم والأموات ويجب على كل مسيحي أن يتناولهما كليهما معًا.
بحسب عقيدة كنيستنا إن تقديس عنصري الخبز والخمر واستحالتهما إلى جسد المسيح ودمه في القداس الإلهي يتمّ ويكمّل بصلاة دعوة الروح القدس وليس بمجرد الألفاظ السيدية التي إنما يتلوها الكاهن المقرِّب بنوع الإخبار. وبعد التقديس نتناول جسد المسيح ودمه تحت شكلي الخبز الخمر. إن مادة سرّ القربان المقدس هي الخبز المختمر المصنوع من القمح الذي يدعوه الكتاب المقدس خبزاً ولا نقدم فطيرًا. كما نقدم الخمر الحمراء المعتقة المصنوعة من عصير الكرمة الممزوجة بالماء. ذلك أن الرّب يسوع عندما سلّم تلاميذه هذا السر المقدس قال: «خذوا كلوا هذا هو جسدي» (مت 26: 26) وأما الكأس الحاوية الخمر الحمراء المعتقة فناولهم إياها وأمرهم قائلًا: «اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي» (مت 26: 27و28).
وقال «كلكم» لأنه كان فيهم من لا يشربون الخمر لأنهم كانوا من تلاميذ يوحنا المعمدان سابقاً الذين نذروا ألاّ يشربوا الخمر طيلة أيام حياتهم. ولكن تلك الخمر الحقيقية التي قدّمها لهم الرّب يسوع كانت قد تحوّلت إلى دمه الأقدس، وقد آمن التلاميذ بذلك وتناولوا دم المسيح تحت شكل الخمر، كما أنهم سلّموا بعدئذ المؤمنين سر القربان أي جسد المسيح ودمه (1كو 10: 16 و11: 27). فلا يجوز أن يمنع المؤمنون من شرب دم المسيح ويكتفوا بتناول الشكل الواحد دون الآخر. وقد اعتادت كنيستنا منذ أمد بعيد أن تغمس الجسد بالدم وتناول المؤمنين وبذلك يكونون قد تناولوا الجسد والدم حقًا.كما اعتدنا أيضًا منذ فجر المسيحية أن نناول الأطفال سر القربان المقدس بعد نيلهم سرّي المعمودية والميرون المقدس مباشرة، للموجبات التي تدفعنا لعمادهم ومسحهم بالميرون المقدس وهم أطفال.
سر الكهنوت
هو موهبة إلهية يُنعم اللّه بها على أناس يختارهم من بين المؤمنين ويدعوهم فيلبّون الدعوة ويكرّسون حياتهم لخدمته تعالى ويأخذون الرسامة الشرعية القانونية بعمل وقوة الروح القدس وبذلك ينالون سلطانًا يميّزهم عن غيرهم في أمر الولاية على كنيسته (مت 10: 1 ـ 15 ولو 10: 1 ـ 12) بحسب سلطة الدرجة التي ينالونها، ومنح أسرارها الإلهية لمن يستحقونها بانتظام من تعميد وتقديس وحلّ التائبين
وعزل الخبثاء الشاذين والمبدعين والمجرمين غير التائبين، وإقامة الصلوات العامة وإرشاد المؤمنين ورعايتهم (يو 20: 21 ـ 23 وأع 20 و1بط 5).عندما كان الرّب يسوع يكمّل تدابيره الإلهية في الجسد، انتخب له اثني عشر رسولًا وسبعين تلميذًا جاعلًا منهم وكلاء سرائره (1كو 4: 1) وأودع إليهم القيام بالخدم الدينية والأسرار الكنسية (لو 6: 13) وبهذا الصدد نقرأ في الإنجيل المقدس قوله: «ولما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر الذين سمّاهم أيضًا رسلًا»(لو 6: 13)
ففي كنيستنا ثلاث درجات كهنوتية واضحة في الإنجيل المقدس وهي: 1 ـ الأسقفية أي النظارة والرعاية الروحية العامة والسامية وهي تخصّ الرؤساء بين أعلى وأدنى في السلطة والعلاقات الإدارية وهي ثلاث رتب: البطريركية والمطرانية والأسقفية.
2 ـ القسوسية (أع 14: 23 وتي 1: 5): الراهب الكاهن (الربان) والخوري وهذا كان يسام قديماً كمعاون للأسقف على الأرياف وهو الآن المتقدم بالكهنة في الكنيسة الواحدة أو الأبرشية الواحدة، ثم رتبة القسيس. وصاحب هذه الرتبة بشكل عام يقدّم الأسرار المقدسة والخدم الروحية كلها ما عدا المختصّة بالأسقف التي منها رسامة الكهنة الشمامسة ومنح الوظائف الكنائسية في الأبرشية. ومما تجب ملاحظته أولاً: إن هذه الرتب الثلاث كانت موجودة في كهنوت العهد القديم الذي تغيّر بأكمل منه في العهد الجديد أي كان فيه أحبار وكهنة ولاويون. ثانياً: إن هذه الرتب الثلاث تشبه رتب الطغمات العلوية، فإنها ثلاث أيضاً ولذلك يقول القديس اقليميس الإسكندري: إن درجات الأساقفة والكهنة والشمامسة تشبه المجد الملائكي. ثالثًا: إن كل رتبة من هذه الرتب الثلاث ينطوي تحتها ثلاث درجات لتكون جملتها تسع على مثال رتب السماويين.
3 ـ الشماسية أي الخدمة للّه (أع 6: 6 و1تي 3: 8 ـ 10) ورتبها هي الشماس الإنجيلي والأفدياقون المسمّى الرسائلي ثم القارئ ثم المرتل كما أن الأرخدياقون هو رئيس الشمامسة كافة في الأبرشية الواحدة.
إن خادم سر الكهنوت هو الأسقف وحده الذي له وحده حق وضع اليد على رأس المرتسم (أع 6: 6 و13: 2و3). وإن القسم المنظور من سر الكهنوت هو وضع يد الأسقف على رأس المرشّح للكهنوت والصلاة الخاصة لهذا السر إذ يطلب الأسقف لأجل المرتسم فتحلّ عليه النعمة من الروح القدس. أما القسم غير المنظور فهي النعمة التي ينالها المرتسم من اللّه وسلطان حل الخطايا وربطها والتعليم والتهذيب والتبرير والتقديس.إن ثمار سر الكهنوت هي حفظ درجات الكهنوت في الكنيسة والالتزام بحفظ النظام والعمل بالواجبات والامتيازات للرعاة والرعايا، وتوزيع الرعاة نِعَم اللّه وبركاته على الرعايا وممارستهم أسرار الكنيسة السبعة طبقاً لما يحق لهم بدرجاتهم ورتبهم الكهنوتية،
إن التوبة هي رجوع الخاطئ إلى اللّه وطلب المغفرة منه تعالى بانسحاق القلب والندامة الصادقة والتصميم على عدم العودة إلى الخطية ثم الاعتراف بالخطايا كافة أمام الكاهن الشرعي وقبول ما يضعه الكاهن على التائب من قانون يعد علاجًا للتائب فيحصل التائب على المغفرة من الرب. ويستحيل أن ينال الخاطئ الغفران من الرّب بدون التوبة الصادقة، كما أنه بعيد عن روح المسيحية وعن عقائدها السمحة أن يباع الغفران أو يُوهب من أحد عن خطايا سالفة أو مزمعة بأي ثمن كان أو أية طريقة كانت. وللرّب يسوع وحده سلطان على الأرض لمغفرة الخطايا (مت 9: 6) وقد منح له المجد هذا السلطان لرسله الأطهار وتلاميذه الأبرار وخلفائهم من بعدهم بقوله للرسل: «الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء و كل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء» (متى 18 : 18 ويع 5: 4 ـ 16) وقد كرر الرب يسوع منحه هذا السلطان لتلاميذه عندما ظهر لهم في العلية بعد قيامته من بين الأموات وقال لهم: «سلام لكم كما أرسلني الآب أرسلكم أنا ولما قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت» (يو 20: 21و23).
التوبة الحقيقية المقبولة هي شعور التائب بثقل خطيته مبديًا بغضة وكراهية لها، ويقرّ بجميع خطاياه ويقبل بالموت بالحري من أن يعود إلى الخطية وأن يستمرّ في حال التوبة وهي انسحاق القلب والندامة على الخطية كما فعل الابن الشاطر الذي قال: «أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقًا بعد أن أدعى لك ابناً اجعلني كأحد أجراك (عبيدك) فقام و جاء إلى أبيه» (لو 15: 18 ـ 20).
إن الخاطئ يفقد الطمأنينة والسلام ويهيمن عليه الخوف والقلق، ويشعر بأن اللّه قد تخلّى عنه فيضطرب وهو يتوقع العقاب منه تعالى في كل لحظة ولكن عندما يتوب توبة صادقة ويعترف بخطاياه أمام الكاهن الشرعي يزاح عن كاهله ثقل الخطية حيث قد لبّى نداء الرّب يسوع القائل:«تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم احملوا نيري عليكم وتعلّموا منّي لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم»(مت 11: 28و29).
وكما نال العشار التائب نعمة التبرير كما جاء عنه في مثل الفريسي والعشار وقال عنه الرّب يسوع: «أقول لكم إن هذا نزل إلى بيته مبرراً دون ذاك»(لو 18: 14). كما يحصل التائب على المصالحة مع اللّه كقول الرسول بولس: «فإذ قد تبرّرنا بالإيمان لنا سلام مع اللّه بربنا يسوع المسيح»(رو 5: 1)، «لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحدًا ونقض حائط السياج المتوسط» (أف 2: 14)، وأخيرًا يفوز بالحياة الأبدية كاللص التائب الذي قال له الرّب: «الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس» (لو 23: 43)، ويستردّ التائب رتبة البنوة التي فقدها بخطيته كما نالها الابن الشاطر الذي بذّر ماله بعيش مسرف… وجاع فرجع إلى نفسه وقال: كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعًا أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقًا بعد أن أدعى لك ابناً اجعلني كأحد أجراك فقام وجاء إلى أبيه… فقال الأب لعبيده أخرجوا الحلّة الأولى وألبسوه واجعلوا خاتمًا في يده وحذاء في رجليه وقدموا العجل المسمّن واذبحوه فنأكل ونفرح لأن ابني هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالًا فوجد فابتدأوا يفرحون (لو 15: 11 ـ 23).فعلينا أن نبادر بالتوبة لنتجدد، ولا نتردد في الاعتراف بخطايانا بعضنا لبعض، وأخيرًا أمام الكاهن الشرعي لنتخلّص من الخطية وننال الصفح عنها ونحيا للبر لنكون أبناء اللّه بالنعمة وورثة لملكوته السماوي.
ســــر الـــزواج
سر الزواج هو سر مقدس، يعقده الكاهن الشرعي بين الرجل والمرأة المسيحيين برضاهما (2كو 6: 14) فينالان النعمة الإلهية الضرورية لقيام الزواج المسيحي وتقديسه. والزواج عامة هو ناموس طبيعي أسسه اللّه تعالى منذ البدء بدليل قول الكتاب: «ذكرًا وأنثى خلقهم، وباركهم اللّه وقال لهم: اثمروا واكثروا واملأوا الأرض» (تك 1: 27و28) كما يظهر من قول الرب يسوع للذين سألوه عن الطلاق: «أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرًا وأنثى وقال: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بإمرأته ويكون الاثنان جسدًا واحدًا إذًا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد فالذي جمعه الله لا يفرّقه إنسان» (مت 19: 4 ـ 6). وبارك الرّب يسوع سنّة الزواج بحضوره في عرس قانا الجليل. وأشار الرسول بولس إلى الزواج بقوله:«هذا السر عظيم» (أف 5: 32). وشبهه باتحاد المسيح بالكنيسة.
وفي سر الزواج المقدس يحصل الزوجان بنعمة الروح القدس على الفوائد المباحة شرعًا والتعاون على الحياة معًا بطهر ونقاء وقداسة، وطلب الذرية الطاهرة الصالحة.
لا يجوز فك رباط الزواج المسيحي (مت 19: 6 ـ 8) و(1كو 7: 2 ـ 5) فالذي جمعه اللّه لا يفرّقه إنسان. وعند الضرورة يفسخ عقد الزواج لعلة الخيانة الزوجية (مت 5: 32) ولأسباب أخرى غاية في الأهمية يحددها النظام الكنسي وقانون الأحوال الشخصية. وقد أجيز حفاظاً على الآداب وصيانة للزوجين لئلا تؤدي الخلافات بينهما إلى فجور الزوجة أو فسق الزوج.
إن البتولية أفضل من الزواج إن استطاع الإنسان أن يحفظ نفسه طاهرًا. قال الرسول بولس: «أنت مرتبط بامرأة فلا تطلب الانفصال، أنت منفصل عن امرأة فلا تطلب امرأة» (1كو 7: 27) «فأريد أن تكونوا بلا همّ، غير المتزوج يهتمّ في ما للرب كيف يرضي الرّب» (1كو 7: 32).
تقدس الكنيسة الرهبنة أي بتولية الرهبان والأساقفة، وتفرض الزواج على كهنة خدمة الرعايا. ولا تأذن لهم بالزواج ثانية عند ترملهم كما قرّر المجمع النيقاوي عام 325م.
سر مسحة المرضى
هو مسح الكاهن الشرعي المؤمن المريض بزيت سبق تقديسه على يد الأسقف بنعمة الروح القدس كما يطلب الكاهن من اللّه تعالى ليمنّ على المريض بالشفاء من أمراضه الجسدية والروحية (يع 5: 14و15).
إن تقديس زيت مسحة المرضى منوط فقط برؤساء الكهنة بحسب الطقس الكنسي وبعد التقديس يصير المادة القانونية لسرّ مسحة المرضى. وهذا السر يتقوى به المريض وتغفر خطاياه وفقًا لما جاء في الإنجيل المقدس (مر 6: 13) أما خادم السر فهو الكاهن الشرعي. كما قال يعقوب الرسول: «أمريض أحد بينكم فليدعُ شيوخ الكنيسة فيصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرّب وصلاة الإيمان تشفي المريض والرّب يقيمه وإن كان قد فعل خطية تغفر له» (5: 14 ـ 15).
وقد مارس رسل الرّب الأطهار وتلاميذه الأبرار هذا السر بناء على أمر الرّب يسوع لهم. فإنهم دهنوا بزيت مرضى كثيرين فشفوهم. وعلى المؤمن المريض أن يقدم التوبة الصادقة والندامة معترفًا بخطاياه.
هذه المسحة إذن للمؤمن المريض ومن الخطأ اقتصارها على المشرف على الموت فهي ليست مسحة موتى بل مسحة مرضى.
وإلى جانب سر مسحة المرضى الذي يستعمل به الزيت الذي سبق تقديسه من الأسقف، لدينا نحن السريان طقس القنديل الذي يقوم بإتمام طقسه بتقديس زيت يشترك بإتمام طقسه كهنة عديدون ثم يمسحون به المريض المؤمن ويُعتبر هذا الطقس أيضاً بمثابة توبة وندامة ونيل المغفرة على ما اقترفه المؤمن من خطايا.
إن طلب العلاج الروحي قبل الجسدي ضروري جدًا كما جرى للمخلّع الذي حمله أربعة من رفقائه إلى يسوع فشفى الرّب روحه قبل جسده وغفر له خطاياه فنال شفاء الجسد بعد أن نال مغفرة الخطايا وقال له الرّب يسوع: «أنت قد برئت فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشر» (يو 5: 14).
فعلى المريض المؤمن أن يطلب أولًا شفاء النفس بالعلاج الروحي ثم علاج الجسد «لأن الرب لم يعطِ الطبيب حكمة عبثًا».
الخـــاتمـــــة
هذا ما عنّ لنا أن ندوّنه باختصار، وباسلوب سهل، وكلمات بسيطة، في موضوع أسرار الكنيسة السبعة ليدرك المؤمنون القوة الروحية الكامنة في كل سر من هذه الأسرار، فيمارسونه بإيمان لكي ينالوا النِعَم السماوية باستحقاق.
Discussion about this post